اثنين فلاج … وهات مليم

الأهرام – العدد ٣٢٧٠١
٢٢ يونيو ١٩٧٦
من مفكرة ثروت أباظة

أنا من جيل يشرف اليوم على خمسينيات حياته، مظلومون نحن جيل الأربعينيات الذين وُلدنا في أواخر العشرينيات، وحين جاءت الثلاثينيات التي كان الجنيه فيها يشتري عمارة ويبقى منه ما يشتري بيتًا كنا نحن أطفالًا وكان الحصول على القرش في ذاته عملية تحتاج إلى مناورة ومداورة.

وكنا في هذه السنوات نحب أن نتفرج على السينما، وكان أهم ما فيها حلقات الشجيع تومكس وغيره من مشاهير الأبطال، وكنت أظل الأسبوع كله حريصًا أن أُبقي على قرش لي وقرش لزميل طفولتي إبراهيم الذي جاء من البلدة خصيصَى ليكون رفيق ملعبي.

ثم نتعرض بعد ذلك للرعب الشديد، أن يلحظ أحد تغيُّبي وتغيُّبه عن البيت فترة الساعات الثلاث التي نقضيها بالدرجة الثالثة من سينما الأهلي، حتى إذا كبرتُ بعض الشيء، ولم أعُد أحتاج لمَن يلاعبني، دخل إبراهيم إلى المطبخ سالكًا طريقه إلى أن يكون واحدًا من الطهاة في الأسرة، وأتممتُ أنا رحلة الشقاء في الدراسة.

وحين ألمَّ بنا الشباب في بواكيره الأولى التقينا به شبابًا أسود لا نور فيه، فقد أقبلَتِ الحرب العالمية الثانية، وأطفئت أنوار القاهرة، وأُطفِئ معها نور شبابنا، ولولا أنْ رمَتْ بنا الهواية إلى الأدب والقراءة لقطعناه شبابًا فارغًا، لا تداعبه أي متعة ولا صخب، ولكننا نحن الذين أحببنا الأدب وانصرفنا إلى قراءته وجدنا متعتنا ضجيجنا جميعًا في القراءة، وكنا نجتمع في بيت أحدنا نناقش ما قرأنا، ويمتد بنا النقاش حتى الوهن الأخير من الليل، فنقوم إلى بيوتنا وننقلب إلى أهلنا، وقد أوهمناهم أننا كنا نذاكر.

وفي ليلة سهرنا في بيت صديقنا الأستاذ عثمان نويه، الذي كان بمثابة الأستاذ لنا، ولكن حبه للأدب كان يجعله يشاركنا في حديث طه حسين، وتوفيق الحكيم، والعقاد، والدكتور حسين هيكل، تاركين مربع أرسطو والمنطق والفلسفة والجغرافيا.

وأوغل بنا الليل والوقت صيف، والنسمة رخاء، وقمنا وقام معنا صاحب البيت للمشي على غير هدى.

ولم أجد معي سجائر، وقد كان العثور على سجائر في هذه الأيام ضربًا من المعجزات، ولهذا ظللتُ بخيلًا بها حتى اليوم.

ووجدت دكانًا يتخفى وراء الظلام ينير مصباحًا خجولًا، يحيطه بأسطوانة ورقية من بقايا علبة سجائر قديمة، وكان باب الدكان لا يزيد على ربع ضلفة من ضلف الأبواب العادية.

– عندك سجائر نمرة ثلاثة؟

– لا.

– عندك بحاري؟

– لا.

– كرافن إيه؟

– لا.

– ملك مصر أو سفير؟

– لا.

وانغمست في حديثي مع صاحب الدكان ونسيت أمر مَن معي، حتى وجدتُ يدًا تنبعث من الظلام تحمل نصف قرش وتضعه على منضدة البائع لتقول في حسم: اثنين فلاج وهات مليم وحياة أبوك.

أدرك الأستاذ عثمان أنني أحادث الرجل بلغة لن يفهمها، فلو كان عنده شيء مما ذكرت لما سهر إلى آخر الليل ليهتبل ربحًا لن يزيد على ملاليم، وأراد الأستاذ عثمان أن يعلمني اللغة الصحيحة التي يمكن أن يفهمها؛ اثنين فلاج وهات مليم، أي إنه يعرف الثمن تمامًا، وقد تعلمت الكثير من هذه الجملة البسيطة التي طالما ضحكنا منها بعد ذلك.

لمَن أتكلم؟ وماذا أريد أن أقول؟ وكيف أصل بما أريد إلى فهم مَن أكلمه؟ تلك هي مشكلة المشاكل أمام الكاتب أو المتحدث.

تستطيع أن تكون أستاذًا عظيما في الأدب، ولكن هذا لا يجعلك بالضرورة تعرف اللغة التي تخاطب بها مَن تخاطبهم، فهناك كلام يُقال في المدرَّج بأسلوب معيَّن وألفاظ بذاتها، وهناك كلام يُكتب في المجلات المتخصصة، وهناك كلام يُكتب للجرائد اليومية، وهناك حديث خاص للندوات العامة، ومعرفةُ كلِّ مجال وما يتطلبه من كلام هو الأساس الذي نستطيع به أن نصل إلى الناس.

ولكن كثيرًا من الأساتذة يكتبون في الجرائد اليومية ما لا تحتمله إلا المجلة المتخصصة، وكثير منهم يكتب في الكتب كلامًا لا يسوغ إلا في الجرائد اليومية، وتختلط الأمور عليهم وعلى قرَّائهم ويقعون في أحابيل «الأستذة»، ويقع الجمهور في أحابيل الخوف من التصريح بعدم الفهم؛ حتى لا يُقال عنهم جهلاء ويصبح الكلام في الهواء لا قيمة له ولا يجد له فاهمًا … كم يحتاج هؤلاء الأساتذة إلى عثمان نويه ليقول لهم: اثنين فلاج وهات مليم وحياة أبوك!

دعوة كريمة من أستاذ كريم

كم كان أستاذنا زكي نجيب محمود رائعًا في مفكرته الأخيرة، وإني واثق أنه لم يصدر في دعوته إلى إنقاذ تلميذه عن روح الأستاذ، بقدر ما يصدر عن روح الإنسان، فلكلٍّ أن يعانق المذهب الذي يشاء، وله أن يدافع عنه بكل المنطق الذي يملكه، ولكن ليس لأحد أن يصادر رأيه أو يعذبه لأنه صاحب رأي.

إن الإنسان هو أكرم ما خلق الله، وأي مساس بحريته أو بجسمه أو بمشاعره إنما هو وحشية وهمجية وانتكاس إلى أبشع ما عرفته البشرية من عهود.

فليكن تلميذ أستاذنا هذا شيوعيًّا أو فوضويًّا أو ما يشتهي أن يكون، إنه وحده صاحب الحق في تكوين عقيدته، ولا سبيل لأحد عليه إلا بالنقاش الحر، ودفع الحجة بالحجة والرأي بالرأي، أما أن يكون النقاش باعتقال الحرية، وأن يكون رد الحجة بالاعتداء على كيانه البشري، ويكون دفع الرأي بالتهديد في النفس أو العِرض أو المشاعر فذلك أمر تأباه الإنسانية التي تسود هذا العهد الذي نعيش في ظله.

أنا لا أعرف صاحب هذه المشكلة، كما أنني حين قرأت مقال الدكتور زكي لم أهتدِ إليه، ولكنني سمعت البعض يرددون اسمه، وظللتُ مع ذلك لا أعرفه ولا أذكر أنني التقيت به، إلا أنني عرفت أنه يعاني هذا الذي يعانيه منذ نحو عشر سنوات، فهو إذن قطعة منسية من عهد مضى والحمد لله.

وإنني واثق أن الدكتور زكي في ندائه إنما يستثير المشاعر الكريمة التي يعرفها في القائمين بالأمر الآن، ولا شأن للدكتور زكي بالناحية الطبية، وإنما الذي ننشده أن تنظر في حالة هذا المستغيثِ جماعةٌ محايدة من الأطباء، وإننا واثقون بضمائر الأطباء، أما أولئك الذين كانوا يشرفون على المعتقلات فما هم من الأطباء ولا من الطب في شيء.

والنظرية القانونية تقول إن الشريك في الفعل مثل فاعله، ولكن الوزر الذي يقع على كاهل المشاركين في التعذيب من الأطباء أكبر من وزر الشريك العادي، فالمفروض في الطبيب أن يكون رحيمًا؛ فهو الذي يأسو جراح الجسم والنفس، فإن أهمل فهو مجرم، أما أن يساعد مَن يحطِّم الجسم ويسحق النفس فهو شرٌّ من مجرم.

وعَوْدًا إلى دعوة أستاذنا أحييه من أجلها، وإن كانت ليست غريبة على مَن هو في مثل خلقه الرفيع وثقافته العالية.

اقتراح إلى التليفزيون

تُرى هل فكَّر التليفزيون في تسجيل التراث الأدبي من المسرحيات الشعرية والأعمال الأدبية الكبرى؟

إني أقدِّم إليه هذا الاقتراح راجيًا أن يبحثه.

لماذا لا تُمثَّل روايات شوقي جميعًا، وروايات عزيز أباظة، وروايات الشرقاوي وصلاح عبد الصبور في التليفزيون؟ وإني واثق أنها ستجعل للتليفزيون رصيدًا ضخمًا هو في أشد الحاجة إليه، كما أنه سيبيعه إلى جميع تليفزيونات العالم العربي.

وإذا أضفنا إليها روايات الأستاذ علي أحمد باكثير النثرية، مع تسجيل ما لم يُسجل من روايات رائد المسرح العربي توفيق الحكيم، فإنني أعتقد أن روايات أستاذنا الحكيم وباكثير لا تقل كثيرًا في مستواها الفلسفي والفكري عن مدرسة المشاغبين.

ولماذا لا يسجل التليفزيون روايات الريحاني على أن يقوم بتمثيلها كبار ممثلي الكوميديا وخصوصًا فؤاد المهندس تلميذ الريحاني الأول.

ألا يُكوِّن هذا الاقتراح للتليفزيون مكتبة رائعة تُغنيه لمدة عامين أو ثلاثة عن الحرج الذي يعانيه والذي ينعكس على المتفرج المسكين كمدًا وغيظًا وألمًا؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل!

وكلمة أحب أن أهمس بها للتليفزيون ما دمتُ أتحدث إليه، تُرى هل شاهد أحد الحلقة التي سجلتها إحدى المذيعات مع الفنان وانلي؟ تُرى هل نسيت السيدة الفاضلة المذيعة أن هذه الحلقة تُذاع في بلد عربي إسلامي له تقاليده وأخلاقه وقيمه؟ ولا أحب أن أفصِّل ما أجملتُ حتى لا أحرج نفسي ولا أحرج الفنان، ولا أحرج التليفزيون أكثر مما هو مُحرَج دائمًا.

فإن هناك أسرارًا في حياة الناس ينبغي لها أن تستر ويجهل بمَن يثيرها أن يكون رفيقًا في مَسِّها إن كان لها أن تُثار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤