عصابة الحَرْق العَمْد

في عام ١٨٣٣ أُوكل إليَّ التحقيقُ في ملابسات حريقٍ — واحد من سلسلة حرائق — انتهى بمطالباتٍ ضد العديد من شركات التأمين الكبرى في لندن، ويُعتقَد أن تلك الحرائق قد نشبت بسبب احتيال متعمَّد.

وقد اندلعَ الحريقُ الحالي بعد ظهر يوم الإثنين بين الساعة الواحدة والساعة الثانية، في مستودعٍ تابع لمصنع كبير لأغطية الرأس بالقرب من دانستابل، في بيدفوردشير.

ومن بين الملابسات الغريبة لهذه القضية الحقيقةُ اللافتةُ إلى حدٍّ ما، وهي نقلُ ملكية أعمال المصنع للتوِّ من مالكٍ إلى آخر، وأنَّ بوليصة التأمين كانت بحوزة مسئولي الشركة، في مقرِّها الرئيسي في لندن، لغرضِ الحصول على نقلٍ للعقد؛ مصدَّق عليها.

وقد أبلغَ المالكُ الجديد إدارةَ الإطفاء بأنه قرَّر توسيعَ مبناه من أجل توسيع أعماله.

وفي رسالة إلى الشركة، ذكَرَ بالفعل، بعباراتٍ دقيقة، أنَّ بحوزته آنَذاك عدةَ طلبياتِ تصدير كبيرة يريد إنجازها. ومِن ثَمَّ فإن الوثيقة، التي كانت تُغطي تأمينًا بمبلغ ٣٠٠٠ جنيه حتى ذلك الحين، زِيدَت الآن إلى ٤٥٠٠ جنيه.

وبعد مدَّة وجيزة من تلقِّي الشركة هذه الرسالةَ الأخرى، التي ذكر فيها كاتِبُها أن مبلغ ٤٥٠٠ جنيه لن يُغطيَ قيمة جميع التحسينات والآلات والمخزون التجاري؛ ولذا اقترحَ زيادة مبلغ التأمين إلى ٦٠٠٠ جنيه.

ونظرًا إلى أن هذه كانت مخاطرةً كبيرة بشكل غير معتاد بالنسبة إلى بوليصة تأمين ريفية، وحيث إن المبنى كان على بُعد نحو ثلاثين ميلًا فقط من المدينة، فقد قرَّر المجلس أن يتوجه خبير المعاينة الخاص بالشركة إلى هناك ويُقدِّمَ تقريرًا عن الحالة قبل قَبول الاقتراح الأخير.

وبِناءً على ذلك ذهبَ السيد فيليمور، خبير المعاينة. ووصلَ الساعة الحادية عشرة ظهرًا تقريبًا، واستقبلَته الشركة وتُدْعى «نيوتن براذرز» باحترامٍ شديد، حيث أطلَعوه على المبنى، الذي فحَصه بدقته المتناهية المعتادة، ودُعي لاحقًا للصعود إلى مكتب المدير في موقع العمل، حيث وافقَ على تناول كأسٍ من الشراب وشطيرة إلى أن يحينَ موعدُ قطار العودة إلى المدينة.

لقد مرَّت الآن بضعُ دقائق بعد الساعة الواحدة، وكان جميعُ العاملين في المصنع قد غادروا المبنى لتناوُل الغداء.

وذهبَ العضو الأصغر في الشركة، السيد ألبرت نيوتن، ليُحضِر الشراب، ثم عادَ في غضون بضعِ دقائق، وظلَّ يتحاور مع خبير المعاينة لمدة نصف الساعة أو ثلاثة أرباع الساعة، إلى أن بدأ العُمَّال في العودة.

وقبل وصول العديد منهم، انطلقَت صيحة: «حريق!» حيث اكتُشِف أنَّ جزءًا من المبنى القديم، المجاورِ للمبنى الجديد، اشتعلت فيه النيران، وأن كَمِّيةً كبيرة من القبعات المصنوعة من القش وكذلك أغطية الرأس قد اشتعلت. وبسرعة هائلة، امتدَّت ألسِنةُ اللهَب إلى جوانب المستودع، الذي خُزِّنت فيه، على ما يبدو، كميةٌ كبيرة من البضائع المصنَّعة. لكن المظاهر كانت خادعة بعضَ الشيء في هذا الصدد. فقد وُزِّع المخزون على الرفوف (ربما كان ذلك لتسهيل التصنيف) بحيث بدا الحجمُ أكبرَ مما هو عليه بالفعل. ولكن، ربما ساعدَ هذا الأمر على تزايُد الحريق أكثرَ من إعاقته؛ لأن اللهب انتشر بسهولة أكبرَ عبر الفجوات أو المساحات التي خُزِّنت فيها الطرود، أكثرَ مما كان ممكنًا لو كانت مُعبَّأةً بشكل أكثر كثافة.

خيَّم ارتباكٌ ورعبٌ على الأشخاص القلائل في الجزء السفليِّ من المبنى، وشلَّ الرعبُ جهودَهم لمدَّة. كما أنهم لم يعلموا أن هناك أيَّ أشخاصٍ موجودين في الغرف بأعلى؛ فقد فهموا على الأرجح أنهم، مع العائدين من الغداء، كانوا الأشخاص الوحيدين في نطاق الحريق. وبِناءً على ذلك هُرِعوا إلى المدينة، وبحَصافةٍ جديرة بالثناء — أي فورَ استعادتهم الهدوء والعقل — سعَوا إلى الحصول على المساعدة في إخماد النيران. وبالنسبة إلى بقية العمَّال، عند وصولهم، فإنهم إما انطلَقوا في مهمَّات مماثلة، أو تجمَّعوا حول الجزء الخارجي من المبنى.

في غضونِ ذلك، واصلَت ألسنةُ اللهب مسارها دون رادع، وانتشرَت بالسرعة المشارِ إليها بالفعل، وسرعان ما أتَت على الطابق الأرضي بأكمله. وبدأت في التهامِ السلَّم، وقليلٍ من العوارض الخشبية، قبل أن يصلَ إشعارُ خطرها إلى عددٍ قليل من الموجودين في الطابق العلوي.

لقد انزعجَ السيدُ نيوتن وخبيرُ المعاينة لدى الشركة في البداية من همهمةٍ خافتة أو ضجيج ناتج عن محادثة المتجمهِرين الذين كانوا في الأسفل ينظرون إلى المشهد.

كان سلوك الحشد وتصرفه بعد ذلك موضعَ الكثير من الاستفسارات والشكوك، ولكن لم يكن هناك في الحقيقة سبب للشك أو الدهشة. فلو كان الحريقُ قد اندلع ليلًا، لأصبح هناك الكثير من الأسباب للاعتقاد بأن صيحات الإنذار الطبيعية كانت ستأخذ نبرة أعلى وأقوى من التظاهر. ولو كان مثل هذا الحريق قد اندلع في لندن، حيث عادةً ما يُمكن العثور على الأشخاص في جميع الأوقات في كل طابق من مستودعٍ كبير، وحيث إن الألفة النسبية للأشخاص بمثل هذه الحوادث تقودهم إلى اتخاذِ خطواتٍ أكثرَ حِكمةً مما قد يفعله سكانُ الريف، فإن صيحة «حريق! حريق!» كان الجميع سيطلقها في وقتٍ واحد حتى في وضَح النهار. لكن لأن الناس غيرَ المعتادين على مثل هذه الأشياء، قد أصابهم الشلل بسبب الرعب إلى حدٍّ كبير، وبسبب الذهول بدرجة أكبر، لم تصدر عنهم صيحاتٌ عالية بما يكفي لإيقاف محادثة الجَمْع الصغير المهدَّد بالخطر في الطابق العلوي، وهذا ليس أمرًا لافتًا، حسَبما يبدو لي.

إنَّ الأصوات التي قرَعَت آذانَ السيد ألبرت نيوتن وضيفه في البداية جعلتهما يُصغيان، وفي الوقت نفسِه صرَخ أحد المحتشدين (لأنهم كانوا قد تجمَّعوا في هذا الوقت): «حريق!» كما داهمت رائحةُ مادة محترقة أنوفَ الجَمْع الصغير.

لا داعيَ للقول، إنهما قد هُرِعا على الفور إلى النافذة بهدف التأكد من الأمر، وتحديد المسار الذي يجب اتباعُه إذا كانت حياتهما، مثلما تأكَّدا تقريبًا، في خطر.

أثار ظهورُ السيد ألبرت نيوتن عند النافذة صرخةً من النساء والفتيات، وصيحات إنذار من الرجال بالأسفل.

صاحَ السيد ألبرت نيوتن: «يا إلهي! إنَّ المصنع يحترق.»

وبينما كان يتحدَّث، تصاعدت ألسنة اللهب عبر النوافذ السفلية بكثافة؛ وعلى الرغم من أن جزء المبنى الذي يقف فيه المالِك وضيفه كان إلى حدٍّ كبير باتجاه الشرق من ذلك الجزء الذي سيطرَت عليه النار، فإن الخطر كان كافيًا لشحوب وجهَي الرجلَين، ولجعل المالِك — الذي كانت لديه، بالطبع، خبرةٌ أقلُّ بكثير في مثل هذه الأمور من خبير المعاينة، السيد فيليمور — يُظهِر درجة من الارتباك جعلَت هذا الرجل المحترم يُصاب بالقلق أكثر مما يُمكن أن تفعله النار وحدها.

مع درجةٍ من الهدوء وتمالُك الذات يُناسبان الأزمةَ، سأل السيد فيليمور السيد نيوتن عن وسائل الهروب المتاحة لهما، وناشده أن يُحافظ على هدوئه، حيث يستلزم الأمر تمالُكَ الذات بالإضافة إلى الشجاعة؛ حتى يُنقذا نفسَيهما من هذا المأزق.

صاحَ الرجل الحائر: «هل نقفز من النافذة؟»

وكان رده الحازم: «كلا!»

«هل تعتقد أنه يُمكننا نزول السُّلَّم بأمان؟»

«دعنا نُحاول.»

ومِن ثَم حاولا نزول إحدى درجات السُّلَّم، لكنهما وجدا دخانًا كثيفًا يتصاعد عبر بئر السُّلَّم، وهي صعوبة لا يمكن تخطيها.

فصاحَ السيد نيوتن: «نحن هالكون!»

بدا القلق الشديد على وجه خبير المعاينة؛ لأنه أدرك أن هتاف الرجل المذعور ينطوي على حقيقة مروعة.

«دعنا نُحاول الوصول إلى السطح. هل لديك أي حبل هنا؟»

أجاب السيد نيوتن: «أجل.»

وفي صمتٍ وسرعة كادا يطيران بدلًا من الركض صعودًا على السلَّم، وتقدم نيوتن الطريقَ إلى حيث توجد لفافةٌ من الحبال القوية، قُطْرها رُبُع بوصة، ملقاةٌ في زاوية غرفة مخصَّصة للعبوات الفارغة والنفايات.

حدَّدَت عينُ خبير المعاينة المتمرِّس مدى وسيلة الهروب هذه وقدرتها بدقةٍ كبيرة، ورأى أنها ستكون كافيةً لغرض تحريرهما، إذا تصرَّفا بحذرٍ وحكمة عند استخدام الوسائل المتاحة لهما.

لم يتبادَل الرجلان ولو كلمةً واحدة. وفي صمت شبهِ تام، سحبَ السيد فيليمور أول جزء من الحبل وربطه ببراعةٍ حول خصر مالِك المصنع وتحت ذراعَيه، ثم ربط جزءًا آخرَ من الحبل بالجزء الذي أحاط برفيقه المرعوب. ثم ربط الطرَف الآخر بالطريقة نفسِها.

«هذا، على ما أعتقد، سيفي بالغرض.» كانت هذه هي الكلماتِ الأولى التي نُطِقت، والتي قالها خبير المعاينة.

قد يُعذَر السيد نيوتن على الأنانية التي سمحت له بالاستفادة من وسيلة الهروب هذه، دون التفكير كثيرًا في منقِذه. قلةٌ من الرجال في ظل الظروف المماثلة كانوا سيتصرفون بخلافِ ما فعله. فقط في حالاتٍ مثل اشتعال النيران بسفينةٍ في البحر، تصل البطولةُ، التي عادةً ما تكون بطيئة في مظاهرها، إلى ذروة الكَرم الذي يسعى إلى الحفاظ على الآخر بدلًا من الذات. ربما لا تميل التجارة إلى إبراز أفضلِ صفات طبيعتنا. لكن المشاعر العائلية هي الأسرعُ في توليد روح إنكار الذات أو التضحية بالنفس. فقد يتنازل الأخُ عن نعمة الحياة أو امتيازها لأخيه، أو الزوج لزوجته، أو الأم لطفلها؛ لكن الغرباء، أو المعارف العارضين، لا يُظهرون تلك الفضائل السامية ونُكران الذات والتضحية بالنفس.

وعلى الرغم من ذلك، ربما لم يكن السيد فيليمور ليتغاضى عن أول فرصةٍ للنجاة من النيران المتزايدة بسرعةٍ الآن، إذا لم يتمَّ تمكينُه، من خلال الحكمة المهنية والتدريب الطويل، من التأكد أن أفضل وسائله للحفاظ على الذات تكمن حقًّا في المحافظة في المقام الأول على رفيقه. وأصبحت لديه فرصة أفضل للنجاة عندما وصل السيد نيوتن إلى الأرض الباردة في الأسفل، مما كانت لديه أثناءَ بقائه في الطابق العلوي خائفًا في كل لحظة من أفظع الأقدار وهو الموت حرقًا. عندما يبعد الرجل الأكثرُ عرضةً للذُّعر عن الخطر، فسيُصبح لدى الآخَر التحكُّمُ الكامل، حسَبما يرى، في تلك التدخلات التي كانت آنَذاك تحت السيطرة المتساوية لكليهما.

وقد حوَّل السيد فيليمور أحدَ إطارات النوافذ إلى نوعٍ من الرافعات، أو جعلها على الأقل تعمل مثل البكرة، وبواسطةِ عملية لا تتطلَّب وصفًا، أنزل الرجل الخائف إلى ارتفاع متر أو اثنين من الأرض، إذ لم يكن الحبل طويلًا بما يكفي للسماح بلمس قدميه لها.

وبينما هو يتدلَّى في هذا الوضع، صاحَ المتجمهِرون في الأسفل وصرَخوا، وشعروا بالشلل والارتباك. ومع ذلك، كان لدى واحد أو اثنين منهم حضورٌ ذهني كافٍ لفهم الأزمة، وقد هُرِعا على الفور إلى ساحة بناء مجاورة، وأحضرا سلَّمًا طويلًا بما يكفي للوصول إلى الارتفاع الذي علق السيد ألبرت نيوتن عنده.

كانت ألسنةُ اللهب في هذه اللحظة قد بدأت للتوِّ في إلقاء ضوئها اللامع من خلال نافذة مجاورة في الطابق الأرضي عند هذه الزاوية من المبنى عندما وصلَت آخرُ وسيلة للنجاة. وخلال لحظةٍ ثُبِّت السُّلَّم مستندًا إلى الحائط. صعد أحدُ العمَّال ذَوي الثبات الانفعالي على درجات السلَّم، ووضع ذراعه حول خصر سيدِه المعلَّق، الذي أوشك الآن على أن يفقد الوعيَ تقريبًا، وفكَّ الحبل، وأنزله بأمانٍ وسط صيحات الحشد في الأسفل.

في هذه الأثناء، خطَرَ مزيدٌ من الأفكار على رأس السيد فيليمور، الذي تزايد الخطرُ حوله بالطبع بشكل كبير خلال الفترة الزمنية التي دارت فيها الأحداث التي رويتُها للتو. فأخذ يبحث عن حبل إضافي، مدركًا، لربما، للمرة الأولى، أنه سيحتاج إلى طولٍ أكبر كي يستطيعَ الوصول إلى الأرض. ولحسن الحظ، اكتشفَ في إحدى عُلب التغليف بعضَ القطع الأخرى من الحبال، وهي ليست بنفس الجودة مثل تلك التي أنقذَ بها رفيقه؛ ولكن بالطبع كان عليه أن يستفيد منها قدرَ استطاعته، وأن يثقَ في احتمالات قوتها. ومِن ثَمَّ ربط أطراف قطع الحبال التي وجدها، والتي كانت ذاتَ أطوالٍ قصيرة وغير متكافئة بعضها مع بعض، وبينما هو يفعل ذلك أثار انتباهَه صوتُ الحشد بالأسفل، وهم يهتفون لتحذيره من أن ألسنة اللهب قد بدأت في الانفجار من كلِّ فتحة في طرَف المبنى تحت قدميه؛ وربما تجدر الإشارة إلى أن الحريق قد بدأ للتو في الوصول إلى الطابق الثالث في الجهة التي بدأ منها.

كان نيوتن قد حُرِّرَ من الحبل، وبدأ الطرف الآخر من الحبل الذي أحاط بجسده في الاشتعال.

وبدأ السيد فيليمور يفقد الهدوء والقدرة على التمييز.

وقد أخبرني؛ فيما بعد، أنه أصبح آنَذاك يشعر بالغثيان أو يقترب من الدُّوار. وبإرادةٍ قوية تغلَّب على أكبر خطر في الوقت الحالي، واستعاد إدراكه وحصافتَه مرة أخرى مع تزايد الخطر.

ومِن ثَمَّ ربط كلَّ قطع الحبال معًا — ما وجده مع ما استخدمه في إنقاذ نيوتن — وربط أحدَ طرفي الحبل حول جسده، وأنزل نفسَه ببُطء وحذرٍ حتى بدأ يشعر بألسنة اللهب الحارقةِ حول أطرافه.

لم يكن الحبل طويلًا بما يكفي!

ولذا اجتاحه إحساسٌ فظيع آخرُ بالموت الوشيك؛ وأخبرني بعد ذلك أنه لا يعرف كيف تمكَّن من استكمال عملية إنقاذ نفسه والإفلات من النيران.

لكن في الحقيقة، كما علمتُ بعد ذلك من اثنين من المتجمهِرين، مثلما بدا لهما، فقد تحرك بانتظامٍ رائع، مع سرعةٍ غير عادية، واستمرَّ في إنزال نفسه عبر كتلة من اللهب المتصاعد. وعندما هبطَ على الأرض، شوهد أن ذُيول معطفه قد اشتعلت، وأن وجهه كان محترقًا بشكلٍ رهيب. ومن المؤكد أنه قد أغمض عينَيه، وإلَّا كان سيُصاب بالعمى حتمًا.

ولحسن الحظ، لم تلتهم النارُ الجدار ولا الأرضية، وتمكَّن ثلاثة أو أربعة من المتجمهرين الأكثرِ جُرأةً أن يندفعوا إلى الأمام، ويحملوا الرجل الذي فقد وعيه الآن، وينقلوه إلى عيادة طبيبٍ بالقرب من المصنع. حيث تلقى رعاية فورية، ثم نُقِلَ بعد ذلك إلى فندق، حيث ظلَّ يَهْذي لعدة أيام؛ ولكنه استعادَ رُشده بعد فترة، وضُمِّدت جروحه وأُعيدَ إلى مقرِّ إقامته في لندن. وبفضل علاجٍ بارع من طبيب ماهر، تعافى تمامًا. على الرغم من وجود أثرٍ أو اثنين من ألسنة اللهب على وجهه بشكل لا يُمْحى، فإنها لم تكن سوى آثارٍ باهتة أو طفيفة.

ولم يكن من الممكن عملُ أيِّ شيء فعَّال للحفاظ على المبنى. حيث استمرَّت النار لبعض الوقت في مسارها المدمِّر تمامًا دون عوائق. وبعد مدة وصلَت عربةُ إطفاء من مجلس البلدة، وبدأت في إلقاء دفعات ضعيفة من الماء على ألسنة اللهب. ويبدو أنه لم ينتج عنها أدنى تأثيرٍ ممكن، وأثار عملُها السخريةَ والتهكُّم. وهكذا حدث تدميرُ المبنى بأكملِه. واحترق كاملُ مخزون المصنع والموادِّ الخام. ولم تَعُد الماكينات صالحةً للعمل، وقُدِّرَت الأضرار بما لا يقلُّ عن ٢٠ ألف جنيه؛ ولكن شمل ذلك ضررَ المبنى القديم الذي كان مؤمَّنًا عليه من قِبَل المالك.

لا أستطيع أن أقول كيف حدث أنْ وصَلَت تقاريرُ غير دقيقة عن هذا الحريق إلى لندن، أو تم تداولها في صحف الضاحية. ربما كان ذلك، كما قيل لي، لأن المراسلَ المحلي كان رجلًا يتمتع بقدرة وصفية متدنِّية، وغير قادر على إضفاء قدر من التشويق أو الإثارة على الحدَث الذي يكتب عنه، اللذَين بدونهما، كما يعلم القارئ بالتأكيد، لن تحظى روايةُ الحدث بجذب عموم القرَّاء، واللذَين بهما، يمكن جعلُ الأمور الصغيرة نسبيًّا ممتعة، أو حتى مثيرة. ربما كان ذلك بسبب أنَّ شقيق السيد نيوتن وشريكَه لم يرغبا في إيلاء القضية أهميةً أكبرَ من اللازم، وكان مهتمًّا بالفعل بعدم إثارة اللغَط حولها أكثرَ من اللازم. وقد سمعتُ أنه يعرف الممثِّل الوحيد للصِّحافة المحلية في البلدة، وقد سعى إليه، أو سعى الممثِّل الصحفي إليه، وأنه أملى عليه أو ألهمه الروايةَ الواهنة غير المثيرة للاهتمام التي نُشِرَت عن الحدث.

هذه الظروف أو الشائعات لها أهمية كافية لتطورات القضية التي أنا على وشكِ وصفها لتبرير سردها.

يجب أن أذكر أن السيد هنري نيوتن، المالكَ الآخر للمصنع، كان غائبًا في برمنجهام. وقد كان يُسافر بالفعل نيابةً عن الشركة التي هو عضوٌ فيها، ولم يعرف شيئًا عن الكارثة حتى أُخطِر بها عبر برقية، ومِن ثَمَّ بالطبع عاد إلى البلدة بأقصى سرعةٍ ممكنة.

ولم يُعرَف قط سببُ هذا الحريق على وجه اليقين. لكن الفرضية المحتملة، التي قد تقتنع بها هيئة المحلَّفين، أنه قد نشأ من إهمال فنيِّي تركيب الغاز. حيث ذهب هؤلاء الرجالُ لتناول الغداء في الوقت نفسه مع العمَّال العاديين في المصنع؛ ولذلك، أوقفوا بواسطة سدادةٍ خشبية أحدَ طرَفي أنبوب الغاز الذي وُصِّل بالمقياس، وغلَّفوا أيضًا مفصلًا غير مكتمل، بالقرب من العدَّاد، برصاصٍ أبيضَ وفتيلةِ كتَّان. ولم يكن محبس ضخِّ الغاز مفتوحًا في هذا الوقت في العدَّاد، أو هكذا كان يُعتقَد، والجانب الأكثرُ غموضًا في القضية هو كيف فُتِح المحبس بعد ذلك. لكن، لم يكن من الممكن توضيحُ هذه النقطة، ولم يكن ذلك بالطبع يقع على عاتق المؤمَّن عليه.

ووَفقًا للإجراءات المتبَعة قُدِّمت مطالبةٌ ضد الشركة. وجرى التحقيق بشأنها. وعلى الرغم من وجود شكوكٍ في حي مانيسون هاوس، حيث يقع مقرُّ الشركة، من أن الكارثة كانت بفِعل فاعل، لم يكن بالإمكان إثباتُ الحقيقة، ودُفِع مبلغ التأمين في النهاية.

زعمَ السيدان نيوتن أنَّ المبلغ الذي حصلا عليه من مكتب الإطفاء لم يكن كافيًا لتغطية قيمة آلاتهما ومخزونهما وتجهيزاتهما وما إلى ذلك. وزعما كذلك أنهما تكبدا خَسارةً كبيرة نظرًا إلى توقف أعمالهما، وبالتالي رفعا دعوى ضد شركة الغاز التي تزود البلدة، والتي تعهدت بتركيب المواسير في المبنى.

جرى تداول هذه القضية حتى يومِ المحاكمة، وظهرت على رأس قائمة هيئة المحلفين الخاصة في جيلدهول ذات صباح. وكانت القضية التي تسبقها مباشرةً قد قاربت على الانتهاء تقريبًا. وأوشكَ القاضي على الحكم فيها. وانتظر عددٌ كبير من الحضور (وكنت موجودًا بينهم)، مع درجات متفاوتة من الاهتمام، قضيةَ «شركة نيوتن ضد شركة إتش جاس».

في هذه المرحلة من القضية، جرى تشاورٌ لدى هيئة المحامين بين سيرجنت باسيل والسيد كويك من مجلس جلالة الملكة القانوني، وهما المحاميان اللَّذان مثَّلا المدَّعِيَ والمدَّعَى عليه، وقد انتهى باقتراحهما على سيادة القاضي السيد بارون سنابويل أنه من المحتمل إجراءُ اتفاقٍ بين الطرفين، إذا سمح سيادته بإرجاء القضية إلى اليوم التالي. ومِن ثَمَّ وافق سيادته على الطلب، بشيء من التردد، لكنني أظن أنه كان لديه استعدادٌ تامٌّ للتخلص من قضيةٍ طويلة ومعقَّدة، وكل ما لديَّ لإخبار القارئ به هو أن توقعات هذَين المحاميَين المخضرمين قد تحققت.

وبالفعل توصلا إلى تفاهمٍ بشأن القضية. حيث حصلت شركة «نيوتن براذرز» على مبلغ سخي إلى حدٍّ ما عن طريق تعويض إضافي عن إصاباتها وخسائرها التي أسفرَ عنها الحريقُ الهائل.

ثم وقعَ ظرفٌ آخرُ غير عادي ومريب؛ وهو وفاة السيد باترسون بعد مدة وجيزة، المالِك السابق للمصنع، الذي كانت «نيوتن براذرز» مَدينة له بمبلغٍ كبير. حدث هذا بعد نحو أربعة أشهر من الحريق، وفي ظل هذه الظروف. حيث كان يعيش في المدينة، ولم يكن قد قرَّر بعدُ ما هو العمل الجديد الذي سيَشْرع فيه، ولم يكن، كما يعتقد، قد تلقى بعدُ كلَّ المقابل الذي اتفق عليه من الشركة التي نقل إليها أعماله.

كان كلٌّ من السيدين نيوتن والسيد باترسون يقضون أمسية في فندق دوف، وتناولوا كمية كبيرة من شراب براندي والماء بشكل مفرط. وقد غادر السيد باترسون الفندق قبل السيدين نيوتن.

كان طريقه إلى المنزل يمر عبر قناة، وفي الصباح عُثِرَ عليه غارقًا. لقد سقطَ، على ما يبدو، بطريقةٍ ما عبَر الحاجزَ المنخفض في الماء. وقد غادرَ السيدان نيوتن الفندق من بعده، وعادا إلى منزلهما في أمان. ومِن ثَمَّ فحص قاضي التحقيق جثة المتوفَّى، وأصدر حكمًا ضدَّ مجهولٍ لحدوث الوفاة «نتيجة الغرق». وقد أعربَ بعضُ الناس في البلدة والحي، ومن بينهم السيدان نيوتن، عن حزنهم الشديد بسبب الكارثة. وقال مالكا الشركة الجديدة، يبدو في الواقع أنَّ المكان وكلَّ شيء يرتبط به يخضع لتأثير تعويذة أو لعنة. وأعلنا أنه يبدو كما لو أن القدَر قرَّر ألا يزدهر أيُّ شيء له صلة بهذا المصنع تحديدًا. كيف، أو لأيِّ سبب، لم يتمكَّنا من معرفة ذلك؛ ولكن هنا كان موت صاحب الشركة السابق، ربما بمحض المصادفة، أو ربما عن طريق الانتحار، وهو في حالة ثمالة، وذلك بعد مدة ليست طويلةً من فقدهما كلَّ شيء (حسبما يدعيان) بسبب حريقٍ في المبنى.

ثم علمت شركةُ التأمين بوفاة السيد باترسون، وأدرك السكرتير أن السيدين نيوتن ما هما إلا محتالَين وقاتلَيْن وأنهما قتلا هذا الرجل لسبب خبيث هما فقط مَن يعلمانه. ولذا استشار السكرتير محامي الشركة، وأسند إليَّ القضية لكشف الغموض، وألا أدَّخر أيَّ جهد أو تكاليفَ في سبيل الحصول على أدلة بموجبها يُحال الوغدان المزعومان إلى المحاكمة، إذا تبيَّن لي أن شكوك السكرتير لها ما يُبررها.

ومِن ثَمَّ سافرتُ إلى البلدة سرًّا، وحققتُ في كل الملابسات بقدر ما استطعت. وجمعتُ مجموعةً متنوعة من قصاصات الحقائق القليلة، التي لم تترك أدنى شكٍّ في ذهني أن السكرتير كان على حق. حيث توصلتُ بالفعل إلى استنتاج مفاده أن السيدين نيوتن كانا أشدَّ الأوغاد شرًّا، واللذين سُمح لهما لفترة طويلة بالهروب من العقاب. ومع ذلك، دعني أقُل بصراحة إنني لم أتمكَّن من جمع معلومات كافيةٍ لإسناد لائحة اتهام تؤدي إلى احتمال الحصول على إدانة.

لا أحتاج إلى أن أوضح للقارئ وجوبَ اكتمال الأدلة التي أقدمها قبل أن أوصيَ الشركةَ بتحمُّل مخاطرِ الملاحقة القضائية. ذلك أنهم إذا فشلوا، على سبيل المثال، في إثبات إدانة شركات التأمين بشكل قاطع، فإن سمعة الشركة وقيمتَها ستتضرَّران على نحو لا يمكن إصلاحه. إذ سيقول الرأي العام ومعلِّقو الصحف إن الشركة أقامت هذه القضية الشائنة من أجل التهرب من سداد مطالبة تأمين عادلة. وعندئذٍ يرتقي المتَّهمون إلى مراتبِ الاستشهاد. ويتعيَّن على الشركة سدادُ كلِّ ما هو مطلوبٌ منها، مع التكاليف، وقد تتوقف الشركة عن مزاولة نشاطها بعد ذلك تقريبًا، أو تُكلف المحامينَ بتصفية أعمال الشركة في تشانسري. ولذلك، بعد تقديمٍ بيانيٍّ مفصَّل أمام محامي الشركة (الذين دفَعوا لي بسخاءٍ مقابل خدماتي)، الذين أعَدُّوا تقريرًا بتعليقاتهم وآرائهم حول الحقائق التي قدمتها؛ نظر مجلس الإدارة في الأمر، وقرَّروا إغفاله.

ولكن لم يُحَل الأمرُ إلى طي النسيان تمامًا. بل استمروا في الاستعانة بي لمراقبة السيدين نيوتن دون انقطاعٍ لمدة سنتين، إذا شعَرتُ أنه من الضروري إطالةُ أمَدِ المراقبة طوال تلك المدة؛ وهي تعليماتٌ أرغب في الامتثال لها.

من خلال مساعدة العديد من مساعدِيَّ، الذين يتغيَّرون من وقتٍ لآخر، جرى تدوينُ النشاط التِّجاري اللاحق لهذين الشخصين بدرجة من الدقة أثبتت فيما بعد أنها مفيدة جدًّا لمصالح شركات التأمين في العاصمة على وجه الخصوص، ولمصالح المجتمع وتحقيق العدالة بشكل عام.

من بين الأشخاص الموجودين في المدينة التي يقعُ فيها المصنع الذي أُوقِفَ نشاطُه، والذين تعرَّفت إليهم، وأعتقد أنني قد اكتسبتُ ثقتهم، كانت أرملة المالِك السابق الذي مات غرقًا. لقد حزِنَت على الفقدان المبكر لزوجها، لكن لم يكن لديها شكٌّ واضح، أو على الأقل لم تكشف لي عن أيِّ شك، في أن مصرعه يحمل شبهة جنائية. أبديتُ تعاطفي معها، وتحدثتُ عن الآثار المؤسفة لتناول الشراب حتى الثُّمالة، ونعيتُ ذِكرى زوجها، وتطرَّقتُ برفقٍ ورقَّةٍ إلى موضوع هذا الضعف الغريب تجاه الشراب، الذي أدَّى إلى وفاته المبكِّرة. لكنَّ أيًّا من هذه المحادثات لم تُستخلَص منها أيُّ إشارة إلى أنه قُتِل على أيدي السيدين نيوتن.

بعد فترة وجيزة من سداد مبلغ التأمين؛ اكتشفتُ أنني، رغم اعتقادي أنني ماهرٌ للغاية، قد خُدِعت؛ ولكن ليس من قِبَل السيدين نيوتن، اللذين لم يعد هناك أيُّ غموضٍ آخرَ تجاههما لدى القارئ. فهما مثلما اعتقد السكرتير، واقتنعتُ أنا كانا مجرمَين حقيرَين، ينبغي أن يتدلَّيا من حبل المشنقة. فقد تفوقَت عليَّ براعةُ امرأة. إذ لم يشكَّ أحدٌ بي أو بمهمتي في البلدة (كما اتضحَ فيما بعد) باستثناء الأرملة باترسون. لقد تعرفَت بطريقةٍ ما على اسمي وشخصيتي الحقيقية، وكانت تتحاور معي أو تستهزئ بي، وهي مستعدَّة، عند ظهور مناسبةٍ أو فرصة، أن تستغلَّني. ومع المخاطرة بفقدان بعضٍ من هيبتي أمام القارئ، فأنا صادق بما يكفي لأعترف بذلك.

بعد مدَّة وجيزة من تلقي السيدين صاحبا شركة «نيوتن براذرز» المكافأةَ على جريمتهما بسبب مخاوف شركة التأمين، وإذا جاز التعبير، من خلال عدم اكتمال دليل إدانتهما على حقارتهما ونذالتهما؛ تلقَّيتُ رسالة من مجهول، يمكن أن أوضحَ للقارئ محتواها. حيث كانت بيانًا يوضِّح أن شركة التأمين قد تعرضت للسرقة من قِبل السيدين نيوتن، اللذين أشعلا النار في مصنعهما من أجل تحقيق أهدافهما؛ وأن مُرسِل الرسالة كان، مقابل ضماناتٍ مناسبة، على استعداد لوضعي على مسار تحقيقٍ ناجح في لُغز الجريمة. كما طلبَ مني أن أردَّ على الرسالة، في المقام الأول، بإعلانٍ في العمود الثاني من صحيفة «تايمز»، في صباح اليوم الثالث من استلام الرسالة. ووضَّح لي شكل هذا الإعلان، الذي كان عليَّ نشرُه فقط إذا وافقتُ على الشروط، وقدَّمتُ الضمانات المطلوبة، وكنت مستعدًّا لمتابعة الدليل الذي سيُخطرني به.

ومِن ثَمَّ قابلتُ محامِي الشركة، ومعهم السكرتير، حيث رتَّبنا لِقَبول الشروط، ومقابلة المرسل، ومنحِه الضمانات، ومتابعة التحقيق بالطريقة التي تبدو لي مناسِبة، والاعتماد على الشركة لسداد النفقات والمكافآت التي قد أعتقدُ أن من الضروري تحمُّلُها. وبعد نشر الإعلان، وتبادل رسالة تمهيدية أو رسالتَين، قابلتُ مرسل الرسالة الأولى في مكانٍ محدَّد. واتضح أن مرسل تلك الرسالة هي الأرملة باترسون. وهي امرأة مميزة؛ لأن السيدة باترسون، ليست فاتنةً أو جميلة بأي حال من الأحوال، ولكن ليست بأي حال من الأحوال عكسَ أيٍّ من هاتين الصفتين. إنها لم تكن تحمل صفاتٍ رجولية، وبالتأكيد لم يكن لديها أيٌّ من رِقة الأنوثة. كانت امرأةً منعدمة الضمير، متآمرة، شريرة، وتهتم براحتها ورفاهيتها المادية وتعتزُّ بهما أكثرَ من أي شيء آخر. أعتقد أنها كانت حزينةً لفقدان زوجها، لكنها في الوقت نفسه حريصةٌ على تحقيق الاستفادة القُصوى من مصيبتها، حيث خابَ أملُها بشكل كبير عندما تأكدَت من أنَّ خَسارته تنطوي أيضًا على خسارة المال المستحَقِّ له، الذي كانت تتوقع أن تتمتعَ به بعد وفاته.

عندما التقينا شعَرْنا بالحرَج قليلًا. لقد أدهشَها نجاحُ حيلتها السابقة وقدرتها على إخفائها. أما أنا فقد كنتُ مرتبكًا، إن لم أكن مهزومًا إلى حدٍّ ما، من الحقيقة الواضحة في ذلك الوقت وهي أنها كانت تعرف حقيقتي طَوال الوقت بينما كنتُ أستجوبها، كما اعتقدتُ أنا. ولكن، سرعان ما زال هذا الإحراج كي نبدأَ في مناقشةِ قضيتنا. حيث أطلعَتني على مؤامرة لم تكن لديَّ فكرةٌ كاملة عنها حينذاك.

إذ لم تستطع تأكيد وجود شبهة جنائية في وفاة زوجها. وفي بداية الأمر كانت لديها شكوكُها، مثل الآخرين. وكل ما يمكن أن تقوله بوضوح هو أن السيدين نيوتن قد أحرقا مصنعهما. والحقيقة أن زوجها كان يمر بضائقة مالية. وعندما عَلِمَ السيدان نيوتن بذلك اقترَحا عليه مخططًا مفصَّلًا للاحتيال على شركة التأمين. سيتمكَّن من خلاله أيضًا أن يحصل على مُهلة من دائنيه، الذين قد يُسوِّي الأمر معهم فيما بعد، أو «إرضائهم» بإعلان الإفلاس، وَفْق ما يرغبون فيه بعد ذلك. في هذه الأثناء كان يُفترَض أن ينفذ هو والسيدان نيوتن مخطط الاحتيال الكبير. فاتفقوا فيما بينهم على توسِعة المبنى وحرقِ المصنع، ومطالبة شركة التأمين بمبلغ التعويض، ثم تقسيم الغنيمة. وقد نُفِّذَت كل هذه الترتيبات، كما يعلم القارئ، باستثناء الجزء الأخيرِ من المخطَّط الذي كان موضوعَ احتيالٍ آخر، يوضح حقيقةً أصررتُ عليها مِرارًا؛ أنه لا توجد كلمةُ شرف بين اللصوص.

إذ من الممكن أن يكون السيدان نيوتن قد قتلا باترسون أو لم يقتلاه بعد أن غادر فندق دوف، فهو لم يكن قادرًا على السير نحو منزله بسرعة كبيرة؛ لأنه مخمور. وربما يكونان قد ألقياه من فوق جسر القناة في الماء أو لم يلقياه؛ لكن اتضح أنهما ظنَّا أن وفاته منحتهما فرصة لحرمانه، أو على وجه الدقة حرمان أرملته، من نصيبه في حصيلة جريمتهم المشتركة. لقد علمت السيدة باترسون من زوجها بشأن مخطط حريق مصنعه. ولم يكن السيدان نيوتن على دراية بهذه المعلومة الصغيرة. إذ إن السيد باترسون أخبرهما في الغالب أنه لا يسمح لزوجته بمعرفة كل شيء عن عمله، وقد تحدث كثيرًا بعباراتٍ غير محترمة عن الجنس اللطيف (لا سيَّما فيما يخصُّ الأسرار أو المؤامرات)، مما جعلهما يعتقدان أن زوجته لا تعرف شيئًا عن المؤامرة. لكنها في الحقيقة قد علمت من زوجها كلَّ شيء عنها. ومِن ثَمَّ حافظت على سلامتها، منذ وفاة باترسون، لترى كيف سيتصرَّف السيدان نيوتن عندما يحصلان على أموال التأمين، وقررت سرًّا طوال الوقت أنهما إذا خدعاها، أو لم يسلما لها ما اعتبرته نصيبها العادل، أو ما اتفق عليه زوجها معهما، فستبوح بالسر؛ وتُساعد رجال العدالة في وضع مالِكَي تلك الشركة فوق منصة الإعدام خارجَ سجن البلدة، حيث كان الجلادُ معروفًا في السابق بتنفيذه حكم الإعدام في عدد قليل من المآسي المروعة. وهكذا عندما حصل السيدان نيوتن على المال، طلبت منهما بجرأة أن تحصل على حصتها. فغضبا بشدة، وهدداها بمعلوماتٍ جنائية للتشهير بها، الأمر الذي أثار مخاوفها قليلًا؛ لأنها لم تكن ترى بوضوحٍ كيف ستُقيم قضيتها ضدَّهما. وقد كانت على دراية كافية بالقانون لتعلَمَ أنه في أيِّ إجراءات جنائية ضدَّها، سوف تُغلق فمَها، بسبب أحكام هذا الفرع من القانون الإنجليزي. لم يتطلَّب الأمرُ الكثير من تمالُك النفس من جانبها للحفاظِ على سرِّها لمدةٍ أطول، والتظاهُر، إن لم يكن بأنها راضية، فعلى الأقل بأنها متنازلة، عن نصيبها من المال المنهوب. ولكنها عقَدَت العزم على مقابلتي، كي أستطيعَ بمساعدتها أن أُوقِعَ بالمجرمَيْن، اللذين لم يكونا وفيين لميثاقهما الحقير، ومعاقبتهما بما يستحقان، إن لم يكن على جرائمهما الأصلية، فبسبب افتقارهما إلى شرفِ الحفاظ على العهد.

وهكذا استمعتُ إلى قصتها، ودوَّنتُ كلَّ التفاصيل التي روَتْها. ثم قدَّمتُ تقريرًا آخر للشركة، مرَّ بإجراءات تقريري السابق نفسها، وخرج بالنتيجة نفسها. فأدلة هذه المرأة كانت أدلةً فاسدة. وهي لم تكن تُريد في الواقع أن يجريَ تقديمُها. وارتجفَت خوفًا من أن يقتلها بعض شركاء السيدين نيوتن الآخرين، إذا تسبَّبت في تعرُّضهما للعقاب. لقد كانت تُريد «معاقبتهما دون تورُّطها هي في الأمر». وبدا لي وللمستشار الآخَر في شركة التأمين أنه مع الأدلة التي قدمتها، لم تكن محاكمة السيدين نيوتن تجربة آمنة تمامًا؛ وأنه من دون مثل هذا الدعم، ستصبح لائحة الاتهام وسيلةً بالغةَ الخطورة بالنسبة إلى الشركة.

لا داعي لأن نُشير إلى أنَّ ما كشفَت عنه هذه المرأة جعل حقيقة ارتكاب السيدين نيوتن للجريمة مؤكَّدة على نحو مضاعف بالنسبة إلينا؛ لكن كل ما لا يزال من الممكن القيامُ به هو المراقبة وانتظار فرصة أخرى لتقديم هذين الحقيرين إلى العدالة.

أوضحَت التفسيراتُ التي حصلتُ عليها من السيدة باترسون؛ أنه على الرغم من تعرُّض زوجها لضائقة مالية في الوقت الذي باعَ فيه المصنع، فإن جزءًا كبيرًا من الأموال المستحَقة عليه عبارةٌ عن أموال يحتفظ بها كوصي، والتي كانت لديه الإدارة الحصرية لها، لكونها مُودَعةً في صناديقَ وأسهم سكك حديدية وما إلى ذلك، بعد أن أخذ جميع الأوراق المالية منذ عدة سنوات من أيدي المحامين المعنيِّين في الصندوق. ولم يكن هناك مَن يُدقق في سوء تصرُّفه، ومن خلال وسيلةٍ بسيطة هي الاستمرارُ في دفعٍ على الفائدة، أفلتَ من اكتشافِ خدعته. وبعد فترة، اكتشف أنَّ الأمور قد خرَجت عن سيطرته، وأصبحَت وسائلُ إخفاء خدعته بشكلٍ دائم أكثرَ صعوبة بسبب تزايد حجمِها، وتضخَّمَت الخسائرُ في التِّجارة، وربما الفائدة على رأس المال المفقود، على نحو فظيع، فأخبر السيدين نيوتن بذلك، وابتكر ثلاثتهم مخططًا ماكرًا لبيع أسهمه المتداولة، والأصول، والسمعة الطيبة للعلامة التِّجارية، وما إلى ذلك، لتوسيع المباني، ثم حرق المصنع، وذلك لتحقيق مبلغٍ كبير من المال الجاهز؛ أكثر بكثير من قيمة الأشياء التي أمَّنوا عليها. وبهذه الوسائل كان يأمُل في استعادة منصبِه كوصي، ووضعِ مبلغٍ جيد من المال في جيبه؛ كما سيربح شريكاه، السيدان نيوتن، أرباحًا كبيرة إلى حدٍّ ما.

كان باترسون رجلًا غريبًا يميل إلى الاعتماد على نفسِه. علاوةً على ذلك، لم يستطع توكيل أيِّ محامٍ للدخول في مثل هذه الشراكة. ومن المؤكد تمامًا أنه لو كان بإمكانه إقناعُ أيِّ شخص في مهنة المحاماة بالانضمام إلى مثل هذا الاتفاق الخسيس، لكان الأكثرَ حقارةً بين المحامين الحقيرين. كان من المحتمَل أنه يعرف جيدًا كيفيةَ تحصين نفسه، وكذلك كيفية ابتلاع نصيب الأسد من المال المنهوب والاحتفاظ به. كلُّ هذه الأمور كانت واضحةً أمام السيد باترسون؛ ولذلك احتفظ بإيصالات الأمانة التي أعطاها له السيدان نيوتن في حوزته، ولكي يحميَها من السطوِ المخيف، أو سرقتها من منزله أثناءَ غيابه، إذا سنحَت فرصةٌ من أيِّ نوع، كان يحمل هذه الوثائقَ عادةً معه في محفظته عندما يُغادر المنزل. كانت هذه خُطةً خطيرة بالطبع لن يتبعَها أيُّ رجل نزيهٍ في وضع عادي؛ ولكن ربما، في النهاية، كانت الأكثر أمانًا لرجل مثل باترسون في موقفه آنَذاك.

علم السيدان نيوتن بوصاية باترسون الاحتيالية. إذ كانت لديه ثِقةٌ كافية فيهما؛ ومِن ثَمَّ أطلعهما على جميع المعلومات تقريبًا التي مكنتهما من إبقائه تحتَ سيطرتهما. وبالطبع عَلِمَ باترسون أيضًا بالمطالَبة المبالَغِ فيها التي قُدِّمت إلى شركة التأمين، بِناءً على قوائم الجَرْد والأوراق التي قدَّمَها لها بشأن نقلِ مِلكية المصنع. ومن الصعب القولُ إن أحد الطرَفَين كان متورطًا في الشرِّ بقدر أعمق من الآخر؛ على الرغم من وضوح أن باترسون، الذي وقفَ وراء الكواليس وحُجِبَ من قِبل المحتالَيْن البارزَيْن، كان متورطًا بشكل عميق، وربما أكثر عمقًا، في الخداع والحرق العمد أكثر من السيدين نيوتن. ولم يكن موقفُ الطرَفين بعضهما تجاه بعض مختلفًا تمامًا عن وضع اللصوص في العادة. كان لدى أحدهم سببٌ للخوف من الآخر، ونتيجةً لذلك تولَّدَت الغيرةُ المتبادَلة وانعدام الثقة والتوجُّس خيفة.

وهكذا بعد مغادرتِه فندقَ دوف؛ لم يكن لديَّ أدنى شك في أن السيدين نيوتن سارعا في الاتجاه الذي سلكه باترسون، نحو منزله، ونجحا في التغلُّب عليه؛ لكونه ثملًا جزئيًّا، وكان مِن السهل الإمساكُ به من قِبَل شريكيه، ومن المحتمل أن أحدَهما قد كتَم فمَ الضحية بينما استولى الآخَرُ على محفظته بسرعة، وأخَذ منها الموافقاتِ وإيصالاتِ الأمانة التي منَحاها إياه مقابلَ نقل مِلْكية المصنع. وبعد ذلك ألقياه في الماء. وعند انتشال الجثةِ من القناة وتفتيشها، عُثِرَ على محفظةٍ في جيب القتيل الذي حرَّض على جريمة الحريق، وفيها جميع الأوراق التي كان معروفًا أنه يحملها باستثناء الموافَقات، التي كان فقدانها أمرًا مؤلمًا للسيدة باترسون.

لقد أوضحَتُ أن السيدين نيوتن لم يعلما بمعرفة السيدة باترسون بتفاصيل مخططهما، وأنهما تخيلا أن زوجها لم يُخبرها، وأن زوجها، إمعانًا منه في التثبت كحال جميع المتشكِّكين، أخبرهما بأنه لا يُطْلِع زوجته على مثل هذه الأمور. فكان كثيرًا ما يقول، عند ذِكْر اسم السيدة باترسون في محادثاتهما قبلَ الحريق وبعده، إنه: «لم يأتَمِن امرأةً على سرٍّ أبدًا مهما كانت أهميتُه؛ لأنها بالتأكيد ستُثرثر أو تُفشِيه.» ومع ذلك، وكما قلت، فقد كان يكشفُ لها طوال الوقت عن تفاصيلِ المؤامرة والمكيدة. إذ أخبرَها بدقةٍ عن كلِّ الظروف، وعرَفَت كل شيء عن إجراءاتهم من البداية إلى النهاية مثلما عرَفها أيٌّ من السيدين نيوتن.

وبعد وفاة زوجِها، وقبل أن تطلب مساعدتي في أزمتها الطارئة، استشارت المحامين الجنائيِّين المعروفين، في شركة «ليفي ليفي براذرز آند صنز» للمُحاماة الذين يتصوَّرون أنَّ المبالغة في الصمت تُجسِّد جوهر الحكمة أو أعلى درجاتها (باستثناء عندما يحضرون إحدى محاكمات محاكمات الشرطة، ويعتقدون أن الاستعراض ضروريٌّ لإثبات مهارتهم لعالَم قرَّاء الصحف، ليكون بمثابة إعلان عن شركتهم في السطر نفسه). ولذا نصَحوا السيدة باترسون أن تنتظر وتصمُتَ مؤقتًا. وقد فعلت ذلك حتى علمت أن المال قد سَدَّدته شركة التأمين، وأبلغت بعد ذلك محاميها البارعين. وعندما سمعوا عن هذا الوضع من موكلتِهم، أخبَروها، لربما، بحِكمةٍ ودهاء أن الوقت قد حانَ الآن للتحرُّك، وأنهم هم من عليهم التحرُّك، وأنه من الأفضل لها أن تسلم لهم أمرها وتذعن لما يملونه عليها. لهذا وافقَت على الفور؛ لأنها، كما أوضحت، كانت مرتعبةً من السيدين نيوتن. وهي لو لم تكن مُدرِكة أن لديها مَيْزةً في معرفتها بمؤامرتهما، وأنهما لا يتصوران في الوقت الحالي أنها على دراية بجريمتهما، لكانت قد ارتعدَت خشيةَ أن يقودهما جشَعُهما إلى قتلِها كما قتَلا زوجها منعًا من إفشاء المزيد عنهما.

لكن تصرُّف محاميها لم يكن رائعًا أو بارعًا على ما أعتقد. شيءٌ واحد يُمكن قوله؛ هو أن هذين السيدين لديهما قدرٌ هائل من الأعمال المربحة للغاية، وأن هذا، حسبما أعتقد، لا يدفعهما إلى التفكير مليًّا في أيِّ شيء لا يدر عليهما ربحًا. فعلى سبيل المثال، عندما يُلقَى القبض على مزوِّرٍ بالجملة، أو مزيِّفِ عُملة بطريقة تِجارية واسعةِ النِّطاق، أو بعض النشَّالين أو مُمارسي السطو، أو عضو في عصابة، فإنه يستدعي على الفور السادة «ليفي ليفي براذرز آند صنز» للحصول على أفضلِ خدمة، ويدفع لهم مبالغَ كبيرة. ومِن ثَمَّ يسمع السادة ما يود قوله. ويحضرون إلى محكمة الشرطة، ويرهبون شهود الادِّعاء، ويُدْلون بكلِّ قول يُمكن تصوُّره حول احترام مُوكلِهم في الحدود التي تسمح بها الأدلة؛ وعلى الرغم من أن المجرم عادةً ما يُحال في هذه القضايا إلى المحاكمة، فإنه يذهب إلى السجن مبتهجًا باعتقادٍ راسخ بأنه قد حصَل، في جميع الأحوال، على أفضل محامين جنائيِّين في البلاد ليُدافعوا عنه. وعندما يَمثُل المتهَم للمحاكمة، يكون السادة «ليفي ليفي» قد انتزعوا من السجين أو أقاربه أو معارفه أو عصابته مبلغ مائة جنيه أو مائتين أو أكثر، ويقدم هؤلاء المحامون مذكرةً أو مذكرتَين بملخص وقائع الدعوى، والتي لا تتضمن سوى بعض نسخ من الإفادات التي أُخذت أمام القضاة، لتقديهما إلى المستشار القانوني، وعلى ظهر تلك المذكرات يجري تظهيرُها فُرادى، «السيد نوكشس ساوند، عشرة جنيهات»؛ و«السيد مودست إمبتيبيرس، جنيهان». ربما يحاول أول هذين السيدَين أن يعثر على ثغرةٍ في لائحة الاتهام، التي لم تكن مفيدة جدًّا للسجناء منذ عدةِ سنوات؛ لأنه إذا كانت الثغرة صغيرة، وإذا لم تقتنع المحكمة بأن لائحةَ الاتهام، كما هو واضح، تصفُ جريمةً مختلفة عن تلك التي قُبِض على السَّجين بسببها، أو أُعِد لمواجهتها، فإنها تُعدَّل في المحكمة لمعالجة الخلل الذي جرى اكتشافه بفضل الفِطْنة — العادية — التي يتمتَّع بها السيد نوكشس ساوند. أو قد يرفع السيد ساوند بشتى الطرق أمام محكمة الاستئناف الجنائي، كي تُحال القضية من المحكمة الأدنى إلى المحكمة الأعلى وعبر هذا المسار يحصل السادة «ليفي ليفي آند صنز» على مبلغٍ كبير آخَر من المال. ومِن ثَمَّ فإنه في الوقت الذي يُحققون فيه مكاسبَ هائلةً من خلال عمليةٍ سهلة للغاية، لا تنطوي على أي مسئولية ولا تتطلب جهدًا ذهنيًّا كبيرًا — إذ إن السادة ليفي ليس لديهم تقريبًا أيُّ قدرٍ من الكفاءة الذهنية رغم كثرة عددهم — فإنهم ليس لديهم أيُّ استعداد لتحمُّل الكثير من المتاعب أو «تجشم الكثير من العناء» حتى في ظلِّ ما قد يُمثل للمحامي العادي إغراءً بالتكاليف السخية، على حدِّ قول أحدهم.

ومِن ثَمَّ كتب السادة «ليفي ليفي براذرز آند صنز» رسالةً إلى السيدين صاحبي نيوتن براذرز، ذكَروا فيها أن أحدَ العملاء قد وكَّلَهم واستشارهم بشأن مسألةٍ ذاتِ صلة بالسيدين صاحبي نيوتن براذرز، وأن السادة ليفي يُسعدهم مقابلةُ السيدين صاحبي نيوتن براذرز.

تلقَّى السيد ألبرت نيوتن هذه الرسالةَ وفتحَها. وعندما أبلغَ أخاه بها، قال له: «إن الأمر يُثير الشكوك»؛ ولذا قرَّرا أنه من المستحسَن استشارةُ محامٍ قبلَ المقابلة. كان من الممكن أن يذهبَ السيدان نيوتن إلى السادة «ليفي ليفي براذرز آند صنز»؛ ولكن من أجل اتِّخاذ الحيطة حيالَ الخدمات المِهْنية التي يُقدِّمها هؤلاء المحامون المشهورون بالخداع، استشار السيدان صاحبا نيوتن براذرز محاميًا آخرَ على شاكلةِ السادة ليفي، وقد يكون أو لا يكون، حسبما أظن، أحدَ أقرباء أعضاء المحكمة المركزية الجنائية لإنجلترا وويلز «أولد بيلي». وقد قابل السادة ليفي، وكانت النتيجة أن السيدة باترسون، عندما قابلتهم في المرة التالية، قيل لها إنها «قضية خطيرة»، وإنهم «لم يتوصَّلوا إلى طريقةٍ للتعامل معها دون مخاطرة». وتحدَّثوا إليها بلُغة الحكمة المهنية وغير المهنية أيضًا. وقد قالوا شيئًا عن الرائحةِ الكريهة التي تفوح من العمَلية، واستخدموا ملاحظاتٍ حكيمةً أخرى غيرَ متكافئة. وعلى الرغم من ذلك لم ينكسر قلبُ الأرملة، لكنها بالتأكيد أُحبِطَت وغَضِبت للغاية.

تعهَّدَت السيدة باترسون بالانتقام، لكن في صمت. أصبحت عازمة على المضيِّ قُدمًا في الانتقام من شركاء زوجها في عملية النصب والحرق العَمْد، كانت تريد أن تثأرَ من قتَلتِه، لكنها اختارَت الانتقامَ من كلِّ هؤلاء بالطرق القانونية. لقد قادها هذا المنعطفُ الجيد من التفكير للتَّواصل معي في النهاية، وقد أخبرتُ القارئ بالفعل بالنتيجة الفورية.

يؤسِفُني القول إن الاعتقاد السائد في البلدة التي يوجد بها مصنعُ أغطيةِ الرأس، كان مَشوبًا إلى حدٍّ كبير بالتعصُّب أو الخرافة، وهو ما ساعدَ بشكلٍ ملموس الخططَ المستقبلية للسيدين نيوتن. ومِن ثَمَّ أصبحت خيانةُ باترسون للأمانة وخسائره في التجارة معروفةً للجميع. كما أن اندلاع الحريق بعد وقتٍ قصير من إبرام عقدِ نقل مِلكية المصنع، ثم انتحار المالِك السابق — كما قيل — قد أكَّدا لجميع الناس هناك اعتقاد السيدين نيوتن أن تعويذة، أو سحرًا، أو تأثيرًا مميتًا من نوعٍ ما، قد أُلقي على المصنع. لذلك، لم يَبدُ إيمان السيدين نيوتن بتلك الخرافة مستغرَبًا. وقد تساءل عددٌ قليل من الناس عن سبب عزم شركة السيدين نيوتن على عدم استئناف العمل هناك. حيث كانا راضيين عن سداد تلك الديون لأنهما تعهَّدا أمام البلدة، بإظهار القليل من اللطف تجاهَ عددٍ من العمَّال الواقعين في ضائقةٍ شديدة، لكنَّ شركة التأمين وحدها هي التي ارتابت؛ وبعد أن اكتسَبا سُمعة طيبة للغاية بهذه الطريقة، غادَرا البلدة إلى لندن، عازمَيْن، كما قالا، على الشروع في نوعٍ آخرَ من المشاريع.

وهكذا واصلتُ مراقبة كلا المجرمَين عن كثب، وعرَفتُ كلَّ تحركاتهما، لكن ما زلت لا أستطيع، لمدَّة طويلة، العثورَ على دليلٍ قاطع لتبرير الملاحَقة القضائية من قِبَل شركة التأمين. وعلى الرغم من ذلك كان من بين الأشياء التي اكتشفتُها، وجودُ مجموعة وفيرةٍ من الروابط في سلسلةٍ من الأدلة التي كنتُ على ثقة من أنها ستُثبت وقوعَ جريمة كبرى؛ وعلى الرغم من أن شركة التأمين التي وظفتني، قد أوشك صبرُها على النَّفاد، مِثلي تمامًا، لم أشكَّ أبدًا في أن النتيجة ستكون شنق السيدين نيوتن، أو على الأقل إدانتهما الأكيدة بالسجن مدى الحياة.

لقد تأكدتُ أيضًا من أن هذَيْن الشريرَيْن كانا متورطَيْن بطرقٍ مع عصابة لعبت لسنواتٍ عديدة ماضية، ولسنوات عديدة بعد تاريخ هذه الرواية، دورًا بارزًا في كلِّ الجرائم الكبرى في لندن والعديد من المقاطعات أو كانت المُتسبِّبةَ فيها. ويبدو أن السيدين نيوتن كان لديهما قسمٌ خاص للأعمال الإجرامية. على الرغم من تورُّطِهما في قضية تزويرٍ أو اثنتَين، في إحدى منشَآت السِّكك الحديدية، وقضية سَطْو على نطاقٍ واسع، فإن تخصُّصهما المفضل كان إشعالَ الحرائق. فقد ثبَت تورُّطهما في حريقٍ هائل في وايت تشابل، وآخرَ في مانشستر، وثالثٍ في ليفربول، على حدِّ اعتقادي.

وبعد حوالي ١٦ شهرًا من الانتظار والمراقَبة — سافر السيدان نيوتن خلالها في رحلة أو رحلتَين للاستمتاع في أوروبا، وأقاما في عواصمَ مختلفةٍ في شقق مفروشة فاخرة، وأنفقا ببذخٍ على شراء الأزياء من الخيَّاطين — تأكدتُ من عزمِهما على استئناف أعمالهما.

ذهبَ أحدُهما، وهو السيد هنري نيوتن، إلى غرب إنجلترا، في البلدة «بي» واشترى منزلًا كبيرًا ومتجرًا هناك، وافتتَحه متجرًا لبيع المقطوعات الموسيقية وآلات البيانو. وبجوار المبنى الجيِّد الواسع الذي اشتراه السيد هنري نيوتن، كان يقع مبنًى صغيرٌ ضئيل، ولم يكن بأيِّ حال من الأحوال جميلًا. ولكن هذا لم يمنع العثورَ على مستأجِرٍ له قبل نحو شهرٍ أو ستةِ أسابيع من شراء السيد نيوتن للمبنى المجاور الأكثرِ فخامة. وقد افتتح المنزل الصغير متجرًا متواضعًا يديره رجل عجوز وامرأة. كانا يبيعان الحلوى والفواكهَ وكتب الأطفال وما إلى ذلك. وقد اشتكى نيوتن إلى الوكيل من الطبيعة المتدنية لهذا المتجر، وذهبَ إلى حدِّ التفاوض مع صاحب المتجر الصغير من أجل التنازُل عن استئجاره للمبنى؛ لكن المفاوضات توقفَت نتيجةَ مطالبة صاحب المتجر الصغير بمبلغ اعتبره السيد نيوتن باهظًا للغاية. وأعلن السيد نيوتن أنَّ لديه اعتراضًا تامًّا، من حيث المبدأُ، على خداعه أو سرقته بهذه الطريقة. وبدلًا من الخضوع للابتزاز الجسيم من صاحب المتجر الصغير، قال إنه سيتحمَّل الإزعاج، على الرغم من أنه سيَتعارض مع الأعمال المحترمة التي ينوي القيامَ بها.

وهنا يجب أن أُوضح، أن السيد نيوتن لم يظهر في البلدة باسم نيوتن. لكنه عُرِف هناك باسم «كيلينج وشركاه، لتصنيع آلات البيانو وبيعها بالجملة، وتوزيعها والتجارة فيها». وأطلق على متجرِه اسم «تيمبل أوف ذا ميوزيز»، وكان رائعًا للغاية.

أما السيد ألبرت نيوتن فقد ظل في لندن. وبدأ أعمالَه، تحت عنوان «كروس وشركاه»، حيث أصبح «وكيلَ سمسرةٍ عامًّا ومستوردًا وتاجرًا»، في مكتبٍ بالقرب من تاور هيل، وسرعان ما وجد نفسَه منخرطًا في عمليات مكثَّفة في الداخل والخارج. وكذلك عمل مستشارًا لأخيه السيد كيلينج.

لم يكد السيد كيلينج يفتح مَبْناه حتى أعلن عن نيَّته في التأمين على «تيمبل أوف ذا ميوزيز». وهكذا تَرك العديدُ من الوكلاء المحليين لشركات التأمين النشراتِ ومطبوعاتِ الدعاية في متجره، ودَعَوه بذلك إلى التأمين على حياته أو ممتلكاته أو كلَيهما. فأجرى مقابلاتٍ مع اثنين أو ثلاثة من الوكلاء حول الشروط، وكان شديد التدقيق في مقارنة الأسعار المختلفة لمكاتبهم، وتواريخ تأسيسها، والمكانة التي تتمتع بها إداراتها، وجميع الأشياء الأخرى التي يودُّ طالب التأمين الحصيفُ أن يكون على علمٍ جيد بها. كانت النتيجة أو الخلاصة، أنه أجرى التأمين من خلال وكيلٍ محلِّي لأحد أقدم شركات لندن (لا داعيَ لذِكر اسمها في الوقت الحالي)، على الرغم من أن ذلك كلَّفه مبلغًا يَزيد قليلًا على ما طلبه وكيلُ شركةٍ حديثة؛ لأنه لا يؤمن بالمخاوف غيرِ المُبرَّرة. وقد اعتبر الوكيل، الذي استفاد من ذلك، أن هذا القرارَ دليل على الحكم العمَلي السديد للسيد كيلينج.

ومِن ثَمَّ وصلَت عدةُ آلات بيانو، وبعضُ طرودِ المقطوعات الموسيقية الكبيرة، وسِلَع أخرى، نُقِلت على النحو الواجب من محطة السكة الحديد إلى «تيمبل أوف ذا ميوزيز»، بواسطة عمَّال السكك الحديدية، الذين عادةً ما يُخفِّف إجهادُهم القليل من البقشيش من السادة كيلينج وشركاه.

وقد أحضر السادة كيلينج مساعدًا وحمَّالًا من لندن كي يعمَلا في المتجر. حيث قال المدير إنه لا أحد سِوى رجالِ لندن يُمكنه أن يفهمَ طريقته في العمل؛ وإنه على الرغم من محبته لسكَّان البلدة «بي» (لا سيما الطبقات الراقية)، فإنه لم يكن بمقدورِه التعامُل مع المساعدين التِّجاريين من تلك البلدة.

بعد فترة وجيزة من افتتاح «تيمبل أوف ذا ميوزيز»، أُصيبَ المالِك بالصدمة بسبب وضعِ كُشك صغير خارجَ المنزل أو الكوخ المجاور، لبيع مشروب جعة الزنجَبيل وغيرها من المرطِّبات الزهيدة، التي، التي بدا في الواقع أن الجار يعرضها بنوع من التباهي المبتذَل، كما قال كيلينج، كوسيلةٍ لإزعاجه، حتى يُقدِّم سعرًا باهظًا للتخلُّص من تلك الجيرة. ومع ذلك، لم ينجح صاحبُ المتجر الصغير في تحقيق غايته. فعلى الرغم من أن استياء السيد كيلينج واشمئزازه كانا شديدَين، فإنه لم يكن ليشتريَ الكفَّ عن الإزعاج مقابل السعر الذي طلَبه الجار. وقد أراد اللجوء إلى القانون ورفع شكوى ضدَّ الرجل العجوز، فاستشار المحاميَ الرئيسي في المدينة حول دعوى أو لائحة اتِّهام؛ لكنه أُبلِغَ بأن الإزعاج لم يكن كافيًا لمنحه الحل الذي طلبه.

ويبدو أن تجارة شركة كيلينج وشركاه لم تلقَ الرَّواج المطلوب. إذ بِيعَت فقط بعضُ المقطوعات الموسيقية. وجاء الكثير من الناس لرؤية آلات البيانو؛ لكن أسعارها لم تشجع العملاء إلى حدٍّ ما. كان السيد كيلينج يشعر بالاشمئزاز من حينٍ لآخر، وأكَّد لزوَّاره أنه لا يستطيع بيعَ مثلِ هذه الآلات بأسعار زهيدة؛ نظرًا إلى أنها ذاتُ جودة عالية، على الرغم من علمه بأن مثيلاتها الرائجة المنخفضة الجودةِ يمكن شراؤها بهذه الأسعار.

في أحد الأيام، كان هناك بيعٌ بالحسومات في لندن لمخزونِ شركة مصنِّعة لآلات البيانو أُعلِن عنه في الصحف اليومية. حيث تقرَّر عقدُ مزاد يُحدَّد له موعدٌ لاحق، ما لم يُبَع المخزون بالكامل مسبقًا بموجب عقدٍ خاص، إلى جانب عقد الإيجار والسمعة التِّجارية لمباني الشركة المصنِّعة. وقد تلقى السيد كيلينج برقية من السادة كروس، هذا نصُّها: «برجاء الاطلاع على صحيفة «تايمز». إعلان بيع المخزون والسمعة التِّجارية المملوكَين بالسيد …»

بعد تلقي هذه البرقية، كان السيد كيلينج متلهفًا للاطلاع على صحيفة «تايمز»، التي وصلَت في موعدها عند منتصف النهار تقريبًا. لكنه أرسل إلى محطة السكة الحديد مرتَين أو ثلاثَ مرات، وفي النهاية ذهب بنفسه للحصول على نسخة مبكِّرة من الصحيفة. وفي طريقه إلى هناك، التقى بواحدٍ أو اثنين من معارفه (أحدهما كان مساعدي، وإن لم يفطن إلى ذلك)، حيث أخبرهما أن هناك فرصةً رائعة، حسَب اعتقادِه، لشراء مخزونٍ كبير، وربما الحصول على أعمال تِجارية من الدرجة الأولى في البلدة، يُمكن أن تُضاف إليها تِجارتُه الريفية في «تيمبل أوف ذا ميوزيز» مع عدة مميزات. كان يعتقد أيضًا أن بإمكانه الحصولَ على مخزونٍ من آلات البيانو، بجودةٍ أقلَّ مما لديه الآن، التي قد يُقبِل سكان البلدة «بي» على شرائها بالسعر المنخفض الذي يُمكن أن يقدِّمه لهم. ومِن ثَم بعد أن اشترى الصحيفة، وحرَص على أن يوضِّح لعددٍ من الناس السببَ الدقيق لرحلته إلى لندن، لم ينتظر سوى وصول القطار التالي، واستقلَّه إلى البلدة. لقد كان يتوقع أن يعود في اليوم التالي، لكنه وجد هذا مستحيلًا، حسَبما أوضح في برقية إلى مساعده أو البائع، لكنه قال إنه سيعود بكلِّ تأكيد في اليوم الذي يليه.

وفي الليلة الثانية بعد رحيل السيد كيلينج إلى لندن، وقبل منتصف الليل برُبُع الساعة، انطلقَت صرخةُ استغاثة بسبب نشوب حريقٍ في البلدة «بي». حيث اندلعَت النيران في مؤخرة الكوخ الصغير، وتصادفَ أن ذلك المكان البائس ملاصقٌ بالفعل لمبنى «تيمبل أوف ذا ميوزيز». وهناك مبنًى خارجي خشبي خلف المبنى الصغير يُلاصق المبنى الخلفي لمتجر تيمبل، حيث تُخزَّن أكياس التغليف وشفاطات المشروبات، وما إلى ذلك.

وسرعان ما دمَّرت النيرانُ متجرَ الحلوى ذا السقف المصنوع من القش، ولم تترك شيئًا سِوى كومة من الرماد كنُصْب تَذكاري لدَماره. ورغم ذلك تمكَّن الرجل العجوز وزوجتُه من الهرب بسرعة؛ إذ اندلع الحريق في الجزء الخلفي من المنزل، وكانا غيرَ مستغرِقَين في النوم. إن قلةً من كبار السن، إذا جاز لنا أن نُصدِّق علماءَ وظائف الأعضاء، يستغرقون في النوم؛ ولذا يصبح الشكُّ في أن صاحب متجر الحلوى وزوجته هما مَن أشعلا الحريق عن عَمْد، على أساس هروبهما، أمرًا سخيفًا بقدرِ ما هو غيرُ عادل. علاوةً على ذلك، فإنَّ الرجل العجوز غيرُ مؤمَّن عليه. فما الدافع الذي قد يكون لديه لإشعال النار في متجره؟

ولم يكن مصير «تيمبل أوف ذا ميوزيز» أفضلَ بكثير من الكوخ. ورغم أن الجدران وبعضَ العوارض ظلت قائمة؛ لكنها تعرَّضَت للاحتراق التام، واحترق المخزون والأثاث بالكامل.

وتصادفَ لسوء الحظ أن البلدة «بي» ليس بها أجهزةٌ يُعتمَد عليها لإطفاء الحريق. كان الوضعُ أسوأ في هذا الصدد من البلدة التي كان يقع فيها مصنع السيدين نيوتن لأغطية الرأس. فعلى الرغم من وجود عرَبة إطفاء في البلدة «بي»، فلم يكن من العمَلي تشغيلُ هذه الأداة المجنونة. إذ مرَّ وقتٌ طويل قبل أن يُفتَح بابُ غرفة المحرك لعدم وجود المفتاح. ثم تبيَّن أنه من المستحيل تجميعُ أجزاء المحرك معًا. وكان من الممكن أن يتدمَّر نصف البلدة قبل أن يُصبح جاهزًا للاستخدام. فبعض أجزاء الخُرطوم كانت مفقودة؛ والمفصلات كلُّها صَدِئة، والأجزاء المعدِنية متَّسخة ومتآكلة. كان المحرك، في الواقع، حُطامًا، وفي مرحلة متقدمة من التآكُل. ولولا هذا، لكان من المحتمل ألا يتعرَّض «تيمبل أوف ذا ميوزيز» إلى هذا القدر من الضرر مثلما حدث؛ ولكن لحسن الحظ لم تُفقَد أرواحٌ في أيٍّ من المبنيَين.

تلقى السيد كيلينج برقية هُرِع على إثرها إلى البلدة مستقلًّا القطارَ السريع، وتوجَّه إلى موقع ما أسماه مصيبتَه، وتلقى تعازيَ كلِّ مَن هناك، حتى منافسيه ومعظم الجيران الغيورين.

إن الرجل الوحيد الذي لم يستطع فَهْم القضية، ولكن شكوكه، إن وُجِدت، لم تتخذ شكلًا محدَّدًا، كان وكيلَ شركةِ التأمين، وهو نائب أمين سجلِّ المواليد والوفَيَات والزِّيجات، وكاتِب الكنيسة، ومتعهِّد دفن الموتى، وتاجر الفحم، ووكيل السمسرة. أخبر هذا الرجلُ العجوز المحترم الجميعَ أنه لم يحترق منزلٌ واحد في البلدة «بي» منذ ٤٠ عامًا. وأنه هو نفسه ظلَّ وكيلًا لشركة التأمين لمدة ٣٤ عامًا. وعلى الرغم من أنه حصَّل أقساطًا لصالح وثائق تأمين الشركة لا تقل عن ١٠ آلاف جنيه، فإنه لم يُطلَب منه بموجب أيٍّ من تلك الوثائق التعويضُ ولو بشلن واحد.

يبدو أن الرجلَ العجوز المسكين كان يظن، أو قد يَحكمُ المرء من خلال طريقته أنه كان متأكِّدًا، أن المطالَبة بتعويضٍ قيمته ٣٠٠٠ جنيه، التي سيُطالب بها السادة «كيلينج وشركاه»، من أجل «تيمبل أوف ذا ميوزيز»، ستخرب شركة التأمين، وتقضي عليها تمامًا كوكيل. ومِن ثَمَّ كان حريصًا جدًّا على شرح كلِّ شيء عن القضية؛ لتوضيح العناية التي أجرى بها فحصَ المبنى؛ وإظهارِ مدى الوضع المؤسِف الذي عليه الموقع والمبنى المجاوِر لمتجر «تيمبل أوف ذا ميوزيز»، وإثبات مدى ضآلة احتمالية توقُّع اندلاع حريقٍ في ذلك الكوخ؛ وكيف أنه، لو كان فكَّر في شيء من هذا القَبيل، لأمكَنه أيضًا استنتاجُ أن مبنى «تيمبل أوف ذا ميوزيز» لم يكن ليشتعلَ قبل أن يُتمكَّن من إطفاء ألسنةِ اللهب في المبنى الآخر.

سافر الوكيلُ في رحلة خاصة إلى لندن من أجل مقابلة مجلس إدارة شركة التأمين؛ وقد التقى السكرتيرَ في مقابلةٍ كنتُ حاضرًا فيها. وقد اقترحتُ أنه لم يكن من الممكن تجنبُ الأمر، وأن مِثل هذه الأمور تحدث. فقال السكرتير: «أجل؛ هو لم يكن يعلم ولكنَّ مطالبةً كهذه كانت، على المدى الطويل، مُفيدة للشركة.» ثم واسَى الوكيلَ من خلال التأكيد أنه قد يُساعده في توسعةِ عمليات الشركة، وأنه قد يأمُل في تعويض الخسارة من خلال الأعمال الجديدة، وأنه، في الواقع، يحقُّ له، عند تقدير نتائج أعماله الخاصة مع الشركة، المطالبة بمبلغ أكبر لتعويض هذه الخسارة؛ لأنه خلال وكالته التي دامت ٣٤ عامًا قد حقَّق مكاسبَ كبيرة للشركة.

عادَ الوكيل القديم المسكين، الذي لا يُفيدني كثيرًا في تحقيقاتي، إلى البلدة «بي»، ومن دون أن يُدرك قدَّم لي خدمةً بسيطة من خلال التصريح بما قلتُه له أنا والسكرتير بأن الاقتناع الراسخ لدى الشركة أنَّ كلَّ شيء كان على ما يُرام، وأن نيَّتها هي سداد المطالبة بأكثرِ الطرق وُدِّيةً، وقد وصلَ التصريح إلى السيد كيلينج، ولم يكن هناك شكٌّ في أنه اطمأنَّ به كثيرًا بقدر اطمئنان الوكيل نفسه.

يبدو أنَّ أحدَ الأطراف في البلدة «بي» سيُغفَل حقُّه على الأرجح، وهو الرجل العجوز وزوجته اللذان كانا قبل الحريق يبيعان الحلوى والفاكهةَ بجوار «تيمبل أوف ذا ميوزيز». لكن ظروفُ الزوجَين المحترمين بعد الحادث قد دفعتهما إلى طلب المساعدةَ من سكان المدينة بشكلٍ واضح إلى حدٍّ ما. حيث طُبِعت إعلاناتٌ صغيرة في البلدة، وأخذها الرجل العجوز إلى مختلِف أصحاب المتاجر وغيرهم من السكان، حيث يُوضِّح الإعلانُ الحادثَ المؤسف الذي أحرَق منزله، ودمَّر مخزونه، وتركه متسولًا؛ لأنه للأسف لم يكن مؤمَّنًا عليه. وقد حظيا بقدرٍ كبير من التعاطف في البلدة وخارِجَها، كما حصل الزوجان الفقيران على ما يقرب من ١٠٠ جنيهٍ عن طريق التبرعات. فقد ألقى رجلُ دين خُطبةً في أكبرِ كنيسة في البلدة «بي» عن الرجل العجوز خصيصى، وقدَّم القَسُّ المحترم وصفًا مثيرًا عن معاناة الفقراء وحالتهم البائسة، بحيث جمَع له مبلغًا جيدًا جدًّا في الأطباق عند باب الكنيسة أثناء مغادرة المصلين للصرح المقدَّس.

غير أن الرجل العجوز لم يبدأ العملَ على الفور؛ لأن المنزل أو الكوخ لم يُعَد بناؤه على الفور. حيث أراد مالِكُ الأرض أن يبنيَ عليه مبنًى أكثر رقيًّا من ذلك الذي احترَق، ولم يستطع المستأجرُ السابق معرفةَ ما إذا كان سيتمكَّن من أن يُشغِّل الموقع القديم أم لا.

أما السادة كيلينج وشركاه، أصحاب متجر «تيمبل أوف ذا ميوزيز»، فقد اشتكَوا بمرارةٍ شديدة من الدمار الذي لَحِق بمبانيهم ومخزونهم، بينما هم على أعتاب الانتفاع برأس مالهم المستثمَر وأعمالِهم خلال الموسم الكئيب. ولذا تقدَّموا بشكوى رسميةٍ إلى السُّلطات المحلية بخصوص تشييد المبنى، وأكَّدوا أنه إذا كانت الترتيباتُ المماثلة لتلك التي تُتَّخَذ في العاصمة قد اتُّخِذت في البلدة «بي»، وهو ما يعني، على سبيل المثال، وجود جدران فاصلة لائقة بين جميع المباني في البلدة «بي»، فلم تكن النِّيرانُ المشتعلة في الكوخ المجاور لتمتدَّ وتَطولَ إلى متجر «تيمبل أوف ذي ميوزيز». والحق أن السيد كيلينج راح يبث شكوى شركائه على نطاقٍ واسع، على الرغم من أنه لم يتَّضح أبدًا مَن هم شركاؤه هؤلاء. كما علَّق أيضًا، بالطبع، بحرارة مشروعة على الحالة البائسة لعرَبة الإطفاء في البلدة، وعلى الافتقار إلى وسائل إطفاء الحرائق والسيطرة عليها قبل أن تُدمِّر المبنى.

لعله من غير الضروري القول إنني بعد هذا الحريق تابعتُ تحقيقاتي بعناية شديدة، وفرَضتُ مراقبة صارمة على السيد كيلينج والسيد كروس.

ومِن ثَمَّ نصحتُ الشركة باتباع مسار جريء، لكن المحامين الذين قُدِّمَت لهم هذه النصيحة مباشرةً، في المقام الأول، تردَّدوا في تأييدها. كما حذا سكرتيرُ الشركة حذوَهم بهذا الخصوص، وكنتُ قد قابلته في أكثرَ من مناسبة؛ لغرضِ فحصِ الأوراق المرسَلة من قِبَل السادة كيلينج وشركاه، عند تفعيل سرَيان التأمين. ومع ذلك، طُلِبَ مني متابعة تحقيقاتي، وقد فعلتُ ذلك.

وأعقبَت ذلك مراسلةٌ بين السيد كيلينج وسكرتير الشركة بعد الحريق مباشرة. كان السكرتير مراوغًا إلى حدٍّ ما، بينما كان السيد كيلينج صارمًا. وبعد بعض المناورات وتبادُل رسالةٍ أو رسالتَين، اعترت السكرتير نوبة من نفاد الصبر، وأخبر السيدَ كيلينج أنَّ الشركة لديها شكوكها بشأن صحة مطالبته، وأنه يعتقد أنها من الممكن أن تُرفَض.

وعند تلقِّي هذا التنبيه من السكرتير، استشاطَ السيدُ كيلينج غضبًا، وطلبَ مقابلةَ مجلس الإدارة.

إنَّ ثرثرة هذا الوكيل العجوز قد منحت هذا الرجل الثقة. فاعتقد أنه رأى في ذلك، وفي ظروفٍ أخرى من حوله، ما يكفي لتأكيد اعتقادٍ راسخ أن جريمته لم تكن موضعَ شُبهة. أو ربما حاجج نفسه بأنَّ السلامة تكمن في التصرفات الجريئة والنبرة الواثقة. ولذلك تبنَّى هذا النوعَ من النبرة والتصرف. جاء الرد على طلبه بأنه لا يُمكنه مقابلة مجلس الإدارة، لكنه قد يقابل السكرتير في أي يوم وفي أي ساعة يختارها.

يجب أن أوضحَ أنَّ هذه المقابلة كانت جزءًا من خُطتي. إذ كان السكرتير مصرًّا على رفض مقابلة مجرم الحرائق هذا تمامًا، لكنني رفضتُ اعتراضاته على الاجتماع.

وكنتُ قد عقَدت، قبل موعد إجراء هذه المقابلة، اجتماعَين أو ثلاثةَ اجتماعات متأنِّيةٍ للغاية وحذِرةٍ إلى حدٍّ ما مع محامي الشركة وسكرتيرها. وقد أصرَّ كلاهما على تبنِّي سياسةٍ حذرة للغاية. بينما أصرَرتُ على اتخاذ خطوات جريئة. فأوصيتُ بالقبض على السيد كيلينج في الحال، وقلت، دعمًا لهذا الإجراء، إنه من المحتمل، إذا فعلتُ ذلك، أن يهرب أعضاءُ عصابتِه الآخَرون، وهذا دليلٌ كافٍ على الإدانة، في جميع الأحوال، لدحض أيِّ مطالبة يمكن الحصول عليها في القانون العام بمبلغ التأمين. الحق أنني كنت أعتقد أنه لن تحدث أي محاولات لإنفاذ المطالبة في جميع الحالات. وحاججتُ بأنَّ هذه ستُصبح النتيجةَ النهائية، حتى لو أفلتَ السيد كيلينج من حُكم الإعدام أو السجن مدى الحياة؛ لكنني أضفتُ أنني أعتقد بوجود شك بسيط، وأنه إذا أُلقي القبض على السيد كروس والسيد كيلينج والعجوزَيْن، مستأجِرَي الكوخ، فيُمكنني الحصول على أدلة كافية لإدانة المجموعة؛ إذا لم يكن بأي طريقة أخرى، لا سيما باعتراف أحد أفراد المجموعة. ثم أضفت، لتوضيح الأمر أمام أصحاب العمل الذين يستمعون إليَّ، وباعتبار ذلك ذروةَ تسويغي المنطقي، أنني لم أُصادف بعدُ قضيةً قُبِض فيها على عصابة أو مجموعة كبيرة من المتحالفين في جريمة، ولم يكن هناك تبارٍ مِثالي بينهما في تقديم الأدلة. لم أتمكَّن من إقناع المحامي والسكرتير بإدانة العصابة، لكنهما وافقا على السماح لي بسلطة تقديرية واسعة إلى حد ما في محادثتي الشخصية إلى السيد كيلينج أثناء المقابلة.

في صباح أحد أيام الإثنين، عند الساعة الحاديةَ عشْرة، حضرَ السيد كيلينج إلى شركة التأمين. وبالطبع، بدا مختلفًا تمامًا عن السيد هنري نيوتن. حيث تحوَّل الوجه الحليق للسيد نيوتن إلى وجهٍ ذي لحية وشاربٍ مشذَّبين للسيد كيلينج. واستبدل بالزيِّ البسيط لصاحب مصنع أغطية الرأس، ملابسَ متأنقةً لمالِك متجر «تيمبل أوف ذا ميوزيز». قد يقول بعض الناس إنه قد بدا كرجلٍ نبيل، على الرغم من أنه بدا لعينيَّ على حقيقته تمامًا: نوع بارع ومثالي من الأشرار شديدي الدهاء. كان هادئًا وواثقًا من نفسه. وكنت على الأقل هادئًا مثلَه من الخارج، وأكثرَ هدوءًا في الداخل.

بعد محادثةٍ قصيرة بين السكرتير والمجرم، أشارَ فيها الأولُ إلى أن عناصر المطالبة التي يحاول استردادها غامضةٌ وغير مؤكَّدة، وقرر أنَّ الشركة ستطلب التحقيقَ بخصوصها، وأنه يعتقد أنها ستُقوِّض هذه المطالبة، وقد استخدم السيد كيلينج لغةً قوية حول الوشاية التي تحملها تلك التهديدات، وقال بالفعل إنه يجب أن يتخذ إجراءاته القانونية على الفور، وأنه يمكن للشركة أن تبذل قصارى جهدها أو تفعل أسوأَ ما لديها، لكنه سيبذل قصارى جهده لفضحها أمام العالم بأسره وتدمير مستقبل أعمالها؛ وعندها رأيتُ أنَّ الوقت قد حان للتدخل.

فتقدمتُ إلى الأمام، ونظرتُ إلى السيد كيلينج بثباتٍ في وجهه، ورأيتُ الخوف في عينَيه بينما كنت أخاطبه.

«اسمع أيها السيد. لقد حان الوقت لوضع حدٍّ لهذا الهُراء. وسواءٌ أكنت تعرفني أم لا، فأنا أعرفُك جيدًا، وأعرف كلَّ شيء عنك وعن العصابة التي تنتمي إليها. دعني أُخبرك، أنني أعرف كلَّ شيء عن ذلك الحريق في وايت تشابل، وما يكفي عن حريق برمنجهام؛ وما يكفي، على ما أعتقد، للزج بك في سجن بورتلاند لبضع سنوات بسبب تلك الحرائق في مانشستر وليفربول. لقد راقبتُ سجل جرائمك بأمِّ عينَيَّ لمدة طويلة، يا سيد نيوتن، أو كيلينج، أو روبرتس، أو جاميسون، أو أيًّا كان اسمك حقًّا؛ والآن أنصِت إليَّ جيدًا. لقد أفلتَّ بذلك المال من خلال حريقك بالقرب من دانستابل. افهم أنك محظوظ لأنك لم تُشنَق، مع شقيقك المخادِع ألبرت — أقصد السيد كروس — لقتل شريكِكما باترسون. واعلم أنه ليست نواياي الحسَنةُ هي ما سيسمح لك بعبور عتبة هذا الباب مرة أخرى؛ ولا أعرف حتى الآن ما إذا كان سيُسمح لك بفعل ذلك. اعلم أنني أعرف كل شيء عن تجرِبتك في البلدة «بي»، يا صاحب متجر «تيمبل أوف ذا ميوزيز». وأعرفُ مَن هم جيرانك، الرجل العجوز والمرأة. إنهما بيل سميث وزوجته تاجرا البضائع المسروقة في حارة روزماري لين. وأعرف ما فعلاه بالمال الذي حصلا عليه من تبرعات الكنيسة. لقد اشتريت تذكرة القطار إلى لندن أمس من عائدات الخطبة الخيرية، أيها الشرير البارع. أنا لم أكن من قبلُ سببًا في إعدام شخص؛ ولكنني أود أن أسلمك إلى حبل المشنقة، بقدرِ ما أرغب في الاستمتاع بعشاءٍ جيدٍ اليوم.»

وضعتُ ظهري على الباب الخارجي لمكتب السكرتير، لكي أجبر السيد كيلينج على الاستماع إلى كلِّ ما أريد قولَه. لذلك، كان مضطرًّا إلى الاستماع إلى كل ما كتبتُه هنا، وأكثر إلى حدٍّ ما مما أطلعُ القارئَ عليه. وأتخيَّل أنه كان من الصعب عليه التحكمُ في التعبير عن مشاعره؛ لكنه قام بذلك بشكلٍ جيد، وباستثناء القليل من تملمُلِ العينين، وحركةٍ عصبية طفيفة في الوجه. لم تكن هناك أعراضٌ واضحة للخوف، أو أي شيء من هذا القبيل، في صدره.

بعد حوالي نصف دقيقة من نهاية كلامي، كسَر الرجلُ حاجز الصمت — مضطرًّا إلى قول شيءٍ ما: «هذا سيئ للغاية يا سيدي؛ وعليك أن تتوقف عن مخاطبتي بمثل هذه اللغة.»

كنتُ أعرف ما تريده الشركة. لقد شرحت لهم، بالإضافة إلى ما وضحته بالفعل للقارئ، كيف تمكنتُ، بلا شك، من تتبُّع آلات البيانو حتى مصدرها، وأثبتُّ أنهم لم يُسددوا ثمنها بعد؛ أو أنها كانت من نوع متدنٍّ بشكل واضح، ولا تساوي ٢٥ في المائة من المبلغ المطلوب كثمنٍ لها عند البيع؛ وأنهم كانوا يقصدون فقط أن تصبح بمثابة غِطاء أو سِتار لمطالبة التأمين الاحتيالية. يمكنني في الواقع، بلا أي شك، الحصولُ على إدانة لهم بالحرق العَمْد في أي محكمة جنائية؛ لكنني علمتُ أن الشركة ترغب فقط في تجنُّب سداد مطالبةٍ احتيالية؛ وبما أن الشركات ليس لديها ضمير، ولا تهتم بمطاردة عصابة من مُشعلي الحرائق، أو القيام بأي شيء من خلال المنظور البسيط لخدمة السياسة العامة، ولمعرفتي بذلك، ورؤية النهاية الوشيكة للعبتي (دون الإساءة لأصحاب العمل)، وضعتُ ذراعي أمام مشعل الحرائق القاتل، وأعطيتُه كرسيًّا بأدب زائف، وسألتُ السكرتير إذا كان يسمح لي باستخدام مكتبه حصريًّا لبضع دقائق. فانسحبَ بناءً على هذا التلميح. وما إن غادر الغرفة — حيث لم يكن قد مرَّ على خروجه أكثرُ من دقيقة — حتى قلتُ للجاني: «بما أنك أتيتَ إلى هنا بدعوةٍ من السكرتير، فأنت حُر في المغادرة، لكنني سأعطيك مُهلةَ ساعتين من الزمن فقط. فأنا ضابط تحرِّياتٍ جنائية، وأظن أنك قد خمَّنت هذا، وربما تعجَّبتُ أنك لا تعرفني. والآن، لأكونَ صريحًا معك، يمكنني أن أقول إنَّ هذه الشركة، على ما أعتقد، قد ترضى بالسماح لك بالفِرار، لكنها لن ترضى بالسماح لك أو لعصابتك بفرصة الاحتيال على مُساهميها أو أي شركة ثانية مرةً أخرى. سنُراقب تحركاتك من لحظة خروجك عبر هذا الباب؛ وفي كل طريق ستسلكه، تأكَّدْ أننا نقتفي أثرَك، كما كنا منذ أكثرَ من عامٍ ونصف العام. وإذا كنتَ حكيمًا بقدر ما أظنك، فستخرج من البلاد في أقربِ وقتٍ ممكن؛ وإذا كنتَ ذكيًّا، فلن تعود مرة أخرى. اعلم أنني ليست لديَّ سلطة لأنْ أقول هذا، لكنني أقول ذلك على مسئوليتي الخاصة.»

فتحتُ الباب الذي يؤدي إلى بَهْو مكاتب الشركة. ونظرتُ إلى كيلينج، وقلتُ له آخرَ كلمة: «انصرف.»

ومِن ثَمَّ انصرف.

كان من دواعي سروري أن أُبلِغتُ في غضون أيام قليلة بأنه قد رحل على متن سفينةٍ بخارية من ساوثهامبتون إلى نيويورك. كما كان من دواعي سروري أن أعلن للشركة أنه في غضون أيام قليلة بعد ذلك غادر السيد كروس شواطئنا قاصدًا الميناءَ نفسَه عن طريق ليفربول. كما علمت أيضًا أن الرجل العجوز وزوجتَه الموقَّرَين في البلدة «بي» قد عادا إلى مكانهما القديم، وسُمِعَا يشكوان من أنَّ السيد كيلينج والسيد كروس قد «تخلَّيا» عنهما.

وهكذا وفَّرَت الشركة بالطبع ٣٠٠٠ جنيه. كما أثنى المحامي على مجهوداتي، وتلقيتُ تحياتِ السكرتير، وتلقَّيتُ مقابلَ أتعابي عن تسوية القضية. وبدا أنَّ السكرتير، الذي كان رجلًا نبيلًا للغاية، يعتقد أنَّ شيئًا ما على سبيل المجاملة كان مستحَقًّا لي أكثرَ من سداد أتعابي. وقال إنه سيعرض الأمرَ على مجلس الإدارة، وسيشعر بسعادةٍ شخصية إذا حضرتُ يوم الأربعاء التالي في تمام الساعة الحادية عشرة، كي يُقدِّمني إلى مجلس الإدارة، ولا شكَّ أنه سيحصل منهم على تعليماتٍ لمنحي مكافأةً على الخدمات التي قدَّمتها، ليس فقط لتلك الشركة، ولكن لجميع شركات التأمين ضدَّ الحرائق في العاصمة.

ومِن ثَمَّ قبلتُ هذه الدعوة وحضرتُ اجتماعَ مجلس الإدارة. حيث يتكوَّن المجلس من عددٍ كبير من الأعضاء، ولكن وصفهم جميعًا قد يكون أمرًا مملًّا. لكن أودُّ أن أقول إنَّ رئيس مجلس الإدارة كان رجلًا عجوزًا بدينًا.

وبينما كان السكرتير يشرح القضية بالتفصيل (لأنه يبدو أن مجلس الإدارة لم يكن يعرف الكثيرَ عن هذه القضية حتى تلك اللحظة، وقد نُفِّذ كل شيء بأوامرَ من السكرتير والمحامي، حسَبما أظن، وعلى مسئوليتهما الخاصة)، قاطعه هذا الرجلُ العجوز بملاحظاتٍ عميقة مثل «آه! لقد فهمت؛ قضية سيئة للغاية — يا له من حظ! — كان يجب أن يُشنَق ذلك الشرير — لماذا لم نُقاضِه؟ — أعتقد أنه كان يتعيَّن علينا مقاضاتُه!»

ومع ذلك، لم يكن من اللائق بالنسبة إليَّ أن أتدخَّل في المحادثة. لقد استمعتُ فقط. وفي الختام، قال السكرتير إنه قد طلبَ من هذا الرجل (يقصدني أنا) الحضورَ اليوم، حتى يحظى ببعض التقدير من أعضاء المجلس شخصيًّا عن تقديرهم لما قدَّمه من خدمات.

عندئذٍ خاطبني الرجلُ العجوز قائلًا: «نعم بالتأكيد؛ لقد أديتَ دورك جيدًا يا سيدي، وكنتَ بارعًا للغاية، أعتقد أنني يجب أن أُقرَّ بذلك.» ونظرَ حوله إلى الأعضاء الآخرين للحصول على إيماءة القَبول التي أُعطيت بالفعل.

قال عضوٌ متحمس وذكيُّ المظهر إنه يعتقد أنه يجب تقديمُ مزيدٍ من التقدير الجوهري لمثل هذه الخدمات كما وصفَها السكرتير، وأنه، لذلك، يجب عليهم التصويتُ لتوجيه الشكر إليَّ؛ وهو اقتراحٌ حصلَ على تأييدٍ من قِبَل عضو آخر، وأُقِر بالإجماع.

قال رئيسُ مجلس الإدارة، موجهًا حديثه إليَّ مرة أخرى: «كما ترى، لقد قدَّمنا لك تصويتَ شكرٍ.» فحيَّيتُه بإيماءةٍ بسيطة للرأس؛ فأنا لا أحب المجاملات بدرجة كبيرة.

ثم نهضَ عضوٌ آخر وقال: «أعلم أنَّ التصويت بالشكر هو أمر جيد جدًّا؛ لكن أعتقد أنه يجب علينا أن نمنح هذا الرجلَ بعضَ التقدير الجوهري لخدماته. وأنا فقط عضوٌ شاب في مجلس الإدارة. لا أرغب في نقل القرار بنفسي، لكنني أقترحُ عليك يا سيدي، كرئيس، إصدارَ قرار بمنح مكافأة مالية للضابط.»

قال الرئيس: «أنا لستُ مع هذا الاقتراح على الإطلاق. لقد عمل ببراعة كبيرة. لكنه لم يفعل سِوى واجبه في النهاية، مثلما نفعل نحن؛ ولا أعتقد أنه يتعيَّن علينا إنفاقُ أموال المساهمين في مجاملاتٍ لرجال لمجرد قيامهم بواجباتهم.»

سمعتُ هذه الملاحظة وأنا أشعر بشيء من عدم الارتياح، لكنني لم أقل شيئًا.

قال الرجل الذي قدَّم الاقتراح إنه لا يستطيع أن يتفق مع رئيسهم الموقَّر في كل ما قاله؛ وقال عضو آخر في مجلس الإدارة شيئًا بهذا المعنى.

ويبدو الآن أنَّ الرئيس يعتقد أنه كان مخطئًا بعضَ الشيء، وأنه تلقى هذه الملاحظات على أنها توبيخ. فبدا أنه يعتقد في وجوب تقديم التقدير الواجب على خدماتي من خلال ما تخيلَه، حسبما أظن، قليلًا من الكَرم الشخصي.

فقال: «حسنًا، حسنًا! لا تُضيعوا الوقت في هذا. لا يمكننا إنفاقُ أموال الشركة، هذا ما أنا متأكِّد منه. سأُقدم لهذا الرجل هديةً بنفسي.» ثم التفت إليَّ وقال: «تفضَّل يا سيدي؛ لقد سمعتَ ما قاله المجلس؛ سأُقدم لك هديةً عبارة عن نصف جنيه ذهبي من جيبي الخاص.»

أعترفُ أنَّ هذا التصرف الذي يتصف بالكَرم قد تغلَّب تمامًا على قدرتي للسيطرة على نفسي. ولم أستطع منعَ رغبة عابرة في إهانة الرجل العجوز. وقد حاولتُ جاهدًا، لكني لم أتمكن من خنق هذا القرار؛ لذلك، أخذتُ نصف الجنيه بين أصابعي، وقلت له: «حسنًا، كما ترى يا سيدي، أنا أتفق معك. عندما يقوم الرجلُ بواجبه، وخاصة عندما يتقاضى أجرًا مقابل ذلك، فإنه لا يريد أيَّ شيء آخر. وأنا لا أريد أي شيء آخر. لقد دفعَت لي شركتكم ٣١٠ جنيهات و١٤ شلنًا، وهو المبلغ الذي سيُعوضني تمامًا؛ وإذا لم يكن لديك أيُّ اعتراض يا سيدي، وحيث إنه ليس لديَّ أدنى شك في أنَّ لديك بعضَ العلاقات السيئة، فربما ستعطي إحداهن نصفَ الجنيه هذا مع تحياتي.»

لم أنتظر لأرى تأثيرَ هذا الرد على ذلك الغنيِّ البدين؛ لكنني وضعتُ العملة في منتصف الطاولة، وقلت ببساطة وعلى عجَل: «عِمتَ صباحًا يا سيدي، عِمتم صباحًا أيها السادة.» وغادرتُ المبنى الفخم الذي يحتوي على المقر الرئيسي لشركة «انتصار الوضاعة» للتأمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤