الفصل الخامس

كرويسوس

بعد مرور عامين على موت آتوس شُغل كرويسوس عن حزنه بسبب الأخبار التي وصلته عن الأحداث الجارية في الخارج، فقد علم أن كوروس بن قمبيز خرب إمبراطورية آسياجيس بن كياكساريس، وأن قوة الفرس تزداد يومًا بعد يوم، فأخذ يُفكر في نفسه عما يستطيع فعله؛ ليوقف ازدياد قوة أولئك القوم قبل أن تبلغ الذروة. وإذ بدأت هذه الفكرة تعتمل في ذهنه عزم على أن يختبر كل وحي في بلاد الإغريق، ووحي ليبيا.١ وعلى ذلك بعث رسله إلى مختلف الجهات، فذهب بعضهم إلى دلفي، والبعض الآخر إلى أباي٢ في فوكيس، وبعضٌ ثالث إلى دودونا، وآخرون إلى أمفياراوس، وغيرهم إلى تروفونيوس، وكذلك إلى برانكيداي في ميليزيا. وهذه جميعًا هي التي أرسل يختبرها في بلاد الإغريق، كما أوفد رسلًا آخرين إلى ليبيا لاختبار وحي آمون. ذهب أولئك الرسل؛ ليعرفوا قدرة كل وحي على التكهُّن، فإذا ما ظهر صدق إجابة أي وحي منها أوفد إليه رسلًا آخرين يسألونه عما إذا كان بوسعه أن يُهاجم الفرس.
أمر كرويسوس مَن أوفدهم بأن يعدوا مائة يوم ابتداءً من يوم سفرهم من سارديس، وفي اليوم المائة يسألون الوحي عما يفعله كرويسوس ابن إلياتيس ملك ليديا في تلك اللحظة، وعند ذلك ينبغي لهم أن يكتبوا الردَّ ويعودوا به إليه. ولم يسجل التاريخ من هذه الردود غير ردِّ وحي دلفي، فما إن دخل الرسل المحراب٣ حتى قالت لهم الكاهنة في أسلوب شعري سداسي التفعيلات قبل أن يسألوها عن أي شيء:

بوسعي أن أعد الرمال، وأن أقيس المحيط، ولي آذان تسمع الصامتين، وأعرف ما يجول بخاطر الأبكم، وإن حواسي لتشمُّ رائحة سلحفاة ذات درقة تُطبَخ الآن فوق النار مع لحم خروف في مرجل الوعاء السُّفلي من النحاس والغطاء أعلاه من النحاس أيضًا.

دوَّن الليديون هذه الكلمات بمجرد أن خرجت من بين شفتي الكاهنة، ثم عادوا أدراجهم إلى سارديس، وعندما رجع الرُّسل بالردود التي تلقوها جميعًا، فضَّ كرويسوس اللفافات وقرأ ما كُتِب في كل منها، فلم تثبت صحة غير رد واحد،٤ هو رد وحي دلفي. فما إن سمع ذلك الرد حتى شرع في تقديم فروض العبادة مُعلِنًا أن وحي دلفي هو الوحي الوحيد الصادق، إنه الوحي الوحيد الذي عرف حقيقة ما سُئل عنه. إذ بعد أن رحل الرُّسل في مهمتهم، أخذ كرويسوس يُفكر في الشيء الأكثر احتمالًا ألاَّ يتنبأ أي وحي في أنه يفعله، ثم انتظر حتى جاء اليوم المتفق عليه، فأخذ سلحفاة وخروفًا، وقطعهما بيديه قِطَعًا، ووضعهما معًا على النار في مِرجل من النحاس ذي غطاء من النحاس أيضًا.

هذا هو الرد الذي تلقاه كرويسوس من دلفي، أما الرد الذي تلقاه الرسل الليديون الذين ذهبوا إلى محراب أمفياراوس، وقاموا هناك بالطقوس المعتادة فلا يُمكنني أن أذكره؛ إذ لم يُسجل، وكل ما عُرف عنه هو أن كرويسوس وجده يقول الحقيقة.

بعد ذلك عزم كرويسوس على إرضاء الإله الدلفي بالذبائح الفخمة، فقدم له ثلاثة آلاف رأس من كل نوع من حيوانات الذبائح، وعلاوة على ذلك صنع كومة ضخمة وُضِع فوقها مقاعدُ وأسرَّةٌ مكسوة بالفضة والذهب، وكئوسٌ من الذهب، وأثوابٌ وصديرياتٍ من الحرير الأرجواني، أحرقها جميعًا أملًا في أن يضمن لنفسه الحظوة لدى ذلك الرب. وبعد أن فرغ من كل هذا أصدر أوامره لجميع شعبه بأن يقدم كل منهم ذبيحة بقدر ما تسمح به موارده، وبعد تقديم الذبائح صهر الملك كمية عظيمة من الذهب وصبها في قوالب مستطيلة الشكل، طول كل منها ست راحات، والعرض ثلاث راحات، والسُّمْك راحة يد واحدة، فكان مجموع هذه القوالب مائة وسبعة عشر قالبًا، أربعة منها من الذهب الخالص، ووزن كل قالب ثالنتان ونصف ثالنت (الثالنت يُعادل وزن ٥٧ رطلًا إنجليزيًّا)، وبقيتها من سبائك الذهب غير النقي، ووزن كل منها ثالنتان، وفوق كل هذا أمر بصُنع تمثال أسدٍ من الذهب النضار وزنه عشرة ثالنتات، وعندما احترق معبد دلفي عن آخره سقط ذلك التمثال من فوق القوالب الذهبية التي كان يقف عليها، وهو الآن محفوظ في خزانة المالية بمدينة كورنثة، ويزن الآن ستة ثالنتات ونصف ثالنت بعد أن فقد ثلاثة ثالنتات ونصف بفعل النار.

صدرت الأوامر إلى الرسل الذين عهد إليهم بتسليم هذه الهدايا أن يسألوا الوحيَين الصادقَين عما إذا كان يصح لكرويسوس أن يشتبك في حرب مع الفرس، فإن جاء الرد بالإيجاب سُئِلا ثانيةً عما إذا كان يجب عليه أن يقوي جيوشه بقوات حليفه، وبناءً على هذه التعليمات عندما بلغ الرسل وجهتهم وقدموا الهدايا، أخذت كل فئة منهم تستشير الوحي الذي ذهبت إليه بقولها: «لما كان كرويسوس ملك ليديا وغيرها من الممالك الأخرى يعتقد أن هذا هو الوحي الصادق الوحيد في العالم كله، فقد أرسل لك هذه الهدايا التي تستحقها اكتشافاتك الصادقة، ويطلب منك الآن أن تخبره عما إذا كان يصح له أن يُحارب الفرس. فإن كان هذا من صالحه فهل ينبغي أن يقوي جيوشه بقوات دولة حليفة؟» فاتفق الوحيان في مضمون ردهما الذي ينص على أنه إذا هاجم كرويسوس دولة الفرس خرَّب إمبراطورية قوية، وأوصياه بأن ينتقي أقوى الولايات الإغريقية ويتحالف معها.

عندما وصل الردان إلى كرويسوس ابتهج غاية الابتهاج؛ إذ تأكد عندئذٍ من أن بوسعه أن يُحطم الإمبراطورية الفارسية.

بعد أن قدم كرويسوس تلك الهدايا إلى الدلفيين بعث يستشير الوحي للمرة الثالثة؛ إذ لما تأكد من صدق نبوءاته رغب في أن يستغله باستمرار، فكان السؤال الذي طلب الإجابة عنه هو: هل سيدوم عهد مملكته طويلًا؟ فجاء رد الكاهنة كما يلي:

انتظر إلى الوقت الذي يتبوأ فيه بغل عرش ميديا، ثم اخرج أيها الليدي الرقيق إلى حصن هيرموس أسرِع .. أسرع بالسير ولا تخجل، أو تسلك مسلك الجبناء.

سُرَّ الملك بهذا الرد دون غيره؛ إذ لا يبدو من المعقول إطلاقًا أن يأتي بغل ويصير ملكًا على الميديين، فاستنتج من هذا أن المُلك لن يُفارقه أو يُفارق نسله من بعده.

في تلك الأثناء فسر كرويسوس قول الوحي تفسيرًا خاطئًا، فقاد جيوشه إلى كبادوكيا متوقعًا أن يهزم كورس ويُحطم إمبراطورية الفرس، وبينما هو مشغول في الاستعداد لهجومه، تقدَّم منه رجل ليدي يُدعى ساندانيس، وكان الشعب ينظر إليه دائمًا على أنه من الحكماء، وبعد ذلك لمع اسمه حقًّا بين مواطنيه، فنصح الملك بقوله:

«أيها الملك، إنك على وشك محاربة قوم يرتدون سراويل من الجلد، وكذلك جميع ملابسهم الأخرى من الجلد أيضًا. إنهم قوم لا يأكلون ما يشتهون، وإنما يتغذون بما يمكنهم الحصول عليه من أرضٍ جدباء قاسية. قوم غير مولعين بشرب الخمر، بل يشربون الماء. قوم ليس لديهم تين ولا أية فاكهة أخرى يأكلونها، فإذا فُرض وهزمتهم، فماذا يمكنك الحصول عليه منهم وقد رأيت أنهم لا يملكون شيئًا على الإطلاق؟ أما إذا هزموك فانظر إلى جميع الطيبات التي ستخسرها. فإن ذاقوا مرة واحدة ما لدينا من خيرات، فلن يتركونا قط، ولن نستطيع إطلاقًا أن نتحرر من قبضتهم، أما عن نفسي فإنني أشكر الآلهة على أنها لم تلفت أنظار الفرس إلى غزو ليديا.»

كان ساندانيس كمن يضرب في حديد بارد؛ إذ لم تثنِ نصيحته كرويسوس عن عزمه، مع أن الفرس كانوا حقًّا لا يملكون، قبل غزو ليديا أي شيء من ترف الحياة ومباهجها.

عندما بلغ كرويسوس نهر هاليس، نقل قواته إلى شاطئه الآخر عبر الجسور القائمة هناك إلى هذا اليوم، تبعًا لما أعرفه. ولكن تبعًا للاعتقاد الشائع بين الأغارقة، نقلها بمساعدة ثاليس الميليسي، فيَروُون أن كرويسوس كان في حيرةٍ، كيف يستطيع نقل قواته إلى الشاطئ الآخر؟ إذ لم تكن تلك الجسور قد أُقيمت بعدُ في ذلك الوقت، وأن ثاليس الذي تصادف وجوده في المعسكر وقتذاك قسم مجرى النهر قسمين، وجعله يجري على كل من جانبي الجيش بدلًا من جريانه على يسار الجيش فقط، فعل هذا بالكيفية الآتية: حفر قناة عميقة على مسافة ما من المعسكر، وجعلها منحنية في شكل نصف دائرة لكي تمر خلف المعسكر، وبهذا العمل غير النهر مسيره إلى هذه القناة الجديدة حيث ترك مجراه الأصلي ودار حول الجيش ثم عاد ثانيةً إلى مجراه القديم، وبهذا شطر النهر إلى مجريين يمكن عبور كل منهما في سهولة ويسر. ويقول البعض إنه حوَّل الماء تمامًا من المجرى الأصلي إلى القناة، بَيْد أنني أُخالف هذا الرأي؛ إذ لا يُمكنني أن أتصور كيف أمكنهم عبوره عند عودتهم.

بعد أن عبر كرويسوس نهر هاليس مع القوات التي تحت إمرته دخل منطقة كبادوكيا التي تُسمى بتيريا، وتقع بجوار مدينة سبنوبي التي تقع بدورها على نهر إيوكسيني، وهي أقوى نقطة في جميع تلك المنطقة، فأقام كرويسوس معسكره فيها وأخذ يُخرِّب حقول السوريين، ثم حاصر أهم مدينة في بتيريا واستولى عليها، وأخذ أهلها عبيدًا، كما جعل نفسه سيدًا على القرى المحيطة بها. وهكذا جرَّ الخراب على السوريين الذين لم يجنوا ذنبًا في حقه. في تلك الأثناء جمع كوروس جيشًا وسار به لمواجهة كرويسوس، وكان يزيد من أعداده في كل خطوة يتقدمها بقوات جديدة من الأمم التي يمر بها في طريقه. وقبل أن يبدأ بالمسير بعث رسلًا إلى الأيونيين يدعوهم إلى الثورة ضد ذلك الملك الليدي، غير أنهم رفضوا دعوته، ومع هذا سار كوروس لمواجهة العدو، وعسكر أمامه في منطقة بتيريا؛ حيث اختبرت قوة كل من الجيشين المتحاربين. كان القتال حارًّا مريرًا، فوصل عدد القتلى من كل فريق إلى رقم بالغ، وكانت الحرب سجالًا بينهما، فلما خيم الظلام على ميدان القتال لم يكن أيهما قد أحرز انتصارًا ما، وهكذا حارب كل من الفريقين بشجاعة وبسالة.

عزا كرويسوس عدم نجاحه في الحرب إلى قلة عدد قواته عن قوات عدوه، ولما لم يكرر كوروس هجومه في اليوم التالي رجع كرويسوس أدراجه إلى سارديس معتزمًا أن يجمع حلفاءه ويعاود الكرَّة في الربيع. فما إن بلغها حتى أوفد الرسل إلى شتى حلفائه يطلب منهم أن ينضموا إليه في سارديس، في خلال خمسة شهور من رحيل رسله، ثم سرح جيشه المكون من الجنود المرتزقة الذي اشتبك في القتال مع الفرس، ثم سار معه إلى العاصمة، وأمر الجنود بالعودة إلى بيوتهم، ولم يتصور قط أن كوروس سيتجرأ بعد معركة تساوت فيها القوتان على السير لمهاجمة سارديس.

بينما كان كرويسوس لا يزال على ذلك الرأي، اجتاحت الأفاعي جميع الضواحي المحيطة بسارديس، فلما رأتها الخيول تركت مراعيها وهرعت إلى الضواحي لتأكل تلك الأفاعي، وعندما أبصر الملك هذا المنظر الغريب، اعتبره علامة من لدن الآلهة، فأرسل في الحال مبعوثين إلى عرافي تلميسوس ليستشيرهم في معنى ذلك الأمر، فوصل الرسل إلى تلك المدينة وحصلوا على تفسير لهذا الموضوع من العرافين، بَيْد أن القدَر لم يمكنهم من العودة إلى سيدهم؛ إذ أُسِر كرويسوس قبل أن يعودوا إلى سارديس .. قرر العرافون التلميسيون أنه يجب على كرويسوس أن يتوقع دخول جيش من الغزاة الأجانب في مملكته، وأنهم سيستعبدون شعبه عند مجيئهم؛ لأن الأفعى هي طفل الأرض أي ساكن البلد، والحصان محارب أجنبي. وكان كرويسوس قد وقع في الأسر عندما أفضى العرافون بتفسيرهم، ولم يكونوا يعرفون ما حدث في سارديس، ولا مصير ملكها.

عندما انصرف كرويسوس فجأة بجيشه بعد موقعة بتيريا معتزمًا تسريح الجنود ظنًّا منه أنه قد تخلى عن القتال وانتهى الأمر عند هذا الحدِّ، بَيْد أن كوروس أخذ يفكر قليلًا، فرأى من الحكمة أن يهاجم سارديس بغاية السرعة قبل أن يتمكن الليديون من جمع فلول جيشهم مرة أخرى. فما إن قرر ذلك، حتى أسرع، دون أن يُضيِّع وقتًا في تنفيذ خطته، فسار حثيثًا حتى كان هو أول من أعلن مجيئه إلى الملك الليدي، فارتبك الملك ووقع في حيرة من تطور الأحداث بتلك السرعة، هذه الأحداث التي لم يعمل لها حسابًا، والتي جاءت على عكس ما كان يتوقع، ومع ذلك قاد الليديين إلى القتال، ولم يكن في آسيا كلها، في ذلك الوقت شعب أشجع ولا أقدر على القتال من شعب ليديا. كانوا يقاتلون وهم على صهوات جيادهم، ويحملون مزاريق طويلة القنا، وكانوا بارعين في قيادة تلك الجياد.

التقى الجيشان في السهل الواقع أمام سارديس، وكان سهلًا منبسطًا فسيحًا خاليًا من الأشجار، يرويه نهر هولوس وبعض الروافد الأخرى التي تصب في مجرى متسع يسمى هيرموس.

لما أبصر كوروس الليديين يُنظمون صفوفهم للقتال، خشي قوة الفرسان، فعَمد إلى حيلة أشار بها عليه أحد الميديين المدعو هارباجوس فجمع كافة الجمال التي كانت تحمل المؤن والأمتعة لجيشه، ورفع عنها أحمالها، وجعل جنوده يركبونها بنفس الطريقة التي يركب بها الفرسان الخيول، ثم أمر بأن يتقدم هؤلاء أمام الجيش لمقاتلة الفرسان الليديين، على أن يتبعهم المشاة، ويكون فرسانه في المؤخرة، وبعد أن نظم جيشه على هذه الصورة، أمر قواته بأن يقتلوا كل من يقع في طريقهم من الليديين دون شفقة ولا رحمة ماعدا كرويسوس الذي يجب أن يقبضوا عليه حيًّا ولا يقتلوه أبدًا حتى ولو أبدى مقاومة.

والسبب في مواجهة الفرسان بالجمال، هو أن الحصان يخاف الجمل بطبيعته لا يستطيع احتمال رؤيته أو شم رائحته، وبهذه الطريقة كان يأمل في أن يجعل الفرسان عديمة النفع لكرويسوس الذي كان يضع جُل أمله في النصر على أولئك الفرسان. فما إن التحم الجيشان في القتال، وأبصرت الخيول الليدية الجِمال وشمَّت رائحتها، حتى جفلت وهربت مذعورة. وبهذه الحيلة ذهبت جميع آمال كرويسوس أدراج الرياح. ومع ذلك، فقد حارب الليديون ببسالة. فعندما أدركوا ما حدث قفزوا من فوق ظهور جيادهم، وواجهوا الفرس راجلين. وقد استغرقت المعركة وقتًا طويلًا، غير أن الليديين لم يستطيعوا الصمود أمام الفرس فنكصوا على أعقابهم، وأطلقوا العنان لأقدامهم يسابقون الريح، فطاردهم الفرس حتى أسوارهم، وحاصروا سارديس.

هكذا بدأ الحصار. وفي تلك الأثناء، رأى كرويسوس أن المدينة لن تصمد طويلًا أمام الحصار، فبعث رسلًا آخرين إلى حلفائه. كانت التعليمات التي تلقاها الرسل الأوائل أن يأمروا الحلفاء بالاجتماع في سارديس في الشهر الخامس، أما الذين أرسلهم الآن فكان عليهم أن يُخبروهم بأنه محاصَر فعلًا، وأن يهبُّوا لنجدته بأقصى ما يمكنهم من السرعة، ومن بين جميع الحلفاء لم ينسَ كرويسوس أن يرسل في طلب النجدة من لاكيدايمون.

حدث في ذلك الوقت أن كان الإسبرطيون أنفسهم مشغولين في نزاع مع الأرجوسيين حول موضع يُقال له ثوريا، فقد جمع الأرجوسيون قواتٍ ليمنعوا الإسبرطيين من احتلال ثوريا، فاتفق الطرفان على أن يختار كل منهم ثلاثمائة جندي من رجاله، ويتقاتل هؤلاء، فمن تكون له الغلبة يُصبح ذلك الموضع ملكًا له، كما اتفقَا أيضًا على أن تعود بقية القوات الأخرى إلى بلادها ولا تبقى لمشاهدة القتال؛ إذ الخطر في بقائها هناك؛ لأن الجيش الذي يرى فريقه مهزومًا سيضطر إلى مساعدته. وبعد الاتفاق على هذه الشروط، انصرف الجيشان تاركين ثلاثمائة جندي مُختارين من كل فريق ليتقاتلوا من أجل تلك البقعة. فبدأت المعركة، وظل الجانبان متعادلين في القوة، حتى إنه عندما أقبل المساء وتعذر القتال بسبب الظلام، لم يبقَ حيًّا من كل أولئك الستمائة غير ثلاثة رجال؛ اثنين من الأرجوسيين، هما الكانور وكروميوس، وإسبرطي واحد هو أوثرياداس، فاعتبر الأرجوسيان أنهما منتصران، وعلى ذلك أسرعا بالعودة إلى أرجوس، أما أوثرباداس الإسبرطي فبقي في الميدان، وجرَّد جثث قتلى الأرجوسيين من أسلحتهم، وحملها إلى المعسكر الإسبرطي. وفي اليوم التالي عاد الجيشان لمعرفة نتيجة المعركة، فتنازعَا في أول الأمر؛ إذ ادَّعى كل منهما أنه المنتصر، وكانت حجة أحدهما أن عدد الأحياء من فريقه يزيد على عدد الأحياء من الفريق الآخر، أما حجة الثاني فلأن الرجل الباقي من فريقه ظل في الميدان وجرَّد قتلى أعدائه من أسلحتهم، بينما هرب الرجلان الباقيان من الفريق المُعادي، وأخيرًا تطور النزاع من الكلام إلى الضربات، ونشأت معركة بين الجانبين كانت خسائرهما فيها فادحة، وفي النهاية انتصر اللاكيدايمونيون، عند ذلك قصَّ الأرجوسيون شعر رءوسهم، وكان من عادتهم أن يحتفظوا بشعورهم طويلة، واتخذوا قانونًا لهم أيدوه بلعنة ألا يطيلوا شعورهم، وألا تلبس نساؤهم الذهب إلا إذا استردوا ثوريا. وفي الوقت ذاته آلى اللاكيدايمونيون على أنفسهم عكس هذا العهد تمامًا، أن يُطيلوا شعورهم التي اعتادوا أن يقصوها، ويُقال إن أوثرياداس الشخص الذي بقي حيًّا من الثلاثمائة، أحس بالعار بعد أن رأى ما أصاب مواطنيه من قتل وخسارة، فلم يستطع العودة إلى إسبرطة، وقتل نفسه في ثوريا.

ولو أن الإسبرطيين كانوا مشغولين بهذه الأحداث، إلا أنهم عندما حضر إليهم رسول سارديس يرجوهم في أن يهبُّوا لمساعدة الملك المحاصَر، بدءوا من فورهم في العمل على تقديم المعونة، وعندما أتموا استعداداتهم، وكانت السفن على أهبة الرحيل، جاءهم رسول آخر وأخبرهم بأن المدينة قد سقطت في يد العدو، وأن كرويسوس وقع في الأسر، فحزن الإسبرطيون كثيرًا على سوء حظ ذلك الملك، وأوقفوا إرسال النجدة.

أما الطريقة التي سقطت بها سارديس في يد الأعداء فهي كما يأتي: في اليوم الرابع عشر من بدء الحصار، أمر كوروس بعض الفرسان أن يمروا بين صفوفه ويعلنوا على الجيش كله أن الملك سيمنح جائزة لأول جندي يتسلق الحائط، ثم أمر بالهجوم على الأسوار، ولكن دون جدوى، فانسحبت قواته إلى مواقعها، بَيْد أن رجلًا مارديًّا يُسمَّى هوردياديس صمم في قرارة نفسه على أن يجرب تسلُّق الحصن في مكان ليس به أحد من الحراس إطلاقًا. كانت هناك صخرة شاهقة شديدة الانحدار في موضع ما من سور الحصن، وكان الحصن (كما يبدو) منيعًا يستحيل تسلقه في ذلك الموضع بحيث لم يخشَ الليديون اقتحامه إطلاقًا. كان ذلك المكان هو الموضع الوحيد الذي لم يطُف به ملكهم ميليس meles مع الأسد الذي أحضرته له معشوقته، فعندما قرر العرافون التلميسيون أنه إذا طاف الأسد حول وسائل الدفاع امتنعت سارديس على العدو، ولهذا سار ميليس بالأسد حول جميع سور الحصن ما عدا ذلك الموضع الذي بدا الحصن فيه منيع الاقتحام. احتقر ميليس فكرة الطواف بالأسد عند ذلك الجانب الذي كان ينظر إليه كمجرد هوة سحيقة في غاية الأمان. كان ذلك الموضع في جانب المدينة المواجه لجبل تمولوس ومع ذلك فقد رأى هوردياديس جنديًّا ليديًّا في اليوم السابق يهبط من تلك الصخرة بعد أن تدحرجت خوذته من فوق قمتها، ورآه يلتقطها ويصعد بها ثانية. عند ذلك بدأ يفكر فيما شاهده، ووضع في نفسه خطة، فقام وتسلَّق الصخرة بنفسه، وحذا حذوه الرجال الفارسيون الآخرون، حتى صار فوق قمتها عدد كبير، وهكذا سقطت سارديس ونُهِب جميع ما فيها.

أما كرويسوس نفسه، فهذا ما أصابه من جراء سقوط عاصمته. كان له ابنٌ سَبَق أن تحدثنا عنه، وكان شابًّا قويًّا، إلا أن عيبه الوحيد هو أنه كان أصم وأبكم، وقد عمل كرويسوس، في أيام عزِّه، كل ما في وسعه من أجل هذا الابن، ومن بين ما عمله أنه أرسل يستشير وحي دلفي بشأنه، وهاك الرد الذي جاءه من الكاهنة:

أيها الملك الليدي الواسع السلطان، يا كرويسوس الساذج المدهوش لا ينبغي قط أن تسمع في قصرك صوت مَن تتوسل مِن أجله أن ينطق بأصوات حكيمة، فمن الأفضل أن يظل ابنك صامتًا! يا ويلتاه! ويح اليوم الذي تسمع فيه أذنك صوته لأول مرة.

عندما سقطت المدينة، كان أحد الفرس على وشك أن يقتل كرويسوس غير عارف شخصيته، ورأى كرويسوس الرجل منقضًّا عليه، وتحت ضغط مصيبته لم يهتم بأن يتحاشى الضربة؛ إذ لم يكترث لأن تكون هي الضربة القاضية، بَيْد أن ابنه الأبكم عندما أبصر الفارسي مندفعًا نحو والده ارتعد خوفًا، ومن هول ذعره انطلق لسانه فقال: «ابتعد أيها الرجل ولا تقتل كرويسوس»، فكانت هذه أول مرة نطق فيها بكلمة في حياته كلها، وبعد ذلك استعاد قوة الكلام بقية عمره.

هكذا سقطت سارديس في يد الفرس، ووقع كرويسوس نفسُه في قبضتهم بعد أن حكم أربعة عشر عامًا، وحُوصِر في حاضرة مُلكه أربعة عشر يومًا. وبهذا تحققت نبوءة الوحي الذي قال: إنه سيخرب إمبراطورية قوية، فقد خرب إمبراطوريته هو نفسه وليس إمبراطورية الفرس. بعد ذلك قام جنود الفرس الذين أسروا كرويسوس بنقله إلى ملكهم كوروس، فأمر هذا الأخير بعمل كومة حريق ضخمة، ووُضع كرويسوس فوقها مقيدًا بالسلاسل ومعه أربعة عشر من أبناء ليديا. ولست أدري ما إذا كان كوروس قد اعتزم تقديم القرابين لإله ما من باكورة ثمار انتصاره، أو إذا كان قد نذر نذرًا وشرع يوفيه عند ذاك، أو ما إذا كان قد سمع أن كرويسوس رجل مقدس، ورغب في أن يرى ما إذا كان أحد الشخصيات السماوية سيظهر لإنقاذه من الحرق حيًّا. وبينما كان كوروس مشغولًا في عمله، وكان كرويسوس فوق الكومة، مرت بذهن هذا الأخير وهو في أشد حالات محنته أن هناك تحذيرًا مقدسًا في الألفاظ التي سمعها من فم سولون: «ما من أحد يكون سعيدًا وهو حي»، فعندما تذكر هذه العبارة تنفس نفسًا عميقًا، وخرج عن صمته الطويل، وصاح بأعلى صوته مرددًا اسم سولون ثلاث مرات، فطرقت سمع كوروس تلك الأصوات، وأمر المترجمين بأن يستفهموا من كرويسوس عمن كان يُناديه، فاقتربوا منه وسألوه، ولكنه لزم الصمت، وظل مدة طويلة لا يُجيب على أسئلتهم، حتى اضطُر أخيرًا إلى أن يقول شيئًا، فصاح قائلًا: «إنه رجل أدفع أعز ما عندي لأراه يتحدث إلى كل ملك»، ولما لم يفهم المترجمون المعنى الذي يقصده بهذا الرد، رجوه في أن يُفسر لهم كلامه، ولما ألحوا عليه في طلب الرد وبَدَا عليهم القلق، أخبرهم كرويسوس كيف جاء سولون الأثيني منذ مدة طويلة، ورأى كل عظمته فاستخف بها، وكيف أن كل ما قاله قد تحقق الآن. وبرغم أن ذلك كان شيئًا خاصًّا به وحده إلا أنه ينطبق على الجنس البشري عامة، ولا سيما على مَن يعتبرون أنفسهم سعداء. وبينما كان يتكلم أُضرمت النار في الكومة، وبدأ جزءها الخارجي يشتعل. بعد ذلك سمع كوروس من المترجمين ما قاله كرويسوس فلانت عريكته، وتحركت في نفسه عاطفة الشفقة، وفكر في أنه هو نفسه إنسان، وأن كرويسوس إنسان مثله، وكان من قبل متمتعًا بنعيم الحظ مثله أيضًا ذلك الذي سيُحرق حيًّا. وإذ خاف تبكيت الضمير، وتسلطت على ذهنه فكرة أن كل ما هو بشر فليس بآمن، وعلى ذلك أمر رجاله بإطفاء النيران المتأججة بكل ما في مُكنَتهم من سرعة، وأن ينزلوا كرويسوس ومن معه من الليديين من فوق الكومة، بَيْد أن أحدًا لم يستطع التغلب على اللهب المستمر.

بعد ذلك، كما يقول الليديون عندما رأى كرويسوس الجهد الذي بذله الجنود في إخماد النيران، عرف أن كوروس قد ثاب إلى رشده وعاودته الشفقة، ولما رأى كذلك أن لا فائدة من جهودهم، وأن أولئك الرجال لن يستطيعوا السيطرة على النيران، صاح بأعلى صوته يُنادي الإله أبولو Apollo وصلَّى إليه إن كان قد تسلم على يديه أية هدايا مقبولة أن يأتي ويُخلصه من ذلك الخطر المُحدِق به، ولما كان يتوسل إلى ذلك الإله والدموع تنهمر غزيرة من عينيه، وعلى الرغم من أن السماء كانت صافية الأديم وقتذاك، وليس في الجو أي نفحة من الريح، فقد تجمعت السحب الدكناء وهبت العاصفة فوق رءوسهم، ونزل المطر وابلًا حتى أُطفئت النيران بسرعة، وإذ اقتنع كوروس بتلك الظاهرة تأكد أن كرويسوس لا بد أن يكون رجلًا طيبًا ومحبوبًا لدى السماء، فسأله بعد أن أنزلوه من فوق الكومة: «من الذي حرَّضك على أن تقود جيشًا وتُهاجم به مملكتي فصرت عدوي بدلًا من أن تستمر صديقًا لي؟» فأجاب كرويسوس قائلًا: «اعلم أيها الملك أن ما فعلته قد أتى عليك بالنفع وباء عليَّ بالخسران، فإن كان هناك لوم فإنما يقع على إله الإغريق الذي شجعني على أن أبدأ الحرب. لم تبلغ درجة الغباء بأحد أن يُفضِّل الحرب على السلم، تلك الحرب التي جعلت الآباء يدفنون أبناءهم بدلًا من أن يدفن الأبناء آباءهم، بَيْد أن هذه هي مشيئة الآلهة.»

هذا ما قاله كرويسوس، فأمر كوروس بفك قيوده، وأجلسه قريبًا منه، وبالغ في احترامه، ناظرًا إليه بكل تقدير وإعجاب، وكذلك فعلت الحاشية. فظل كرويسوس غارقًا في التفكير لا ينبس ببنت شفة، وبعد برهة حانت منه التفاتة فأبصر الجنود الفارسيين مُنهمكين في نهب المدينة، فقال لكوروس: «أتسمح لي أيها الملك بأن أُصارحك بما يجول في خاطري، أم السكوت أفضل؟» فأمره كوروس بأن يتكلم بما في ضميره بكل جرأة، فسأله كرويسوس: «ماذا يفعل أولئك الرجال؟ وما الذي يشغلون أنفسهم به إلى هذه الدرجة يا كوروس؟» قال «إنهم ينهبون المدينة ويأخذون أموالها ونفائسها.» قال: «ليست هذه مدينتي ولا أموالي، لم تُصبح هذه ملكًا لي بحال ما، إنها ثروتك هذه التي ينهبونها.»

أُعجب كوروس بما قاله كرويسوس، فأمر جميع حاشيته بالانسحاب بعيدًا، ثم سأله عن أنسب شيء يمكن أن يفعله إزاء هذا النهب، فأجاب كرويسوس بقوله: «بما أن الآلهة جعلتني عبدًا لك يا كوروس، يبدو لي أنه من واجبي أن أوضح لك ما أراه من صالحك. إن رعاياك الفارسيين قوم فقراء ذوو روح مزهوة، فإذا سمحت لهم بنهب المدينة وامتلاك أموالها وكنوزها فلا تتوقع منهم إلا أن يتألب عليك مَن ينال منهم الثروة أكثر من الجميع، فإن راقك حديثي هذا، فافعل ما أُشير به عليك، أيها الملك: ضع بعضًا من حرسك الخاص عند كل باب من أبواب المدينة، ومُرهم بأن يأخذوا الغنائم من الجنود وهم خارجون، وأن يُخبروهم بأنهم يجمعون الغنائم لأنه يجب تقديم العشور لجوبيتر، بهذا يُمكنك أن تتجنب العداوة التي يشعرون بها نحوك لو أخذت الغنائم منهم بالقوة، وعندما يجدون أن ما أقترحه عليك عدل وواجب فإنهم سيقدِّمون ما نهبوه عن طيب خاطر.»

أما سرور كوروس بهذه النصيحة فحدِّث عنه ولا حرج؛ إذ رآها عين الصواب، فأثنى على أصالة رأي كرويسوس أجمل الثناء وأعظمه، وأمر حرسه الخاص بأن يفعل كما اقترح، ثم استدار إلى كرويسوس وقال له: «أيا كرويسوس إنك لبالغ الحكمة حقًّا في أقوالك وفي أفعالك، وإنك لمُعتزم حقًّا أن تُبرهن على أنك أمير مخلص وفي، اطلب مني ما تشاء كهدية لك»، فقال كرويسوس «أي سيدي! أرجو أن ترسل هذه السلاسل والأصفاد إلى إله الأغارقة الذي كنت أُجِلَّه فوق سائر الآلهة، واسأله ما إذا كان يُهمه أن يخدع من يقدِّمون له الخيرات، سيكون هذا أعظم معروف يُمكنك أن تمنحني إياه.» وعندما سمع كوروس كلامه هذا سأله عن التهمة التي يوجهها إلى ذلك الرب، فقص عليه كرويسوس كل ما فعله، والردود التي جاءته من الوحي، والهدايا التي أرسلها إليه، والذبائح التي قدمها له، كما أخبره كيف شجعه الوحي على أن يشن الحرب على فارس، وروى له كل هذا، وفي النهاية طلب السماح له بزجر ذلك الإله على مسلكه، فقال كوروس ضاحكًا: «سأمنحك هذا بغير شك، وكل ما تطلبه مني في أي وقت.» فلما رأى كرويسوس إجابته إلى طلبه أرسل بعض الليديين إلى دلفي وأخبرهم بأن يضعوا أغلاله على عتبة المعبد ويسألوا الإله بقولهم: «ألا يخجل من تشجيعه كرويسوس على تخريب إمبراطورية كوروس بأن يشن الحرب على فارس، فكانت أولى ثمرات تلك الحرب هذه السلاسل؟» وبعد أن يقولوا هذا عليهم أن يُشيروا إلى السلاسل ويقولوا: «هل من عادة آلهة الإغريق أن يُنكِروا الجميل؟»

ذهب الليديون إلى دلفي، وقاموا برسالتهم، فردت عليهم الكاهنة بقولها: «من المستحيل حتى على أي إله أن يُفلِت من القضاء المحتوم، لقد عوقب كرويسوس عن جريمة اقترفها خامس أسلافه، ذلك الذي عندما كان حارسًا خاصًّا في الأسرة الهرقليدية اشترك في مؤامرة قامت بها سيدة، فقتل سيده واغتصب عرشه بغير حق، فقرر أبولو ألا تسقط سارديس في حياة كرويسوس، بل أجلسها إلى عهد ابنه، ومع ذلك فلم يستطع مقاومة الأقدار. لقد وهب كرويسوس كل ما سمحت به الأقدار، أخبروا كرويسوس بأن أبولو أجَّل سقوط سارديس ثلاث سنوات كاملة، وأنه صار أسيرًا بعد الموعد الذي حُدد ليقع فيه في الأسر بثلاث سنوات، وعلاوة على هذا فإن أبولو هو الذي خلصه من الاحتراق حيًّا فوق الكومة، ولا حق لكرويسوس في أن يشكو من الإجابة التي تلقاها من الوحي؛ إذ عندما أخبره الوحي بأنه إذا هاجم فارس خرَّب إمبراطورية قوية، كان يجب عليه إن كان حكيمًا أن يُرسل ثانية ويستفهم عن الإمبراطورية التي يقصدها الوحي، هل هي إمبراطورية كوروس، أو إمبراطوريته هو نفسه، وبما أنه لم يفهم ما قيل، ولم يُكلف نفسه مئونة السؤال عن تفسير ما غمض عليه، فلا حق له في أن يلوم غير نفسه عما حدث. وزيادة على هذا، فقد أساء فهم الرد الأخير الذي قيل له عن البغل؛ لأن والدي كوروس كانَا من جنسيتين مختلفتين ومن طبقتين مختلفتين أيضًا، فأمُّه أميرة ميدية، هي ابنة الملك أستياجيس، وأبوه فارسي من عامة الشعب، تزوج من سيدته الملكة رغم جميع الاعتبارات.»

هكذا كان رد الكاهنة، فلما رجع الليديون إلى سارديس وأفضوا إلى كرويسوس بكل ما سمعوه، اعترف بأنه المُخطئ وليس الإله … هذه هي الكيفية التي هزمت بها أيونيا لأول مرة، وبهذا انتهت إمبراطورية كرويسوس.

١  الوحي الموجود في ليبيا (بأفريقيا) هو وحي آمون؛ إذ كان هيرودوت يعتبر مصر من آسيا وليست دولة أفريقية.
٢  يبدو أن وحي أباي كان في المرتبة الثانية بعد وحي دلفي، ويبدو أنه لم يكن لدى الشرقيين أي وحي في بلادهم.
٣  Uèypov هو المحراب الداخلي أو الغرفة المقدسة؛ حيث تنطق الكاهنة بأقوال الوحي.
٤  يستحيل أن نناقش موضوعًا مثل طبيعة كل وحي قديم؛ إذ كُتِبَت عن ذلك الموضوع مجلدات عدة، وكانت في حدود مذكرة. ولكني سأراعي في حكمي على هذا الموضوع نقطتين ليس غير، وهما: (أولًا) أن الكاهنة التي قابلها القديس بولس عند أول نزوله ببلاد الإغريق الأوروبية كان بها حقيقة مس من الشيطان، فأخرج القديس بولس ذلك الروح الشرير منها، وبذا جرد سادتها من أمل في الربح (الفصل السادس عشر ١٦–١٩). (ثانيًا) وجد أنه ربما كانت ظاهرة التنويم المغناطيسي أبسط وأصدق تفسير لصدق تكهنات الوحي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤