الفصل السابع والعشرون

ثورة بابل

بعد أن أقلع جيش أوتانيس قاصدًا ساموس، تمرَّد البابليون؛ إذ أعدوا جميع وسائل الدفاع طيلة الوقت الذي كان المجوسي فيه ملكًا، والوقت الذي تآمر فيه السبعة. فانتهزوا فرصة القلاقل واستعدوا لمقاومة الحصار، وتصادف أن تم كل ذلك في الخفاء دون أن يرى أحد ماذا كانوا يفعلون. وأخيرًا لما حان وقت إعلان تمردهم فعلوا هكذا: بعد أن وضعوا أمهاتهم جانبًا، اختار كل رجل امرأة واحدة من كل أسرة، أية امرأة أعجبته. وهؤلاء فقط من اللائي سُمِح لهن بالبقاء على قيد الحياة، في حين جُمِعت سائر الباقيات في مكان واحد وشُنِقن. أما النساء اللاتي وقع عليهنَّ الاختيار فاحتُفِظ بهن ليصنعن الخبز للرجال، في حين شُنِقت الأخريات؛ كي لا يستهلكن المئونة المخزونة.

لما بلغ داريوس نبأ ما حدث هناك، جمع كل قواته، وبدأ الحرب بالمسير فورًا صوب بابل، وألقى حولها الحصار. بَيْد أن البابليين لم يهتموا بهذا الحصار قيد شعرة، فصعدوا إلى الأبراج التي تعلو أسوارهم، وأخذوا يسخرون من داريوس ومن جيشه القوي. وبلغت الجرأة بأحدهم أن صاح بأعلى صوته قائلًا لهم: «ما فائدة جلوسكم هناك هكذا أيها الفارسيون؟ لم لا ترجعون إلى دياركم؟ لن تأخذوا مدينتنا حتى تلد البغلة.» هذا ما قاله رجل بابلي كان يظن أن البغلة لا تلد إطلاقًا.

بعد أن مرت سنة وسبعة شهور، ملَّ داريوس وجيشه البقاء خارج أسوار بابل؛ إذ وجدوا أنهم لن يستطيعوا الاستيلاء على المدينة بأية حال من الأحوال. لقد استخدموا جميع الطرق الاستراتيجية، وكل الفنون ولكن الملك لم يستطع الاستيلاء عليها، ولا حتى عندما حاول استعمال الطريقة التي استولى بها كوروس على تلك المدينة. كان البابليون في غاية اليقظة هذه المرة، ولم يجد داريوس وسيلة قط يمكنه بها أن يهزمهم. وأخيرًا في الشهر العشرين من بدء الحصار حدث أمر غريب لزوبوروس بن ميجابوزوس، الذي كان من بين السبعة الذين قضوا على المجوسي. لقد ولدت إحدى بغال الحمل التي يملكها، وضعت جحشًا. فلما أسرع الخدم بإبلاغ زوبوروس بهذا الخبر، لم يصدقهم في أول الأمر، وذهب فشاهد الجحش بعيني رأسه، عندئذٍ أمر خدمه بأن يكتموا الأمر، ولا يخبروا به أحدًا على الإطلاق، في حين أخذ يفكر هو نفسه في ذلك الحدث الغريب، فتذكر كلام الرجل البابلي عندما بُدئ بالحصار؛ إذ قال: «لن تأخذ المدينة حتى تلد البغلة.» … تذكر هذه العبارة وهو غارق في تفكيره، واعتقد أن من الممكن أن تسقط بابل بعد ذلك؛ إذ بدا له أن قوة إلهية هي التي جعلت ذلك الرجل ينطق بتلك العبارة. والآن، قد ولدت بغلته.

وما إن أحس زوبوروس في قرارة نفسه بأنه قُدِّر لبابل أن تسقط حتى انطلق إلى داريوس وسأله عما إذا كان يهمه كثيرًا أن يغزو هذه المدينة، فلما رأى أن داريوس يضع أهمية عظمى حقًّا على هذا الغزو، أخذ يفكر في نفسه من جديد كيف يتسنى له أن ينسب فضل هذا الغزو لنفسه، ويكون هو الرجل الذي يستولي على بابل.

يُقدِّس الفرس الأعمال النبيلة ويرفعون فاعلها إلى أقصى درجات العظمة. وعلى هذا طفق زوبوروس يفكر ويُقلِّب في ذهنه جميع الوسائل التي يمكنه بها الاستيلاء على تلك المدينة، فلم يجد وسيلة ما يمكن أن تنفع إلا إذا شوَّه نفسه وذهب إلى العدو. فإذا ألفى هذا أمرًا سهلًا، شوَّه نفسه بطريقة لا يُجدي فيها علاج قط؛ لأنه جدع أنفه، وقطع أذنيه، ونتف شعره، وضرب نفسه بالسوط ضربًا مُبرِّحًا، ثم ذهب إلى داريوس وهو على تلك الحال المؤلمة.

ثارت كوامن الغضب في نفس داريوس عندما أبصر زوبوروس على هذه الصورة، فقفز من فوق عرشه وصاح بصوت مرتفع سائلًا زوبوروس عمن أحدث به تلك الإصابات، وماذا فعل حتى عُومِل هذه المعاملة القاسية. فأجاب زوبوروس بقوله: «لا أحد في العالم كله سواك يا مولاي يستطيع أن يُحدِث بي هذا الذي ترى. لم تُقدِم يد رجل غريب على فعل هذا بي، ولكنها يديَّ أنا نفسي هي التي فعلته. شوهت نفسي لأني لم أُطِق سخرية أهل بابل من الفرس.» فقال داريوس: «يا لك من رجل تَعِس! إنك تُضفِي أجمل الأسماء على أبشع الأفعال عندما تقول إن تشويه خِلقَتك يساعدنا على تقدم الحصار. كيف يمكن لهيئتك المشوهة أن تحثَّ العدو على الإسراع بالخضوع لنا؟ لا شك في أن لوثة قد أصابت عقلك عندما فعلت بنفسك هذا الفعل الشنيع.» فقال الآخر: «لو كنت أخبرتك بما أزمع عمله لما سمحت لي بالإقدام عليه، ولذلك كتمت الأمر في نفسي حتى نفذت خطتي. والآن يا مولاي إذا لم يحدث إخفاق من جانبك فإننا لا ريب آخذون المدينة. سألجأ إلى الأعداء بحالتي هذه، وعندما أدخل مدينتهم سأخبرهم بأنك أنت الذي فعلت بي هذا، وأعتقد أنهم سيصدقون كلامي ويثقون بي ثقة تجعلهم يولونني أمر كتائبهم. أما من جهتك يا مولاي فيجب أن تنتظر حتى اليوم العاشر بعد دخولي بابل، ثم تضع بالقرب من أبواب سميراميس فرقة من جيشك، لا يهمك كثيرًا فقدانها، ويكون عددها ألف جندي، ثم انتظر سبعة أيام أخرى وضع فرقة أخرى تتكون من ألفي مقاتل قوي عند أبواب نينوى، وانتظر بعد ذلك عشرين يومًا وضع عند الأبواب الخالديانية فرقة قوامها أربعة آلاف رجل، ولا تُسلِّح هؤلاء، ولا السابقين لهم بأية أسلحة غير السيوف التي لا تكترث لضياعها. وبعد انقضاء عشرين يومًا أصدر أوامرك لقواتك كلها بمهاجمة المدينة من كل جانب. وضع فرقة من الفرس عند الأبواب البيليانية، وفرقة أخرى عند الأبواب الكيسيانية؛ لأنني أتوقع أن يعهد إليَّ البابليون بكل شيء حتى مفاتيح أبوابهم بعد أن يروا ما أحرزته من نجاح، وبعد ذلك أقوم أنا والفرقتان الفارسيتان ببقية الخطة.»

بعد أن ترك زوبوروس هذه التعليمات، انطلق إلى أبواب المدينة وهو يُكثِر من التلفت خلفه؛ ليبدو كجندي هارب. فلما أبصره الرجال الواقفون في الأبراج، والذين وكلت إليهم المراقبة، أسرعوا بالنزول، ففتحوا أحد الأبواب قليلًا وسألوه عن شخصيته وعن المهمة التي جاء من أجلها. فأجاب بأنه زوبوروس، وأنه أتى لاجئًا إليهم بعد هروبه من الفرس. فلما مثُل أمام المجلس أخذ يندب حظه العاثر، وأخبرهم بأن داريوس أنزل به ذلك العقاب الذي يرونه لا لشيء إلا لأنه أشار عليه بفك الحصار؛ إذ يبدو أن لا أمل في الاستيلاء على المدينة. ثم استطرد يقول: «والآن سيبرهن مجيئي إليكم أيها البابليون، على أنه أعظم ربح يمكن أن تحصلوا عليه، في حين سيكون أفدح خسارة لداريوس وللشعب الفارسي. والحقيقة أن من أصابني بهذه التشوهات لن يفلت من العقاب؛ لأنني أعرف جميع خططه.»

فلما رأى البابليون شخصًا من ذوي المراكز العليا على تلك الحال: أنفه مجدوع، وأذناه مقطوعتان، وآثار السياط ظاهرة حمراء على جسمه، وكدمات الدم بادية تحت جلده، لم يخامرهم أي شك في أنه إنما يقول الحقيقة، وأنه أتى فعلًا ليكون صديقًا لهم وعونًا على أعدائهم؛ ولذا كانوا على استعداد لأن يَمنَحُوه كل ما يطلب. ولما توسل إليهم في أن يعهدوا إليه بقيادة فرقة من قواتهم، وكلوا إليه قيادة كتيبة من الجنود، بدأ بمعاونتها يفعل ما اتفق عليه مع داريوس. ففي اليوم العاشر بعد هروبه قاد كتيبته وحاصر ألف رجل كان داريوس قد أرسلهم تبعًا للاتفاق، فانقض عليهم زوبوروس وقتلهم جميعًا. فلما رأى البابليون أن فعله أصدق من أقواله سروا أيما سرور، ووثقوا به ثقة لا حدود لها. ولما مضت المدة الثانية المُتفق عليها خرج بكتيبته من الجنود المختارين، وقتل الألفي فارسي. وبعد هذا النصر الثاني لهج كل لسان بالثناء عليه. ومرة ثانية انتظر حتى انقضاء الفترة التالية، وقاد الكتائب البابلية إلى حيث يوجد الأربعة آلاف فارسي، فقتلهم جميعًا. كان هذا النصر الأخير هو اللمسة الأخيرة في تكوين سلطته، وجعله الكل في الكل لدى البابليين. وبناءً على هذا عهدوا إليه بقيادة جيشهم كله، وسلموه مفاتيح مدينتهم.

حافظ داريوس على الخطة المتفق عليها، فهاجم الأسوار من كل جانب، وعندئذٍ لعب زوبوروس الدور الباقي من خطته؛ فبينما بذل البابليون المحتشدون عند الأسوار قصارى جهدهم لمقاومة الهجوم الفارسي، فتح زوبوروس الأبواب الكيسيانية والبليانية أمام العدو؛ لهَرَبِ البابليين الذين أحسوا بالخدعة إلى معبد جوبيتر بيلوس، في حين بقي من لم يدركوها في أماكنهم حتى علموا أخيرًا أنهم وقعوا فريسة خدعة عُظمى.

هكذا سقطت بابل للمرة الثانية. فلما تمت لداريوس السيادة عليها، هدم أسوارها وحطم جميع أبوابها؛ لأن كوروس لم يفعل هذا ولا ذاك عندما استولى على هذه المدينة من قبل. بعد ذلك اختار داريوس حوالي ثلاثة آلاف من عظماء المدينة وصَلَبَهم، أما الباقون فسمح لهم بالإقامة في المدينة وسكناها. ولما أراد بعد ذلك عدم ازدهار الجنس البابلي زودهم بزوجات بدل اللواتي شُنِقن (كما ذكرت من قبل؛ لعدم استهلاك كمية المئونة المخزونة). جمع أولئك الزوجات من نساء الأمم المجاورة لبابل، وقد بلغ مجموعهن ما لا يقل عن خمسين ألفًا. وإن البابليين الموجودين في عصرنا هذا لمن نسل أولئك النسوة.

أما زوبوروس فقد حظي بمنزلة عظمى لدى داريوس الذي اعتبر عمله هذا عملًا يفوق كل ما قام به أي فارسي آخر، سواء أكان في العصور السابقة أم في أيامنا الحاضرة، باستثناء كوروس — وهي منزلة لا يعتقد أي فارسي غيره أنه جدير بها. وتبعًا لأقوال الرواة، كثيرًا ما كان داريوس يقول: «كنت أُفضِّل إن لم يشوه زوبوروس نفسه على أن أكون سيدًا على عشرين بابل أخرى.» وزاد داريوس في تكريم زوبوروس، فكان في كل عام يُقَدِّم له الهدايا التي يعتبرها الفرس أعظم ما يصبو إليه المرء. كما منحه حُكم بابل طول حياته دون أن يدفع أية ضريبة. وكذلك منحه عدة مزايا أخرى: كان ميجابوزوس «الذي تولى القيادة في مصر ضد الأثينيين وحلفائهم»، ابن زوبوروس هذا، كما كان زوبوروس «الذي هرب من فارس إلى أثينا» ابن ميجابوزوس هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤