القصة واللغة

الأهرام – العدد ٣٢٦٧٦
٢٨ مايو ١٩٧٦

لا أدب بغير لغة، وهذه قاعدة لا تحتاج إلى مناقشة، وبحسبك نظرة إلى الآداب الأخرى لتجد أنهم يهتمون بلغتهم اهتمامًا بالغًا، فاللغة هي الوسيلة التي تصل بالعمل الفني إلى مستقبله، فلا بد للكاتب أن يكون عليمًا بلغته حتى يصل بها إلى حيث يريد من نفوس قرائه، والعلم واللغة ليسا مجرَّدَ معرفةٍ بألفاظها، وإنما معرفة بأسرار الألفاظ ومسراها وإشعاعها وارتباطها بالمعاني المختلفة في نفوس الناس.

ولكن ظهرت في السنين الأخيرة فئة ترى أن الروائي أو القصاص لا يحتاج إلى لغة عربية جميلة أو سليمة لكتابة القصة، والأعجب من ذلك أنهم يضعون القواعد والأسباب لنظريتهم هذه، فيقولون إن الأسلوب الجميل يُلهي القراء عن تتبُّع أحداث الرواية أو القصة ومراميها، ويذهب بعضهم إلى الدعوة لاستعمال اللغة العامية مُرتَئِين أن هذا يجعلها أكثر واقعية.

والواقع أن في هذا القول جهلًا كبيرًا بالواقعية، فليست الواقعية نقلًا للواقع، وإنما تحوير قصصي له، فالقصة تستلهم الحياة ولكنها لا تنقل عنها وتستشف ما وراء أحداثها من أعماق وأسرار.

تستطيع الحياة أن تؤلف كما تشاء، فهي لا تحتاج إلى قُرَّاء ولا يعنيها رأي النقاد في كثير أو قليل، إنها كما قال شوقي في مصاير الأيام:

وألقى رقابًا إلى الضاربين
وضنَّ بأخرى فلم تُضرَبِ
أراد لمَن شاء رعْيَ الجديب
وأنزل مَن شاء بالمخصِبِ
وليس يُبالي رضى المستريح
ولا ضجر الناقِمِ المُتعبِ

هذا هو دستور الحياة في أبنائها وفي قصصها ورواياتها.

أما القاصُّ فلا بد له إذا ألقى رءوسا إلى الضاربين أن يمهد لهذا الحديث، ويجعله طبيعيًّا منطقيًّا داخلًا في نسيج العمل الفني دون نفوذ ولا شذوذ.

وهكذا تصبح الواقعية الفنية في الرواية والقصة أمرًا مختلفًا كلَّ الاختلاف عن واقعية الحياة، واللغة جزء من هذه الواقعية، وجمال السرد يُحبِّب القارئ في العمل الفني، ويجعله يشعر أن الكاتب يحفل به ويحترمه ويقدِّم له أجمل ما عنده، والجمال في الأسلوب لا يباعد بين القصة والقارئ، ما دام جمال الأسلوب ليس استعراضًا أسلوبيًّا، وإنما سَبْك لأحداث القصة وتوفير الانسجام بين عرضها ومضمونها وشكلها جميعًا.

حتى الحوار يجمل به أن يكون باللغة العربية البسيطة، فالقارئ قد عُوِّد أن تكون القراءة بالعربية لا بالعامية، وهو قادر، بل إنه يجد متعة أن يقلب الحوار العربي إلى حوار عامي في ذهنه، وقد استطاع توفيق الحكيم ومن بعده نجيب محفوظ، ثم تبعتهما أنا أن نكتب حوارنا بلغة سهلة عربية يُخيَّل لقارئها أنها عامية، ولم يشُقَّ على القُرَّاء ذلك، بل لعله كان أكثر إمتاعًا لهم.

ولكن معرفة الكلمة العربية السهلة تحتاج إلى إلمام كبير باللغة العربية، وإلى حسٍّ صادق بخوافيها، ولكن مَن قال إن الفن شيء سهل؟ إنه جهد ضخم، وعلى مَن يرود طريقه أن يحتمله أو يبتعد عنه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤