الفصل الحادي والثلاثون

الحملة السكوثية

لما قرَّ قرار السكوثيين على اتخاذ هذه التدابير، خرجوا لملاقاة جيش داريوس يسبقهم أسرع فرسانهم ليكونوا طليعة الاستكشاف، وأرسلوا أمامهم في أثناء تقهقرهم عرباتهم التي تحمل نساءهم وأطفالهم وجميع ماشيتهم ما خلا عددًا قليلًا بقدر حاجتهم إلى الطعام، على أن تواصل العربات سيرها نحو الشمال دون أن تغير اتجاهها.

وجد الكشافة السكوثيون أن الجيش الفارسي قد تقدم بعد نهر الإيستر بمسيرة ثلاثة أيام، وفي الحال تقدموه بمسيرة يوم واحد وهم يقيمون معسكرهم من آنٍ إلى آخر ويتلفون كل زرع في الأرض. وما إن لمح الفرس فرسان السكوثيين حتى جدُّوا في السير وراءهم في الطريق نفسها، في حين كان هؤلاء يتقهقرون باستمرار.

فلما بلغ داريوس الصحراء توقف عن المطاردة، واستراح بجيشه على ضفاف نهر الأواروس؛ حيث أنشأ يبني ثمانية حصون ضخمة يبعد كلٌّ منها عن الآخر بمسافات متساوية تبلغ ستين فورلنجًا أو ما يقرب من ذلك، وكانت بقايا تلك الحصون لا تزال موجودة في عصري، وطيلة الوقت الذي شُغِل فيه داريوس ببناء الحصون، دار السكوثيون الذين كان يطاردهم حول المناطق العليا راجعين إلى سكوثيا، فلما رأى داريوس أنهم قد اختفوا تمامًا، ترك حصونه دون أن يتمها، وعاد متجهًا إلى الغرب ظانًّا أن السكوثيين الذين رآهم من قبل هم الأمة كلها، وأنهم هربوا في ذلك الاتجاه، فأسرع في السير ودخل سكوثيا؛ حيث التقى بقسمَي الجيش السكوثي المُنضمين وفي الحال أخذ في مطاردتهما، فظل السكوثيون في خطتهم من التقهقر أمامه باستمرار، جاعلين المسافة بينهم وبينه مسيرة يوم واحد، في وقت طفق هو فيه يجدُّ في مطاردتهم، وهم يقودونه تبعًا للخطة التي سبق أن وضعوها إلى بلاد الشعوب التي رفضت محالفتهم فقادوه أولًا إلى أرض الميلانخلانيين، فحدثت فوضى بالغة بين أولئك القوم بسبب غزو السكوثيين لهم أولًا، ثم الفرس وبعد أن أوقع السكوثيون هؤلاء القوم في حيص بيص، اتخذوا طريقهم إلى بلاد الأندروفاجيين فكانت النتيجة مماثلة لما حدث لسابقيهم، ثم واصل السكوثيون سيرهم مخترقين بلاد النيوريين حيث نشر مجيئهم الذعر بين السكان كما حدث لغيرهم من قبل، وظلوا هكذا في تقهقرهم حتى بلغوا أرض الأجارثورسيين. بَيْد أن هذا الشعب لما شاهد ما حدث لجيرانه من فرار وفزع، لم ينتظر حتى يغزو السكوثيون بلاده، بل بعث إليهم رسولًا يمنعهم اجتياز حدوده ويُحذِّرهم من أنهم إذا حاولوا دخول بلاده، قاومهم بقوة السلاح، وعندئذٍ وقف الأجاثورسيون عند حدودهم للدفاع عنها ضد الغزاة. أما مَن سبقوهم من الميلانخلانيين والأندروفاجيين والنيوريين، فبدلًا من الدفاع عن أنفسهم، عندما دخل السكوثيون والفرس بلادهم، نسوا تهديدهم السابق وفروا في فوضى إلى الصحاري الواقعة جهة الشمال، وعندما رفض الأجارثورسيين دخول السكوثيين إلى بلادهم، انسحب هؤلاء الأخيرون وعادوا أدراجهم ليقودوا الفرس من بلاد النيوريين إلى بلادهم سكوثيا نفسها.

ظلت الحال على هذا المنوال مدة طويلة، وبدا للفرس أن ذلك الزوغان لن ينتهي، وأخيرًا أرسل داريوس فارسًا إلى إيدانثورسوس ملك سكوثيا، بهذه الرسالة: «أيها الرجل الغريب الأطوار! لِمَ تلجأ إلى دوام الهروب أمامي في حين أن هناك طريقين يُمكِنك اتخاذ أحدهما في سهولة؟ فإن كنت تعتبر نفسك قادرًا على صد جيوشي، فاترك هذا التجوال وتعال إليَّ، واشتبك معي في معركة، وإن كنت ترى أن قوتي أعظم من قوتك، وحتى في هذه الحال … يجب أن تكف عن الفرار، وجب عليك أن تُحضِر بعض الثرى والماء إلى مولاك وتأتي للتفاوض.»

فأجاب إيدانثورسوس ملك سكوثيا على هذه الرسالة بقوله: «هذه هي طريقتي أيها الفارسي. لن أخاف قط أيَّ رجل، ولن أهرب منه. لم يسبق أن فعلت هذا فيما مضى، كما أنني لا أهرب منك الآن. ما من شيء جديد أو غريب فيما أفعله، بل أسير على نظام حياتي العادي الذي أتبعه في أيام السِّلم. والآن، أخبرك بالسبب الذي من أجله لم ألتحم معك في معركة. ليس لنا — نحن معشر السكوثيين — مدن ولا أرض مزروعة تضطرنا — خوفًا من استيلائك عليها أو نهبها — إلى الإسراع بمقابلتك ومع هذا، فلو كنت متلهفًا إلى قتالنا بسرعة، فهناك قبور آبائنا. اذهب إليها أولًا، وحاول أن تشتبك معهم. عندئذٍ سوف ترى ما إذا كنا سنقاتلك أو لا نقاتلك، فإذا لم تفعل هذا، فكن على يقين من أننا لن نلتحم معك في موقعة إلا إذا راقنا ذلك. هذا هو ردي على طلب القتال. أما من حيث المولى، فلا أعترف بمولى سوى جوف سلفي، وفيستا الملكة السكوثية السابقة. وأما الثرى والماء اللذان تطلبهما فلن أرسلهما لك، غير أنك ستتلقى مني هدايا أكثر ملاءمة لك. وأخيرًا أقول لك، نظير تسمية نفسك مولاي: «اذهب وابكِ»» (هذا هو ما يعنيه الناس بطريقة الكلام السكوثية). وهكذا عاد الرسول يحمل هذه الرسالة إلى داريوس.

في تلك الأثناء، اعتزمت الفرقة السكوثية التي بقيت في البلاد ألا تقود الفرس بعد ذلك إلى هنا أو إلى هناك، بل أخذت تهجم عليهم كلما جلسوا يتناولون طعامهم. كان السكوثيون ينتظرون حتى ذلك الميعاد ثم ينقضون على الفرس، تبعًا للخطة التي قرروها من قبل. وفي تلك الإغارات كانت الخيول السكوثية تضطر الخيول الفارسية إلى الفرار، وعندئذٍ لا يجد فرسانها بُدًّا من أن يفروا ويلتجئوا إلى المشاة الذين كانوا يهبون لنجدتهم دائمًا. أما السكوثيون فبمجرد أن يسوقوا الخيول، ينسحبون ثانيةً خوفًا من مشاة الفرس، كما أنهم كانوا يقومون بمثل هذه الغارات ليلًا.

انتفع الفرس بأمر غريب ضد السكوثيين في غارات هؤلاء الأخيرين على المعسكر الفارسي، إنه نهيق الحمير ومنظر البغال. فكما لاحظت من قبل لا تُنتِج بلاد السكوثيين حميرًا ولا بِغالًا، ولا يوجد بها حمار ولا بغل واحد بسبب البرد. فإذا ما نهقت الحمير، فزع الفرسان السكوثيون وفي أغلب الأحوال في حين تكون المعركة دائرة حامية الوطيس، وتسمع خيول السكوثيين نهيق الحمار، تفزع وتدور حول نفسها، وترهف آذانها السماع ذلك الصوت المنكر؛ لأنها لم تسمع صوت الحمار من قبل، ولم ترَ صورته قط. وبطبيعة الحال، لم يكن هذا عديم الأثر على سير المعركة.

لما رأى السكوثيون فزع الفرس اتخذوا بعض الإجراءات لحثهم على عدم مغادرة سكوثيا أملًا في أن يُلحِقوا بهم ضررًا بليغًا عندما تنضب مئونتهم، وللقيام بذلك كانوا يتركون بعض ماشيتهم مع الرعاة، في حين ينسحبون هم أنفسهم إلى مسافة ما، فَيهجم الفرس على الرعاة لسلب الماشية، ويستولون عليها، وبذا ترتفع روحهم المعنوية.

فعل السكوثيون هذا عدة مرات، حتى جُنَّ جنون داريوس أخيرًا، وعند ذاك بعث الرؤساء السكوثيون الذين كانوا يعرفون من أين تؤكل الكتف رسولًا إلى المعسكر الفارسي يحمل بعض الهدايا للملك، وهي: عصفور، وفأر، وضفدعة، وخمسة سهام. فسأل الفرس الرسول عن معنى هذه الهدايا. فرد عليهم قائلًا: إن الأوامر التي صدرت إليه تقضي عليه بتسليم هذه الهدايا والعودة بأقصى سرعة، وليس أكثر من هذا، ثم أضاف قائلًا: إذا كان الفرس على شيء من الحكمة أدركوا معناها بأنفسهم. فلما سمعوا هذا، عقدوا مجلسًا ليتباحثوا في هذا الأمر.

أبدى داريوس رأيه للمجلس يفسر معني تلك الهدايا، فقال: إن السكوثيين يريدون تسليم بلادهم له، برًّا وبحرًا. هذا هو ما استطاع أن يستشفه من معنى هذه الهدايا؛ لأن الفأر يسكن اليابسة ويأكل الأطعمة نفسها التي يتغذى بها الإنسان، في حين أن الضفدعة تقضي حياتها في الماء، أما العصفور فيُشبِه الحصان إلى حدٍّ كبير، وتدل السهام على تسليم كل قواتهم. بيد أن جوبرياس أحد السبعة الذين تآمروا ضد المجوسي قام يعارض داريوس في تفسيره ذلك، قائلًا: إن السكوثيين يقصدون بذلك أن يقولوا: «أيها الفرس، إن لم تتحولوا إلى طيور تحلق في جو السماء، أو تصيروا فيرانًا تحفر أجحارها تحت سطح الأرض، أو ضفادع تختفي تحت الماء، فلن تفلتوا من هذه البلاد، بل ستلقون حتفكم بسهامنا.»

أما فرقة السكوثيين الوحيدة التي تركت في أول الحرب لحراسة بالوس مايوتيس وأوفدت الآن للتحدث مع الأيونيين الواقفين عند نهر الإيستر، فلما بلغت القنطرة قالت للأيونيين: «يا رجال أيونيا، سنعطيكم حريتكم إن فعلتم ما نشير به عليكم. نعلم أن داريوس قد أمركم بالبقاء هنا لحراسة الجسر لمدة ستين يومًا ليس غير، وسمح لكم إن لم يحضر إليكم قبل ذلك الموعد بأن تعودوا إلى بلادكم. إذن يجب عليكم أن تفعلوا هكذا لتكونوا بغير لوم أمامنا وأمام داريوس: انتظروا هنا حتى تنقضي المدة التي حددها لكم، وبعدها … انصرفوا إلى أوطانكم.» فلما وعدهم الأيونيون بذلك، عاد السكوثيون بسرعة بالغة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤