الفصل التاسع

بابل

كانت آشور تضم عددًا كبيرًا من المدن، أهمها وأقواها في ذلك الوقت «بابل» التي نُقِل إليها مقر الحكومة بعد سقوط مدينة نينوى. وهاك وصفًا لهذا البلد:

«تقع هذه المدينة في سهل فسيح، وموقعها مربع الشكل تمامًا، يبلُغ طول كل ضلع من أضلاعه مائة وعشرين فورلنجًا، وبذا يكون طول محيطها كله أربعمائة وثمانين فورلنجًا. وعلاوة على مساحتها العظيمة هذه فإنها من ناحية الجمال لم تكن هناك مدينة أخرى تدانيها فيه؛ فأولًا: كان يُحيط بها خندق عريض عميق مملوء بالماء، يرتفع وراءه سور من البناء عرضه خمسون ذراعًا ملكية، وارتفاعه مائتا ذراع (الذراع الملكية أطول من الذراع العادية بعرض ثلاث أصابع).»١
يجب ألا يغيب عن بالي أن أذكر هنا الغرض الذي استُعملت فيه الأتربة التي خرجت من حفر ذلك الخندق العظيم، ولا الطريقة التي بُني بها هذا السور، فإنه ما إن أتم القوم حفر الخندق حتى صنعوا من التُّراب المستخرج منه لبِنًا (طوبًا نيئًا)، ولما تم صُنع كمية كافية من اللبِنات أحرقوها في قمائن حتى صارت آجرًّا (طوبًا أحمر)، ثم شرعوا في البناء مبتدئين ببناء حافات الخندق أولًا، وبعدها مباشرة أخذوا يبنون السور نفسه، متخذين ملاطهم كله من القار الساخن، وواضعين طبقة من الغاب (البوص) المضفور بين كل ثلاثين طبقة (مدماك) من الآجُر٢ وأقاموا فوق سطح السور جميعه أبنية .. من حجرة واحدة .. تُقابل كل منها الأخرى، تاركين بينها مسافة تتسع لمرور عربة تجرها أربعة خيول. ويوجد في محيط السور كله مائة باب جميعها من النحاس الأصفر، ذات قوائم وإطارات من النحاس أيضًا. وأحضروا القار المستعمل في ذلك العمل من نهر إيس، وهو أحد الروافد التي تصب في نهر الفرات عند المدينة المسماة بنفس اسمه، وتقع على مسيرة ثمانية أيام من بابل؛ إذ توجد في هذا النهر كميات وافرة من كتل القار.

يجري نهر وسط تلك المدينة فيقسمها إلى قسمين؛ إنه نهر الفرات، ويمتد سور المدينة إلى كل من جانبي النهر، وعلى ذلك يصل ركن السور إلى نهاية كل شاطئ في صورة حاجز من الآجر. ومجرى نهر الفرات عميق سريع الجريان، ينبُع من أرمينيا، ويصُب في بحر أروثريا، أما البيوت فيتكون أغلبها من ثلاثة أو أربعة أدوار، وشوارعها كلها مستقيمة، منها الموازي لمجرى النهر، ومنها المستعرض الموصل إلى شاطئيه. وتوجد في نهاية هذه الشوارع عند الشاطئ أبواب منخفضة الارتفاع مفتوحة في السور المُحاذي للنهر، تُشبه الأبواب العظيمة الموجودة في السور الخارجي، وهي كذلك مصنوعة من النحاس الأصفر، وتفتح إلى المياه.

تتكون وسائل الدفاع الرئيسية لتلك المدينة من سورها الخارجي، بَيْد أن هناك سورًا آخر داخليًّا عرضه أقل من عرض السور الأول، ويَقِل عنه قوة. ويحتل وسط كل قسم من قسمي المدينة حصن، في أحدهما قصر ملوك بابل الذي يُحيط به سور عظيم الضخامة والقوة، وفي الحصن الآخر .. المعبد المُقدس لجوبيتر بيلوس، وهو على شكل مربع طول ضلعه فورلنجان، وله أبواب سميكة مُصمتة من النحاس الأصفر، كانت موجودة أيضًا في عهدي. وكان بوسط المعبد برج مربع الشكل من البناء المتين، طول كل من جوانبه فورلنج واحد، أُقيم فوقه برج ثانٍ وفوق هذا ثالث، وهكذا حتى ثمانية أبراج. ويصل الصاعد إلى القمة من الخارج بواسطة طريق يدور حول الأبراج، وفي منتصف هذا الطريق موضع للراحة به مقاعد لجلوس الصاعدين إلى أعلى الأبراج، وفوق أعلى برج .. معبد واسع به سرير خارق الحجم مزخرف بأنفس الزخارف. وبجانبه نضد من الذهب، وليس بالمعبد أي تمثال، ولا ينام في المعبد ليلًا غير سيدة وطنية واحدة، تبعًا لما يؤكده جماعة الخلديانيين، وهم كهنة ذلك الرب.٣
تحت ذلك المعبد معبد آخر به تمثال جالس لجوبيتر مصنوع كله من الذهب الخالص، وأمام التمثال نضد من الذهب، ضخم الحجم، عليه العرش. وكذلك قاعدة التمثال من الذهب أيضًا. وقد أخبرني أولئك الكهنة أن مجموع وزن الذهب المستعمل ثمانمائة تالنت (التالنت يُعادل ٥٧ رطلًا إنجليزيًّا). وخارج المعبد عمودان أحدهما مُصمت من الذهب لا يجوز أن تُقدم فوقه أية ذبائح إلا من الحيوانات الرُّضع، أما العمود الآخر فمذبح عادي كبير، تُقدم عليه ذبائح من الحيوانات الكاملة النمو. ويحرق الكهنة فوق ذلك المذبح العظيم كميات كبيرة من اللبان الذكر يُقدر وزنها بحوالي ألف تالنت في كل عام في عيد ذلك الرب. كما كان يوجد بهذا المعبد في عهد كوروس تمثال لرجل ارتفاعه اثنا عشر ذراعًا، كله مصمت من الذهب النضار. أما أنا نفسي فلم أرَ هذا التمثال، ولكني سمعت عنه من الكهنة، وقد تآمر داريوس بن هوستاسبيس على نقل ذلك التمثال، بَيْد أنه لم يجرؤ على أن يضع يديه فوقه. وقتل كسيروكسيس بن داريوس .. الكاهن الذي منعه من نقل هذا التمثال، وأخذه. وعلاوة على الزخارف التي ذكرتها، يوجد عدد هائل من التقدمات الخاصة، في ذلك المعبد المُقدس.٤

حكم مدينة بابل هذه عدة ملوك بذلوا جهودًا ومساعدات في بناء أسوارها وتزيين معابدها، وسأتكلم عنهم في سردي لتاريخ آشور. وكان من بينهم سيدتان وتُسمَّى أولاهما سميراميس، تولت الحكم خمسة أجيال قبل أن تأتي بعدها الملكة التالية. ومن أعمالها أنها أقامت بعض الجسور الجديرة بالذكر في السهل المجاور لمدينة بابل؛ للإشراف على النهر الذي كان — حتى ذلك الوقت — يفيض على جانبيه فيُغرِق جميع الأراضي المُحيطة به.

أما الملكة الثانية فهي نيتوكريس، وكانت أكثر حكمةً من سابقتها فلم تترك وراءها تخليدًا لذكرى جلوسها على العرش، ولكنها لما رأت قوة الميديين البالغة، ومشروعاتهم العظيمة، وأنهم استولوا على عدد كبير من المدن من بينها نينوى، وتوقعت أن تُهاجَم بدورها، بذلت كل مجهود مُستطاع لتقوية وسائل دفاع إمبراطوريتها؛ فبدأت بنهر الفرات الذي كان يخترق المدينة في خط مستقيم، فحفرت بعض المجاري على مسافة من أعلى النهر، وبذا صار يدور ويحف بالقرية نفسها ثلاث مرات، وهي قرية في آشور كانت تُسمى أرديريكا. وإلى يومنا هذا كل من يذهبون من بحرنا إلى بابل عندما ينزلون إلى ذلك النهر يمرون بنفس تلك البقعة ثلاث مرات، في ثلاثة أيام مختلفة. كما أقامت جسرًا بطول كل من جانبي نهر الفرات، وكانَا عجيبَين في عرضهما وفي ارتفاعهما. وحفرت حوضًا لبحيرة على مسافة بعيدة من بابل إلى جوار هذا النهر، وكان الحوض عميقًا في كل نقطة يصل فيها إلى المياه، وكان عرضه هائلًا حتى إن مُحيطه ليبلغ أربعمائة وعشرين فورلنجًا. واستخدمت الأتربة الناشئة من حفر هذا الحوض في تعلية الجسور بطول مجرى الماء. وبعد أن أتمت حفره أحضرت الأحجار وأقامت بها حوائط تُبطِّن محيط الحوض بأكمله. وهكذا أتمت هذين العملين وهما التفاف النهر وحفر البحيرة حتى يصير التيار أبطأ بسبب عدد الانحناءات التي يدور فيها، وتغدو الرحلة طويلة دائرية حتى يضطر القائم بها إلى المرور حول البحيرة فيقطع شوطًا بعيدًا. كل هذه الأعمال تمت على جانب مدينة بابل حيث تقع الممرات. وكانت الطرق المؤدية إلى ميديا أكثر استقامة، وغرض الملكة من هذا هو أن تمنع الميديين من الاتصال بالبابليين؛ وبذا لا يكونون على علم بشئونها.

بينما استخدمت التربة المُستخرَجة من حفر البحيرة في إقامة وسائل دفاع المدينة، شغلت نيتوكريس نفسها في عمل آخر، هو في الحقيقة نابع للعملين السابقَين وأقل شأنًا منهما. يقسم النهر المدينة كما أسلفنا إلى قسمَين منفصلَين، فكان في عهد الملوك السابقِين إذا أراد شخص أن ينتقل من أحد القسمَين إلى الآخر اضطُر إلى عبور النهر في قارب، وهذه مسألة يبدو لي أنها كانت شاقة متعبة، ما في ذلك ريب، وعلى هذا بينما كانت نيتوكريس تحفر البحيرة أرادت الانتفاع بها في التغلب على هذه الصعوبة، فتُخلف وراءها تذكارًا آخر لجلوسها على عرش بابل، فأصدرت أمرها بقطع كتل من الأحجار بالغة الضخامة، فلما قُطعت وحُفر الحوض حولت جميع مجرى نهر الفرات إلى مكان قطع الأحجار، وبهذا بينما يمتلئ الحوض بالماء يكون المجرى الطبيعي للنهر جافًّا تمامًا. فأنشأت تُنفذ هذا العمل، فبدأت أولًا بتبطين ضفَّتَي النهر داخل المدينة بجسرين من الآجر، وكذلك مواضع النزول أمام الأبواب المُطِلة على النهر مستعملة طريقة البناء نفسها التي استُخدِمت في بناء سور المدينة. بعد ذلك بنت بالمواد التي أُعدَّت قنطرة من الحجر قريبة من وسط المدينة قدر المُستطاع، وربطت أحجارها بعضها إلى بعض بالحديد والرصاص، وفي أثناء النهار كانت توضع معابر من الخشب بين الشاطئين يمر فوقها السكان عند عبور النهر من جانب إلى آخر. بَيْد أن تلك المعابر كانت تُرفع ليلًا لئلا يمر الناس من أحد القسمين إلى الآخر بغية السرقة. وبعد أن ملأت مياه النهر مكان قطع الأحجار، وتم إنشاء القنطرة، حُوِّل النهر ثانية إلى مجراه القديم، وهكذا تحول الحوض فجأة إلى بحيرة تفي بالغرض الذي أُنشئت من أجله، وحظي سكان المدينة بمساعدة ذلك الحوض بقنطرة تريحهم في عبور النهر.

كانت هذه الملكة نفسها هي التي دبرت الخدعة الشهيرة، فقد شيدت مقبرة لها في الجزء العلوي من أحد الأبواب الرئيسية للمدينة، في مستوًى يرتفع فوق رءوس المارين، ثم كتبت عليها هذه العبارة: «إذا احتاج أحد الملوك .. الذين سيخلفونني على عرش بابل .. إلى الأموال فليفتح قبري يأخذ منه ما يشاء ولا يفعلن ذلك إلا إذا كان مُحتاجًا حقًّا إلى الأموال وإلا فلن يفيد منه شيئًا.» ظل ذلك القبر كما هو لا يمسه أحد حتى جاء داريوس إلى المملكة فرأى من الوحشية ألا يكون في مكنته استخدام أحد أبواب المدينة، وأن يبقى مبلغ من المال محبوسًا دون الانتفاع به. وعلاوة على هذا شق على نفسه أن يمنع يده من الوصول إلى ذلك الكنز، فامتنع عليه استخدام الباب؛ لأنه عندما يمر بعربته تكون الجثة الميتة فوق رأسه. وبناءً على كل ذلك فتح القبر، ولكنه بدلًا من أن يرى الكنز وجد الجثة الميتة ليس غير، وبجوارها كتابة تقول: «لو لم تكن جشعًا ومولعًا بجمع المال الحرام ولا يهمك من أي طريق تحصل عليه، لَمَا تجرأت على فتح ضريح الموتى.»

قامت حملة كوروس ضد ابن هذه الملكة، الذي كان يُسمى بنفس اسم أبيه لابينيتوس، وكان هذا الابن ملكًا على الآشوريين، وكان من عادة الملك العظيم عندما يخرج إلى الحرب أن تأتيه من وطنه مئونة تُجهَّز بعناية هناك، وتحملها دواب من ماشيته هو نفسه. كما كان يحمل معه الماء اللازم لشربه مأخوذًا من نهر خواسبيس الذي كان يجري في سوسا (أو شوشانة، وكانت عاصمة منطقة سوسيانا، وكان من عادة ملوك الفرس أن يقضوا فيها فصل الشتاء)؛ لأنه الماء الوحيد الذي كان يذوقه ملوك فارس. وأينما رحل الملك تتبعه عربات ذات أربع عجلات تجرها البغال تحمل ماء نهر الخواسبيس مغليًّا ومُعدًّا للاستعمال، ومُعبأً في قوارير من الفضة تُنقل معه من مكان إلى آخر.

١  لو فُرِض أن القدم البابلية كانت تُعادِل القدم الإنجليزية، فإن الذراع العادية تُعادِل قدمًا وثماني بوصات. أما الذراع الملكية فتُعادل قدمًا و١٠٫٤ من البوصة، وتُقاس الذراع العادية بالمسافة ما بين الكوع ومنتصف الإصبع الوسطى.
٢  توجد طبقات من الغاب في بقايا أبنية الطوب الباقية الآن في بابلونيا، ولكن المسافات بينها أقل من المذكورة هنا.
٣  يبدو إذن أن الخلديانيين فرع من جنس عقاد Akkad الهاميتي Hamite الذي كان يقطن بابلونيا منذ أقدم العصور، وهؤلاء القوم هم الذين اخترعوا فن الكتابة وبناء المدن وطرق العبادة وتنمية جميع العلوم وخصوصًا علم الفلك، وهم الكلدانيون.
٤  لا شك في أنه يُمكن التعرف على معبد بابل العظيم، الذي ترك الأغارقة كثيرًا من الأدلة على وجوده بالرابية الهائلة التي يُسميها العرب عامة باسم «بابل».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤