نظام الاجتماع في العصر العباسي

كل ما قدمناه من الكلام على طبقات الناس في العصور السالفة إنما هو تمهيد للكلام عن العصر العباسي، عندما نضج التمدن الإسلامي وتكيفت طبقاته على شكل خاص بهذا التمدن، وكان على أتم أشكاله في مدينة بغداد قصبة العالم الإسلامي، فهي أوضح أنموذج يمثل به نظام الاجتماع في ذلك العصر.

كان الناس في العصر العباسي طبقتين: الخاصة والعامة، تحت كل منهما طبقات وأتباع وفروع سيأتي تفصيلها:

(١) طبقات الخاصة

كان الخاصة خمس طبقات:
  • (١)

    الخليفة.

  • (٢)

    أهله.

  • (٣)

    رجال دولته.

  • (٤)

    أرباب البيوتات.

  • (٥)

    توابع الخاصة.

فالخليفة صاحب السلطتين الدينية والسياسية١ فأحر بمن كان هذا منصبه أن يعظم الناس شأنه، ويتقربوا إليه بالطاعة وبذل الخدمة والتزلف بالمدح والإطراء، وسيأتي الكلام على الخلفاء ومجالسهم ومواكبهم والآداب المتبعة في مخاطبتهم وغير ذلك في باب أبهة الدولة من هذا الجزء.
وأهل الخليفة هم بنو هاشم، وكانوا أرفع الناس قدرًا بعده ويسمونهم الأشراف وأبناء الملوك،٢ فإذا دخلوا على الخليفة جلسوا على الكرسي، وسائر الناس دونهم على الوسائد أو البسط، إلا هو فإنه يجلس على السرير، وكانوا يرتزقون على الغالب برواتب يقتضونها من بيت المال، فضلًا عما ينالونه من النعم والهدايا بحسب ما يتراءى للخليفة في أمرهم، فإذا خاف تطاول أحدهم للملك أثقل يديه بالهدايا وقطع لسانه بالعطاء؛ تلك كانت سياسة العباسيين منذ تأسيس دولتهم، وكان الهاشميون في أوائلها عونًا كبيرًا في تأييدها، يتولون الأعمال ويقودون الجند ويعينون الخليفة بالرأي والسياسة، فلما تأيدت أصبح الخلفاء يخافون مطامع أهلهم، فأخذوا يبذلون لهم الأموال، فمن أعجزهم كف أذاه بالمال عمدوا إلى الفتك به، باشر ذلك أبو جعفر المنصور وسار الخلفاء على خطته، فكانوا يعطون أهلهم الرواتب الباهظة والهدايا الفاخرة ويسهلون عليهم أسباب القصف واللهو ليشتغلوا بذلك عن طلب الملك وتعجز هممهم عن النهوض.
فكان الهاشميون في الغالب من أهل السعة والرخاء، يتمتعون بشرف الملك ولا يحملون أوزاره وأعباء تبعته، فانغمس أكثرهم في الترف وانهمكوا في الشراب والغناء وابتنوا القصور الشماء والحدائق الغناء، واستكثروا من الجواري وجمعوا إليهم المغنين والقيان وقربوا الشعراء والأدباء، وأكثر مقامهم في البصرة، بعيدين عن دور الخلفاء ودسائسها إلا من ولاه الخليفة عملًا أو جندًا، واشتهر بعضهم بالثروة الطائلة كمحمد بن سليمان، فقد بلغت أمواله نيفًا وخمسين مليون درهم غير الضياع والدور، وكانت غلته ١٠٠٠٠٠ درهم في اليوم،٣ وبلغت ثروة خمنة بنت عبد الرحمن الهاشمي ما لا يسعه الديوان،٤ ومع ذلك فقد كانوا يؤخذون بغير ذنبهم ويخافون الدسائس على حياتهم.

وأما رجال الدولة فنريد بهم الوزراء والكتاب والقواد ومن جرى مجراهم من أرباب المناصب العالية، وكان أكثرهم في إبان الدولة العباسية من الموالي وخصوصًا الفرس، كالبرامكة وآل سهل وآل وهب وآل الفرات وآل الخصيب وآل طاهر وغيرهم، وكانوا يختلفون نفوذًا وسطوة باختلاف الخلفاء وتفاوت أدوار التمدن، ولكن الوزارة كانت على الإجمال من أوسع أبواب الكسب على ما بيناه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

أما أهل البيوتات فهم الأشراف من غير الهاشميين، ومرجع شرفهم إلى اتصال حبل قرباهم بالنسب النبوي أو بقريش، وكان الخلفاء يراعون جانبهم ويفرضون لهم الأعطية والرواتب ويقدمونهم في مجالسهم، على أن هذه الأنساب كانت أكثر نفعًا لأصحابها في عهد بني أمية منها في أيام بني العباس، ولا سيما بعد ضعف العنصر العربي بقتل الأمين، فلما أفضى الأمر إلى المعتصم قطع رواتب الأشراف في جملة ما قطعه من أعطيات سائر العرب، وربما أعيد بعضها بعد ذلك على غير قياس.

(٢) أتباع الخاصة

وللخاصة أتباع أخرجوهم من طبقات العامة بما خصوهم به من أسباب القربى والخدمة وهم أربع طبقات:
  • (١)

    الجند

  • (٢)

    الأعوان

  • (٣)

    الموالي

  • (٤)

    الخدم

(٢-١) الجند

فالجند فرق كثيرة تختلف أصلًا ونظامًا على ما فصلناه في الجزء الأول من هذا الكتاب، وقد يتبادر إلى الذهن قياسًا على المألوف عندنا أن الجند رجال الخليفة يأتمرون بأمره، وقد يكون بعضهم كذلك، لكنهم كانوا يختلفون في ذلك العصر عما هم عليه الآن؛ لأن بعض الخاصة من الوزراء والعمال كانوا يجندون رجالًا ينفقون عليهم من أموالهم، وقد يبتاعون غلمانًا ويربونهم للاستعانة بهم على أعدائهم وقت الحاجة ويسمونهم بأسمائهم، وقد يذهب الوزير أو العامل وينتقل جنده إلى غيره ويبقى معروفًا باسمه، فاجتمع في بغداد من الأجناد طوائف كثيرة تنتسب إلى أصحابها، كالساجية والنازوركية والبيلغية والهارونية، وفيهم الأتراك والفرس والبرابرة والأحباش والأكراد. ومن هذا القبيل الفرق العزيزية والأخشيدية والكافورية في مصر مما لا يُحصى، ومن تلك الفرق ما هو من قبيل الضابطة أو نحوها كالشاكرية، أو لمجرد حماية القصور أو غير ذلك.

(٢-٢) الأعوان

أما الأعوان فهم خاصة الرجل ورفاقه، ولا يراد بهم ما يراد بالرفاق أو الأصدقاء اليوم، فقد كان للخلفاء وسائر الخاصة من رجال الدولة والأشراف رفاق يصطحبونهم ويجالسونهم ويعيشون في منازلهم ويكون لهم رواتب يقتضونها، ومنهم طائفة الجلساء الذين يجالسون الخليفة أو الأمير، وهم غير الندماء أو الشعراء، وإنما هم رجال من أهل التعقل والثقة يختصهم الخليفة أو الأمير أو الشريف بمجالسته، فيفاوضهم في شئونه ويركن إليهم في مهامه وتكون لهم الدالة عليه، وربما كان بعضهم من مشايخ أهله أو بعض ذوي قرابته.

(٢-٣) الموالي

وأما الموالي فقد فصلنا الكلام عنهم في الجزء الرابع من هذا الكتاب، وبينا أحوالهم وشروطهم وتاريخهم ولا حاجة إلى المزيد.

(٢-٤) الخدم

أما الخدم فأكثرهم في ذلك العهد الأرقاء السود والبيض من الذكور والإناث، وقد اصطلحوا أن يسموا الأرقاء البيض مماليك والسود عبيدًا، ويقسم الكلام في الخدم إلى ثلاثة أقسام: الأرقاء والخصيان والجواري.

(أ) الأرقاء

في الجزء الرابع من هذا الكتاب فصل عن الرق في الإسلام ومصادره وأحكامه، وفصل آخر عن الخدم وطبقاتهم ونفوذهم في الدولة حتى نبغ منهم القواد والوزراء، فنأتي في هذا المقام بما يختص من هذا الموضوع بنظام الاجتماع.

قلنا فيما تقدم عن طبقات الناس قبل الإسلام: إن العامة من أهل البلاد الأصليين بالشام والعراق ومصر وفارس كانوا يئنون تحت نير الاستعباد، وبعضهم أرقاء فعلًا ولا سيما الأقنان خَدَمة المزارع الذين كانوا ينتقلون مع العقار من مالك إلى مالك، فهؤلاء العامة جاءهم الإسلام رحمة؛ لأنهم تحولوا من الرق إلى الحرية أو إلى العهد، فمن أسلم صار حرًّا له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن ظل على دينه دخل في ذمة المسلمين يدافعون عنه ما أدى الجزية، إلا من حاربهم وأسروه فهو ملك لهم يتصرفون به كيف شاءوا، ولكن أكثر الذين حاربوا المسلمين في صدر الإسلام من حامية البلاد وهم الجنود من الروم أو الفرس لم يكونوا من عامة أهل البلاد المظلومين، فمن دخل من الحامية في أسر المسلمين صار مِلكًا لهم، وكان للمسلمين بعد ذلك أن يطلقوا سراحهم أو يعتقوهم، ولكن الغالب أنهم كانوا يدخلون الإسلام ويصبحون في جملة الموالي، وقد زعم بعض أمراء بني أمية استعباد أهل البلاد المفتوحة عنوة أو اعتبار المسلمين غير العرب من الموالي، ولكن الشريعة الإسلامية لم تجز لهم ذلك، فأنكره العلماء وذوو الرأي فلم يلبث أن رجع عنه من أراده من القواد ورجال الدولة، وقد كانت تصرفات أولئك القواد والأمراء من بين الأسباب التي دفعت إلى الثورة على بني أمية، فلما قامت الدولة العباسية تلاشت هذه النزعات نهائيًّا.

كثرة الأسرى والأرقاء

وتكاثر الأسرى في أثناء الفتوح حتى كانوا يعدون بالألوف ويباعون بالعشرات، اعتبر ما كان من ذلك في الصدر الأول وما تبعه من الفتوح البعيدة في أيام بني أمية، فقد بلغت غنائم موسى بن نصير سنة ٩١ﻫ في إفريقية ٣٠٠٠٠٠ رأس من السبي، فبعث خمسها إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك ٦٠٠٠٠ رأس، ولم يُسمع بسبي أعظم من هذا،٥ وذكروا أن موسى هذا لما عاد من الأندلس كان معه ٣٠٠٠٠ بكر من بنات شرفاء القوط وأعيانهم،٦ وقس على ذلك غنائم قتيبة في بلاد الترك وغيرها.
وبلغت غنائم إبراهيم صاحب غزنة سنة ٤٧٢ﻫ من قلعة في الهند ١٠٠٠٠٠ نفس،٧ وفي وقعة ببلاد الروم سنة ٤٤٠ﻫ بقيادة إبراهيم بن أينال سبى المسلمون ١٠٠٠٠٠ رأس غير الدواب،٨ وفي جملة غنائم الحرب، فضلًا عن الأسرى من الرجال، جماعات من النساء والغلمان مما يثقل نقله، فكثيرًا ما كانوا يبيعونهم بالعشرات رغبة في السرعة، كما فعلوا في واقعة عمورية سنة ٢٢٣ﻫ؛ إذ نادوا على الرقيق خمسة خمسة أو عشرة عشرة، وربما بلغ ثمن الإنسان بضعة دراهم، ذكروا أنه بلغ من كثرة غنائم المسلمين في واقعة الأرك بالأندلس أن بيع الأسير فيها بدرهم والسيف بنصف درهم،٩ والبعير بخمسة دراهم، وقد يقضون عدة أشهر وهم يبيعون الأسرى والغنائم.
تلك أمثلة من أسباب تكاثر الرقيق عند المسلمين، غير ما كان يرسله بعض العمال إلى بلاط الخلفاء من الرقيق وظيفة كل سنة من تركستان١٠ وبلاد البربر وغيرهما.

معاملة الأسرى

كانوا في صدر الإسلام إذا ظفروا بغنيمة تولى الأمير قسمتها على القواد، بعد إرسال الخمس إلى بيت المال، ثم اختلف ذلك مع الزمان باختلاف الدول، ففي الدولة الفاطمية بمصر كانوا إذا عاد الجند من حرب ومعهم الأسرى يصل الأسطول بالنيل إلى شاطئ القاهرة فينزلون الأسرى ويطوفون بهم القاهرة، ثم ينزلونهم في مكان كانوا يسمونه المناخ (في جهة الإسماعيلية اليوم) كان مستودعًا للأسرى الذكور، فينظرون فيهم فإذا استرابوا في أحد قتلوه، ومن كان شيخًا لا ينفع ضربوا عنقه وألقوا جثته في بئر كانت في خرائب مصر تعرف ببئر المنامة، ومن بقي يضاف الرجال منهم إلى من في المناخ، ويُمضى بالنساء والأطفال إلى قصر الخليفة، بعد ما يُعطى الوزير منهم طائفة ويُفرق الباقي لخدمة المنازل، ويُدفع الصغار من الأسرى إلى الأستاذين فيربونهم ويعلمونهم الكتابة والرماية ويسمونهم إذ ذاك «الترابي»، وقد يرتقي أولئك الصبيان إلى رتب الأمراء.١١
ولم يكن استخدام الأسرى على هذه الصورة خاصًّا بالمسلمين، بل هي عادة كانت مرعية في تلك الأعصر، فمن يقع من المسلمين في أيدي أعدائهم كان حظهم الاسترقاق حتى يفتديهم المسلمون، وكان للخلفاء عناية في فكاك الأسرى يبذلون في سبيله المال أو يعطون أسرى عندهم على سبيل المبادلة، ومن هنا نشأ ما يُعرف «بالفداء» في تاريخ العلاقات بين المسلمين والروم؛ لأن الحرب كانت سجالًا بينهما في البر والبحر يأسرون بعضهم بعضًا، فاحتاج الجانبان إلى تنظيم عملية فداء الأسرى، فكانوا يتفقون على اللقاء في موضع معين لتبادل الأسرى، فيتبادلونهم واحدًا بواحد، حتى إذا زاد عند أحدهم عدد من الأسرى افتداه الجانب الآخر بالمال، وكان الأمويون يفتدون أسراهم أحيانًا وعلى قلة، النفر بعد النفر، في سواحل الشام والإسكندرية وملطية وسائر الثغور على الحدود، وأول فداء منظم وقع في أيام بني العباس على يد الرشيد كان سنة ١٨٩ﻫ، وتوالى الفداء بعده بضع عشرة مرة في أثناء ١٥٠ سنة، وتزايدت عناية المسلمين في فكاك أسراهم حتى أصبح أهل الورع من الأغنياء يقفون المال على فكاكهم.١٢

أما الروم فقلما كانوا يفتدون أسراهم بالمال، ولعل السبب في ذلك أن أولئك الأسرى يكونون في الغالب لفيفًا من رعاياهم أو أجنادًا من الغرباء المأجورين وليس من الروم أنفسهم، أما المسلمون فهم غالبًا المهاجمون، فإذا ظفروا كانت غنائمهم من ذلك اللفيف، وإذا غلبوا فمن وقع في الأسر منهم كان من المحاربين الذين يستحقون الفداء، والرابطة القومية بين المسلمين يومئذ أشد وثوقًا منها بين الروم ورعاياهم وأجنادهم، على أن المسلمين كثيرًا ما كانوا يأبون المال بدل الأسرى ولا سيما في الدولة الفاطمية، ولا يُعرف عن هذه الدولة أنها فادت أسيرًا من الإفرنج بمال ولا بأسير مثله، فكان ذلك من جملة البواعث على زيادة الأرقاء عند المسلمين.

فهل يستغرب بعد ذلك إذا استكثر المسلمون من العبيد والمماليك فيبلغ عددهم عند بعضهم عشرة أو مائة أو ألفًا؟ حتى الفقراء من عامة الجند كان أحدهم لا يخلو من عبد أو بضعة عبيد يخدمونه،١٣ وكان للفارس في عصر الأيوبيين عشرة أتباع يخدمونه أو بضع عشرات إلى مائة؛١٤ فكيف بالأمراء والقواد؟ حتى في صدر الإسلام، فإن الخليفة عثمان كان له ألف مملوك مع علمك بزهد الراشدين قبله،١٥ فاعتبر كم يكون عددهم في أيام الثروة والترف، فقد كان الأمير في الدولة الأموية إذا سار مشى في ركابه مائة عبد أو بضع مئات أو ألف عبد،١٦ وبلغ عدد غلمان رافع بن هرثمة والي خراسان سنة ٢٨٩ﻫ ٤٠٠٠ عبد ولم يملك أحد من ولاة خراسان قبله مثله.

أصناف الأرقاء

وكانوا إذا تكاثر الأرقاء عند أحدهم وأراد استخدامهم في منزله جعل عليهم نقيبًا يتولى النظر في شئونهم يسمونه الأستاذ، على أن الغالب في الغلمان إذا كثروا عند أمير أن يتخذهم جندًا يحرسونه فيعلمهم الحرب والقتال، فقد كان عند الأخشيد صاحب مصر ٨٠٠٠ مملوك يحرسه في كل ليلة ألفان، وأكثر فرق الجند عند الأمراء من غلمانهم، وأصلهم من السبي والأسرى أو يبتاعونهم بالمال لهذه الغاية كما تقدم في كلامنا عن فرق الجند، وربما بلغ ثمن المملوك ألف دينار.

أما الباقون من الأرقاء للخدمة في البيوت فيعلمونهم الصنائع اللازمة لتدبير المنزل، فمنهم الفراش والطباخ والخازن والوكيل أو النقيب والبواب والملاح والركابي وغيرهم،١٧ ومنهم الوصيف والمملوك، وفيهم التركي والفارسي والبربري والزنجي والصقلبي بين مجلوب ومولد من الذكور والإناث مما لا يُحصى.
وإذا زادوا عما يحتاجون إليه في الخدمة أو الحراسة أو الحماية اتخذوا الغلمان منهم زينة لمجالسهم، وكان يفعل ذلك أهل السعة واليسار ولا سيما الخلفاء، فإنهم تأنقوا في تزيينهم بأنواع اللباس المزخرفة مما لم يُسبق له مثيل، وأول من أقدم على ذلك الأمين بن الرشيد فإنه بالغ في طلب الغلمان ولا سيما الخصيان، وابتاعهم وغالى فيهم وصيرهم لخلوته وزينهم زينة الجواري، ثم صار الاستكثار من الغلمان سنة عند الخلفاء فكان عند المقتدر بالله ١١٠٠٠ غلام أو مملوك، وفيهم البيض والسود، فالبيض من الفرس والديلم والترك والطبرية وغيرهم، والسود من النوبة والزغاوة يجلبونهم من مصر ومكة وإفريقية، والزنج أصلهم من رجال صاحب الزنج الذي ثار بالبصرة، وهم غتم قح يأكلون لحوم الناس والبهائم الميتة، وقد عوقبوا على ذلك فلم يرجعوا وكانوا منفردين لا يختلطون بالبيض، ولكل طائفة نوبة في خدمة الخليفة بين حراسة وغيرها.١٨

(ب) الخصيان

الخصاء عادة شرقية كانت شائعة قديمًا بين الآشوريين والبابليين والمصريين القدماء، وأخذها عنهم اليونانيون ثم انتقلت إلى الرومان فالإفرنج، ويقال: إن أول من استنبطها سميراميس ملكة آشور نحو سنة ٢٠٠٠ قبل الميلاد، وكان المظنون أن الخصاء يذهب بقوة الرجولية، وفي التاريخ جماعة من الخصيان اشتهروا بالشجاعة والسياسة، وتولوا مناصب مهمة في أزمنة مختلفة، منهم نارسس القائد الروماني الشهير في عهد جوستنيان في القرن السادس للميلاد، وهرمياس حاكم أتارنية في ميسيا الشهير الذي قدم الفيلسوف أرسطو ذبيحة عن روحه غير ما ذكره فيه من القصائد، وممن اشتهر من الخصيان في الإسلام كافور الإخشيدي صاحب مصر، واشتهر منهم في الهند وفارس والصين جماعات كبيرة، واستبد الخصيان في أواخر الدولة الرومانية استبدادًا كبيرًا.

وللخصاء أغراض أشهرها استخدام الخصيان في دور النساء غيرةً عليهن، فلما ظهر الإسلام وغلب الحجاب على أهله استخدموا الخصيان في دورهم، وأول من فعل ذلك يزيد بن معاوية، فاتخذ منهم حاجبًا لديوانه اسمه فتح، واقتدى به غيره فشاع استخدامهم عند المسلمين، مع أن الشريعة الإسلامية أميل إلى تحريمه، على ما يُؤخذ من حديث رواه ابن مظعون.

وكانت تجارة الرقيق شائعة في أوربا قبل الإسلام، ومن أسباب رواجها أن قبائل الصقالبة (الروسيين) نزلوا في أوائل أدوارهم شمالي البحر الأسود ونهر الطونة، ثم أخذوا ينزحون غربًا جنوبيًّا نحو أواسط أوربا وهم قبائل عديدة عُرفت بعدئذ بقبائل السلاف (الصقالية أو السكلاف) والصرب والبوهيم والدلماشيين وغيرهم، فاضطروا وهم نازحون أن يحاربوا الشعوب الذين في طريقهم كالسكسون والهون وغيرهم، وكان من عادات أهل تلك العصور أن يبيعوا أسراهم بيع الرقيق كما تقدم، فتألف لذلك جماعات كبيرة من التجار يحملون الأسرى عن طريق فرنسا فإسبانيا، وقد يحملونهم إلى إفريقية والشام ومصر، فلما وقعت هذه البلاد في أيدي المسلمين راجت تلك التجارة.

فكان التجار من الإفرنج وغيرهم يبتاعون الأسرى من الصقالبة والجرمان من جهات ألمانيا عند ضفاف الرين والألب وغيرهما إلى ضفاف الدانوب وشواطئ البحر الأسود — ولا يزال أهل جورجيا والجركس إلى اليوم (حوالي ١٩١٠) يبيعون أولادهم بيع السلع — فإذا عاد التجار من تلك الرحلة ساقوا الأرقاء أمامهم سوق الأغنام، وكلهم بيض البشرة على جانب عظيم من الجمال، وفيهم الذكور والإناث حتى يحطوا رحالهم في فرنسا ومنها ينقلونهم إلى إسبانيا (الأندلس) فكان المسلمون يبتاعون الذكور للخدمة أو الحرب والإناث للتسري، وغلب على أولئك الأرقاء انتسابهم إلى قبيلة السلاف، وكانت تلفظ عندهم «سكلاف» فعربها العرب «صقلبي»، وأصبح هذا اللفظ عندهم يدل على الرقيق الأبيض بالإجمال، وكثيرًا ما يرد لفظ الصقالبة في تاريخ الإسلام ويراد به الأرقاء من قبائل السلاف والجرمان، وفعل الإفرنج نحو ذلك أيضًا فاستخدموا هذا اللفظة لنفس هذا المعنى ومنها esclave في الفرنسية وsklave في الجرمانية وslave في الإنجليزية.

ولما شاع الحجاب بين المسلمين إبان سلطانهم واستخدموا الخصيان في دورهم، عمد تجار الرقيق — وأكثرهم من اليهود — إلى خصاء بعض الأرقاء وبيعهم بأثمان غالية، فراجت تلك البضاعة وكثر المشتغلون بها وأنشأوا «لاصطناع» الخصيان معامل عديدة أشهرها «معمل» الخصيان في فردان بمقاطعة اللورين في فرنسا، وكان اليهود يخصون أولئك المساكين وهم أطفال فيموت كثيرون منهم على أثر العملية، فمن بقي حيًّا أرسلوه إلى إسبانيا فيشتريه الكبراء بثمن كبير، وأصبحوا بتوالي الأزمان يتهادون الخصيان كما يتهادون الخيل أو الإناث أو الآنية، فكان ملوك الإفرنج إذا أرادوا التقرب من خليفة المسلمين في الأندلس أو غيرها أهدوه التحف ومن جملتها الخصيان، كما فعل أمير برشلونة وطركونة لما طلبا تجديد الصلح من المستنصر خليفة الأندلس فإنهما أهدياه ٢٠ خصيًّا من الصبيان الصقالبة و٢٠ قنطارًا من صوف السمور … إلخ، فتكاثر الخصيان في بلاط الخلفاء حتى تألفت منهم فرق الحراسة الخاصة، كما تألفت الفرق من سائر المماليك والعبيد، فإذا احتفل الخليفة ببيعة أو نحوها كان المماليك والخصيان زينة ذلك الاحتفال.

وراجت تجارة الصقالبة في إبان التمدن الإسلامي، وكل ما كان يفد على المملكة الإسلامية منهم يستجلب من الأندلس؛ لأنهم كانوا يخصون بالقرب منها، غير ما يحملونه من الصقالبة من جهات خراسان مما يسبيه الخراسانيون ويحملونه للبيع؛ لأن بلد الصقالبة طويل يسبيه الإفرنج من الغرب والخراسانيون من الشرق.١٩

(ﺟ) الجواري

تكاثرهن

للجواري شأن كبير في تاريخ التمدن الإسلامي لا يقل عن شأن العبيد والموالي، وأصل الجواري ما يسبيه الفاتحون في الحرب من النساء والبنات، فهن ملك الفاتحين ولو كن من بنات الملوك أو الدهاقين، يستخدمونهن أو يستولدونهن أو يتصرفون في بيعهن تصرف المالك بملكه،٢٠ ولما أفضت أحوال المسلمين إلى الترف والقصف وتدفقت الأموال من خزائن الخلفاء والأمراء جعلوا يتهادونهن كما يتهادون الحلي والجواهر، فمن أحب التقرب من كبير أهدى إليه جارية أتقنت صناعة يعلم أنه راغب فيها؛ فإذا علم مثلًا أنه يحب الجمال أهداه وصيفة جميلة، أو علم منه ميلًا إلى الغناء أهدى إليه قينة رخيمة الصوت، وقد يهديه عدة جوار أتقن عدة صناعات، وربما صارت إحداهن بعد حين أم ذلك المنزل وصاحبة الأمر فيه إذا استولدها سيدها، وإذا كانت في دار خليفة لا يبعد أن تصير من أمهات الخلفاء، كما اتفق لأكثر خلفاء بني العباس، ذكروا أن جارية اسمها دنانير صفراء صادقة الملاحة كانت أروى الناس للغناء القديم، وقد خرجها رجل من أهل المدينة فاشتراها جعفر البرمكي، وسمع الرشيد صوتها فألفها وصار يسير إلى جعفر لسماع غنائها ووهب لها هبات سنية، وعلمت امرأته زبيدة بخبرها فشكته إلى عمومته فلم ينجحوا في إرجاعه، فرأت أن تشغله عنها بالجواري، فأهدت إليه عشر جوار منهن مارية أم المعتصم ومراجل أم المأمون وفاردة أم صالح.٢١
وكثيرًا ما كان العمال والأمراء يتقربون إلى الخلفاء بأمثال هذه الهدايا، فأهدى ابن طاهر إلى الخليفة المتوكل هدية فيها ٢٠٠ وصيفة ووصيف،٢٢ فلا غرو إذا تكاثرن في قصور الخلفاء والأمراء وأهل الوجاهة، وليس الاستكثار منهن حادثًا في الإسلام، وإنما هو من بقايا التمدن القديم، فقد كان ملوك الفرس والروم يتهادون وبلغت عدتهن عند بعض الأكاسرة ٦٠٠٠ جارية،٢٣ وكان لجماعة من بني العباس ألف جارية، وسيأتي بسط ذلك في مكان آخر.

أصناف الجواري

فلما تعود الناس اقتناء الجواري اشتغل النخاسون في استجلابهن من أقصى بلاد الترك والهند والكرج والخطا وأرمينيا والروم والبربر والنوبة والزنج والحبشة صغارًا وكبارًا، يربونهن على ما تقتضيه مواهبهن أو جمالهن، فينبغ منهن الخدم والحواضن والمواشط والولائد والمغنيات والعوادات والعالمات وأمهات الدهاء والسياسة وغير ذلك، وفيهن البيضاء والسمراء والحمراء والبربرية والزنجية، بين مولدة في البصرة أو الكوفة أو بغداد ممن يفصحن العربية، ومجلوبة من أرضها أو سبية أخيذة على حالها تتكلم التركية أو الفارسية أو الرومية أو الهندية أو البربرية، ولا تزال، ولو تعربت، أعجمية اللسان، والمولدة أثمن من الجليبة، وتختلف أثمانهن باختلاف الصناعة أو الجمال وباختلاف الغرض من ابتياعهن للتوليد أو الغناء أو الخدمة، وفي الجليبات النصرانية واليهودية والمجوسية، لكل منهن شأنها في دينها حتى يعيدن أعيادهن بما يستلزمه العيد من الزينة الدينية كالصلبان والأحجبة ونحوها؛ ذكر أحمد بن صدقة أنه دخل على المأمون في يوم الشعانين وبين يديه عشرون وصيفة جلبًا روميات مزنرات قد تزين بالديباج الرومي وعلقن في أعناقهن صلبان الذهب وفي أيديهن الخوص والزيتون.٢٤
على أنهم كانوا يختصون كل صنف من الجواري بصفات خاصة، وقد صنفوا كتبًا في هذا الموضوع بينوا فيها الصفات المستحسنة في كل صنف منهن، وخلاصة ذلك قولهم: من أراد النجابة فبنات فارس، ومن أراد الخدمة فبنات قيصر، ومن أراد غير ذلك فبنات بربر، والمولدات والزنجيات للزمر، والحبشيات للحفظ وخزن المال، والنوبة للطبخ، والأرمن للتربية والرضاع، ومن أقوالهم: الوجوه في الترك، والأجسام في الروم، والشعور في الخطا وفارس، والعيون في الحجاز، والخصور في اليمن،٢٥ وقالوا في وصف المولدات بالبصرة والكوفة: إنهن ذوات الألسن العذبة، والقدود المهفهفة، والأوساط المخصرة، والأصداغ المزرفنة، والعيون المكحلة٢٦ مما يطول شرحه، وكانت تجارة الجواري على أروجها في بغداد، فكانوا يحملون إليها أجملهن خلقًا وأذكاهن عقلًا، لما يتوقعونه من بيعهن بالأثمان الباهظة.

تعليم الجواري

وكان تعليم الجواري وتربيتهن من أبواب الكسب الواسعة في ذلك العصر، فيذهب أحدهم إلى دار الرقيق يبتاع جارية يتوسم فيها الذكاء، فيثقفها ويرويها الأشعار أو يلقنها الغناء أو يحفظها القرآن أو يعلمها الأدب أو النحو أو العروض أو فنًّا من فنون المنازل ثم يبيعها، وكان يفعل ذلك على الخصوص المغنون المشهورون بدقة الصناعة كإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، فربما ابتاع أحدهم الجارية بمائة دينار فإذا علمها وثقفها باعها بخمسمائة أو ألف دينارًا،٢٧ وأشهر المغنيات في المدينة والبصرة وبغداد تعلمن على هذه الصورة، وقد يربي بعضهم الجارية ويهديها إلى الخليفة أو الوزير لتكون وسيلة له في نفوذ الكلمة عنده، وقد تنبغ إحداهن في فن من الفنون الجميلة كالغناء أو الشعر أو الأدب فتبتاع بألوف الدنانير،٢٨ فكيف إذا أتقنت غير فن منها؟ وربما نبغت منهن من تجيد الشعر والغناء أو فنون الأدب والأخبار، فيقصدها أهل الأدب وذوو المروءة للمذاكرة والمساجلة في الشعر وغيره، وقد ينبغن في حفظ القرآن حتى كان منهن عند أم جعفر مائة جارية لكل واحدة ورد عشر القرآن، وكان يسمع في قصرها كدوي النحل من القراءة.٢٩
فتعدد الجواري في دور الكبراء وتسابق أهل الترف إلى التفنن في تزيينهن، وأشهر من فعل ذلك أم جعفر المذكورة، فإنها لما رأت ابنها يغالي في تخنيث الغلمان وإلباسهم ملابس النساء اتخذت طائفة من الجواري سمتهن المقدودات، عممت رءوسهن وجعلت لهن الطرر والأصداغ والأقفية وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق كأنهن من الغلمان، واقتدى بها وجيهات قومها فاتخذن الجواري الغلاميات أو المطمومات وألبسنهن الأقبية والمناطق الذهب.٣٠

نفوذ الجواري

وطبيعي في ربات الحسن أن يكن نافذات الكلمة؛ لأن الجمال قوة والحب سلاح، ولذلك كان أرباب الدهاء من الخلفاء والأمراء يتباعدون عن الجواري، إذا أُهدي إلى أحدهم جارية لم يلتفت إليها، ولا سيما مؤسسي الدول كمعاوية والمنصور وعبد الرحمن الداخل، فاشتهر المنصور بكرهه للهو، وكان عبد الرحمن إذا أهداه أحد جارية ردها،٣١ وعكس ذلك خلفاء أواسط الدولة إبان الترف والقصف والرخاء، فإنهم كانوا يتمادون في حب الجواري حتى يتسلطن على عقولهم، كما فعلت حبابة بيزيد بن عبد الملك الأموي حتى كادت تذهب بعقله وشغلته عن مهام الخلافة، وكما فعلت ذات الخال بالرشيد، فإنها ملكت قياده حتى حلف يومًا أنها لا تسأل شيئًا في ذلك اليوم إلا قضاه لها، فسألته أن يولي حمويه الحرب والخراج بفارس سبع سنين، ففعل وكتب له عهده به وشرط على ولي عهده بعده أن يتمها له إن لم تتم في حياته،٣٢ وكثيرًا ما كان الخلفاء والأمراء يشتغلون بالجواري عن رعاية الملك ولا سيما المغنيات، ولذلك كان رجال الحيلة يستخدمونهن للجاسوسية أو نيل رتبة أو منصب، وكان المأمون يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء.٣٣ ويزداد الجواري نفوذًا وسطوة إذا صرن أمهات كما صارت الخيزران وغيرها من أمهات الخلفاء، راجع الجزأين الثاني والرابع من هذا الكتاب، وسيأتي الكلام على المغنيات في باب المغنين.

(٣) طبقات العامة

فرغنا من طبقات الخاصة وأتباعهم، ونحن متكلمون عن العامة وهم أكثر عددًا وأبعد عن الحصر؛ لأنهم لفيف من أمم شتى ولا سيما في بغداد في إبان عمارتها، وقد تقاطر إليها المرتزقون والمحترفون والمستجدون من أطراف المملكة الإسلامية، بين صانع وبائع وفيهم العربي والنبطي والفارسي والخراساني والتركي والسندي والرومي والكرجي والأرمني والكردي والقبطي والبربري والنوبي والزنجي والأندلسي وغيرهم، وفيهم أهل الحرف الراقية، وتجار السلع والأقمشة والجواهر والرقيق وباعة الطعام والشراب، فضلًا عن الأدباء والشعراء والحكماء والمغنين والندماء مما يطول شرحه ويعسر حصره، على أننا تسهيلًا للبحث نقسم العامة على الإجمال إلى طبقتين كبيرتين: الأولى طبقة المقربين من الخاصة، والثانية طبقة الباعة وأهل الحرف والرعاع وغيرهم.

(٣-١) الطبقة الأولى: المقربون من الخاصة

نريد بهذه الطبقة نخبة العامة الذين تسمو بهم نفوسهم أو عقولهم إلى التقرب من الخاصة بما يعجبهم أو يطربهم، فيستظلون بهم ويعيشون من عطاياهم أو رواتبهم أو يرتزقون من بيع سلعهم لهم، وهم أربع فئات: أهل الفنون الجميلة والأدباء والتجار والصناع.

(أ) أهل الفنون الجميلة

المصورون

الفنون الجميلة — ويسميها العرب «الآداب الرفيعة» — ثلاثة: التصوير، والشعر، والموسيقى، فالتصوير لم يكن له شأن كبير في التمدن الإسلامي لورود القول بتحريمه، وإنما كانوا يصورون ما يصورونه في الدولة الأموية والعباسية يقلدون به ما بين أيديهم من تصوير الروم والفرس، أو ما جاء به السلاجقة من صناعة المغول من أواسط تركستان، على أن التصوير أزهر، وارتقى في بلاد فارس بعد اجتماع كلمة الفرس تحت سيطرة المغول على أثر فتح هولاكو بغداد سنة ٦٥٦ﻫ فإن تلك الصناعة أخذت في الارتقاء من ذلك الحين؛ لأن المغول المشار إليهم أتوا معهم بمهندسين من أهل الصين تولوا هندسة حصار بغداد، ومعهم جماعة من أرباب الفنون الجميلة والرياضيات والصناعات الدقيقة، فاستفاد الفرس منهم وأتقنوا هذه الفنون وفي جملتها التصوير ونشروه في سائر ممالك المسلمين، وزينوا به كتبهم وجدران قصورهم ومنسوجاتهم في بلاد فارس ومصر وتركستان وغيرها،٣٤ وفي دور الكتب الكبرى في مدائن العالم المتمدن اليوم أمثلة من هذه الصور، ملونة تلوينًا بديعًا أكثرها تمثل حوادث بعض كتب التاريخ أو الأدب أو العلم، وبعضها تمثل رسومًا خيالية كصورة المعراج ونحوها، ففي دار الكتب بالقاهرة صور ملونة هي عبارة عن أشكال زينوا بها كتابي الشاهنامة للفردوسي وعجائب المخلوقات للقزويني وغيرهما، أما في إبان التمدن الإسلامي فلم يكن لأهل هذه الصناعة سوق عند الخاصة، إلا من اشتغل منهم بهندسة الأبنية ولا سيما في الأندلس.

الشعر والموسيقى

أما الشعر والموسيقى فقد راجا وتقرب أصحابهما من الخلفاء وسائر طبقات الخاصة واكتسبوا بهما الأموال الطائلة، وقد بينا في الجزء الثالث من هذا الكتاب ما هو الشعر العربي وما أصله، وما كان شأنه في الجاهلية وما آل إليه بعد الإسلام، من عصر الراشدين فالأمويين فالعباسيين وسائر دول الإسلام، وتحدثنا عن جمع الشعر ورواته وطبقات الشعراء في الإسلام وأشعارهم، والشعر وتأثيره في الدولة والشعر والخلفاء والأمراء وغير ذلك — وسيأتي الكلام عما كان الشعراء يصيبونه من الأموال — بقي علينا النظر في الموسيقى وأهلها وهم المغنون.

(ب) المغنون

الغناء قبل الإسلام

الغناء طبيعي في الأمم؛ لأنه لغة النفوس وترجمان العواطف، وكل أمة غناؤها يناسب طبائعها وعاداتها، فالعرب في الجاهلية كانوا أهل ماشية وأنعام وخيام، فلم ينتبهوا إلى شيء من الفنون الجميلة غير الشعر، وكانوا يلهجون به ويطربون بتلاوته بلا ترنيم ولا غناء، وتلك أول خطوة نحو الموسيقى؛ لأنها بنت الشعر أو أخته.

ثم ظهر فيهم «الحداء» وهو غناء يتغناه الحداة في سوق إبلهم والفتيان في قضاء خلواتهم، ثم عمدوا إلى «الترنيم»، وكان ترنيمهم على نوعين: «الغناء» وهو ترنيم الشعر، و«التغبير» (بالغين والباء) وهو ترنيم القراءة لغير الشعر.

ثم تنوع الغناء عندهم حتى صار على ثلاثة أوجه، أو ثلاثة ألحان أو أصوات وهي: النصب والسناد والهزج، «فالنصب» يريدون به غناء الركبان وغناء الفتيان، وهو الذي يقال في المراثي، ويسمى «الغناء الجنابي» نسبة إلى رجل من قبيلة كلب اسمه جناب بن عبد الله يزعمون أن أصل الحداء منه، وهو يخرج من الطويل في العروض، و«السناد» اللحن الثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات، وهو على ستة طرق، منها الثقيل الأول وخفيفه والثقيل الثاني وخفيفه، وأما «الهزج» فهو الخفيف الذي يرقص عليه ويمشي بالدف والمزمار فيطرب ويستخف الحلوم، وشاع الغناء قبل الإسلام في أمهات المدن من بلاد العرب وهي المدينة والطائف وخيبر.»٣٥

أما آلات الموسيقى عندهم فأشهرها الدف، وهو أشكال منها المستدير والمربع والكبير والصغير، والمزمار على أبسط أنواعه، ولا يظهر أنهم كانوا يعرفون غير الدف والمزمار وما يتفرع عنهما من آلات النفخ والقرع، وأما آلات الأوتار كالعيدان والطنابير والمعازف ونحوها فهي من صناعة الفرس والروم، لم يعرفها العرب إلا بعد الإسلام.

الغناء في الإسلام

فلما جاء الإسلام واستولى العرب على ممالك الدنيا وحازوا سلطان العجم والروم، كانوا في عصر الراشدين لا يزالون على بداوتهم مع غضارة الدين وشدته، مما يدعو إلى ترك أحوال الفراغ وما ليس نافعًا في دين ولا معاش، حتى تركوا ما كان عندهم من أنغام الجاهلية، ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر، فلما جاءهم الترف في أيام بني أمية ومن بعدهم وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ، وكان المغنون من الروم والفرس قد دخلوا في سلطان العرب، وحُمل بعضهم إلى الحجاز في جملة الأسرى أو السبايا فأصبحوا من موالي العرب، وقد حملوا معهم العيدان والطنابير والمعازف والمزامير، فغنوا بها فأعجبوا بألحانهم فاشتغل المغنون وأكثرهم من الموالي في تلحين أشعار العرب على الألحان الفارسية أو الرومية، فنبغ في المدينة في أيام بني أمية طائفة من المغنين، والمشهور أن أول من أدخل غناء الفرس إلى العربية سعيد بن مسحج، وهو مكي أسود كان في مكة لما حاصرها الأمويون، وفيها ابن الزبير في أواخر القرن الأول للهجرة، فاستقدم ابن الزبير بعض البنائين من الفرس لترميم الكعبة، فسمعهم سعيد بن مسحج يغنون بالفارسية فالتقط النغم وغناه بالعربية، فأعجب الناس كثيرًا فسافر إلى الشام وفارس فأتقن فن الغناء، وعنه أخذ من جاء بعده من مغني المدينة وغيرها، وشاع الغناء في المملكة الإسلامية وراجت بضاعته باتساع أسباب الحضارة والرخاء، وتكاثر المغنون لما شاهدوه من رغبة الخاصة في الغناء، فنبغ جماعة من مهرة الموسيقيين أتقنوا هذه الصناعة وآلاتها إتقانًا حسنًا، على ما بيناه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، وإنما يهمنا الآن النظر في تاريخ انتشار المغنين في الإسلام وما كان من منزلته ومنزلتهم.

الغناء والدين

كان الغناء في صدر الإسلام مكروهًا إن لم نقل محرمًا، واختلف الأئمة في تحريمه وتحليله كله أو بعضه، ويقال بالإجمال إن أهل الحجاز أجازوه وأهل العراق كرهوه، وحجة من أحله أن أصله الشعر الذي استحسنه النبي وحض عليه وندب أصحابه إليه، واستنصر به على المشركين، فقال لحسان شاعره: «شن الغارة على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام.» وأكثر شعر حسان يُغنى به، وحجة من حرمه أنه يسعر القلوب ويستفز العقول ويستخف الحليم ويبعث على اللهو ويحض على الطرب، وهو باطل من أصله،٣٦ وحلل آخرون بعض الغناء وحرموا بعضه، ولكن أهل التعقل والتقوى كانوا يكرهونه في كل حال، ولذلك لم يظهر إلا بعد عصر الراشدين، وكان معاوية بن أبي سفيان يعيب على الراغبين في الغناء، ولا سيما أهل الوجاهة والشرف، وله مع عبد الله بن جعفر حكاية تدل على أنه كان يعيب عليه استماع الغناء،٣٧ وإن سره اشتغال هذا وسواه من أهل النبي باللهو والطرب عن مقاومته في طلب الخلافة، بل هو كان يبذل لهم الأموال في هذا السبيل.
ولما تولى الخلافة أصحاب اللهو والقصف أخذ الغناء في الانتشار، وأول من أباحه ونشط أهله يزيد بن معاوية، ففي أيام هذا (سنة ٦٠–٦٤ﻫ) ظهر الغناء في مكة واستعملت الملاهي؛ لأنه كان صاحب لهو وطرب،٣٨ وتفشى الغناء الجديد في الحجاز ولا سيما المدينة، وما زال محصورًا فيها تقريبًا حتى أفضت الخلافة إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك (سنة ١٢٥–١٢٦ﻫ) وكان صاحب شراب ولهو مع تهتك وخلاعة، فبعث إلى المدينة في استقدام المغنين إليه في دمشق٣٩ فأخذ الغناء في الانتشار في بلاد الإسلام من ذلك الحين.

مقاومة الخلفاء للغناء

على أن أهل التعقل من الخلفاء والأمراء كانوا لا ينفكون عن منعه جهد طاقتهم، وكان العقلاء من غير الحكام يحرضون الولاة على منعه حتى في المدينة معدن الغناء في ذلك العصر،٤٠ وكثيرًا ما كان أمير مكة يخرج المغنين من الحرم خوفًا من افتتان الناس بغنائهم٤١ وصرفهم عن أمور دينهم، ولم يكن أهل الغيرة على العرض يصبرون على سماعه، ومن أقوالهم: «المغنون رسل الغرام».
ذكروا أن سليمان بن عبد الملك كان يكره الغناء، فسمع مغنيًا في عسكره فطلبه فجاءوه به فقال: «أعد ما غنيت.» فتغنى واحتفل فقال سليمان: «والله لكأنها جرجرة الفحل في الشول، وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت إليه.» ثم أمر به فخصي!٤٢
وسليمان هو الذي أمر بخصي المخنثين في المدينة لمثل هذا السبب، قيل: إنه كان في بادية له يسمر ليلة على ظهر سطح وقد تفرق عنه جلساؤه، فدعا بوضوء فجاءت به جارية فبينما هي تصب عليه لحظ أن ذهنها مشتغل عنه بغناء تسمعه فتجاهل، وفي الصباح ذكر الغناء ولين فيه حتى ظن القوم أنه يشتهيه، فأفاضوا فيه وذكروا من كان يسمعه ومن يغنيه حتى توصل إلى الرجل الذي شغلت الجارية بغنائه في الأمس، فلما تحقق ذلك أقبل على القوم وقال: «هدر الجمل فضبعت الناقة، ونب التيس فشكرت الشاة، وهدل الحمام فزافت الحمامة، وغنى الرجل فطربت المرأة!» ثم أمر به فخُصي. وسأل عن الغناء أين أصله فقيل: «في المدينة بجماعة المخنثين وهم أئمته والحذاق فيه.» فكتب إلى عامله هناك: «أخص من قبلك من المخنثين المغنين.» فخصاهم.٤٣
على أن المتهتكين من الخلفاء والأمراء لم ينكروا ما يجر إليه الغناء من أسباب اللهو، قال الوليد بن يزيد الذي ذكرنا أنه أول من استقدم المغنين إليه: «إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة ويثور على الخمر ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء رقية الزنا، وإني لأقول ذلك فيه على أنه أحب إليَّ من كل لذة وأشهى إليَّ من الماء البارد إلى ذي الغلة، ولكن الحق أحق أن يقال!»٤٤

فكيف بالعقلاء وأهل الحزم ومؤسسي الدول أو معيديها مثل معاوية وهشام والمنصور وأبي مسلم، أو أهل التقوى مثل عمر بن عبد العزيز الأموي والمهتدي العباسي؟ فقد تقدم ما عابه معاوية على عبد الله بن جعفر، أما هشام فسمع عن أشعب المضحك في المدينة فأمر كاتبه أن يكتب باستقدامه، فلما ختم الكتاب أطرق هشام طويلًا ثم قال: «هشام يكتب إلى بلد رسول الله ليحمل إليه مضحك؟!» وتمثل:

إذا أنت طاوعت الهوى قادك الهوى
إلى بعض ما فيه عليك مقال
وأوقف الكتاب،٤٥ وأما المنصور فقد كان يعير آل الزبير بحبهم الغناء.٤٦ وسمع ذات يوم ضرب طنبور في داره فكسره على صاحبه، أما عمر بن عبد العزيز فبلغه أن قاضيًا من قضاته استخفه الطرب من الغناء فأمر بعزله.٤٧ والمهتدي العباسي كان يتشبه بعمر المذكور، فلما تولى الخلافة سنة ٢٥٥ﻫ كانت الملاهي قد انتشرت في الدولة العباسية فأمر بمنع الغناء٤٨ وربما امتنعوا عنه إلى أجل ريثما يصفو لهم الزمان، كما فعل المأمون لما عاد من خراسان وقد أهمه تأييد خلافته، فبقي عشرين شهرًا لا يسمع غناء،٤٩ وكذلك الأمراء العقلاء مثل خالد القسري، فإنه أمر صاحب شرطته بمنع الغناء من العراق.٥٠

اشتغال الخلفاء بالغناء

ولكن ذلك لم يكن ليمنع تيار الترف من مجراه الطبيعي، على ما اقتضته الحضارة في ذلك العهد، فالمسلمون لما تحضروا وأخلدوا إلى السكينة والراحة عمدوا إلى أسباب الرخاء وفي جملتها الغناء، والمرجع في ذلك إلى الخلفاء والأمراء؛ لأن الناس على دين ملوكهم ولا سيما في الحكم المطلق، فإذا أحب الخليفة الغناء أحبه رجال دولته، فراجت بضاعته وكثر المغنون والمغنيات حتى اشتغل الخلفاء وأهلهم به وتعلموا الضرب على آلاته، وأول من دونت صنعته به عمر بن عبد العزيز في أيام إمارته على الحجاز، ثم الوليد بن يزيد وله أصوات اشتهرت عندهم، واشتغل جماعة من خلفاء بني العباس بصناعة الألحان والتلحين، أشهرهم الواثق والمنتصر والمعتز والمعتمد والمعتضد، أما أبناء الخلفاء فأول من دونت صنعته فيه إبراهيم بن المهدي وأبو عيسى بن الرشيد وعبد الله بن موسى الهادي وعبد الله بن محمد الأمين وأبو عيسى بن المتوكل وعبد الله بن المعتز وغيرهم، فقس على ذلك ما كان في زمن بني أمية، ولا سيما في عصر الاضمحلال، حتى كانوا يحملون المغنين وآلاتهم في أسفارهم ولو إلى القتال، فقد وجدوا في معسكرهم لما ظفر به العباسيون بنواحي أصبهان سنة ١٣١ﻫ ما لا يُحصى من البرابط والطنابير والمزامير.٥١
فالغناء المطرب من جملة ما اقتبسه المسلمون من البلاد التي فتحوها، فاشتغلوا بنقل كتب الموسيقى من الفارسية والهندية،٥٢ وحملهم الترف على سماعه والولوع به، فتقرب به إليهم جماعة من العامة صار لهم مقام رفيع بين الجلساء، وسنعود إلى ذكرهم.

(ﺟ) العلماء والفقهاء والأدباء

هم طائفة من العامة تقربوا إلى الخلفاء بما يلذ لهم من سماع الأخبار والنوادر، أو النظر في علوم تلك الأيام الدينية أو اللسانية أو الأدبية أو التاريخية، ويدخل في ذلك الفقهاء والمحدثون والنحاة والأدباء من أصحاب الأخبار، كالأصمعي وأبي عبيدة والكسائي والفراء وغيرهم، وكان للخلفاء رغبة في مجالستهم وسماع أبحاثهم، فكانوا يقربونهم ويعظمون شأنهم ويجيزونهم ويفرضون لهم الأعطية والرواتب، على ما سنبينه في باب أبهة الدولة، وقد تكلمنا عن الفقهاء ومنزلتهم في أماكن كثيرة من هذا الكتاب.

واقتدى بالخلفاء وزراؤهم وأمراؤهم، كالبرامكة وآل الفرات فإنهم أغدقوا الأموال على هؤلاء فنشطوا العلم وأهله حتى صار العلم صناعة يرتزق بها أصحابها من الناس، ويدخل فيما تقدم المترجمون من غير المسلمين، وفيهم السريان والروم والفرس وغيرهم ممن نقل العلوم القديمة إلى اللغة العربية في العصر العباسي، فإنهم فئة من أهل الذمة قربهم الخلفاء وأكرموهم من أجل علمهم على ما فصلناه في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

(د) التجار

نريد بالتجار باعة السلع الثمينة التي تقتضيها الحضارة، كالمجوهرات والمصوغات والرياش الثمين والثياب الفاخرة والآنية والرقيق، وأكثر ارتزاقهم من الخليفة وأهله وأهل دولته وسائر الخاصة من جلسائه وأعوانه، وكانوا يقيمون في بغداد والبصرة وغيرهما من المدن الإسلامية، وأكثرهم من جالية الفرس والروم وغيرهم من الأمم التي اشتهر أهلها بالعناية بهذه الطرف، كانوا يحملون إلى دار السلام أصناف التجارة للارتزاق مما يتدفق من خزائن الدولة في عصر الثروة.

فكانوا يحملون الياقوت والماس من بلاد الهند، واللؤلؤ من البحرين، والعقيق والعاج من الحبشة، والأدهان والزيوت العطرية من نيسابور، ونسيج الكتان من شيراز، وطراز الوشي والأقمشة المنسوجة من الشعر التي تصنع منها ثياب مثقالية يلبسها الخليفة ورجال الدولة، والكلل المرتفعة والستور المعلمة من القز، هذه كلها من فسا، والبسط والنخناخ والمصليات والزلالي من جهرم، والستور والمقاعد من دشت، وأحسن أصناف البسط والتكك الرفيعة والوسائد والأنماط والمقاعد من أرمينية، وكان لهم صبغ من القرمز يصبغون به الصوف لا مثيل له، والعتابي والوشي وسائر ثياب الحرير من أصفهان، والثياب المنيرة من الري، والأبريسم ومطارف القز، وطبقات الخشب من طبرستان ونيسابور، والسمور الأسود وجلود الخز وجلود الثعالب السود من بلاد الروس، والبز من بلخ، والكاغد والنوشادر والأوبار والسمور والسنجاب والثعالب من وراء النهر وكذلك المسك، ولكن أصله من بلاد التبت، والبسط والمصليات وثياب الصوف من بخارا، والديبقي من تنيس ودمياط، والستور والبسط المصرية من البهنسا، والطيالسة المقورة الرفيعة من كرمان، والحصر والقباطي والقراطيس من مصر، والمناديل الديلمية البيضاء المعلمة من قومس؛ ربما بلغ ثمن المنديل منها ٢٠٠٠ درهم، والمقانع القزيات من جرجان والسوس، والبرود المنيرة والصاع والأمشاط من الري، والأكسية والجوارب من قزوين، والخفآف والسمور من همدان، والزجاج والخزف من البصرة، والحصر من عبادان، والديباج والأنماط من تستر، والجلود المدبوغة من الحبشة بطريق اليمن، والمسك والكافور والعود من الصين.

أما الرقيق فأبيضه كان يحمل مما وراء النهر، وأصله من الصقالبة أو من الخزر الأتراك من بادية تركستان، وأحسنهم يُربى في سمرقند وخوارزم ثم يُحمل إلى بلاد الإسلام، ويحمل الرقيق الأبيض أيضًا من الأندلس وفيه الجواري والغلمان، وأصلهم من سبي الإفرنج وجليقية أو من الصقالبة كما تقدم، ومن الرقيق الأبيض صنف كان يرد من خراسان غالٍ جدًّا، ربما بيع الغلام منه بخمسة آلاف دينار، أما الرقيق الأسود فكل ما يحمل منه إلى بلاد الإسلام من السودان بطريق مصر أو بلاد المغرب.

وكان لهذه التجارات قوافل أو سفن تنقلها من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وتبيعها في أسواق بغداد وغيرها من المدن الإسلامية، وأكثر الناس اشتغالًا بنقلها في البر طائفة من التجار اليهود الراذانية كانوا يتقنون اللغات الرائجة في ذلك العصر، وهي العربية والفارسية والرومية والإفرنجية والأندلسية والصقلبية، ويسافرون بين الأقاليم العامرة يحملون التجارات من إقليم إلى آخر٥٣ كما كان الفينيقيون في إبان دولتهم.
أما التجارة البحرية فأشهر أصحابها السيرافيون، فقد كانوا يحملون الجواهر والعاج والأبنوس والفلفل والصندل والعود والعنبر والكافور وسائر الأطياب والعقاقير والتوابل من الهند والصين وشواطئ إفريقيا وجزائر الهند واليمن وغيرها إلى البصرة فبغداد.٥٤

فكان التجار يفدون على دار السلام بهذه التجارات فيبيعونها بالأثمان الفاحشة، ويدخل في هذه الطبقة من الناس الصيارفة وأكثرهم من اليهود، وكانوا يقرضون رجال الدولة المال بالربا الفاحش، اشتهر منهم في بغداد صيارف كانت مكاسبهم موقوفة على الدولة ورجالها كآل فنخاس وآل عمران وغيرهم.

تجار المسلمين

فلما نضج التمدن الإسلامي واشتغل المسلمون أنفسهم بالتجارة لم يقصروا في شيء من شروطها، وأتقنوها علمًا وعملًا حتى ألفوا الكتب فيها وفي الاقتصاد السياسي، وبين يدينا نسخة من كتاب «الإشارة إلى محاسن التجارة» للشيخ أبي الفضل جعفر بن علي الدمشقي من أهل القرن الخامس للهجرة، فيه فوائد اقتصادية لم يسبقه أحد إليها وأبحاث في معنى النقود والسلع والمال الصامت والأعراض وتحقيق أثمان الأشياء، ما لا تقل قيمته عمَّا بلغ إليه علماء الاقتصاد في هذا العصر؛ يدل ذلك على ما بلغ إليه المسلمون من الرقي في علم التجارة، ناهيك بأهل الرحلة منهم إلى أطراف المعمورة في ذلك العصر، فقد طافوا العالم برًّا وبحرًا من القرن الرابع للهجرة، ودونوا رحلاتهم تسهيلًا لأسباب التجارة، واكتشفوا طرقًا تجارية في البحر المحيط والبحر الهندي والأحمر، وفي أواسط إفريقيا وآسيا لم يسبقهم إليها أحد.

أما الأسفار التجارية فقد كانوا فيها سلاطين البحار، فمخرت سفنهم البحر الأبيض على كل شواطئه، والبحر الأحمر إلى آخره، والبحر المحيط إلى سومطرا فزنجبار إلى بلاد الكفرة، وشرقًا إلى كلكتة وجزائر الهند والصين، وجنوبًا إلى مدغشقر وسائر شواطئ إفريقيا الشرقية، واجتازوا بحر قزوين إلى بلاد الخزر والروس، أما برًّا فاخترقوا بلاد الهند وتركستان والتبت حتى نزلوا بلاد الصين، وأوغلوا في إفريقيا إلى خط الاستواء، فقربوا الأبعاد بين تلك الأصقاع المتباعدة.

فكان التجار المسلمون حوالي القرن الرابع للهجرة يجوبون الأقطار برًّا وبحرًا، ينقلون التجارة من بلد إلى بلد، بين شواطئ فارس وسواحل إفريقيا والحبشة واليمن وسواحل الهند والصين وسائر المشرق، ويقطعون صحارى خراسان وتركستان وأرمينية وأفغانستان والهند والشام ومصر والسودان وإفريقية والأندلس في نقل أصناف التجارة، كأنهم هم وحدهم تجار الأرض، ومركز تجارة الشرق البصرة بحرًا وبغداد برًّا، واشتهر من تجار المسلمين ممن كانوا يخترقون البحار في القرن الرابع للهجرة السيرافيون الذين تقدم ذكرهم، والعمانيون وكانت سفنهم التجارية تجوب بحار الصين والهند والزنج واليمن والقلزم، وقد عرفهم المسعودي وذكرهم في تاريخه.٥٥

ثروة التجار

وقد استغرقنا في الكلام على التجارة، وجملة القول أن التجارة العليا كانت من أبواب الرزق الواسعة في ذلك العصر لأصحاب المواهب التجارية ولمن يخدمهم التوفيق ويتقربون من البلاط أو بعض أهله، فظهر في عهد ذلك التمدن بيوتات تجارية جمعت الأموال حتى تجازت ثروتها الملايين من الدنانير، وفيهم جماعة من عامة الناس يوصفون بالغفلة، فخدمهم حظهم حتى ارتقوا إلى طبقة الخاصة وجمعوا الأموال الطائلة، كآل الجصاص تجار الجواهر وقد اشتهروا في العصر العباسي مثل شهرة آل روتشيلد في القرن الماضي وروكفلر الأميركي في هذا القرن، وأول من أثرى منهم الحسن بن عبد الله، وقد قص هو نفسه توصله إلى الثروة فقال: «كان بدء يساري أني كنت في دهليز أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون بمصر، وكنت وكيله في ابتياع الجوهر وغيره مما يحتاجون إليه، وما كنت أفارق الدهليز لاختصاصي به، فخرجت إلى قهرمانة لهم في بعض الأيام ومعها عقد جوهر فيه مائة حبة، لم أر قبله ولا بعده أفخر ولا أحسن منه، كل حبة منه تساوي مائة ألف دينار، وقالت: يحتاج أن تخرط هذا حتى تصغر فتجعل في آذان اللعب وفي قلائدها، فكدت أطير وأخذتها وقلت: السمع والطاعة، وخرجت في الحال مسرورًا وجمعت التجار، ولم أزل أشتري كل ما قدرت عليه إلى أن جمعت مائة حبة أشكالًا من النوع الذي طلبته وأرادته، وجئت عشيًّا وقلت: إن خرط هذا يحتاج إلى انتظار وزمان، وقد خرطت اليوم ما قدرنا عليه وهو هذا، ودفعت إليها المجتمع وقلت: الباقي يخرط في أيام، فقنعت بذلك وأعجبها الحب، فخرجت وما زلت أيامًا في طلب الباقي حتى اجتمع، فحملته إليها، وقامت على المائة حبة بدون المائة ألف درهم، وأخذت منهم جوهرًا بمائتي ألف ألف دينار، ثم لزمت دهليزهم وأخذت لي غرفة كانت فيه فجعلتها مسكني، وكان يلحقني من هذا أكثر مما يُحصى، حتى كثرت النعمة وانتهيت إلى ما استفاض خبره.»٥٦

وكان لابن الجصاص بيت كبير في بغداد لبيع المجوهرات، فلما كانت النكبات والمصادرات على عهد المقتدر بالله العباسي في أوائل القرن الرابع للهجرة، كان ابن الجصاص في جملة الذين صودروا، وسبب ذلك أن عبد الله بن المعتز لما بويع بالخلافة ثم انحل أمره وتفرق رجاله وطلبه المقتدر اختفى عند ابن الجصاص المذكور، فوشى به خادم فصادره المقتدر بالله على ١٦٠٠٠٠٠٠ دينار، وبقي له بعد مصادرته شيء كثير من الدور والقماش والأموال والضياع وغيرها، ويقال مع ذلك إنه كان أحمق أبله، فاعتبر مقدار ما كان يصل إليه التجار أهل النباهة والدهاء.

وقس على ذلك ثروة تجار الفرش والأثاث، ولا سيما في البصرة، فقد اشتهر فيها جماعة من أهل اليسار وأكثر غناهم من تجارة البحر، فقد كانت سفن بعضهم تعد بالمئات وتحمل بها التجارة إلى أنحاء العالم؛ ذكروا واحدًا منهم اسمه الشريف عمر كان دخله ٢٥٠٠٠٠٠ درهم في السنة،٥٧ وبلغت ثروة صاحب مراكب في البصرة ٢٠٠٠٠٠٠٠ دينار.٥٨ ومنهم رجل اسمه أحمد بن عمار كان طحانًا بالبصرة، فأصعد إلى بغداد في أيام المعتصم فاتسعت حاله حتى صار يخرج من الصدقة كل يوم مائة دينار، فإذا اعتبرتها عشر ماله كان دخله ألف دينار في اليوم، واستوزره المعتصم لأمانته ولكنه كان جاهلًا.٥٩

(ﻫ) الصناع

أما الصناعة فقد أخذوا منها بنصيب كبير؛ لأنهم كما برعوا بالاتجار في السلع برعوا أيضًا في صناعتها، وارتقت الصناعة عندهم بتوالي الأجيال، حتى فاقوا في بعضها البلاد الأخرى وامتازوا بصناعات خاصة بهم، فهم الذين نشروا السكر في العالم، نقلوه من مواطنه في الهند إلى بلاد فارس وأنشأوا له المعامل واستخرجوا منه أصنافًا لم يكن لها مثيل،٦٠ وهم أتقنوا صناعة الورق ونشروها في العالم، وعنهم أخذها أهل أوربا بطريق الأندلس،٦١ وقد امتازت بعض مدن الأندلس بصناعات كانت تفاخر بها صناعات المشرق، فكانوا يصنعون في مرسية وشيًا مذهبًا في غاية الإتقان، وفيها أيضًا معمل للبسط لم يكن له نظير وآخر للأسرة المرصعة، وكان في مالقة معامل للزجاج الغريب وفخار مزيج مذهب ونوع من الفسيفساء المفضضة على شكل خاص، ولهم اختراع في صناعة الزجاج يؤثرونه لهم، فذكروا أن أول من استنبط صناعة الزجاج من الحجارة عباس بن فرناس حكيم الأندلس،٦٢ واخترعوا البارود للبنادق على ما بيناه في الجزء الأول من هذا الكتاب.
ولهم في الميكانيكيات صناعات حسنة كالساعة التي اشتهرت في جامع دمشق وذكرها ابن جبير في رحلته في القرن السادس للهجرة، وهاك ما قاله في وصفها على ما شاهده بعينه:
وعن يمين الخارج من باب جيرون جدار البلاط الذي أمامه غرفة لها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر (أي: نحاس) وقد فتحت أبوابًا صغارًا على عدد ساعات النهار ودبرت تدبيرًا هندسيًّا، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازين مصورين من صفر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما، أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة، وتبصر البازيين يمدان أعناقهما بالبندقتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحرًا، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر، لا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار، حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ثم تعود إلى حالها الأول، ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطفة على الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة تعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، يدير ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح وفاض على الدائرة أمامها شعاع فلاحت للأبصار دائرة محمرة، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى ينقضي الليل وتحمر الدوائر كلها، وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى مواضعها. ا.ﻫ.٦٣
وقس على ذلك كثيرًا من الآلات المائية وغير المائية المركبة من البكر والأكر والأنابيب والأمخال وغيرها للرفع والجر والنقل، ولهم فيها مؤلفات طوى الزمان بعضها وأكثرها مأخوذ في أصله عن اليونانية، ككتاب «الحيل الروحانية ومخانيقا الماء» لفيلون البيزنطي، وكتاب «رفع الأشياء الثقيلة» لهيرون الإسكندري نقله إلى العربية قسطا بن لوقا البعلبكي، وغيرها مما نقله الإفرنج إلى اللاتينية في نهضتهم الأخيرة، وفقدت ترجمته العربية كما فقد أصله اليوناني قبله، وفي هذه الكتب كثير من الرسوم الموضحة لحركة تلك الآلات.٦٤

واشتغل المسلمون في هذه الفنون وألفوا فيها الكتب من عند أنفسهم، وقد وقفنا على مؤلف خطي في الآلات الروحانية أطلعنا عليه صديقنا الشيخ شبلي النعماني العالم الهندي الشهير، وهو تأليف «رئيس الأعمال بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري» في أسباب الحيل والحركات الروحانية والآلات المتخذة للساعات المستوية والزمانية ونقل الأجسام بالأجسام من المقدمات الطبيعية — ألفه لأبي الفتح محمود بن محمد بن قزل أرسلان من آل ارتق في أواخر القرن السادس للهجرة، فيه رسوم ملونة تمثل الآلات الضاغطة والرافعة والناقلة والمتحركة حركات خفية، وبينها رسم يشبه ما وصفه ابن جبير عن ساعة دمشق — فيدل هذا وغيره على ما بلغ إليه المسلمون من إتقان فن الميكانيكيات مما يحتاج في وصفه إلى كتاب بأسره.

(٣-٢) الطبقة الثانية من العامة

نريد بهذه الطبقة سائر من بقي من الأمة وهم السواد الأعظم، وفيهم الزارع والصانع والعيار والشاطر واللص والمخنث والصعلوك وغيرهم مما لا يُحصى، ولسهولة الإحاطة بهم نقسمهم إلى قسمين: أهل القرى وهم المزارعون، وأهل المدن وهم الصناع والباعة والرعاع.

(أ) المزارعون أهل القرى

فالمزارعون أو الأكرة يتألف منهم معظم سكان المملكة وهم أصل ثروتها، وأكثرهم من أهل الذمة يقيمون في القرى، إلا من أسلم منهم فينزل في المدن، وكانوا يتكلمون لغات البلاد الأصلية: السريانية والآرامية واليونانية في العراق والشام، والقبطية بمصر، والفارسية في بلاد فارس، والتركية في تركستان بما وراء النهر، وأخذ العنصر العربي يتغلب على عناصرهم، واللغة العربية تتغلب على ألسنتهم، والإسلام يتغلب على أديانهم، حتى ساد الإسلام عليهم جميعًا، وعمت العربية البلاد الواقعة غربي دجلة وهي العراق والشام ومصر وإفريقية والسودان، وصارت تعد بلادًا عربية وأكثر أهلها مسلمون، وانقرضت اللغات التي كانت منتشرة فيها إلا بقايا قليلة من السريانية في بعض القرى المتباعدة من الشام والعراق، أما شرقي دجلة بفارس وتركستان والهند فقد ساد الإسلام أيضًا، وانتشرت اللغة العربية بين أهل العلم، ولكن ألسنة أهل البلاد ظلت حية يتفاهمون بها إلى الآن.

(ب) العامة سكان المدن

هم نفر ممن يؤمون المدن من أهل المطامع وطلاب المكاسب، بالتجارة أو الجندية أو الأدب أو الشعر، وتقعد بهم نفوسهم عن اللحاق بأهل الهمم وأصحاب القرائح فيضطرون إلى احتراف ما يعيشون به مما لا يحتاج لهمة أو رأي، ولو أردنا الرجوع إلى أصول عامة بغداد مثلًا لرأيناهم أخلاطًا من مولدي العرب والفرس والترك والديلم والروم والنبط والأرمن والجركس والأكراد والكرج والبربر وغيرهم، ولكنهم يعدون عربًا لتغلب اللغة العربية على ألسنتهم.

وعامة المدن طبقتان: الطبقة الأولى المرتزقون بالصناعة والتجارة، وهم طائفتان:
  • (١)

    الصناع أصحاب الصناعات اليدوية كالحدادين والحياكين والخياطين والحلاقين والنجارين والصيادين والخبازين والطحانين ومن جرى مجراهم.

  • (٢)

    الباعة الذين يبيعون البقل واللحم وغيرهما من أصناف المأكولات على أنواعها وبعض المنسوجات والسلع الصغيرة، وهم طوائف كثيرة كالزياتين والبقالين والجزارين وباعة الأقمشة والطحين والخضر ونحوها.

والطبقة الثانية رعاع يرتزقون من النهب واللصوصية، وهم أصناف كثيرة نشأت في بلاد الإسلام على أثر الفتن والانشقاق بين أهل الدولة لا يستطيع أهل هذا الجيل تصور أمثالهم لبعد ذلك عن مألوفهم، إلا الذين أدركوا متشردي بيروت المعروفين بالزعران، وهم طائفة من أهل البطالة كانوا يحترفون السرقة والتحرش بأبناء السبيل، والزعران مثال صغير لرعاع ذلك العصر، فقد كان في بغداد وغيرها من مدن الإسلام طوائف كثيرة تُعرف بالعيارين والشطار والصعاليك والزواقيل ونحوهم، كثيرًا ما استفحل أمر بعضهم حتى تعجز الحكومة عنهم وقد تستنجدهم في بعض حروبها.

والسبب في ظهورهم اضطراب الدولة العباسية بعد عصرها الأول، بمن دخل فيها من المفسدين منذ حجر على الخلفاء واستولى الأجناد على مصالح الدولة وجعلوا همهم جمع المال لأنفسهم والتنازع على السلطة كما بيناه في الأجزاء الماضية، ولا سيما الجزء الرابع، ولا يخفى ما تجر إليه الفتن من وقوف الأعمال وغلاء الأسعار، غير ما كان يرتكبه الحكام أنفسهم من خزن الأقوات، فتقل أرزاق العامة فيعمدون إلى التعدي ويؤلفون عصابات لمناوأة أصحاب الأموال من التجار وغيرهم في المدن، ولا سيما بغداد أم المدائن الإسلامية في ذلك العهد، فكان الرعاع يتكاثرون ويزدادون تعديًا، والحكام في شغل عنهم والخسارة معظمها على الأهالي، وتوالى ذلك أعوامًا حتى خربت مدينة السلام وأم حضارة الإسلام، ولا يمكن الإلمام بكل طوائف الرعاع فنذكر أشهرها:

العيارون

ظهور العيارين ببغداد في أواخر القرن الثاني للهجرة، وكان لهم في الفتنة بين الأمين والمأمون شأن كبير؛ لأن الأمين لما حوصر في تلك المدينة وعجز جنده عن الدفاع استنجد العيارين، وكانوا يقاتلون عراة في أوساطهم المآزر وقد اتخذوا لرءوسهم دواخل من الخوص سموها الخود ودرقا من الخوص والبواري قد قرنت وحشيت بالحصى والرمل، ونظموهم نظام الجند على كل عشرة عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير، ولكل ذي مرتبة من المركوب على مقدار ما تحت يده، ومعهم أناس عراة قد جعل في أعناقهم الجلاجل والصدف والأحمر والأصفر ومقاود ولجما من مكانس ومذاب، وبلغ عددهم يومئذ خمسين ألف عيار٦٥ وساروا للحرب يضربون الأعداء بالمقلاع والحصى، وكانوا أهل مهارة في ذلك فأبلوا بلاء حسنًا، لكنهم لم يثبتوا أمام المجانيق والجنود المنظمة، فعادت العائدة عليهم وقُتل منهم خلق كثير، وفيهم يقول الشاعر:
خرجت هذه الحروب رجالًا
لا لقحطان ولا لنزار
معشر في جواشن الحصر يعدو
ن إلى الحرب كالليوث الضواري
ليس يدرون ما الفرار إذا الأبـ
ـطال عاروا في القنا للفرار
واحد منهم يشد على الفيـ
ـن عريان ما له من إزار
ويقول الفتى إذا طعن الطعـ
ـنة خذها من الفتى العيار
وحدث نحو ذلك من العيارين في حرب المستعين والمعتز سنة ٢٥١ﻫ إذ حُصر المستعين بالله ببغداد نحو حصار الأمين فيها، فاستعان بالعيارين وفرض لهم الأموال وجعل عليهم عريفًا اسمه يبنونه وعمل لهم تراسًا من البواري المقيرة وأعطاهم المخالي ليجعلوا فيها الأحجار، على أنهم كانوا كلما حدثت فتنة أهلية اغتنموا اشتغال الدولة بها وهموا بالمنازل والحوانيت وأخذوا الأموال، وكثيرًا ما كانت تحدث أمثال هذه الفتن في بغداد من القرن الثالث للهجرة وما بعده.٦٦
وكانوا يزدادون قوة كلما ازدادت الدولة ضعفًا، وتكاثرت تعدياتهم على بغداد كلما تكاثرت الفتن فيها، إما بين الحكام في التنازع على السلطة أو الأموال، وإما بين العامة تعصبًا لبعض المذاهب ولا سيما بين السنة والشيعة أو الحنفية، فلم ينقض النصف الأول من القرن الخامس للهجرة حتى تسلط العيارون على بغداد، وجبوا الأسواق وأخذوا ما كان يأخذه رجال الدولة وانتظموا انتظام الشرطة أو الجند، واشتهر من رؤسائهم في ذلك العصر رجل اسمه الطقطقي وآخر اسمه الزيبق٦٧ بطل القصة المشهورة.
وظهر العيارون في سائر المدن الإسلامية وعظم شأنهم وكثيرًا ما كان الوزراء وغيرهم من أرباب الحل والعقد يقاسمونهم ويسكتون عنهم.٦٨

الشطار

هم طائفة أخرى من الرعاع كانوا يمتازون بملابس خاصة بهم ولهم مئزر يأتزرون به على صدورهم يُعرف بأزرة الشطار٦٩ وكانوا أكثر انتشارًا في المملكة الإسلامية من العيارين وأطول بقاء منهم، وظهروا في الأندلس ولهم فيها نوادر وتنكيتات وتركيبات وأخبار مضحكة تملأ الصحف لكثرتها وتضحك الثكلى،٧٠ على أن اسمهم كان يختلف باختلاف البلاد، فهم يعرفون في العراق بالشطار، وفي خراسان يسمونهم سرا بداران، وفي المغرب الصقورة، وسماهم ابن بطوطة «الفتاك»، وذكر تفشيهم في أيامه (القرن الثامن للهجرة) وأشار إلى اجتماعهم على الفساد وقطع الطرق وتكاثرهم في نواحي سبزوار، حتى هجموا على مدينة بيهق وملكوها وملكوا غيرها وجندوا الجنود وركبوا الخيل وولوا أحدهم سلطانًا عليهم، وانحاز إليه العبيد يفرون من مواليهم فكل من جاء من هؤلاء أعطاه ذلك السلطان مالًا وفرسًا، وإذا ظهرت منه شجاعة أمَّره، إلى آخر ما ذكره.٧١
ولم يكن الشطار وغيرهم من أهل الشرور يعدون اللصوصية جريمة، وإنما كانوا يعدونها صناعة ويحللونها باعتبار أن ما يستولون عليه من أموال التجار الأغنياء زكاة تلك الأموال التي أُوصي بإعطائها للفقراء،٧٢ وكان أولئك اللصوص إذا شاخ أحدهم ربما تاب فتستخدمه الحكومة في مساعدتها على كشف السرقات، وكان في خدمة الدولة العباسية جماعة من هؤلاء الشيوخ يقال لهم: «التوابون»، على أنهم كثيرًا ما كانوا يقاسمون اللصوص ما يسرقونه ويكتمون أمرهم.٧٣

طوائف أخرى من الرعاع

وهناك طوائف أخرى من رعاع العامة أو من في معناهم، تكاثروا في عصر الاضمحلال بالمملكة العباسية، كالصعاليك والزواقيل والحرافيش وغيرهم، كان طلاب السلطة يستعينون بهم في حروبهم بعضهم على بعض ويعدون بالآلاف، فقد كان مع أبي دلف عشرون ألفًا من الصعاليك.٧٤
ويدخل في معنى هذه الطوائف ممن تجمهروا للارتزاق بالتعدي على أصحاب الأموال العبيد، وكانوا كثيرين لا يخلو منهم منزل كما رأيت، فلما اختلت الأحوال وضعف أسيادهم ذهبت الهيبة من قلوبهم حتى إذا سنحت لهم فرصة نهضوا مع الناهضين، وربما انتحلوا لنهوضهم دعوة دينية يقومون بها، كما فعل صاحب الزنج في أواسط القرن الثالث للهجرة، فإنه قام قرب البصرة باسم الشيعة العلوية، وكان في ضواحيها جماعة من العبيد يكسحون السباخ، فدعاهم إلى النهوض معه على أن يحررهم من الرق ويريحهم من التعب، وكانوا قد شاهدوا رفاقهم الأرقاء البيض (المماليك الأتراك) يتمردون على الخلفاء فاقتدوا بهم، فكل عبد سمع بهذه الدعوة تبعها، حتى استفحل أمرهم وضربوا أسيادهم بالسياط،٧٥ واجتمع منهم مئات الألوف، وحاربوا الدولة العباسية بضع عشرة سنة قتلوا في أثنائها ٢٥٠٠٠٠٠ نفس من الرجال والنساء والأطفال مما تقشعر له الأبدان، وانتهت تلك الدعوة بقتل زعيمها وتفرق أصحابه، وأراد البجة بمصر أن يفعلوا مثل الزنج بالعراق فلم يفلحوا، وقد يعد من هذا القبيل أيضًا الحشاشون، وهم طائفة من الفوضويين ظهروا في القرن الخامس للهجرة، وجعلوا دأبهم الفتك بأهل السلطة غدرًا، وكان لهم شأن كبير في تاريخ الإسلام.٧٦

ومن طبقات العامة «المخنثون»، وكانوا في الحجاز قبل الإسلام، وهم جماعة من أهل الخلاعة انتشروا بالمدينة بعد الإسلام على إثر ظهور اللهو والقصف وكثرة الأموال، وكثيرًا ما كانوا يفسدون النساء يتوسطون بينهن وبين الرجال، وكان أحسن المغنين منهم، وقد تقدم خبر سليمان بن عبد الملك وما فعله بهم، وربما أشبهوا ما كان في القاهرة من «الخول» من عهد غير بعيد، ولما انتشر الغناء في المملكة الإسلامية انتشر المخنثون معه، وتكاثروا في بغداد والشام ومصر والأندلس وسائر المغرب، والأندلسيون إذا قالوا المخانيث قد يريدون المماليك الصقالبة.

وفيما خلا ذلك فقد كان في المدن من طبقات العامة ما لا يحصيه عد، من أهل الاحتيال للمعايش بأساليب الخداع والشعوذة أو نحوهما، ولكل صنف من هذه الأصناف اسم خاص، وربما زاد عددها جميعًا على عشرين نوعًا، كقولهم المخطراني والكاغاني والبانوان والقرسي والعواء والمشعبذ والفلور والأسطيل والمزيدي٧٧ وغيرهم.

(ﺟ) أخلاق العامة

فالعامة في المدن أخلاط من غوغاء ولفيف من أمم شتى وصناعات شتى، وهم جهال أتباع من سبق إليهم من غير تمييز بين الفاضل والمفضول، وسئل الإمام علي عن العامة فقال: «همج رعاع أتباع كل ناعق.» وقال الفضل بن يحيي: «الناس أربع طبقات: ملوك قدمهم الاستحقاق، ووزراء فضلتهم الفطنة والرأي، وعلية أنهضهم اليسار، وأوساط ألحقهم بهم التأدب، والناس بعدهم زبد جفاء وسيل غثاء، لكع لكاع وربيطة اتضاع، هَمّ أحدهم طعامه ونومه.» وقال معاوية للأحنف: صف لي الناس، فقال: «رءوس رفعهم الحظ، وأكتاف عظمهم التدبير، وأعجاز أشهرهم المال، وأدباء ألحقهم بهم التأدب، والناس بعدهم أشباه البهائم؛ إن جاعوا ساموا وإن شبعوا ناموا.» هذه هي آراء خاصة تلك الأيام في عامتهم.

ومع ذلك فطلاب السلطة كانوا يراعون جانبهم ويقربونهم بما يرضيهم ولا سيما الدين وهو جامعتهم الكبرى، ولا غرو فإنه أكبر أسباب سعادتهم، ولهذا السبب رأيتهم شديدي التعلق بالخليفة إذا أظهر التقوى، لما في منصبه من الصبغة الدينية، وهو رئيسهم وإمامهم، فكانوا له عضدًا قويًّا، ولولاهم لذهبت الخلافة العباسية من بغداد قبل الزمن الذي ذهبت فيه؛ لأنهم كانوا كثيرًا ما ينهضون لنصرته على القواد والوزراء إذا أرادوا خلعه، وأكثرهم مع ذلك لا يعرفون من الدين غير اسمه، ولو سئل أحدهم عن اعتقاده لما أحسن الجواب، فضلًا عن بساطتهم وسذاجة أفكارهم وجهلهم سائر الأمور.

ذكروا من دهاء معاوية في مداراة الناس واجتذاب قلوب العامة أن رجلًا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن واقعة صفين، فتعلق به رجل من أهل دمشق فقال: هذه ناقتي أُخذت مني في صفين! فارتفع أمرهم إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلًا بينة يشهدون أنها ناقته فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: «أصلحك الله، إنه جمل وليس بناقة.» فقال معاوية: «هذا حكم قد مضى.» ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره ودفع إليه ضعفيه وبره وأحسن إليه وقال له: «أبلغ عليًّا أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل.»

وبلغ من أمرهم في طاعته أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رءوسهم عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص أن عليًّا هو الذي قتل عمار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي سنة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير.

وذكروا عن عامة بغداد في إبان التمدن الإسلامي أن رجلًا منهم رفع إلى بعض الولاة وشاية برجل من علماء الكلام زعم أنه يتزندق، فسأله الوالي عن مذهب الرجل فقال: «إنه مرجئ قدري إباضي رافضي، يبغض معاوية بن الخطاب الذي قاتل علي بن العاص!» فقال له الوالي: «ما أدري على أي شيء أحسدك، على علمك بالمقالات أو على بصرك بالأنساب …»

وكان جماعة من علماء ذلك العصر يجتمعون في بغداد للمناظرة في أبي بكر وعمر وعلي ومعاوية، وكان بعض العامة يأتون فيستمعون، فتصدى أكبرهم لحية ذات يوم لبعض الباحثين وقال له: «كم تطنبون في علي ومعاوية وفلان وفلان!»

فقال له الرجل: «فما تقول أنت في علي؟»

قال: «أليس هو أبا فاطمة؟»

قال: «ومن هي فاطمة؟»

قال: «امرأة النبي عليه السلام … بنت عائشة أخت معاوية!»

قال: «فما كانت قصة علي؟»

قال: «قتل في غزاة حنين مع النبي، وقد كان عبد الله بن علي حين خرج في طلب مروان إلى الشام، وكان من قصة مروان ومقتله ما قد ذكر، ونزل عبد الله بن علي الشام، ووجه إلى أبي العباس السفاح أشياخًا من أهل الشام من أرباب النعم والرياسة، فحلفوا لأبي العباس السفاح أنهم ما علموا لرسول الله قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حتى وليتم الخلافة.»٧٨

أولئك هم العامة في كل زمان ومكان، وطلاب السلطة المطلقة لا يستغنون عنهم؛ لأنهم معظم الرعية وبهم تُجبى الأموال ومنهم تتألف الجنود، فمن استطاع كسب ثقتهم واجتذاب قلوبهم ملكوه، ولا يجتذب قلوب العامة مثل الدين، فإذا اجتمعت السياسة والدين تمت وسائط السلطة المطلقة وتولى أمور الناس أكثرهم دهاء وأقدرهم على استرضاء العامة بالتقوى.

هوامش

(١) راجع الجزء الرابع.
(٢) المسعودي ١٧٧ ج٢ وغيره.
(٣) المسعودي ١٨٨ ج٢.
(٤) الأتليدي ١٥١.
(٥) نفح الطيب ١١٣ ج١ وابن الأثير ٢٥٩ ج٤.
(٦) ابن الأثير ٢٧٢ ج٤.
(٧) ابن الأثير ٤٦ ج١٠.
(٨) ابن الأثير ٢٢٧ ج٩.
(٩) نفح الطيب ٢٠٩ ج١.
(١٠) المقريزي ٣١٣ ج١.
(١١) المقريزي ١٩٣ ج٢ و٤٨٩ ج١.
(١٢) المقريزي ٧٩ و١٩١ ج٢.
(١٣) المسعودي ٢٢ ج٢.
(١٤) المقريزي ٩٥ ج١.
(١٥) الدميري ٤٩ ج١.
(١٦) ابن الأثير ١٤٧ ج٤ والأغاني ٣٧ ج١.
(١٧) طبقات الأطباء ١٤١ و١٤٥ ج١.
(١٨) تاريخ الوزراء ١٢.
(١٩) ابن حوقل ٧٥.
(٢٠) ابن خلكان ٣٢٠ ج١.
(٢١) الأغاني ١٣٧ ج١٦.
(٢٢) المسعودي ٢٨٠ ج٢.
(٢٣) المسعودي ١١٥ ج١ وترتيب الدول ١١١.
(٢٤) الأغاني ١٣٨ ج١٩.
(٢٥) ترتيب الدول ١١٢.
(٢٦) المسعودي ١٥٤ ج٢.
(٢٧) الأغاني ١٥٤ ج٨.
(٢٨) الجزء الثاني من هذا الكتاب.
(٢٩) ابن خلكان ١٩٠ ج١.
(٣٠) المسعودي ٣٦٦ ج٢.
(٣١) نفح الطيب ٧٠٩ ج٢.
(٣٢) الأغاني ٨٠ ج١٥.
(٣٣) العقد الفريد ١٤٨ ج١.
(٣٤) Revue Arch, Les Ecoles des Peintures en Perse, 1905, 11.
(٣٥) العقد الفريد ١٨٦ ج٣.
(٣٦) العقد الفريد ١٧٨ ج٢.
(٣٧) العقد الفريد ١٨٢ ج٣.
(٣٨) المسعودي ٦٨ ج٢.
(٣٩) العقد الفريد ٢٦٩ ج٢، والمسعودي ١٣٣ ج٢.
(٤٠) العقد الفريد ١٩٦ ج٢.
(٤١) الأغاني ١٣٠ ج٢.
(٤٢) الكامل للمبرد ٣٧٧.
(٤٣) الأغاني ٦١ ج٤.
(٤٤) الأغاني ١٣٤ ج٦.
(٤٥) المسعودي ١٣١ ج٢.
(٤٦) الأغاني ١١٥ ج٢.
(٤٧) المسعودي ١٢٢ ج٢.
(٤٨) قوات الوفيات ٣٧١ ج٢.
(٤٩) الأغاني ١٠٦ ج٥.
(٥٠) الأغاني ١٢٣ ج٢ و٦٣ ج١٩.
(٥١) ابن الأثير ١٩٠ ج٥.
(٥٢) الجزء الثالث.
(٥٣) ابن خرداذبة ١٥٣.
(٥٤) الإصطخري والمسعودي.
(٥٥) المسعودي: مروج الذهب، ص٥٤ ج١.
(٥٦) فوات الوفيات ١٣٨ ج١.
(٥٧) ابن الأثير ٢٠ ج٩.
(٥٨) ابن حوقل ١٩٨.
(٥٩) الفخري ٢١٣.
(٦٠) Encycl, Brit, Article Sugar.
(٦١) الجزء الأول.
(٦٢) نفخ الطيب ٨٧٣ ج٢.
(٦٣) رحلة ابن جبير ٢٧١.
(٦٤) المشرق عدد ٦ سنة ٧.
(٦٥) المسعودي ٢١٨ ج٢.
(٦٦) ابن الأثير ٢٤٤ ج٨ و١٤٥–١٥٠ ج٩.
(٦٧) ابن الأثير ٢٤٦ ج٩.
(٦٨) ابن الأثير ٤١ ج١١.
(٦٩) الأغاني ٩١ ج٦.
(٧٠) نفح الطيب ٧٦٦ ج٢.
(٧١) رحلة ابن بطوطة ٢٣٥ ج١.
(٧٢) الجزء الرابع.
(٧٣) المسعودي ٣٣٥ ج٢.
(٧٤) ابن الأثير ٦٩ ج٧.
(٧٥) ابن الأثير ٨٢ ج٧ والطبري.
(٧٦) الهلال ص٨٣ سنة ١٠.
(٧٧) كتاب البخلاء ص٣٧، وقد فسر الجاحظ في ذلك الموضع معاني هذه الألفاظ.
(٧٨) المسعودي ٥٢ ج٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤