الفصل السابع

الفُرس

كان الفُرس يتبعون عادات وتقاليد، أعرف منها ما يلي: لم يكن لديهم أية صور أو تماثيل للآلهة، ولا معابد ولا مذابح؛ إذ كانوا يعتبرون استعمالها علامة من علامات الحماقة، وأظن هذا راجع إلى عدم اعتقادهم بأن طبيعة الآلهة من نفس طبيعة البشر كما يتصور الإغريق، ومع ذلك كان من عادتهم أن يصعدوا إلى قمم أعلى الجبال، ويُقدِّموا الذبائح لجوبيتر، وهو الاسم الذي يُطلقونه على المجموعة الكونية كلها. كما كان من عادتهم أيضًا أن يُقدموا الذبائح للشمس، وللقمر، وللأرض، وللنار، وللماء، وللرياح. هذه فقط هي الآلهة التي توارثوا عبادتها عن أسلافهم منذ أقدم العصور الغابرة.

أما أعظم يوم يحتفلون به من بين أيام السنة كلها فهو يوم عيد ميلادهم، فكان من عادتهم أن يُقيموا وليمة في ذلك اليوم، تُقدَّم فيها أطعمة أفخر من أطعمتهم العادية، فكان ذوو اليسار يشوُون ثورًا، وحصانًا، وجملًا، وحمارًا كاملة١ ويُقدمونها في ذلك اليوم على هذه الصورة. أما الطبقات الأفقر فيُقدمون أنواعًا من الحيوانات أصغر من تلك. وكان من عادتهم أيضًا أن يأكلوا قليلًا من الأطعمة الجافة، وكثيرًا من الحلويات والفاكهة، يقدِّمونها على المائدة على عدة دفعات، بضعة أطباق في كل دفعة، ولهذا كانوا يقولون «عندما يأكل الأغارقة يتركون المائدة وهم جياع؛ إذ لا يقدِّمون زيادة على اللحوم سوى القليل. أما إذا وجدوا أمامهم مزيدًا من الأطعمة فإنهم لا يكفون عن الأكل.» والفرس مولعون بالخمر، يعبون منها كميات كبيرة٢ ويُحرمون القيء وإطاعة مطالب الطبيعة (كالتجشؤ والعطاس وما إليها) في حضور الغير. هذه عادتهم في تلك الأمور.
كذلك من عادتهم أن يتناقشوا في الأمور الهامة وهم سُكارَى، وعندما يفيقون في الصباح يوضع أمامهم القرار الذي اتخذوه ليلًا بوساطة صاحب الدار التي اتُّخذ فيها، فإن وافقوا عليه عملوا به وإلا تركوه، ومع ذلك فأحيانًا تحدث المناقشة الأولى وهم في حالة اتزانهم، ولكنهم في تلك الحالة لا بد أن يتخذوا القرار وهم تحت تأثير الخمر.٣
إذا قابل الفارسي فارسيًّا آخر أمكنك أن تعرف ما إذا كان الشخصان المتقابلان من درجة واحدة بالعلامات الآتية: إذا قَبَّل كل منهما الآخر من شفتيه بدلًا من التحية بالكلام، أما إذا كان أحدهما أقل درجة من الآخر فإن القُبلة تكون على الخد، وإذا كان البون شاسعًا بين الدرجتين استلقى الأقل درجة على الأرض،٤ وأعظم تقديرهم للأمم الأجنبية هو لأقرب جيرانهم، أما الأمم التي تعيش بعد أولئك الجيران، في الموقع، فيكون تقديرهم لها في المرتبة الثانية، وهكذا مع بقية الأمم، كلما بَعُد مكان الأمة عنهم قَلَّ تقديرهم لها؛ والسبب في ذلك أنهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم متفوقون على بقية البشر في كل شيء، ويقترب الآخرون منهم في الميزات بنسبة قربهم من بلادهم، أما الأمم النائية الموقع عنهم فأكثر البشر انغماسًا في الرذيلة والانحطاط.
لا تُبارَى أمة الفرس في محاكاتهم للتقاليد الأجنبية؛٥ فقد اقتبسوا زي ملابسهم عن الميديين؛ إذ وجدوه أرقى من زيهم، ويلبسون في الحرب درع الصدر المصرية، وما إن يسمعوا عن صنف من صنوف الترف حتى يُحاكوه، وعلى هذا فمن العادات الجديدة عليهم أنهم تعلموا الانغماس في الأمور الجنسية من الإغريق، فاقتنى كلٌّ منهم عددًا من الزوجات، وعددًا أكبر من المحظيات.
أما الرجولة الكاملة فأُولَى خواصها البسالة في استخدام الأسلحة، ويليها في المرتبة أن يكون الرجل كثير الأبناء. وفي كل عام يُقدم الملك هدايا ثمينة لمن يُبرهن على أنه أب لأكبر عدد من الأبناء؛ إذ يعتبرون كثرة العدد قوة. ويُعلَّم الأبناءُ بعناية — منذ عامهم الخامس حتى يبلغوا العشرين من العمر — ثلاثةَ أمور ليس غير هي: ركوب الخيل، واستخدام القوس، وقول الصدق.٦ ولا يُسمح للأبناء — قبل الخامسة من العمر — بأن يراهم أبوهم، بل يقضون حياتهم إذ ذاك وسط السيدات؛ وذلك حتى إذا مات الطفل صغيرًا لم يحزن أبوه على موته.

في اعتقادي أن هذه قاعدة تنطوي على كثير من الحكمة، وكذلك القاعدة الآتية: لا يحكم الملك على أي فرد بالموت من أجل هفوة واحدة، ولا يُعاقب الرجل الفارسي عبده عقابًا شديدًا على هفوة واحدة، بل تُقارن حسناته وسيئاته في كل حالة، فإن رجحت كفة السيئات على كفة الحسنات عوقب العبد.

يتمسك الفرس بأنه لم يحدث قط أن قتل أحد أباه أو أمه، ولكنهم على يقين من أنه إذا حدث ذلك، وحُققت المسألة من أساسها، ظهر أن الولد إما أن يكون مجنونًا أو ابن زنا؛ إذ يقولون إنه لا يُمكِن أن يهلك الأب الحقيقي بيدَي ولده.

كذلك يُحرمون الكلام في الأشياء التي لا يحل فعلها، ويليها في مرتبة الرذيلة أن يكون المرء مديونًا، فمن الأسباب الأخرى أن يُضطر المدين إلى الكذب. وإذا أُصيب رجل فارسي بالجُذام فلا يُسمح له بدخول أية مدينة أو بالتعامل مع أي فارسي آخر، لا بد أن يكون ذلك الشخص حسب قولهم قد أذنب في حق الشمس. أما الأجانب المصابون بهذا المرض فيُجبَرون على مغادرة المملكة كلها، وحتى المُصابون بالبرص يُطرَدون كذلك للذنب نفسه، ولا يلوِّثون قط نهرًا بإفرازات أجسامِهم، ولا حتى يغسلون أيديهم في نهر، ولا يسمحون للغير بفعل ذلك؛ لأنهم يُبجلون الأنهار تبجيلًا عظيمًا. وهناك شيء غريب آخر لم يُلاحظه الفرس أنفسهم ولكنه لم يفُتني؛ تنتهي جميع أسمائهم الدالة على بعض الميزات الجسدية أو العقلية بنفس الحرف؛ الحرف الذي يُسميه الدوريون «سان» San، ويُسميه الأيونيون سيما Sigma (حرف س في اللغة العربية). ومن يرغب في التحقق من هذا يجد أن جميع الأسماء الفارسية بغير استثناء تنتهي بهذا الحرف.

هذا هو ما أستطيع ذكره عن الفرس، وأنا على يقين منه تبعًا لمعلوماتي الواقعية. وهناك عادة أخرى يتكلمون عنها بتحفظ ولا يذكرونها جهرًا، وتختص بموتاهم. يقولون: إن جثة الفارسي الذَّكر لا تُدفن إطلاقًا إلا بعد أن يُمزِّقها كلب أو طائر جارح. ولا شك في أن هذه العادة معروفة لدى الماجي (الكهنة الميديون)؛ إذ يُمارسونها علنًا دونما إخفاء، وبعد ذلك تُطلى أجسام الموتى بالشمع ثم تُدفن في الأرض.

والماجي فئة غريبة الأطوار، يختلفون تمام الاختلاف عن الكهنة المصريين، والحقيقة أنهم يختلفون عن سائر الناس مهما كانت جنسيتهم. ويُحرِّم الكهنة المصريون قتل أي حيوان حي إلا ما يُقدمونه قُربانًا، أما الماجي فعلى نقيض ذلك، يقتلون بأيديهم جميع أنواع الحيوان ما خلا الكلاب والإنسان، ويبدو أنهم يجدون لذة في قتل الحيوان؛ إذ يقتلونه بسرعة كما يقتلون الحيوانات الأخرى كالنمل والأفاعي والطيور والزواحف، ومع ذلك فبما أن هذه عادتهم فلنحتفظ بها. ثم أرجع إلى قصتي السابقة.

١  من العادات المتبعة في الدول الشرقية اليوم أن يشوُوا الخروف كاملًا، حتى على الموائد العادية. وتُتَّبع هذه العادة في الأعياد في دلماشيا وبعض دول أوروبية أخرى.
٢  من عادة الفرس المترفين اليوم أن يجلسوا إلى المائدة قبل العشاء بعدة ساعات يشربون الخمر ويأكلون الفواكه المجففة كالجوز والبندق واللوز والفستق واللب وغيرها، والحقيقة أن الآكلين يجلسون إلى المائدة في الساعة السابعة، ولا يُقدَّم لهم العشاء إلا في الساعة الحادية عشرة.
٣  يؤكد تاكيتوس أنه كان من عادة الجرمانيين أن يتناقشوا في مواضيع السلم والحرب وهم تحت تأثير الخمر، ويحتفظون بقرارهم إلى الصباح.
٤  لا يزال الفرس مشهورين باتباع الرسميات وآداب المعاشرة.
٥  يبدو من الباب الخامس أن زي الفرس الوطني القديم كان سترة ضيقة وسروالًا من الجلد، أما الزي الميدي فكان، تبعًا لكسينوفون، يخفي تقاطيع الجسم ويُعطيه مظهر العظمة والأناقة ويبدو أنه كان جلبابًا فضفاضًا.
٦  ناقش لارشر تقدير الفرس للصدق من قوة خطبة داريوس في الكتاب الثالث (الباب ٢٤). ومع ذلك فلا يوجد في التاريخ ذكر لهذه الخُطبة إطلاقًا. ويتضح تقدير الفرس الخاص لقول الصدق وضوحًا بَيِّنًا مع مخطوطات داريوس التي تذكر أن الكذب عنوان الشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤