التعميد

في عامنا الثالث من المدرسة الثانوية، تحولت ناعومي إلى القسم التجاري، وهكذا تحررت فجأة من دراسة اللغة اللاتينية والفيزياء والجبر، وصعدت إلى الطابق الثالث من المدرسة حيث كانت الآلات الكاتبة تُطقطق طوال النهار تحت السطح المائل، ومعلق على الحوائط شعارات داخل إطارات لأقوال مأثورة تُعِدُّ الدارسين لخوض غمار عالم الأعمال، مثل: «الوقت والطاقة هما رأس مالي؛ إذا بددتهما فلن أعوضهما.» كان تأثير التحوُّل إلى مثل هذه القاعات بعد الجلوس في الدور السفلي في الفصول ذات السبورات السوداء، المليئة بالكلمات الأجنبية والمعادلات النظرية والصور القاتمة المعلقة للمعارك والسفن الغارقة، والمغامرات الأسطورية العنيفة التي لا تخلو من النبل والفخر؛ يشبه الدخول إلى الضوء العادي اللطيف، إلى العالم الحقيقي النشيط، وهو راحة للكثيرين، وقد راق الأمر لناعومي.

في شهر مارس من ذاك العام تولت وظيفة في مكتب محل الألبان بعد أن أنهت دراستها في المدرسة. وطلبت مني أن أذهب لمقابلتها هناك بعد الساعة الرابعة عصرًا، فذهبت دون أن يكون لديَّ أدنى فكرة عمَّا أنا متورطة فيه. ظننت أن ناعومي ستتجهم في وجهي بشكل تمثيلي من وراء النضد، وسأقلد أنا صوت عجوز مرتعش وأقول لها: «ماذا يعني هذا؟ اشتريت بالأمس دزينة من البيض فوجدته كله فاسدًا!»

كان المكتب في مبنى ملحق مزخرف بالجص يقع أمام محل الألبان القديم، وكانت به أضواء فلورسنت وخزائن أوراق معدنية جديدة ومكاتب — وهو المحيط الذي كان يعطيني شعورًا غريزيًّا بأنني لا أنتمي إلى المكان — كما كانت هناك أصوات عالية صادرة من الآلات الكاتبة وآلة الجمع. كانت هناك فتاتان أُخرَيان تعملان هناك بخلاف ناعومي، وعرفت بعدها أن اسميهما مولي وكارلا. كانت أظافر ناعومي مطلية بطلاء أظافر قرنفلي داكن وشعرها مصفَّفًا بإتقان، وكانت ترتدي تنورة ذات نقوش مربعة وردية وخضراء وسترة وردية. ابتسمت لي وهزت أصابعها فوق الآلة الكاتبة بأبسط تحية ممكنة، ثم استمرت في الكتابة على الآلة الكاتبة بسرعة هائلة، وفي نفس الوقت كانت تُجري أحاديثَ مرحة غير مترابطة وغير مفهومة مع زملائها في العمل. وبعدها بعدة دقائق نادتني قائلة إنها ستنتهي من العمل في الساعة الخامسة، فأخبرتها أن عليَّ العودةَ إلى المنزل. شعرت أن مولي وكارلا كانتا تنظران إليَّ، إلى الحبر الذي على يديَّ العاريتين الحمراوين، وإلى وشاحي الصوفي المنزلق، وإلى شعري الجامح وإلى كومة الكتب التي أحملها والتي توحي بمظهر التلميذة.

كانت الفتيات المتأنقات يُخِفْنَنِي حتى الموت، ولم أكُن أحب حتى أن أقترب منهنَّ خشية أن تكون رائحتي كريهة. كنت أشعر أن بيني وبينهن فارقًا جوهريًّا وكأنني مخلوقة من مادة أخرى غير المادة التي خُلِقْن منها. أيديهن الرقيقة لم تكن تتبقع أو تتعرَّق، وتظل شُعورهن طوال الوقت على هيئتها المنمَّقة بعناية، ولا تبتلُّ منطقة الإبط بالعرق قَطُّ، وبالطبع فإنهن لم يعرِفن أبدًا شعور أن تُبقي الواحدة منا مرفقيها ملتصقين بجانبها؛ كي تُخفي تلك البقع الداكنة المشينة ذات الشكل الهلالي على الثوب، وبالطبع لم يحدث أبدًا أن شعرت إحداهن بذلك التدفُّق الزائد البسيط، زيادة لا تستطيع أي فوطة صحية أن تحبِسها، فتقطر الدماء بشكل مرعب نازلة على منطقة الفخذين. كلا بالطبع، لا يحدث هذا معهن، كانت عادتهن الشهرية سِرِّيَّة وطبيعية ولم تَخُنْهُنَّ أبدًا. ولم يكُن من الممكن قَطُّ تحويل ما أنا عليه من غلظة إلى ما هم عليه من نعومة، لقد فات الأوان على هذا؛ فالهوة اتسعت للغاية. لكن ماذا عن ناعومي؟ لقد كانت مثلي؛ فذات مرة أُصِيبَتْ بوباء من الثآليل في أصابعها، وعانت من سعفة القدم، وكنا نختبئ في حمام الفتيات عندما يتصادف مرورنا بالدورة الشهرية في الوقت نفسه خوفًا من القيام بحركات بهلوانية — واحدة تلو الأخرى أمام باقي طلاب الفصل — مخافة أن ننزلق فتقطر منَّا الدماء، وكُنَّا نتحرَّج أن نطلب الإذن بإعفائنا. ما هذا الزي التنكري الذي ترتديه الآن بطلاء الأظافر والسترة الملونة؟

سرعان ما صارت ناعومي صديقة حميمة لمولي وكارلا. فقد كانت حواراتي معها عندما تأتي إلى بيتي أو حينما تدعوني إلى بيتها مُتْخَمَةً بالحديث عن حِمْيَتهما الغذائية، ونظام عنايتهما بالبشرة، وطرق غسيل الشعر، وملابسهما، والعازل الأنثوي الذي تستخدمانه لمنع الحمل (كانت مولي متزوِّجة منذ عام أما كارلا فسوف تتزوج في يونيو). وأحيانًا كانت كارلا تأتي إلى بيت ناعومي عندما أكون هناك، وكانتا دائمًا تتحدثان عن الغسيل، غسيل السترات أو الملابس الداخلية أو الشعر. كانتا تقولان: «غسلت سترتي الصوفية.» «غسلتها؟ هل غسلتها بماء بارد أم فاتر؟» «بماء فاتر، لكن أظن أنه لا بأس في الحالتين.» «ماذا فعلت بشأن عنق السترة؟» كنت أجلس وأفكر أن سترتي قذرة وشعري دهني وحمالة صدري بهت لونها وأحد شريطيها مثبَّت بدبوس. كان عليَّ أن أهرب من ذلك المكان، لكن عندما أعود إلى المنزل لم أكن أَحِيكَ شريط حمالة الصدر أو أغسل سترتي؛ فالسترات التي أغسلها دائمًا ما تنكمش أو تتسع ياقتها وتتدلَّى. كنت أعلم أنني لا أتكبَّد المشقة اللازمة معها، لكن كان لدي إحساس محتوم بأنها ستنكمش أو أن ياقتها ستتسع مهما فعلت. أحيانًا كنت أغسل شعري وألفُّه على بكرات معدنية فظيعة كانت تمنعني من النوم، بل إنني كنت أقضي ساعات طويلة أمام المرآة في بعض الأحيان أهذِّب حاجبيَّ بألمٍ وأطالع مظهري الخارجي، ثم أضع على وجهي مساحيق التجميل الداكنة والفاتحة كي أُبرز المحاسن وأخفي العيوب كما توصي المجلات. كان همًّا دائمًا لا أقدر على تحمله، رغم أن كل شيء ابتداءً من المجلات، إلى روايات إف سكوت فيتزجيرالد، وحتى تلك الأغنية المخيفة التي كانت تُذاع في الراديو — تقول كلماتها: «الفتاة التي سأتزوجها لا بد أن تكون ناعمة ووردية كالأطفال.» — كان ينبئني بأن عليَّ أن أتعلم؛ فالحب لن يكون لمن لا تهتم حتى بنزع الشعر الزائد عن جسدها.

أما بخصوص غسيل الشعر، فقد كنت في ذلك الوقت تقريبًا بدأت أقرأ مقالًا في مجلة عن موضوع الاختلاف الأساسي بين عادات الذكور والإناث الفكرية التي ترتبط بصفة أساسية بتجربتهم الجنسية (عنوان المقال يجعل القارئ يظن أنه يتناول الجنس أكثر مما يفعل في الواقع). كان كاتب المقال طبيبًا نفسانيًّا مشهورًا من نيويورك من أتباع فرويد، وكان يقول إن الفارق بين أنماط التفكير الذكورية والأنثوية يتضَّح جَلِيًّا في كيفية تفكير صبي وفتاة يجلسان على مقعد في الحديقة وينظران إلى بدر كامل التمام؛ فيتفكر الصبي في الكون وضخامته وغموضه، بينما تفكر الفتاة: «لا بد أن أغسل شعري.» عندما قرأت هذا استشطتُ غضبًا، وتركت المجلة فورًا؛ إذ اتضح لي على الفور أنني لا أُفَكِّرُ كفتاة؛ فلم يكن البدر المكتمل ليذكرني أبدًا ما حييتُ بأن أغسل شعري. كنت أعرف أنني لو أريت هذا المقال لأمي لقالت: «نعم، إنه ذلك الهراء الذكوري المجنون الذي يرى المرأة بلا عقل.» لكن هذا لم يكن ليقنعني فلا بد لطبيب نفساني من نيويورك أن «يكون على علم»، كما أن النساء على شاكلة أمي كُنَّ أقلية. علاوة على هذا، لم أكن أريد أن أكون مثل أمي بفظاظتها العذرية وبراءتها. كنت أريد أن يحبني الرجال، وأردت أن أفكر في الكون حينما أنظر إلى القمر. شعرت أنني محاصرة، مقيدة، وبدا لي أنني يجب أن يكون لديَّ اختيار حيث لا يمكن أن يكون لديَّ. لم أكن أُرِيدُ أن أقرأ مزيدًا من هذا المقال، لكنني انجذبت إليه كما كنت أنجذب في صغري لصورة بعينها لبحر مظلم أو حُوتٍ ضخم في كتاب للقصص الخرافية. قفزت عيناي بعصبية عبر الصفحة، بداية من بعض العبارات المؤكدة مثل «بالنسبة للمرأة، كل شيء يعتبر شخصيًّا ولا توجد فكرة تمثل لها أهمية في حَدِّ ذاتها، وإنما لا بد أن تترجمها إلى تجربتها الشخصية، وفي الأعمال الفنية ترى المرأة دائمًا حياتها الخاصة أو أحلام يقظتها.» في النهاية أخذت المجلة إلى سلة القمامة فمزقتها إلى نصفين ودفنتها بداخلها وحاولت نسيانها. بعدها كنت كلما رأيت مقالًا في مجلة عنوانه «الأنوثة … عائدة»، أو أجد اختبارًا للمراهقين عنوانه: «هل مشكلتك أنك تحاولين أن تكوني فتىً؟» كنت أقلب الصفحة بسرعة كما لو أن بها شيئًا سيعَضني. غير أنني لم أفكر أبدًا أنني أريد أن أكون فتىً.

بفضل مولي وكارلا ومن خلال وضعها الجديد كفتاة عاملة، صارت ناعومي جزءًا من دائرة معينة في جوبيلي لم أكن أعرف أنا أو هي أنها موجودة. كانت الدائرة تضم الفتيات اللاتي يعملن في المحال والمكاتب والبنكين الموجودين في البلدة، بالإضافة إلى بعض الفتيات المتزوجات واللاتي تَرَكْنَ وظائفهن مؤخرًا. وإذا لم تكن تلك الفتيات متزوجات وليس لهن رفقاء، فإنهن كن يذهبن للحفلات الراقصة معًا، وللعب البولنج معًا في تابرتون، وكن يُقِمْنَ حفلات ويقدمن هدايا لبعضهن بمناسبة الزواج أو الإنجاب (وكان هذا يزعج السيدات الأكبر سنًّا في البلدة). كانت علاقتهن ببعضهن — رغم أنها مليئة بالأسرار الفاضحة — محاطة بجميع أنواع الرسميات والمجاملات وآداب اللباقة. لم يكُن الأمر يشبه المدرسة، فلا همجية ولا فظاظة ولا لغة سوقية، وإنما دائمًا شبكة معقدة من الضغائن يشار إليها بشكل غير مباشر، وعادة ما تكون بسبب أزمة — مثل حمل أو إجهاض أو هجر — كلهنَّ يعلمنها ويتكلمن عنها، لكنهن يعتبرنها سرهن الذي يحرسنه ويحفظنه عن باقي سكان البلدة. وكان أكثر ما يقُلن براءة ومواساة وإطراء قد يعني شيئًا آخر. كن يتسامحن ويتقبلن من بعضهن ما يراه معظم أهل المدينة زَلَّات أخلاقية، لكنهن لا يتسامحن أبدًا مع أي انحراف في أسلوب الملبس أو تصفيف الشعر، أو مع من لا يقطعون قشرة الخبز من على الشطائر في حفلات الهدايا.

ما إن بدأت ناعومي تتسلم شيكات راتبها حتى بدأت تفعل ما تفعله هؤلاء الفتيات إلى أن يتزوجن. فكانت تتجول بين عدة محال وتطلب منهم أن يحجزوا لها بعض الأشياء على أن تدفع لهم ثمنها خلال شهر على الأكثر؛ ففي متجر الأدوات المنزلية حجزت مجموعة كاملة من الأواني والمقالي، وفي متجر المجوهرات حجزت حقيبة من فِضِّيات المائدة، وفي متجر ووكر حجزت بطانية ومجموعة من المناشف وزوجًا من الملاءات الكتانية. كانت تعد هذه الأشياء حتى يأتي وقت زواجها وتستعد للقيام بالمهام المنزلية، وكانت تلك المرة الأولى التي أراها تخطط لأي شيء بهذا التحديد. وقد قالت لي بحدة: «لا بد أن تبدَئي في هذا يومًا ما، بماذا ستتزوجين؟ بطبقين وخرقة قديمة لمسح الأطباق؟»

وفي عصر أيام السبت، كانت تريدني أن أصحبها في جولتها في المحالِّ وهي تسدد ما عليها من مستحقات وتطالع ممتلكاتها المستقبلية، وتشرح لي لماذا ستعمد — على غرار مولي — للطهي دون ماء وكيف يمكن معرفة جودة الملاءات من عدد الخيوط في كل بوصة مربعة منها. اندهشت وأصابني الذعر من تحوُّلها إلى شخصيتها الجديدة المملة المستغرقة في التفكير في تلك الأمور الغريبة. كانت تبدو كما لو أنها تسبقني بأميال كثيرة، لكنني لم أُرِدْ أن أذهب إلى حيث هي ذاهبة، غير أنها هي نفسها بدت راغبة في الذهاب في ذلك الاتجاه، كانت الأمور تتطور معها، هل يمكن أن يقال الشيء نفسه عني؟

ما كنت أريد أن أفعله في عصر أيام السبت هو أن أبقى في البيت وأستمع إلى أوبرا المتروبوليتان. كانت تلك العادة ترجع إلى الوقت الذي كانت فيرن دوجرتي تسكن فيه لدينا، واعتادت هي وأمي الاستماع إليها. رحلت فيرن دوجرتي عن جوبيلي وذهبت لتعمل في وينزر، وكانت تكتب لنا من حين لآخر خطابات غامضة مرِحة تتحدث فيها عن الذهاب إلى ملهى ليلي في ديترويت وذهابها إلى سباق الخيول، والغناء مع جمعية الأوبريتات والاستمتاع بحياتها. قالت ناعومي عنها: «لم تكن فيرن دوجرتي تلك إلا نكتة.» كانت تتحدث من منظورها الجديد. لقد كانت ناعومي وكل تلك الفتيات متوجِّهات نحو هدف بعينه؛ ألا وهو الزواج، ولا يمكن لأي امرأة أكبر سنًّا غير متزوجة — سواء إذا كانت تخطت سن الزواج أو من هواة المغامرات السرية مثل فيرن — أن تتوقع منهن أي تعاطُف. ما الذي يجعلها نكتة؟ كنت أوَد أن أعرف فعلًا لكن ناعومي حدقت فيَّ بعينيها الشاحبتين البارزتين وكررت قائلة: «نكتة، لقد كانت مجرد نكتة.» قالتها كأنها تتصدى لهرطقة كبيرة بنشر معتقدات جليلة بديهية مثبتة.

لم تعد أمي تُولِي اهتمامًا كبيرًا للأوبرا؛ فلقد حفظت الشخصيات والحبكة وصارت تتعرف على الألحان المشهورة ولم يعد هناك شيء جديد لتعرفَه. أحيانًا كانت تخرج من المنزل؛ إذ كانت لا تزال تقوم بجولاتها من أجل بيع الموسوعات، فكانت تذهب لأولئك الذين اشترَوْا الموسوعة كي تقنعهم بشراء الملحقات التي تصدر سنويًّا. لكنها لم تكُن بخير، في البداية ابتُلِيَت بسلسلة من الأمراض غير الشائعة: الثآليل الأخمصية، والتهاب العين، وتورم الغدد، وطنين في الأذن، ونزيف الأنف، وطفح جلدي قشري غامض. ظلت ترتاد عيادة الطبيب، وكلما برئت من شيء أصابها شيء آخر. ما كانت تعاني منه فعلًا هو نضوب طاقتها، وتدهور صحتها بشكل عام، وهو ما لم يعرفه أحد. غير أن هذه الحالة المتدهورة لم تكن ثابتة؛ فقد كانت في بعض الأحيان تكتب خطابات للصحيفة وكانت تحاول أن تعلم نفسها علم الفلك. لكنها كانت أحيانًا تستلقي في فراشها وتناديني كي أُدثِّرَها بالغطاء، وكنت دائمًا ما أفعل هذا بعدم اكتراث، حتى إنها كانت تناديني ثانية كي أُحكِم الغطاء عند ركبتيها وحول قدميها، حينها كانت تقول بصوت شكس طفولي مصطنع: «قبلة لماما.» فكنت أطبع قبلة جافة هزيلة على صدغها. كان شعرها يخف، وكانت بشرتها الشاحبة لها مظهر غير صحي ينم عن المعاناة كنت أمقته.

على أية حال، فإنني كنت أفضِّل أن أكون بمفردي حينما أستمع إلى عروض أوبرالية مثل «لوشيا دي لامرمور» و«كارمن» و«لاترافياتا». مقاطع موسيقية معينة كانت تثيرني لدرجة لا أستطيع معها أن أظل ساكنة في مكاني، فأنهض وأظَل أتحرك في أرجاء حجرة الطعام، وأغني في سري مع الأصوات التي تنبعث من الراديو وأنا أحتضن نفسي وأعتصر مِرفقَي. ثم تمتلئ عيناي بالدموع بينما تلتهب بداخلي التخيُّلات التي تتولَّد بسرعة ورفق. فتخيلت حبيبًا، وتخيلت جوًّا عاصفًا، وتخيلت المجد الخافق لعاطفتنا المقدَّر له الفشل. (لم يخطر ببالي قَطُّ أنني أفعل ما قال المقال إن المرأة تفعله عند تعاملها مع عمل فني.) استسلام شهواني، ليس استسلامًا لرجل وإنما استسلام للقدر، استسلام للظلام، استسلام للموت. ولكن كان أكثر ما أحبه هو أوبرا كارمن في نهايتها، وأخذت أدندن موسيقى «ودَعْنِي أذهب.» كنت أرتجف وأنا أتخيل الاستسلام الآخر، إنه أكثر إغراءً وأكثر جمالًا من الاستسلام للجنس؛ إنه استسلام البطل، استسلام الوطني، استسلام كارمن للأهمية النهائية للإشارة، وللصورة، وللنفس التي خلقتها النفس.

كانت الأوبرا تُشعِرني بالجوع، وعندما انتهت ذهبت إلى المطبخ وأعددت لنفسي شطائر من البيض المقلي مع قطع البسكويت الملتصقة معًا بالعسل وزُبدة الفول السوداني، ومعها مزيج سري كريه من الكاكاو وشراب الذرة والسكر البني وجوز الهند مع الجوز المقشَّر، والذي يجب أن يؤكل بالملعقة. كان الأكل بنَهَم في البداية يرضيني ثم يصيبني بعد ذلك بالاكتئاب كما تفعل ممارسة العادة السرية (العادة السرية؛ قرأت أنا وناعومي في كتب أمها كيف أن الفلاحات في شرق أوروبا يمارسنها باستخدام الجزر وتمارسها السيدات في اليابان باستخدام كرات ذات ثقل، ويمكن التعرف على من اعتادت ممارستها من النظرة الفاترة في عينيها وملمس بشرتها التي تشبه بشرة مرضى الكبِد، وكنا نطوف جوبيلي باحثات عن هذه الأعراض ونحن نفكر أن هذا الأمر بأكمله غريب وطريف ومثير للغثيان، بل إن كل ما كُنَّا نكتشفه عن الجنس كنا نحوله إلى مهرجان إما للضحك أو للشعور بالغثيان، أو كما كنا نقول «نضحك حتى يصيبنا الغثيان.» أما الآن فلم نعد نتحدث عن هذا الأمر أبدًا.) أحيانًا بعد أن أسرف في تناول الطعام، كنت أصوم عن الطعام ليوم أو اثنين، وأشرب جرعة كبيرة من الملح الإنجليزي المُذاب في ماء دافئ وأنا أفكر أن السعرات الحرارية لن تبقى في جسدي إذا استطعت أن أطرد كل ما بجسدي بسرعة. لم أُصبح بدينة حقًّا، وإنما كان جسمي ممتلئًا ومشدودًا بما فيه الكفاية، حتى إني كنت أحب أن أقرأ الروايات التي توصَف فيها المناطق الممتلئة في جسد البطلة بشكل ناعم ومثير جنسيًّا، وفي الوقت نفسه كنت أقلق من الروايات التي تكون فيها النساء المثيرات كلهن نحيفات، ولكي أُطمْئِن نفسي كنت أردد لنفسي بيت الشعر القائل: «العشيقات ذوات السيقان الممتلئة الناعمة المرمرية.» كنت أحب هذا، وأحب كلمة «عشيقة»، وهي كلمة أتخيل صاحبتها ترتدي تنورة ضيقة عند الخصر ومنفوشة عند السيقان؛ العشيقة لا يجب أن تكون شديدة النحافة. كنت أحب أن أطالع نسخة لوحة «المستحمون» لسيزان في الملحق الفني للموسوعة ثم أنظر لنفسي عارية في المرآة، لكن كان الجانبان الداخليان لفخِذَيَّ يرتعشان كقالب من الجُبن القريش في كيس شفاف.

في ذلك الوقت، كانت ناعومي تبحث حولها لترى الاحتمالات المتاحة.

كان ثمة رجل يُدعى بيرت ماثيوز — أعزب في الثامنة والعشرين أو التاسعة والعشرين من عمره، وله وجه مرِح مضطرب وشعر يبدو كقبعة من الفراء مدفوعة إلى الخلف على فروة رأسه المغضنة — يتردد بانتظام على مكتب محل الألبان، وكان يعمل مفتش دواجن. قصت لي ناعومي باشمئزاز ما كان يقول لمولي وكارلا؛ فكان دائمًا ما يسأل مولي إذا ما كانت حاملًا، وكان يتسلل حولها محاولًا أن يلحظ بطنها من الجانب، وكان يعطي كارلا نصائح عن شهر العسل المُقبِل. وكان يطلق على ناعومي «كعكة الزبدة»، وعندما يراها في الطريق كان يُبطِئ سيارته ويطلق نفيرها نحوها فتستدير هي مبتعدة قائلة: «يا ربي، أنقذني من هذا الأحمق!» وتعبِس في انعكاس صورتها في زجاج المتجر.

راهنها بيرت ماثيوز بعشرة دولارات أنها لن يُسمح لها بمقابلته في قاعة رقص «جاي لا». وأرادت ناعومي أن تذهب وقالت إن هذا من أجل الدولارات العشرة ولكي تُثبت له أنها تستطيع أن تذهب إلى هناك. صحيح أن والدتها لم تكن لِتسمح لها بأن تذهب إلى تلك القاعة، لكن والدتها كانت خارج المدينة في مهمة تمريض، ولم يكن أمر والدها يُقلقها إطلاقًا، فكانت تقول عنه دومًا: «إنه يخرف»، كما لو أنها تستمتع بالرنين الطبي للكلمة. كان يقضي وقته في غرفته مع الإنجيل والكتب الدينية خاصته يصنف النبوءات.

أرادت ناعومي أن أذهب معها وأبيتَ الليل عندها في بيتها وأقول لأمي إننا سنذهب إلى مسرح الليسيوم. شعرت أنه لا يوجد أمامي خيار سوى أن أفعل هذا؛ ليس لأن ناعومي تريدني أن أفعل هذا، وإنما لأنني كنت أكره قاعة «جاي لا» وأخشاها بحق.

كانت قاعة «جاي لا» تقع على بعد نصف ميل شمال المدينة على الطريق السريع، وكانت مغطاة بجذوع شجر صناعية لونها بلون الشوكولاتة، ونوافذها لم يكن بها زجاج، وإنما لها مصاريع لوحية تغلق بإحكام خلال النهار وتفتح حين يحين وقت الرقص. عندما كنت أَمُرُّ بالسيارة مع أمي من هذا المكان كانت تقول: «انظري إلى سدوم وعمورة.» كانت تشير إلى عِظَةٍ أُلقِيَت في الكنيسة المشيخية تُشَبِّه قاعة رقص «جاي لا» بهاتين القريتين وتتوقع لها مصيرًا مشابهًا (يقال إنها القرى التي كان نبي الله لوط يعيش فيها). حينها قالت أمي إن هذا التشبيه غير صحيح؛ لأن سدوم وعمورة لقيتا هذا المصير بسبب ممارسات غير طبيعية. (فقالت فيرن دوجرتي بغموض وثقة عندما شرحت لها أمي ذلك: «طبيعية أو غير طبيعية، على حسب، أليس كذلك؟») كانت أمي في موقف مرتبك؛ فمن حيث المبدأ عليها أن تسخر من موقف الكنيسة المشيخية، لكن على الجانب الآخر كان مجرد مرأى قاعة «جاي لا» — على ما أعتقد — يشعرها بإحساس الفساد العظيم نفسه الذي يشعر به المشيخيون. وكنت أنا أراها من وجهة النظر نفسها، تلك القاعة بنوافذها المعتمة في ذلك الحقل الخرب القذر، فكنت أراه برمته مكانًا أسود سيء السمعة.

وفي غابة الصنوبر خلف القاعة، كانت الواقيات الذكرية تتناثر، يبدو شكلها كجلود ثعابين قديمة، هذا ما كان الجميع يقولونه.

انحرفنا عن الطريق السريع في ليلة جمعة وكل منا ترتدي فستانًا مزينًا بالزهور، تنورتُه طويلة وذات طيات متعددة محكمة عند الوسط. كنت قد بذلت قصارى جهدي كي أتزين؛ فاغتسلت وأزلت شعري الزائد واستخدمت مزيلًا لرائحة العرق وصففت شعري لأعلى، وارتديت تنورة تحتية من قماش القرينول خشِنة ومثيرة للحكة عند الفخذين، وصدرية كان من المفترض أن تضغط خاصرتي، لكنها قرصت على حِجَابي الحاجز وتركت انتفاخًا صغيرًا تحته، لدرجة اضطرتني أن أضيق حزامي البلاستيكي فوقها. ضيقت الحزام لخمس وعشرين بوصة وكنت أتعرق تحته. وضعت على وجهي وعنقي مسحوق تجميل لونه بيج يشبه الطلاء، وطليت شفتيَّ باللون الأحمر بشكل سميك حتى بدت كالوردة الحمراء المصنوعة من الحلوى التي يُزيَّن بها الكعك. وانتعلت صندلًا تعلَّق به حصى الطريق. أما ناعومي فقد انتعلت حذاءً ذا كعب عالٍ. كُنَّا في شهر يونيو وكان الجو دافئًا ناعمًا يعج بالحشرات، والسماء تبدو خلف أشجار الصنوبر السوداء كقشرة نبات الدُّرَّاق، والكون يبدو جميلًا، فقط لو لم أكن مضطرة للذهاب لقاعة الرقص.

سبقتني ناعومي عبر مرأب السيارات العشوائي غير الممهَّد، وصعدت السلم المضاء الذي لا يضيئه سوى مصباح أصفر واحد. إذا كانت تشعر بالخوف مثلما أشعر أنا فإنها لم تُظهِر ذلك. ثبتُّ عينيَّ على كعبي حذائها العاليين اللذين يدلان على التكبر، وعلى ساقيها القويتين العاريتين نامِيَتَي العضلات بلونهما الشاحب. كان ثمة رجال وشباب يجلسون على السُّلَّم، لم أستطع رؤية وجوههم ولم أنظر لأراها، لم أرَ سوى سجائرهم أو حليات أحزمتهم المعدنية أو الزجاجات التي تتلألأ في الظلام. كي أمر عبر الكلام الناعم المثير للازدراء والمفزع بطريقة غريبة، حاولت أن أُوقِف حاسة السمع لديَّ بالطريقة نفسها التي يكتُم بها المرء أنفاسه. ماذا حدث لثقتي بنفسي التي كنت أتمتَّع بها، تلك الثقة الزائفة التي مَيَّزَتِ الأيام الخوالي للتهريج والشعور بالأفضلية؟ لم يبقَ منها شيء، كنت أفكر بحنين وعدم تصديق كم كنت جريئة حينها! كما حدث مع السيد شامبرلين، على سبيل المثال.

طبعت سيدة بدينة مسنة يدينا بطابع قرمزي.

شقَّت ناعومي طريقها على الفور نحو بيرت ماثيوز الذي كان واقفًا بالقرب من مسرح الرقص وقالت له: «لم أتوقع قط أن أجدك هنا، أسمحت لك ماما بالخروج؟»

اصطحبها بيرت ماثيوز للرقص. كان الرقص يتم فوق منصة خشبية ترتفع عن مستوى الأرض نحو قدمين، وهي محاطة بحواجز مزينة بحبال من الأضواء الملوَّنة، والتي كانت أيضًا تلتَفُّ حول الأعمدة الأربعة التي تتوزع في الأركان وتمتدُّ في خطين مائلين يتقاطعان فوق رءوس الراقصين؛ مما يجعل منصة الرقص تبدو كسفينة مضاءة تطفو فوق الأرض المرشوشة بنشارة الخشب. وفيما عدا تلك الأضواء، والضوء الذي ينبعث من نافذة مفتوحة على ما يشبه المطبخ — حيث تباع النقانق وشطائر الهامبرجر والمشروبات الغازية والقهوة — كان المكان مظلمًا. كان الناس يقِفون متجاورين في حشود غامضة، وكانت نشارة الخشب تحت أقدامهم مبلَّلة وتفوح منها رائحة المشروبات المسكوبة. وقف رجل أمامي حاملًا كوبًا ورقيًّا، اعتقدت أنه قد أخطأ العنوان، فهززتُ رأسي، لكني بعدها تمنيت لو أنني أخذته منه، فلربما بقِيَ بجواري وطلب أن أرقص معه.

بعد رقصتين عادت ناعومي ومعها بيرت ماثيوز ورجل آخر نحيل جذاب ذو وجه أحمر وشعر أحمر. وقف ورأسه ممدودة للأمام وجسده الطويل منحنٍ على شكل حرف الواو. لم يطلب مني هذا الرجل الرقص وإنما جَرَّنِي من يدي إلى المنصة عندما بدأت الموسيقى. ولدهشتي، وجدته راقصًا بارعًا ومبتكرًا واستمر يدفعني بعيدًا عنه ثم يسحبني إليه مرة أخرى ويدور حول نفسه وهو يطقطق بأصابعه، وكان يفعل ذلك دون أن يبتسم وإنما في الواقع كان يرتسم على وجهه تعبير جادٌّ عدواني. وفي الوقت الذي كنت أحاول أن أتابع رقصه، كان عليَّ أيضًا أن أتابع كلامه لأنه كان يتحدث كذلك خلال تلك اللحظات القصيرة غير المتوقعة التي تتخلل الرقص عندما نكون على مسافة قريبة بعضنا من بعض. كان ذا لكنة هولندية، ولكن لم يكن ذلك صحيحًا؛ ففي ذلك الوقت كان المهاجرون الهولنديون قد اشترَوْا بعض المزارع القليلة حول جوبيلي، وكانت لهجتهم — بأصواتها الدافئة البريئة — يمكن أن تُسمع في نِكات محلية بعينها وفي الأقوال المأثورة. قال لي مستخدمًا واحدة من تلك العبارات وهو يدير عينيه متوسلًا: «راقصيني بِلُيُونة.» لم أعرف ماذا كان يعني، فلقد كنت أراقصه أو أنه كان يراقص نفسه بأقصى قدرٍ من الليونة يستطيع أحد أن يرقص به. كان كلامه كله بهذا الشكل؛ فكنت أسمع الكلمات لكني لا أستطيع أن أحدِّد المعنى، لعله كان يمزح لكن وجهه ظل لا يبتسم. لكنه أدار عينيه بطريقته الغريبة وناداني قائلًا: «يا حبيبتي.» بصوت بارد واهن، كما لو كنتُ شخصًا مختلفًا تمامًا عن نفسي، وكل ما فكرت أن أفعله هو أن أتخيَّل تلك الفتاة التي يظنُّ أنه يُراقصها وأتقمص شخصيتها، فتاة ضئيلة مندفعة مشرِقة لعوب. لكن كل ما كنت أفعله، كل حركة، وكل تعبير حاولتُ به أن أواكب حركاته بدا متأخرًا جدًّا؛ إذ يكون قد تجاوزه إلى شيء آخر.

رقصنا حتى أخذت الفرقة استراحة، سُرِرْتُ لانتهاء الرقص وسعدت لأنه ظل معي؛ فقد كنت أخشى أن يشعر بمدى عدم ملاءمتي ويذهب للبحث عن فتاة أخرى. سحبني خارج منصة الرقص ثم إلى نافذة المطبخ حيث دَفَعَنا المتزاحمون كي يستطيع أن يبتاع لنا كوبين من جعة الزنجبيل.

قال بلهجة آمرة: «اشربي بعضًا من هذا.» متخليًا عن لهجته الهولندية وهو يبدو متعبًا وعمليًّا، فشربت بعضًا من كوبي فقال لي: «اشربي الاثنين فأنا لا أشرب جعة الزنجبيل قط.» كنا نمشي عبر ساحة القاعة، استطعت وقتها تمييز الوجوه، ورأيت أناسًا أعرفهم وأخذت أبتسم لهم وأنا يخالجني شعور بالفخر؛ لكوني في هذا المكان ولكوني أتبع رجلًا. وصلنا إلى بيرت وناعومي، اشترى بيرت قنينة من الويسكي وقال: «حسنًا أيها العريف، كيف أخدمك؟» ثم صب بعض الويسكي في الكوبين، ابتسمت ناعومي لي ابتسامة خاوية كسَبَّاحة خرجت لتوها من الماء. كنت أشعر بالحر والعطش فشربت الويسكي وجعة الزنجبيل في ثلاث أو أربع رشفات كبيرة.

قال بيرت ماثيوز: «يا إلهي!»

وقالت ناعومي وهي سعيدة بي: «إنها معتادة على احتساء الكحول.»

فقال بيرت: «إذن، فهي لا تحتاج إلى جعة الزنجبيل.» وصب الويسكي في كوبي، فاحتسيتُه وبداخلي رغبة قوية في إضافة المزيد من البريق إلى وضعي الجديد، ولم أهتمَّ بالطعم كثيرًا. أخذ بيرت يشكو أنه لا يريد أن يرقص بعد ذلك، قائلًا إنه يعاني ألمًا في ظهره. أطلق الرجل الذي كنتُ معه — والذي عرفت وقتها أو بعدها أن اسمه كلايف — ضحكة مرعبة متحشرجة صوتُها كصوت مدفع رشاش، وحرك يده وكأنه يلكم بيرت عند حلية حزامه.

«كيف ضَعُف ظهرك؟ ها! كيف ضَعُف ظهرك؟»

قال بيرت بصوت عالٍ متذمر: «كنت مستلقيًا هناك أيها الضابط، فجاءت هي وجلست عليَّ، ماذا عساي أن أفعل؟»

قالت ناعومي بسعادة: «لا تكن بذيئًا.»

«ما البذاءة في هذا؟ ماذا قلت؟ هل تريدين أن تدلكي ظهري، يا حبيبتي؟ دلكي ظهري يا ناعومي.»

«لا أهتم بظهرك الأحمق، اذهب وابتع مرهمًا.»

قال وهو يتشمم شعر ناعومي: «هل تدلكيني به؟ هه! تدلكيني به جيدًا؟»

صارت الأضواء الملونة زائغة وكانت تتحرك لأعلى وأسفل كالأشرطة المطاطية الممتدة. وتضخمت وجوه الناس قليلًا بشكل بذيء عبر الوجنات، وبدت لي كما لو أني أنظر إلى الوجوه منعكسة على سطح منحنٍ لامع. كما أن الرءوس بدت كبيرة لا تتناسب مع الأبدان، وتخيَّلتُها — رغم أنني لم أَرَها في الواقع — منفصلة عن الأجساد تطفو بسلاسة على صَوَانٍ غير مرئية. كانت تلك هي قمة السُّكْرِ التي قد أَصِلُ إليها فيما يتعلق بالتأثير على المستقبلات الإدراكية. وبينما كنت أَمُرُّ بهذه الحالة ذهب كلايف ليشتري نقانق مغلَّفة في مناديل ورقية وصندوق جعة الزنجبيل، وتركْنا كلنا قاعة الرقص وجلست في مقعد السيارة الخلفي مع كلايف. أحاطني بذراعه وأخذ يدغدغ خصري المصفَّح بعنف. انطلقنا بالسيارة على الطريق السريع بما بدت لي سرعة هائلة وكان بيرت وكلايف يغنيان بأصوات عالية بإيقاع مصطنع: «لا أبالي إن لم تشرق الشمس، فستأتيني حبيبتي في وقت المساء.» كانت النوافذ مفتوحة والريح والنجوم تعدو مسرعة بجوارنا. كنت سعيدة؛ فلم أَعُدْ مسئولة عن أي شيء؛ «إنني ثملة.» هكذا فكرت. دخلنا جوبيلي فرأيت البنايات تمتد على طول الشارع الرئيسي، وبدَت كما لو أنها تحمل رسالة لي تتعلق بطبيعة العالم المؤقتة واللعوب، والمستبعدة بصورة بهيجة. كنت قد نسِيت أمر كلايف، لكنه مال بوجهه وألصقه بوجهي ودَسَّ لسانه الضخم المبتل البارد المجعَّد كخرقة تنظيف صحون داخل فمي.

كنا قد توقفنا خلف فندق برونزويك.

قال بيرت: «هنا أعيش، هذا هو بيتي السعيد.»

قالت ناعومي: «لا يمكننا أن ندخل، لن يسمحوا لك بأن تصطحب فتيات إلى غرفتك.»

«انتظري، وسترين.»

دخلنا من باب خلفي وصعدنا بعض السلالم، ثم مشينا في ممر تتلألأ في نهايته حاوية كبيرة على شكل فقاعة مليئة بسائل أحمر اللون، بدا لي جميلًا للغاية في الحالة التي كنت عليها. دخلنا إلى غرفة نوم وجلسنا يغمرنا ضوء ساخن مفاجئ كل منَّا بعيد عن الآخر. جلس بيرت على السرير ثم استلقى، أما ناعومي فقد جلست على المقعد وجلست أنا على مسند ممزق، وتنورتانا ممتدتان بشكل مناسب. جلس كلايف على المدفأة الباردة لكنه نهض فجأة ليسدل ستارة على الشباك، ثم صب لنا المزيد من الويسكي مازجًا إياه بجعة الزنجبيل التي اشتراها، وأكلنا النقانق. كنت أعلم أننا اقترفنا خطأ بإيقاف السيارة والدخول إلى هنا. أخذ إحساسي بالسعادة يذوي برغم أني أخذت أشرب المزيد على أمل أن يعود ثانية، لكني لم أشعر سوى أنني منتفخة وجسدي ثقيل خاصة أصابع يدي وقدمي.

قال كلايف بحدة موجهًا حديثه إليَّ: «هل تؤمنين بحق المرأة في المساواة؟»

«نعم.» قلتها وأنا أحاول أن أستجمع شتات نفسي وقد شجعني السؤال وأشعرني بأنه يتعين عليَّ أن أجيب على أمل الدخول في مناقشة.

«هل تناصرين أيضًا توقيع عقوبة الإعدام على النساء؟»

«لا أناصر عقوبة … الإعدام على الإطلاق. لكن إن كانت ستطبق فيجب أن تطبق على النساء كذلك.»

قال كلايف بسرعة الرصاص: «تعتقدين أن النساء يجب أن يُشنقن كالرجال؟»

ضحكت بصعوبة دون أي سعادة، فقد بدأ الإحساس بالمسئولية يعود إليَّ.

دفع هذا كلًّا من بيرت وكلايف لأن يُلقيا النكات، وكل نكتة كانت تبدأ جادة وتستمر هكذا لفترة حتى لتبدو أنها حكاية تعليمية ذات مغزى؛ ومن ثَمَّ كان ينبغي أن نظل طوال الوقت مترقبتين كي لا تبدو علينا الحماقة ونصمت عندما يأتي وقت الضحك. كنت أخشى أنني إذا لم أضحك في الحال فسوف يكون انطباعهم عني أنني ساذجة حتى إنني لم أستوعب النكتة أو أن النكتة قد أهانتني. في كثير من تلك النكات — كما في النكتة الأولى — كان ضروريًّا أن أزود أنا أو ناعومي المحادثة بكلام جاد، والطريقة التي كنا نفعل بها هذا — كي لا نظهر بصورة الحمقى كما بدوت أنا في تلك المرة — هو أن نجيب بشكل متردد ساخط لكن في نفس الوقت متساهل بعض الشيء؛ كي نتابع النكتة بترقب ونبتسم ابتسامة خفيفة كما لو أننا نعرف ما سيأتي. وبين النكات قال بيرت لناعومي: «تعاليْ إلى الفراش معي.»

فقالت: «كلا شكرًا، إنني مرتاحة حيث أنا.» ورفضت أن تشرب المزيد وأخذت تنفض دخان السيجارة في منفضة السجائر الخاصة بالفندق.

«لماذا تكرهين الأسرَّة؟ فيها تحصلين على المزيد.»

«احصل أنت على ما تشاء.»

أما كلايف فلم يَبْقَ ثابتًا في مكانه قط، فقد أخذ يتحرك في أرجاء الغرفة؛ يُمَثِّلُ وكأنه يلاكم أناسًا وهميين، ويمثل نكاته عمليًّا، يندفع نحو بيرت على السرير حتى قفز بيرت في النهاية هو الآخر وأخذا يتظاهران أنهما يتعاركان؛ يُسَدِّدان لكمات قريبة ويقفزان وهما يضحكان. فاضطررت أنا وناعومي لأن نُبعِد أقدامنا عنهما.

قالت ناعومي: «إنهما مغفلان.»

أنهى كلايف وبيرت عرضهما بأن وضع كل منهما يده على كتف الآخر وواجهانا بشكل رسمي كما لو كانا فوق خشبة مسرح.

قال بيرت: «أرى من ثيابك أنك راعي بقر …» فرد عليه كلايف مغنيًا: «أرى من ثيابك أنك أيضًا راعي بقر …»

«من ثيابنا، يمكنكما أن تعرفا أننا راعيا بقر …»

قال بيرت بلهجة مخيفة: «أنت يا راستوس.»

«نعم؟»

«هل أنت في الرابعة أم في الخامسة من عمرك؟»

«لا أعرف، لا أعرف هل أنا في الرابعة أم في الخامسة من عمري.»

«راستوس؟ هل أنت خبير بالنساء؟»

«كلا.»

«إنك في الرابعة من عمرك إذن!»

ضحكنا لكن قالت ناعومي: «هذا الحوار من العروض الغنائية بمهرجان كنزمن في تابرتون، لقد سمعت هذا من قبل.»

قلت وأنا أنهض: «لا بد أن أذهب إلى الحمام.» لا بد أنني كنت لا أزال ثملة؛ ففي الظروف الطبيعية لم أكن لأقول هذا أمام رجال أبدًا.

قال بيرت بكرم: «أصرح لك بهذا، اذهبي، لديك تصريح مني لمغادرة الغرفة. انزلي إلى البهو وادخلي الباب المكتوب عليه …» حدق فيَّ للحظة ثم دفع وجهه حتى كاد يلصقه بصدري وقال: «نعم، فهمت الآن … مكتوب عليه السيدات.»

وجدت الحمام واستخدمتُه ثم تذكرت بعدها أنني لم أُغلق الباب. وفي طريق عودتي رأيت فقاعة السائل الأحمر وخلفها ضوء قادم من نهاية الممر. مشيت نحوها وتجاوزت غرفة بيرت، وخلف ذاك الضوء كان هناك باب مؤدٍّ لسلم الطوارئ تُرِكَ مفتوحًا لأن الجو كان حارًّا في تلك الليلة. كُنَّا في الطابق الثالث، آخر طوابق الفندق. خطوت إلى الخارج فتعثرت وكدت أسقط فوق الدرابزين ثم تمالكت نفسي وانحنيتُ، وبصعوبة كبيرة خلعت صندلي الذي كنت أظنه سبب تعثري. نزلت السلالم كلها وفي نهاية السلالم كانت هناك فجوة بين آخر درجة وبين الأرض تبلغ نحو ستة أقدام، فألقيت صندلي إلى أسفل في البداية — وأنا أشعر بذكائي لأني فكرت في هذا — ثم جلست على آخر درجة من درجات السلم ودليت جسدي لأسفل قدر استطاعتي، ثم قفزت فسقطت على طين جاف في الزقاق الذي يفصل بين الفندق ومحطة الإذاعة. انتعلت صندلي وأنا أشعر بالحيرة؛ إذ كنت أنوي حقًّا العودة إلى الغرفة، لم أستطع التفكير أين سأذهب. نسيت تمامًا أمر بيتي في شارع ريفر وفكرت أننا لا نزال نعيش في طريق فلاتس. وفي نهاية الأمر تذكرت منزل ناعومي، وبتخطيط حريص فكرت أن بإمكاني الوصول إليه.

مشيت بامتداد حائط فندق برونزويك أتخبط في الجدار الطوبي حتى وصلت إلى ظهر الفندق وسرت في طريق دياجونال — في البداية في الاتجاه الخاطئ ثم اضطررت لأن أعود أدراجي — وعبرت الطريق الرئيسي دون أن أتلفت عن يميني أو يساري، لكن الوقت كان متأخرًا ولم تكن هناك سيارات مارَّة. لم أستطع أن أرى الوقت جيدًا على ضوء القمر الخافت في ساعة مكتب البريد. ما إن خرجت عن الطريق الرئيسي، قررت أن أمشي على الحشائش في الساحات الأمامية لمنازل الناس؛ لأن الرصيف كان خشنًا، خلعت صندلي مرة أخرى، وفكرت أنني يجب أن أخبر الجميع عن هذا الاكتشاف أن المشي على الرصيف يؤلِم أما الحشائش فملمسها ناعم. لماذا لم يفكر أحد في هذا من قبل؟ وصلت لبيت ناعومي في شارع ميسون، ونسيت أننا تركنا الباب الخلفي مفتوحًا فذهبت إلى الباب الأمامي وحاولت فتحه، لكنني فشلت فطرقته برفق في البداية، ثم أخذ طرقي يشتد ويعلو صوته. فكرت أن ناعومي لا بد أن تكون في الداخل وأنها سوف تسمعني وستأتي لتُدخِلني.

لم توقد الأضواء، ولكن الباب فُتح وأطل منه والد ناعومي لابسًا ثياب النوم بساقيه العاريتين وشعره الأشيب يتوهج في الظلام كميت قام من قبره. قلت: «ناعومي …» ثم تذكرت، واستدرت وتعثرت على درجات السلم واتجهت إلى شارع ريفر الذي تذكرته في الوقت نفسه. ثم قررت أن أكون أكثر حكمة، فاستلقيت على الأرجوحة الموجودة في الشرفة، وغرقت في سبات عميق في دوامات من النور والظلمة تبتلعني وأنا عاجزة أتجشأ فتفوح من أنفاسي رائحة النقانق.

لم يعد والد ناعومي إلى فراشه، بل جلس في المطبخ في الظلام حتى عادت ناعومي، فاستلَّ حزامة وأخذ يضربها على ذراعيها وساقيها ويديها وعلى أي مكان طاله حزامه، وأجبرها على أن تجثو على ركبتيها على أرض المطبخ وتستغفر الرب قائلة إنها لن تذوق الخمر ثانية.

أما أنا فقد استيقظت في الساعات الأولى من الفجر أشعر بالبرد والغثيان والألم، فخرجت على الفور من الشرفة وتقيأت على كومة من نبات القرطب بجانب المنزل. كان الباب الخلفي مفتوحًا طوال ذلك الوقت، فغطست رأسي وشعري في حوض المطبخ محاولة التخلص من رائحة الويسكي، وصعدت السلم بحرص حتى وصلت إلى السرير. عندما استيقظت أمي أخبرتها أنني شعرت بالإعياء في بيت ناعومي فعدت إلى البيت ليلًا. ظللت طوال اليوم في فراشي أعاني صداعًا رهيبًا واضطرابًا في معدتي ووهنًا شديدًا وشعورًا بالإخفاق والارتياح. شعرت بأنني أسترد ذاتي من خلال الأشياء الطفولية، مثل مصباحي القديم على شكل شخصية سكارليت أوهارا، والزهور المعدِنية الزرقاء والبيضاء التي تمسك ستائري المرتخية المنقطة. وأخذت أقرأ كتاب «حياة شارلوت برونتي».

ومن نافذتي رأيتُ المروج ذات الأعشاب القصيرة خلف قضبان السكة الحديدية، التي مالت إلى اللون الأرجواني مع الحشائش التي تزدهر في شهر يونيو، وكنت أستطيع كذلك أن أرى جزءًا صغيرًا من نهر واواناش الذي لا يزال فائضًا وأشجار الصفصاف الفضية. وأخذت أحلُم بأن أعيش حياة على طراز القرن التاسع عشر؛ حيث التنزُّه سيرًا على الأقدام والتأمُّل، والاستقامة واللباقة والعذرية والسلام.

أتت ناعومي إلى حجرتي وقال بغلظة هامسة: «يا إلهي! يجدر بي أن أقتلك لأنك تركتِنا وانصرفت.»

«شعرت بالإعياء.»

«هراء، من تظنين نفسك؟ كلايف ليس أحمق كما تعرفين. إنه يعمل في وظيفة مرموقة؛ فهو محقق تأمين. من تريدين أن ترافقي؟ صبيان المدرسة الثانوية؟»

ثم أرتني آثار الضرب وأخبرتني بما فعله أبوها.

«لو أنك عدتِ معي إلى البيت لاستحيا أن يفعل هذا. كيف عرف بحق الجحيم أنني خرجت أساسًا؟»

لم أقُل لها شيئًا قط، ولم يقُل هو شيئًا، ربما اختلط عليه الأمر أو ظن أنني شبح. كانت ناعومي تعتزم الخروج مع بيرت ماثيوز مرة أخرى في عطلة الأسبوع المقبل، ولم تبالِ.

«يمكنه أن يضربني حتى يتعب، لا بد أن أعيش حياة طبيعية.»

ما هي الحياة الطبيعية؟ هي حياة الفتيات في مكتب محل الألبان، حياة حفلات الهدايا والملاءات والأواني والمقالي وفضيات المائدة، ذاك الترتيب الأنثوي المعقد؛ وعلى الجانب الآخر نجِد حياة قاعة رقص «جاي لا» والقيادة تحت تأثير الكحول ليلًا في الطرق المظلمة، وسماع النكات التي يلقيها الرجال، وتحمل الرجال والصراع معهم بحذر والسيطرة عليهم، ولا يمكن لأحد وَجْهَيْ هذه الحياة أن يوجد دون الوجه الآخر، وعبر سلوك الطريقين والاعتياد عليهما كانت الفتاة تضع نفسها على الطريق المؤدي للزواج. لم يكن هناك سبيل آخر، وأنا لن أستطيع سلوك ذلك الطريق. كلا، إنني أفضل «شارلوت برونتي».

«انهضي وارتدي ثيابك وانزلي معي إلى وسط المدينة، سوف يفيدك هذا.»

«أشعر بإعياء شديد.»

«إنك طفلة كبيرة. ماذا تريدين؟ هل تريدين أن تزحفي إلى حفرة تقضين فيها باقي حياتك؟»

منذ ذلك اليوم، بدأت صداقتنا تذوِي، صارت كل منا لا تتردد على منزل الأخرى. وحين التقينا في الطريق في الشتاء التالي أطلعتني — وهي مرتدية معطفها الجديد وحوافه من الفراء وأنا أحمل كومة الكتب المدرسية — على آخر مستجدات حياتها؛ أنها كانت ترافق أحدًا لم أسمع عنه من قبلُ، شخصًا ما من بورترفيلد أو بلو ريفر أو تابرتون. أما بيرت ماثيوز فقد هجرته سريعًا؛ فقد اتضح أن دوره كان يقتصر على مرافقة الفتيات الصغيرات في أول موعد لهن، وكان يلاحق فقط الفتيات الصغيرات عديمات الخبرة، برغم أنه لم يضايقهن قَطُّ أو يورطهن في أي مشاكل، مع كل ثرثرته. وأخبرتني أيضًا أن كلايف تعرض لحادث سيارة وبُتِرَتْ إحدى ساقيه من أسفل الركبة وقالت: «لا عجب في ذلك، فهم يسرفون في احتساء الكحول، ويقودون كالحمقى.» كانت تتكلم بتسليم أمومي، بل وبفخر، كأن الإفراط في الشرب والقيادة كالحمقى أمر لا غبار عليه، شيء مؤسف لكنه ضروري. بعد فترة توقَّفت عن تقديم تقارير ما تُحْرِزُهُ من تقدُّم لي. فكنا نتقابل في جوبيلي وكل ما نقوله لبعض هو «مرحبًا.» أحسست أنها تجاوزتني كثيرًا فيما افترضت بقلق والتباس أنه العالم الحقيقي، كما تجاوزتها أنا كثيرًا في كل فروع المعرفة المتخصصة البعيدة عن الواقع عديمة الجدوى، التي تُدرَّس في المدارس.

•••

كنت أحصل على أعلى الدرجات في المدرسة ولم أكتفِ منها أبدًا؛ فكلما كنت أعود إلى بيتي محمَّلة بشهادات لأعلى الدرجات، كنت أفكر في كيف أجني المزيد منها. كانت تبدو لي ملموسة وذات ثقل كالحديد، وكنت أجمعها حولي كمتاريس، وإن حدث وفقدت إحداها كنت أحس بفجوة خطيرة.

في القاعة الرئيسة للمدرسة الثانوية، حول قائمة الشرف لأسماء الطلبة السابقين الذين قُتِلُوا في المعارك ما بين عامي ١٩١٤ و١٩١٨ وبين عامي ١٩٣٩ و١٩٤٥، عُلِّقت لوحات خشبية، كل لوحة خاصة بصَفٍّ معين، وفي كل لوحة علامات فضية صغيرة تحمل أسماء الأوائل كل عام، وتظل هكذا إلى أن يختفي أصحاب هذه الأسماء في الوظائف وأعباء الأمومة. كان اسمي مكتوبًا لكن ليس في كل سنة، ففي بعض الأحيان كان جيري ستوري يتفوق عليَّ؛ فقد كان معدل ذكائه هو الأعلى في تاريخ مدرسة جوبيلي الثانوية وجميع المدارس الثانوية في مقاطعة واواناش. والسبب الوحيد الذي كان يُمَكِّنُنِي من التفوُّق عليه هو أن انشغاله بالعلوم جعله ضيق الصدر تجاه تلك المواد التي يصفها باسم «مواد الحفظ» (اللغة الفرنسية والتاريخ) بالإضافة إلى الأدب الإنجليزي — وأحيانًا ينسى أمرها تمامًا — الذي كان يثير ضيقه كما لو أنه إهانة شخصية.

كنت أنا وجيري ستوري نتناغم معًا، كنا نتحدث معًا في الأروقة، ونشأ بيننا تدريجيًّا نوع من المزاح، ومصطلحات ومجموعة من الموضوعات التي لا يشاركنا الاهتمام بها أحد آخر. كان اسمانا يُكتبان معًا في الصحيفة المدرسية الصغيرة التي تكتب بالآلة الناسخة وتكاد تكون غير مقروءة. الجميع كانوا يروننا ملائمين لبعضنا، وكانوا يطلقون علينا أسماء «فريق الخبراء» أو «العباقرة»، ويفعلون هذا بقدر من الازدراء تعوَّد جيري على التعايش معه أكثر مني. كنا نشعر بكآبة لأن الطلاب كانوا يعتبروننا العضوين الوحيدين من نوع غريب من الكائنات الموجودة في حديقة حيوان، وكنا نستاء من فكرة أنهم يظنون أننا متشابهين؛ لأننا لم نكن نظن ذلك. فكنت أرى أن جيري أغرب مني ألف مرة، وكان أقل مني جاذبية، وكان من الواضح أن تصنيف عقلينا معًا في الفئة نفسها لا يجعل للفئات أي أهمية؛ فهو يشبه أن تقول إن توسكانيني وقائد الفرقة المحلية الاثنين موهوبان. عندما كنا نناقش المستقبل كان يقول لي بصراحة إنني أملك ذاكرة ممتازة، وموهبة أنثوية غير استثنائية في التعامل مع اللغات، لكن قدرات التفكير المنطقي لديَّ ضعيفة، وتقريبًا لا أملك أي قدرة على التفكير المجرد. وقال أيضًا إن حقيقة أنني أكثر ذكاءً بكثير من معظم أهل جوبيلي لا يَجِبُ أن تعميني عن حقيقة أنني قريبًا سأصل إلى أقصى حدودي في العالم الخارجي التنافُسي على المستوى الفكري. (وأضاف قائلًا بحدة: «وهو ما ينطبق عليَّ أنا أيضًا، إنني أحاول دائمًا أنا تكون لي نظرة مستقبلية. فأنا أبدو متميزًا في مدرسة جوبيلي الثانوية لكن كيف سأكون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؟» حين كان يتكلم عن مستقبله كان يمتلئ بطموحات هائلة، لكنه كان يحرص على أن يعبر عنها بشكل ساخر ويحيطها بنقد ذاتي واقعي.)

استمعت إلى رأيه كما يستمع الجندي إلى الأوامر لأنني لم أصدقه؛ أي إنني كنت أعرف أن كلامه كله حقيقي، لكنني مع ذلك كنت أشعر بأنني أتمتع بنقاط قوة كبيرة في بعض المجالات، التي أرى أنه لا يستطيع ملاحظتها ولا يصل إليها نطاق حكمه. لم تكن طريقة تفكيره تروق لي؛ لأن الناس لا يعجبها إلا القدرات التي تشابه — وتفوق — قدراتهم. كنت أرى عقله كخيمة السيرك المليئة بأجهزة غامضة، كان يمارس عليها — في غيابي — ألعابًا بهلوانية مذهلة ولكنها مملة. وحرصت على ألا أجعله يدرك ما أفكر به. لقد كان صادقًا وأمينًا معي في رأيه عني على ما يبدو، لكن لم يكن لدي أية نية في أن أكون هكذا معه. لِمَ لا؟ لأنني أحسست فيه ما تحس به النساء في الرجال؛ شيئًا ناعمًا متفاخرًا طاغيًا سخيفًا، شيئًا لا أستطيع قط تحمُّل عواقب التدخُّل فيه، لقد كان بداخلي شعور باللامبالاة، بل بالازدراء، أخفيته عنه. وكنت أظن أنني بهذا أكون لبقة وعطوفًا، لم أفكر أبدًا أنني متكبرة.

كنا نذهب إلى السينما معًا، وإلى حفلات المدرسة الراقصة، وكنا نرقص رقصًا سيئًا عصبيًّا وكل منَّا ساخط على الآخر، وكنا نشعر بالإهانة من تنكُّرنا في هيئة حبيبين في المدرسة الثانوية، وهو ما كنا مُضْطَرَّيْنِ إليه حتى اكتشفنا أن الطريقة الوحيدة للتغلب على هذا الموقف هو أن نسخر منه. كان خلاصنا يتمثل في المحاكاة الساخرة والتهكُّم على الذات. في أحسن الأحوال، كنا نبدو رفيقين مبتهجين يشعران بالارتياح معًا وأحيانًا القسوة على أحدنا الآخر، وليس زوجين تزوجا منذ أكثر من ثمانية عشر عامًا. كان يطلق عليَّ لقب «الباذنجانة» بسبب ثوب كان لديَّ من التفتة لونه قرمزي نبيذي، وهو في الأساس ثوب تركته فيرن دوجرتي عندما رحلت وعدلته أمي ليكون مقاسي. (فقد صرنا فجأة أفقر من ذي قبل بسبب انهيار تجارة الثعالب الفضية عقب الحرب.) بينما كانت أمي تعمل على تعديل هذا الثوب، كنت آمُل أن يصبح على ما يرام وأن يظهر بريقًا مثيرًا لفخذيَّ العريضتين المثيرتين، مثل فستان ريتا هيوارث في إعلان فيلم «جيلدا»، وعندما ارتديته حاولت أن أقنع نفسي بأنه كان كذلك، لكن بمجرد أن رأيت تعبير وجه جيري ورأيته وهو يزدرد لُعابه بصورة مبالغ فيها ويقول بصوت رفيع ساخر: «باذنجانة!» عرفت الحقيقة. وعلى الفور حاولت أن أجد الأمر طريفًا ومضحكًا كما فعل هو ونجحت تقريبًا، وفي الطريق ارتجلنا أكثر.

«حضر الحفل الراقص المسائي الأخير لمنتصف الشتاء الذي يقام في دار ترسانة جوبيلي السيد جيري ستوري الثالث، سليل عائلة كريمة تعمل ببيع الأسمدة، والآنسة الفاتنة ديل جوردان وريثة إمبراطورية الثعالب الفضية، وهما زوجان أبهرا الحضور برقصهما الفريد الذي يفوق الوصف …»

الكثير من الأفلام التي شاهدناها في السينما كانت تدور حول الحرب والتي انتهت قبل أن نبدأ المدرسة الثانوية بعام واحد. وبعدها كنا نذهب إلى مطعم «هاينز»، الذي كنا نفضِّله عن مقهى «بلو آول» الذي يذهب إليه كل زملائنا في المدرسة الثانوية تقريبًا ليُشَغِّلُوا الأغاني في صندوق الموسيقى ويلعبوا بماكينات لعبة الكرة والدبابيس. كُنَّا نحتسي القهوة وندخن سجائر برائحة المنثول، وبين الحجيرات كانت هناك حواجز خشبية داكنة مرتفعة تعلوها نوافذ مروحية من زجاج ذهبي داكن. كان جيري يتحدث عن الحرب وهو يقوم بتجعيد المناديل الورقية على هيئة أشكال هندسية ويلفها حول ملعقة ويمزقها إلى أشرطة صغيرة. كان يصف لي مسيرة الموت من باتان، وأساليب التعذيب في معسكرات الاعتقال اليابانية، وقصف طوكيو الناري وتدمير درسدن، لقد أمطرني بحكايات وحشية وإحصائيات مدمرة لم أسمع مثيلًا لها. وكنت أستمع إليه دون أدنى اعتراض وإنما بحماس محدود واستمتاع فضولي مستمر. ثم أخذ يحدثني عن الأسلحة التي يطورها الأمريكان والروس، وقد جعلت روايته من قوتهما التدميرية أمرًا حتميًّا هائلًا لا جدوى من مقاومته وكأنه قوى الكون نفسه.

«الحرب البيولوجية؛ إنهم يستطيعون إعادة إنتاج الطاعون الدبلي، إنهم يخلقون أمراضًا لا يوجد علاج لها ويخزنونها. غازات الأعصاب؛ ماذا عن السيطرة على شعب بأكمله من خلال عقاقير تُذهب العقل جزئيًّا؟ …»

كان موقنًا من أنه ستكون هناك حرب أخرى قادمة، وأنها ستقضي علينا جميعًا. فمن وراء نظارته التي تنم عن العبقرية، كان يبدو مبتهجًا عنيدًا وهو يتوقع كارثة هائلة، بل وكارثة قريبة. كان رد فعلي لما يقول هو أني اصطنعت نظرة الرعب التقليدية، العقلانية الأنثوية المعتادة، التي من شأنها أن تثيره وتدفعه إلى معارضة أكبر، وتجعل من الضروري له أن يرعبني أكثر ويجادل منطقي. لم يكن هذا أمرًا عسيرًا عليَّ؛ فالعالم الذي يعرفه كان ذلك العالم الحقيقي حيث يعرف كيف يشطرون الذرة، أما العالم الوحيد الذي كنت أعرفه أنا فهو العالم الذي صنعته بنفسي بمساعدة كتبي؛ كي يكون عالمًا خاصًّا ومغذيًا لي. لكنني توقفت عن هذا، شعرت بالسأم والغضب وقلت له حسنًا فلنفترض أن هذا حقيقي، لماذا إذن تستيقظ من نومك كل صباح وتذهب إلى المدرسة؟ إذا كان هذا صحيحًا، فلماذا تخطط لأن تصير عالمًا عظيمًا؟

«إذا كان العالم سينتهي، ولم يعُد ثمة أمل، فلماذا إذن تفعل هذا؟»

قال بلهجة غريبة ليجعلني أضحك: «لا يزال أمامي وقت كي أحصل على جائزة نوبل.»

«عشر سنوات؟»

«أمهليني عشرين سنة؛ فمعظم الاكتشافات العظيمة كانت على أيدي رجال لم يبلغوا الخامسة والثلاثين.»

كان دائمًا يتمتم بعد أن يقول أمرًا كهذا: «تعلمين أنني أمزح.» لكنه كان يعني جائزة نوبل لا بشأن الحرب. فلم نستطع الفكاك من الاعتقاد السائد في جوبيلي، الذي يقول إن ثمة أخطارًا هائلة خارقة للطبيعة تلازم المزهوِّين أو من لهم آمال وتطلُّعات للمستقبل. لكن في الواقع ما كان يجذبنا ويُبقينا معًا كانت هي تلك الآمال، تلك الآمال التي كُنَّا نُنكِرها ونعترف بها ونحترمها ونسخر بعضنا منها لدى البعض.

في عصر أيام الأحد كنا نحب أن نذهب في نزهات طويلة سيرًا على الأقدام على طول قضبان السكك الحديدية بادئين من خلف منزلي. كنا نسير حتى الجسر الممتد فوق الالتواء الكبير في نهر واواناش، ثم نعود أدراجنا. كنا نتحدث عن القتل الرحيم والسيطرة الجينية على أعداد السكان، وعمَّا إذا كان هناك فعلًا ما يسمى بالروح، وإذا ما كان من الممكن أن نعرف كل شيء عن الكون. ولم نكُن نتفق على شيء. في البداية كنا نتنزَّه في الخريف ثم في الشتاء. فكنا نسير في العواصف الثلجية نتجادل خافضَين رأسَينا داسَّيْن أيدينا في جيوبنا، بينما تضرب حبات الثلج الرفيعة الحادة وجهينا، وبعد أن نتعب من الجدال كنا ننتزع أيدينا من جيوبنا ونمد أذرعنا أمامنا؛ لكي تمنحنا بعض التوازن ونحن نحاول أن نمشي على قضبان السكك الحديدية. كانت لجيري ساقان طويلتان ضعيفتان ورأس صغير وشعر مجعد وعينان مدورتان لامعتان، وكان يعتمر قبعة ذات نقوش مربعة ولها غطاء على الأذن مبطَّن بالصوف، وكنت أذكر أنه يرتديها منذ الصف السادس.

تذكرت أنني كنت أسخر منه مثلما كان يفعل الجميع، وكنت لا أزال أحيانًا أستحيي من أن يراني أحد، مثل ناعومي، بصحبته. لكنني الآن بدأت أفكر أن به أمرًا يثير الإعجاب، ميزة غريبة ولاذعة في طريقة التزامه بالنموذج، وتقبُّله لدوره في جوبيلي، وسخافته الضرورية التي تُشعِره بالرضا والسعادة، بما تحمله من نزعة حتمية، وهو ما لم أكُن أنا نفسي قادرة قط على استجماعه. كانت تلك هي الروح التي يظهر بها في الحفلات الراقصة والتي يقودُني بها بتشنُّج فوق أرضية قاعة الرقص الزلقة، والتي يتأرجح بها بلا جدوى نحو الكرة خلال مباراة البيسبول السنوية الإجبارية، والتي يمشي بها مع الطلاب في التدريب العسكري. كان يقدم نفسه دون أن يتظاهر بأنه ولد عادي، ولكن يفعل ما يفعله الولد العادي وهو يعلم أن أداءه لا يمكن أن يكون مقبولًا وأن الآخرين سوف يسخرون منه لا محالة. لكن لم يكُن بإمكانه سوى فعل هذا، فباطنه كظاهره. أما أنا — التي كانت حدودي الطبيعية أكثر غموضًا، وحيث اعتدت أن أتماشى مع ما حولي قدر استطاعتي — فبدأت أرى أنه قد يكون من المريح أن أكون مثل جيري.

أتى جيري إلى منزلي يومًا للعشاء، وكان هذا رغمًا عني؛ فلم أكن أحب أن أُجلِسه وجهًا لوجه مع أمي؛ فقد كنت أخشى أنها ستتحمس حماسًا زائدًا، وتحاول أن تتفوق على نفسها بطريقة ما بسبب شهرة جيري بالذكاء. وهذا هو ما حدث؛ فقد حاولت أن تجعله يشرح لها نظرية النسبية، وأخذت هي تومئ له وتشجعه وتكاد تقفز من مكانها مطلقة صيحات خافتة تدل على فهمها، وتلك المرة كان شرحه غير مترابط. وأخذت أنا أنتقد الطعام، كما كنت أفعل دائمًا قبل أن نحظى بهذه الصحبة؛ فاللحم يبدو ناضجًا أكثر مما ينبغي، والبطاطس نيئة بعض الشيء، والفاصوليا المعلبة باردة جدًّا. أتى أبي ومعه أوين من طريق فلاتس لأنه كان يوم الأحد، وكان أوين يعيش في طريق فلاتس طوال الوقت آنذاك وصار فظًّا للغاية؛ فبينما كان جيري يتحدث، أخذ أوين يمضغ الطعام بصوت مرتفع وينظر إلى أبي نظرات تنم عن جهل وازدراء ذكوري. لم يتجاوب أبي مع نظراته تلك، وإنما اكتفى بقليل من الكلام، وربما كان محرجًا من حماس أمي الذي ربما ظن أنه حماسًا كافيًا لكليهما. أما أنا، فكنت غاضبة من الجميع، كنت أعلم أن أوين وأبي أيضًا يريان جيري شخصًا غريب الأطوار طُرد من عالم الرجال، ولا أهمية لما يعرفه. (ورغم أن أبي لم يكن يظهر ذلك؛ فإنه كان يعلم أن هناك طريقة واحدة للنظر إلى الأمور.) وقد بدا لي أنهما على درجة من الحماقة تمنعهما من رؤية ما يمتلكه من قوة. أما جيري، فقد كانت عائلتي في نظره جزءًا من الجموع الحاشدة من البشر الذين لا يستحق الأمر تكبد مشقة شرح أي شيء لهم، ولم يكن يرى أنهم يملكون قوة بداخلهم. لقد كان عدم الاحترام ظاهرًا من الجميع وموجهًا إلى الجميع.

«مما يثير ضحكي ما يظنه الناس من أنهم يمكنهم أن يطرحوا أسئلة قليلة، ويستطيعون الفهم دون أن يعرفوا أي شيء من الأساسيات.»

قلت بمرارة: «فلتضحك إذن، أتمنى أن تستمتع بوقتك.»

لكنه كان يروق لأمي، ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا كانت تترقب مجيئه لتعرف رأيه في أشكال الحياة التي تُخلق في المعامل، وفي احتلال الماكينات مكان البشر. كنت أتفهم كم كان ذاك السيل المحموم من الأسئلة يربكه ويثير ضيقه. ألم أشعُر أنا نفسي بهذا عندما اختطف هو رواية «أيها الملاك تطلع إلى بيتك» من أعلى كومة الكتب التي كنت أزمع إعادتها إلى المكتبة، وفتحه ثم أخذ يقرأ في حيرة: «حجر، ورقة شجر، باب … وهكذا أضاعت الرياح الشبح وأحزنته …» فانتزعت الكتاب من يديه كما لو كان يعرضه لخطر. قال لي بعقلانية: «ماذا يعني هذا؟ ما أراه إلا هراء، فلتشرحيه لي، كلي آذان مصغية.»

وقالت عنه أمي: «إنه خجول للغاية، هو فتى ذكي لكن لا بد أن يتعلم كيف يعبر عن نفسه بصورة أفضل.»

كان الأسهل أن نتناول العشاء في بيته؛ فقد كانت والدته أرملة لمعلم وكان هو ابنها الوحيد. كانت تعمل سكرتيرة في المدرسة الثانوية ولهذا كنت أعرفها مسبقًا. كانا يقطنان نصف بيت مزدوج يقع على طريق دياجونال. في ذلك البيت، كانت مناشف الأطباق مكوية ومطوية كما لو كانت أفضل المناشف الكتانية، وموضوعة في درج تفوح منه رائحة الليمون. وللتحلية تناولنا بودنج الجيلي ثلاثي الألوان الممتلئ بالفواكه المعلبة. بعد العشاء، دخل جيري إلى غرفة الاستقبال لحل مسألة الشطرنج الأسبوعية التي تلقَّاها عبر البريد (وهذا مثال على ما كنت أعنيه عن التزامه المثير للإعجاب بالنموذج) وأغلق الباب الزجاجي حتى لا يشتت حديثُنا تركيزه. قمت أنا بتجفيف الأطباق، وأخذت والدته تتحدث عن معدَّل ذكائه، وكانت تتحدث عنه كما لو أنه شيء نادر، ربما كاكتشاف أثري، شيء قيِّم لدرجة هائلة ولكنه مخيف تحتفظ هي به مغلَّفًا في خزانة.

ثم قالت بنبرة مُطمئِنَّة: «أنت أيضًا معدل ذكائك مرتفع.» (فقد كانت كل سجلات المدرسة متاحة أمامها في المدرسة، بل إنها في الواقع كانت هي من تحتفظ بها)، واستدركت قائلة: «لكنك تعرفين أن معدل ذكاء جيري يجعله في الربع الأعلى من نسبة الواحد بالمائة من السكان الأكثر ذكاءً. أليس من المذهل أن نفكر في هذا؟ وها أنا ذي، والدته، يا للمسئولية الملقاة على عاتقي!»

وافقتها على ذلك.

«سوف يظل لسنوات وسنوات في الجامعة، وسوف يكون عليه أن يحصل على الدكتوراه، ثم سيُكمل بعدها إلى دراسات ما بعد الدكتوراه وغير ذلك، هذا يستغرق سنوات.»

أحسست من لهجتها الرصينة أنها سوف تتكلم الآن عن النفقات.

قالت بواقعية وجدية: «لذا، لا بد أن تتجنبي المشاكل كما تعلمين، فجيري لا يستطيع الزواج، ولن أسمح بهذا. لقد رأيت حالات كثيرة كهذه يُضطر فيها الشباب أن يضحوا بحياتهم لأن فتاة ما صارت حاملًا، ولا أظن ذلك أمرًا صائبًا. كلانا رأى هذا، أنت تعرفين الحالات التي أقصدها في المدرسة. زواج إجباري على وجه السرعة لتجنُّب الفضائح، هذا هو الأسلوب في جوبيلي، لا أتفق مع هذا، ولم أتفق يومًا مع هذا، لا أرى أنها مسئولية الفتى وأنه يجب أن يضحي بمستقبله المهني لأجل هذا، هل ترين هذا؟»

«كلا.»

«هذا ما اعتقدته، أنت فتاة شديدة الذكاء، هل تستخدمين عازلًا لمنع الحمل؟» قالتها بسرعة خاطفة.

قلت وأنا أشعر بالخدر: «لا.»

«حسنًا، لماذا لا تشترين واحدًا؟ فأنا أعرف كيف تسير أموركن هذه الأيام أيتها الفتيات الصغيرات، فقد غدت العذرية شيئًا من الماضي، فليكن، لا أقول إنني أوافق أو لا أوافق لكن لا يمكن للمرء أن يعيد الزمن إلى الوراء، أليس كذلك؟ لا بد لأمك أن تجعلك تستخدمين العازل، هذا ما كنت سأفعله لو أن لي ابنة.»

كانت أقصر مني بكثير، فكانت امرأة ممتلئة الجسم ضئيلة وذكية، وشعرها خفيف ومنتفش أصفر اللون بلون زهور الخزامى تظهر جذوره التي تتحول إلى اللون الرمادي من أسفل. كانت دائمًا ما ترتدي أقراطًا ودبابيس زينة وقلائد ساطعة بألوان متناسقة. كانت تدخِّن وتسمح لجيري بالتدخين في المنزل، بل إنهما كانا دائمًا ما يتجادلان بطريقة ودية كما يتجادل الأزواج حول سجائر مَن تلك. كنت قد هَيَّأت نفسي لأجدها امرأة عصرية في أفكارها، ليست عصرية كأمي على المستوى الفكري — فمن مثل أمي؟ — لكن كنت أتوقع أن أجدها عصرية أكثر بكثير في الأمور العادية. لكنني لم أكن مهيَّأَة لهذا. أخذت أتطلع إلى جذور شعرها التي تتحول إلى اللون الرمادي بينما كانت تتحدث عن أمي التي يجدر بها أن تصطحبني لأركب عازلًا لمنع الحمل، وفكرت في أمي التي قد تنظم حملة إعلانية لتحديد النسل لكنها أبدًا لن تفكر في أنها تحتاج لأن تتحدث معي؛ لأنها كانت مقتنعة تمامًا بأن الجنس هو أمر لا تخضع له أي امرأة — أي امرأة ذكية — ما لم تكن مضطرة لهذا. كان هذا الأسلوب يروق لي أكثر؛ فقد كان أليق بأسلوب أَمٍّ أكثر من تقبل والدة جيري السخيف وأسلوبها العملي غير المحتشِم. بل ولقد رأيته أمرًا مهينًا لأمٍّ أن تأتي على ذكر علاقات حميمة أمام فتاة من الممكن أن تكون تمارسها مع ابنها. بل إن مجرد فكرة العلاقة الحميمة مع جيري ستوري كانت مُهينة في حد ذاتها، لكن هذا لا يعني أنها لم تحدث بين الحين والآخر.

لماذا مهينة؟ كان هذا أمرًا غريبًا. فكنت أنا وهو بمجرد أن ننتهي من مناقشاتنا تحيطنا هالة من الأسى. كانت أيدينا تتشابك معًا وهي رطبة وكل منا يتساءل — ولا شك — إلى متى ستظل أيدينا متشابكة بلباقة محتشمة. كان جسدانا يتلامسان ليس دون قصد، ولكن دون أي استمتاع كما لو كانا جوالي رمل مبتلَّيْن. وكنا نفتح فمينا بالطريقة التي قرأنا وسمعنا عنها لكن نظل باردين ويظل لسانانا جافين، مجرد كتلتين من اللحم غير المحبوب. وما أن يوليني جيري انتباهه — هذا النوع من الانتباه — أستشيط غضبًا ولا أدري لماذا، غير أنني أظل خاضعة بحزن؛ فكل منَّا كان المجال الوحيد للاستكشاف المتاح أمام الآخر.

وكان الفضول من شأنه أن يقود الأمور لأن تنجرف بعيدًا جدًّا؛ ففي إحدى الأمسيات الشتوية كنا في الغرفة الأمامية في منزل والدته — وكانت هي خارج المنزل تحضر اجتماع منظمة النجم الشرقي — فطلب مني جيري أن أخلع كل ثيابي.

«لماذا تريدني أن أفعل هذا؟»

«ألا ترين أن هذا أمر تعليمي؟ فلم يسبق لي أن رأيت امرأة حية عارية من قبل.»

كان للفكرة جاذبيتها الخاصة؛ فكلمتا «امرأة عارية» أشعرتاني بسعادة خفية، وأشعرتاني بأنني ثرية أوزِّع الكنوز. كما أنني فكرت أن جسدي أجمل من وجهي، وأن جسدي وهو عارٍ أجمل منه وهو مدثَّر بالملابس، وكنت دائمًا ما أريد أن أُري جسدي العاري لأحدٍ ما. وكان لديَّ أمل — أو على وجه الدقة فضول تجاه احتمالية — أنه يومًا ما في مرحلة متقدمة من علاقتنا ستتغير مشاعري تجاه جيري وسوف أتمكن من أن أرحِّب بعلاقة حميمة معه. ألم أكن أعلم كل شيء عن الرغبة؟ كنت في الموقف القديم المبتذل الذي يحاول فيه شخص متزوِّج أن يفرغ رغبته المكبوتة في الجسد المتاح أمامه.

لكن لم أكُن لأفعلها في الغرفة الأمامية، وبعد جدال وتباطؤ قال إننا يمكننا أن نصعد إلى غرفته. وبينما كنا نصعد درجات السلم خامرني شعور بالتوق كما لو كنَّا في السابعة أو الثامنة من عمرنا وفي طريقنا لمكان كي نخلع سراويلنا. وبينما كان جيري يرخي ستائر غرفته أوقع المصباح من فوق الطاولة، كدت أن أستدير وأهبط درجات السلم مرة أخرى. لا شيء يعيد الأمور إلى طبيعتها في تلك الأوقات سوى لحظة ارتباك إلا إذا كنت واقعًا في الحب. لكني برغم هذا قررت أن أحافظ على روحي المرحة؛ فعاونته في رفع المصباح وتعديل غطائه المائل ولم أتضايق حتى عندما أوقده حتى يرى إذا ما كان قد تلف. ثم أوليته ظهري وخلعت كل ما عليَّ من ملابس — دون أن يساعدني هو أو يلمسني ممَّا أشعرني بالسعادة — ثم استلقيت على الفراش.

شعرت بالسخف والذهول.

وقف هو بجوار الفراش وأخذ ينظر إلي وهو يرسم على وجهه تعبيرات دهشة كوميدية باهتة. هل وجد جسدي غير متناسق وغير مدرك كما وجدت أنا جسده؟ هل أراد أن يحوِّلني إلى فتاة هادئة الأعصاب ذات شهوة غير معقدة بالوعي الذاتي، فتاة دون إجابات ذكية ولا مفردات ضخمة أو أي اهتمام بفكرة نظام الكون، فتاة مهيئة لأن تحتويه وتهدهده في فراشه؟ ضحِكنا نحن الاثنين، ومد هو إصبعه ليلمس إحدى حلمتي ثديي كما لو كان يختبر شوكة نتأت على جسدي.

كنا أحيانًا نتبادل الأحاديث الفكاهية بلهجة شخصية بوجو، الشخصية الرئيسية في القصة الهزلية المصورة «بوجو»، وهذا ما فعلناه في ذلك الموقف.

«إنك بالطبع شكل جذاب لجسد المرأة.»

«هل كل جزء من جسدي في المكان المناسب بالشكل المناسب، أتظن هذا؟»

«حسنًا، عليَّ أن أحضر الدليل الإرشادي القديم الصغير وأراجع هذا الأمر.»

«إنك لا تعني ذاك الدليل القديم الصغير الخاص بالثدي الثالث، أليس كذلك؟»

«ألا تمتلك كل النساء ثديًا ثالثًا صغيرًا؟ لقد عشت حياة مغلقة.»

«يا فتى، إنك ولا شك …»

«هشش …»

سمعنا صوت والدته بالخارج وهي تلقي التحية على شخص ما قد أوصلها بسيارته إلى المنزل. أُغلق باب السيارة، إما أن اجتماع جمعية النجم الشرقي قد انتهى قبل موعده المعتاد، أو أننا أطلنا الجدال قبل أن نصعد إلى غرفته.

جذبني جيري من على الفراش إلى خارج الغرفة بينما كنت أحاول أن ألملم ثيابي، فقلت في صوت هامس: «الخزانة، يمكنني أن أختبئ … بالخزانة، وأرتدي ثيابي.»

«اصمتي» قالها متوسلًا إياي بهمس، كان غاضبًا للغاية، تكاد عيناه تدمعان، وظل يردد: «اصمتي. اصمتي.» كان وجهه شاحبًا وكان يرتجف لكنه قوي بشكل غريب على جيري ستوري. كنت أجاهده وأسحب نفسي للوراء معترضة وأحاول إقناعه بأنني لا بد أن أُحضر ثيابي، لكنه كان يسحبني للأمام مجبِرًا إياي على أن أنزل السلم. فتح باب القبو في نفس اللحظة التي فتحت فيه والدته باب المنزل الأمامي وسمعتها تصيح بابتهاج: «ألا يوجد أحد في المنزل؟» فدفعني هو إلى الداخل وأغلق الباب.

كنت وحيدة على درجات القبو الخلفي مسجونة، وعارية.

أضاء لي المصباح كي أعرف أين أقف، ثم أطفأه ثانية بسرعة، وهو ما زاد الطين بلة؛ لأنه جعل القبو أكثر ظلمة من ذي قبل. جلست بحذر على الدرجات أشعر بشذرات الخشب الباردة في مؤخرتي العارية، وحاولت التفكير في أي وسيلة أستطيع بها أن أُخرِج نفسي من هنا. فكرت أنه ربما بعد أن تعتاد عيناي الظلام يمكنني إيجاد نوافذ القبو وأحاول أن أفتح إحداها عنوة، لكن فيمَ سيجدي هذا وأنا عارية هكذا؟ ربما أستطيع العثور على ستارة قديمة رثة أو قطعة مفرش أستُر بها جسدي، لكن كيف سأصل إلى بيتي بهذا الشكل؟ كيف سأمشي في جوبيلي عبر الشارع الرئيسي هكذا والساعة لم تتجاوز بعدُ العاشرة مساءً؟

من المحتمل أن يأتي جيري ويُخرِجني بعد أن تأوي أمه إلى الفراش. وعندما يفعل هذا — إذا فعله في الأساس — فسوف أقتله.

سمعتهما — جيري ووالدته — يتحدثان في الغرفة الأمامية ثم في المطبخ. «إنها تريد أن تأوي إلى الفراش.» سمعت والدته تقول هذه العبارة ثم تطلق ضحكة، رأيت أنها ضحكة خبيثة. كان جيري ينادي والدته باسمها الأول مجردًا وهو «جريتا»، غير أني رأيت هذا متكلَّفًا وغير صحي. سمعت أصوات أواني وأكواب؛ كوب الكاكاو المسائي مع كعك الزبيب المحمص. بينما كنت سجينة عارية أشعر بالبرد في القبو، أخذت أفكر في جيري ومعدل ذكائه، وأفكر في قدراته الفكرية وحماقته. إذا كانت أمه عصرية لهذا الحد وتعرف أنه لا يوجد واحدة منَّا كفتيات تظل عذراء هذه الأيام، فلماذا يجب أن يلقي بي هنا؟ شعرت أنني أكرههما بشدة. فكرت في أن أطرق بشدة على الباب، هذا هو ما يستحقه، سأخبر أمه أنني أريد زواجًا إجباريًّا على وجه السرعة لإخفاء الفضيحة.

اعتادت عيناي الظلام نوعًا ما، وعندما سمعت صوت صرير وصوت باب يُغلَق في الأعلى، كنت أنظر في الاتجاه الصحيح فرأيت شيئًا معدنيًّا يتدلى من سقف القبو، كانت صرة من الملابس طارت منها قطعة فاتحة اللون وسقطت على الأرضية الإسمنتية بصوت مكتوم. زحفت نازلة الدرج على الإسمنت البارد وأنا أدعو أن تكون هذه ملابسي وليست كومة من الملابس المتسخة ألقت بها والدة جيري لتوضع مع الغسيل.

كان قميصي وسترتي وتنورتي وسروالي الداخلي وحمالة صدري وجواربي، وكذلك معطفي الذي كان معلقًا في خزانة الطابق السفلي، وكلها كانت ملفوفة حول حذائي كي لا يحدث صوتًا مرتفعًا حين يسقط. كل شيء هنا ما عدا رباط جوربي، وبدونه لا أستطيع أن أرتدي جواربي؛ لذا فقد كوَّرتهما ودسستهما في حمالة صدري. في تلك اللحظة صرت أرى ما حولي بوضوح نوعًا ما، فرأيت أحواض الغسيل والنافذة التي تعلوها، كان مزلاج النافذة لأسفل، فصعدت فوق حوض الغسيل وفتحت المزلاج وزحفت خارجة منها إلى الجليد. كان الراديو مفتوحًا في المطبخ؛ ربما ليغطي على الضوضاء التي أُحدِثها، أو ربما لمجرد الاستماع إلى أخبار الساعة العاشرة.

عدوت إلى البيت حافية القدمين في الطرقات الباردة. كنت في تلك اللحظة أستشيط غضبًا لمجرد فكرة كوني عارية في ذاك الفراش، لا أحد ينظر إليَّ سوى جيري وهو يضحك ويبدو عليه الخوف ويتحدث بلهجة غريبة. كان ذلك هو الشخص المتاح أمامي كي أعرض عليه نفسي، لن أحظى بحبيب حقيقي أبدًا.

في اليوم التالي في المدرسة، أتى جيري إليَّ حاملًا كيسًا ورقيًّا بني اللون.

وقال بنعومة مستخدمًا لهجة بوجو: «أستميحك عذرًا يا سيدتي، أظن أن لديَّ واحدًا من متعلقاتك الشخصية.»

كان رباط جوربي بالطبع، لم أعد أكرهه. وبينما كنا نسير على هضبة شارع جون بعد المدرسة حولنا تلك الليلة إلى مشهد كوميدي عظيم، مشهدًا أخرق مجنونًا من فيلم صامت.

«كنت أجذبك بقوة لنهبط الدرج، وأنت كنت تشدين بنفس القوة في الاتجاه المعاكس …»

«لم أكن أعرف ماذا تريد أن تفعل بي، ظننتك سوف تلقيني في الشارع كامرأة قُبِضَ عليها في بيت دِعَارة …»

«كان يجب أن تَرَيِ النظرة التي اعتلت وجهك عندما دفعتك إلى القبو.»

«وأنت كان يجب أن ترى النظرة التي اعتلت وجهك عندما سمعت صوت أمك.»

قال جيري محاولًا تقليد لهجة إنجليزية كنا نستخدمها في بعض الأحيان: «جئت في وقت غير مناسب بالمرة يا أماه، فهناك فتاة عارية في فراشي، كنت على وشك أن أقوم باستكشاف …»

«لم تكن على وشك أن تفعل شيئًا.»

«في الواقع …»

تركنا الأمر عند هذه النقطة، الغريب أن علاقتنا صارت بعد هذه المهزلة أفضل من ذي قبل. صار كل منَّا يتعامل مع جسد الآخر بمزيج من الحذر والألفة ولم تعُد لأي منا متطلبات. لم يعد هناك مزيد من العناق الطويل دون أمل، أو دس الألسن في الأفواه. كما أنه كان لدينا أمور أخرى نفكر فيها؛ فقد حصلنا على استمارات اختبارات المنح الدراسية لنملأها وأخذنا كتيبات عدة جامعات، وصرنا نترقب شهر يونيو حين نخوض تلك الاختبارات بمزيج من السرور والهلع. لم نمر بأي شيء في حياتنا في أهمية هذه الامتحانات التي تُرسِلها لنا وزارة التعليم في مظاريف مغلقة ويفض مدير المدرسة الثانوية الأظرُف أمام أعيننا. أما استعدادنا لهذه الاختبارات، فإن القول إننا قد استذكرنا لا يصف نصف التدريب الذي خُضناه، لقد كنا نتدرب كالرياضيين قبل المنافسات. لم نكُن نرمي لمجرد الحصول على درجات مرتفعة، ليس مجرد الفوز بالمنحة الدراسية ودخول الجامعة، بل كنا نهدف إلى الحصول على أعلى درجات ممكنة، إنه المجد، الوصول إلى المجد، بلوغ قمة حصد أعلى الدرجات، إنه الإحساس بالأمان أخيرًا.

كنت أعزل نفسي عن العالم بعد العشاء في الغرفة الأمامية، وكان الربيع على وشك أن يهل وكانت الأمسيات أطول، فكنت أوقد النور بعد حين. لكنني لم ألحظ شيئًا، لم ألحظ — دون أن أعي هذا — سوى الأشياء الموجودة في تلك الغرفة التي كانت زنزانتي أو محرابي؛ النقش الباهت على السجادة، والذي تحوَّل إلى لون القش عند أماكن خياطتها، وجهاز الراديو القديم التالف ولا يمكن إصلاحه، لكنه يقف كشاهد قبر وعلى قرصه إشارات لمحطات روما وأمستردام ومكسيكو سيتي، والأريكة العتيقة المزركشة، والصورتين المعلقتين: إحداهما لقلعة شيلون المظلمة التي تقف على ضفة البحيرة المتلألئة، والأخرى لفتاة صغيرة مستلقية على كرسيين غير متوافقين في ضوء وردي وحولها الوالدان يبكيان في خلفية الصورة، والطبيب بجانبها تبدو عليه السكينة وليس التفاؤل. اكتسبت هذه الأشياء — التي كنت أُحدِّق فيها من حين لآخر وأنا أحفظ الأفعال والتواريخ والحروب والشَّعب في تصنيفات الحيوانات — أهمية، وقوة وتحذيرية، كما لو أن تلك الأشكال والأنماط العادية للأشياء ليست في الواقع إلا غلافًا خارجيًّا للحقائق والعلاقات التي أتقنتها، والتي بمجرد أن أتقنتها أصبحت جميلة وبريئة ومطيعة. وكنت أخرج من هذه الغرفة شاحبة متعبة غير قادرة على التفكير في أي شيء كراهبة قضت ساعات في الصلاة، أو ربما كحبيب بعد ليلة حُبٍّ جامحة، ثم كنت أتمشَّى في الشارع الرئيسي حتى مطعم هاينز حيث اتفقت أنا وجيري على أن نلتقي في الساعة العاشرة. وأسفل شراعات النوافذ المصنوعة من الزجاج البني الضارب إلى الصُّفرة، كنا نحتسي القهوة وندخِّن، نتحدث قليلًا، ثم ننهض ببطء وكل منَّا يتفهم نظرات الآخر المنهكة الجافة.

لقد توارت حاجتي للحب بداخلي، فأصبحت مثل ألم خفيف بالأسنان.

•••

في ذاك الربيع، كان من المُزْمَع إقامة اجتماع نهضة دينية في دار البلدية. وقف السيد بيوكانن مدرِّس التاريخ أعلى درج المدرسة، وأخذ يُناوِلنا أزرارًا كتب عليها: «تعال إلى يسوع.» كان من زعماء الكنيسة المشيخية وليس المعمدانية التي كانت في صدارة جميع ترتيبات اجتماع النهضة الدينية، غير أن جميع كنائس المدينة، فيما عدا الكنيسة الكاثوليكية وربما الكنيسية الأنجليكانية — التي كانت من الصغر بحيث لم تُحدِث تأثيرًا — كانت تدعم هذا الاجتماع. وبدأت اجتماعات النهضة الدينية تنال الاحترام من جديد في جميع أرجاء البلد.

«إنك لا تأبهين بالحصول على واحدة من هذه يا ديل، أليس كذلك؟» قالها السيد بيوكانن بغير صيغة استجواب، وإنما بصوته الحزين المتزن. كان طويلًا متحفظًا نحيلًا يفرق شعره في المنتصف كما كان يفعل قائدو الدراجات في بداية هذا القرن — وقد كان عجوزًا بما يكفي لأن يكون واحدًا منهم — وكان قد استأصل نصف معدته من جراء قُرَحٍ أصابته. وقد ابتسم لي تلك الابتسامة الساخرة الباهتة الواهنة التي يحتفظ بها عادة لشخصية تاريخية ما (قد تكون شخصية بارنيل مثالًا جيدًا) أثارت إعجاب الناس بمظهرها في وقت من الأوقات ولكنها فقدته في النهاية بعد أن بالغت في هذا. لذا فقد شعرت أنني مضطرة — بدافع العند — لأن أقول: «بلى أرغب في واحدة، شكرًا جزيلًا.»

قال جيري: «هل ستذهبين لهذا الاجتماع؟»

«بالطبع.»

«لِمَ؟»

«لأجل الفضول العلمي.»

«هناك أمور لا طائل من الفضول بشأنها.»

كان الاجتماع يُعقَد في الطابق العلوي من دار البلدية الذي كانت تعرض فيه الأوبريتات المدرسية. كان ذلك هو الأسبوع الأول من شهر مايو وتحول الجو إلى الدفء فجأة، وكان هذا يحدث دائمًا عقِب الفيضان السنوي. وقبل أن تشير عقارب الساعة إلى الثامنة، اكتظت دار البلدية بالناس، كان الحضور من أولئك الذين تجدهم في احتفالات عيد الثاني عشر من يوليو، أو في مهرجان كنزمن؛ عدد كبير منهم من أهل المدينة لكن عددًا أكبر من الريف. وكانت السيارات الملطَّخة بالطين مركونة على طول الشارع الرئيسي والشوارع الجانبية. وبعض الرجال ارتدَوْا حللًا سوداء أنيقة وبعض النساء يعتمرن القبعات، ورجال آخرون يرتدون أردية سروالية نظيفة ونساء يرتدين فساتين واسعة مطبوعة بألوان متعددة وينتعلن أحذية رياضية، وكانت أذرعهن عارية مكتنزة وردية اللون ويحملن أطفالًا مدثَّرين بأغطية. أما الرجال والنساء العجائز — الذين كانوا بحاجة لمن يساعدهم للوصول إلى مقاعدهم — فقد كانوا يخرجون لأول مرة منذ زمن بعيد؛ لذلك كانوا يرتدون ملابس عتيقة الطراز. تساءلت إذا ما كنت أستطيع من خلال النظر إليهم أن أعرف من أي جزء من البلاد أتَوْا. اعتدت أنا وجيري — ونحن نشاهد من نافذة حجرة العلوم ركوب الناس في ثلاث من حافلات المدارس، تلك الحافلات القديمة المتداعية المبهرجة التي تبدو كما لو كان يجب أن تسير مهتزَّة في إحدى الطرق الجبلية في أمريكا الجنوبية وتخرج من نوافذها دجاجات حية تضرب بأجنحتها — أن نلعب هذه اللعبة فنحاول تخمين من أين أتى كل منهم وفقًا لمظهره، ونتحدث كما لو أننا علماء اجتماع يتكلمون بنبرة متكلفة راقية.

«أولئك أتوا من بلو ريفر، فهم متأنقون ويبدو عليهم الاحترام. وهناك الكثير من الهولنديين الكادحين، وكلهم زاروا عيادة طبيب الأسنان.»

«معظمهم من مستوى متمدن.»

«من سانت أوجستين وكلهم أناس عاديون، مجرد مزارعون، لهم أسنان كبيرة صفراء، ويبدو عليهم أنهم يأكلون الكثير من عصيدة الشوفان.»

«من وادي جيريكو، إنهم بلهاء وربما كانوا مجرمين. لا يتجاوز معدل ذكائهم المائة نقطة، وعيونهم حولاء وأقدامهم مشوهة …»

«أحناكٌ مشقوقة …»

«أكتاف محدبة …»

«إن زنا المحارم هو ما يسبِّب هذا، الآباء ينامون مع بناتهم، والأجداد ينامون مع حفيداتهم، والإخوة ينامون مع أخواتهم، والأمهات ينمن مع الآباء …»

«الأمهات ينمن مع الآباء؟»

«أوه، إنه مريع ما يفعلون هناك.»

امتلأت القاعة ووقفت أنا في المؤخرة خلف آخر صف من المقاعد، وكان الناس لا يزالون يتوافدون ويتزاحمون في جانِبَيِ القاعة مالئين الفراغ الذي خلفي، وجلس الأولاد على حوافِّ النوافذ. كانت النوافذ مرتفعة بما يسمح لهم بالجلوس عليها، ولا تزال ساخنة؛ لأن أشعة الشمس المنخفضة تضرب تلك الجدران القديمة المشققة الملوثة المكسوَّة بالخشب والجبس، لم أكن لاحظت من قبلُ كم هي مهترئة تلك القاعة.

أدَّى السيد ماكلوفلين من الكنيسة المتحدة الصلاةَ الافتتاحية للاجتماع. كان ابنه دايل قد هرب من المنزل منذ زمن طويل. أين هو الآن؟ آخر ما سُمِعَ عنه أنه كان يعمل في جَزِّ الحشائش بأحد ملاعب الجولف. شعرتُ كما لو أنني قد عشتُ عمرًا طويلًا في جوبيلي أشاهد الناس يرحلون ويعودون ويتزوَّجون ويبدءون حياتهم وأنا لا أزال أرتاد المدرسة. وهناك كانت ناعومي أيضًا بصحبة الفتيات من محل الألبان، وكلهن صفَّفن شعورهن بالطريقة نفسها، فعقصن شعورهن في جزأين خلف الأذن، ووضعن شرائط للشعر.

صعد إلى المسرح أربعة زنوج؛ رجلان وامرأتان، فاشرأبَّت الأعناق وصمت الجمع تقديرًا لهم. كثير ممن كانوا في القاعة — وأنا من بينهم — لم يسبق لهم أن رأوا زنجيًّا كما لم يروا زرافة أو ناطحة سحابة أو عابرة محيطات. أحد هؤلاء الرجال كان نحيلًا أسود البشرة عجوزًا، وصوته قويٌّ جهير مخيف، وكان هو المغني ذا الصوت الجهير. أما المغني ذو الصوت الصادح فكان بدينًا بشرته مائلة إلى الشحوب وكان كثير الابتسام. كانت السيدتان ممتلئتَا الجسم ترتديان مشدات للجسد ولون بشرتهما كلون القهوة، ترتديان فستانين جميلين لونهما أخضر زمردي وأزرق لامع. حين غنوا غطى العرق وجوههم وأعناقهم، وأثناء أداء الأغنية دخل بتواضع إلى المسرح واعظُ النهضة الدينية، الذي تعرَّفنا عليه من صورته الملصقة على كل أعمدة أسلاك الهاتف وعلى كل واجهات المحال الزجاجية في المدينة منذ أسابيع — لكنه كان أصغر حجمًا ويبدو عليه الإرهاق والشيب أكثر مما يبدو في الصور — ووقف خلف حامل القراءة واستدار تجاه المغنين وعلى وجهه تعبير رقيق بالبهجة، رافعًا وجهه كما لو كان غناؤهم يتساقط عليه كحبات المطر.

على الجانب الآخر من القاعة، كان ثمة شاب يحدق فيَّ بثبات، لا أذكر أنني رأيته من قبل. لم يكن فارع الطول، وكان أسمر البشرة وعظام وجهه بارزة، وله عينان غائرتان ووجنتان عريضتان غائرتان بعض الشيء، ويرتسم على وجهه تعبير وقور، متغطرس دون وعي. وبعد أن انتهى غناء الزنوج تحرك من مكانه تحت النوافذ واختفى بين الجمع في نهاية القاعة. للحظة ظننت أنه سيأتي ليقف بجانبي، ثم فكرت أن هذا محض هراء، مثل تعارُف في حفل أوبرا أو أغنية عاطفية مثيرة رديئة.

نهض الجميع وهم يُسقطون الأقمشة القطنية الغارقة في العرق التي كانوا يسندون إليها، كي يغنوا الترنيمة الأولى.

في خيمة يرقد صبي غجري
يموت وحيدًا وقت الغروب
حملنا إليه خبر خلاصه
فقال لم يخبرني أحد بهذا من قبلُ …

تمنيت بيأس أن يأتي، ركزتُ بكياني كله في الدعاء بأن يظهر إلى جانبي، بل وكنت أقول لنفسي: «إنه الآن يدور من خلفي، ويتجه نحو الباب، الآن ينزل السلالم …»

عرفت من اختلاف مستوى الأصوات خلفي أنه هنا، فقد تباعد الناس جانبًا وأحسست بفراغ خلفي يقف فيه جسدٌ ما لكنه لا يغني. شممت رائحة القميص القطني الساخن الخفيف، ورائحة البشرة التي أحرقتها الشمس، ورائحة الصابون وزيت الماكينات. مس ذراعه كتفي (لمسة كالنار، بالضبط كما يقولون) ثم انسل ليقف بجانبي.

نظر كلانا نحو خشبة المسرح مباشرة، كان القس المعمداني قد قام بتقديم واعظ النهضة الدينية الذي بدأ يتحدث بطريقة ودودة حوارية. بعد فترة قصيرة، أرحت يدي على ظهر المقعد الذي كان أمامي، والذي كانت تجلس عليه فتاة صغيرة انحنت تنتزع قشرة متجلِّطة من على ركبتها. ثم وضع هو يده على ظهر المقعد على مسافة بوصتين من يدي، وقتها شعرت أن كل ما في جسدي من إحساس، وكل الآمال والاحتمالات قد تدفقت إلى تلك اليد.

أما واعظ النهضة الذي بدأ حديثه برفق وهو واقف خلف حامل القراءة فقد أطلق العنان لمشاعره تدريجيًّا، وبدأ يقطع المسرح جيئة وذهابًا وتزداد نبرة صوته توترًا ويأسًا وحزنًا. وبين الحين والآخر، كان يهجر تلك النبرة الحزينة ويدور فوق خشبة المسرح ويصرخ في الجمهور بصوت مرتفع كزئير الأسد. رسم صورة لجسر مصنوع من الحبال مثل ذلك الذي رآه عندما كان في بعثة تبشيرية في أمريكا الجنوبية — على حد قوله — وكان ذلك الجسر الهش المتأرجح معلقًا فوق وادٍ سحيق تضطرم فيه النيران. كان ذلك هو «نهر النار»، كان نهر النار في الأسفل، وجميع الكفرة الصارخين المستغيثين المعذبين مغموسين فيه — دون أن يغرقوا حقًّا — ثم أخذ يعد من بينهم الساسة ورجال العصابات والمقامِرين والسكيرين والزناة ونجوم السينما والمرابين والكفرة. وقال إن كلًّا منَّا له جسر من الحبال خاص به يتأرجح فوق الجحيم، مربوط من الجانب الآخر بضفاف الفردوس. لكنَّ هذه الفردوس لا تراها أعيننا ولا تسمعها آذاننا، وفي بعض الأحيان لا نستطيع تخيلها أيضًا، وذلك بسبب الزئير والصراخ المنبعث من الجحيم، ومن أثر دُخَان الخطايا الذي تبعثه من كل جانب. ما اسم هذا الجسر؟ اسمه «رحمة الرب»، وجسر رحمة الرب هذا متين بصورة رائعة، لكن كل خطية من خطايانا، وكل كلمة وكل فعل وكل تفكير في الخطايا يُحدِث قطعًا في هذا الحبل ويُبليه أكثر …

وبعض حبالكم لا تحتمل المزيد! بعض حبالكم تجاوزت نقطة اللاعودة. لقد أضعفتها الخطايا، لقد أَبْلَتْهَا الخطايا، لم يبقَ منها سوى خيط! لم يبقَ منها سوى خيط واحد هو ما يحميكم من السقوط في الجحيم! كلكم تعرفون، كل واحد منكم يعرف كيف هي حال جسره! ما هي إلا قضمة أخرى من فاكهة الجحيم، ما هو إلا يوم وليلة واحدة من الخطايا، وما إن ينقطع ذلك الجسر لن تجدوا غيره! لكنَّ خيطًا واحدًا فقط كافٍ لأن تتعلقوا به إذا أردتم! لم يُلْقِ الرب بكامل معجزاته في زمان الإنجيل! كلا، أقول لكم من كل قلبي ومن خلال خبرتي إن الرب يُلقِي بمعجزاته هنا والآن وبيننا. فلتتعلقوا بالرب، وتتمسكوا بحبله جيدًا حتى يوم الحساب، ولا تخشوا الشر.

في الظروف العادية كنت سأهتم بسماع هذا الحديث ومراقبة أثره على الناس. معظمهم كانوا هادئين مستمتعين كما لو كان يغني لهم تهويدة نوم. أما السيد ماكلوفلين — الذي كان يجلس على المسرح — فكان ينظر إلى الأرض وعلى وجهه تعبير مهذب لكنه غير صادق، فلم يكُن ما يسمع هو نوعه المفضل من المواعظ. أما القس المعمداني فكانت ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة كالتي ترتسم على وجه منظمي الحفلات. وكان الحضور من كبار السن يستمرون في ترديد «آمين» وهم يتمايلون في رفق. إن نجوم السينما والساسة والزناة قد فات أوان إنقاذهم، بدت هذه فكرة مريحة للكثيرين. أضيئت المصابيح، ودخلت الحشرات الطائرة من النوافذ، فقط تلك الحشرات القليلة التي تظهر في تلك الفترة من العام. وبين الحين والآخر كنا نسمع صوت صفعة دفاعية سريعة.

غير أني كنت مستغرقة بكامل حواسِّي في متابعة يدينا المستندتين إلى ظهر المقعد. حرَّك هو يده قليلًا، وحركت يدي، ثم تحرك وتحركت مرة أخرى، حتى تلامست يدانا برفق وحيوية، ثم سحب كل منَّا يده، لكن لم نلبث أن أعدناهما، فظلت أيدينا معًا. ظلت إصبعانا الصغيرتان تحتكان ببعضهما برفق، ثم تسللت إصبعه فوق إصبعي، ترددتُ قليلًا فانفرجت يدي قليلًا فلمس بإصبعه الصغرى خنصري، حتى وقعتْ في أسر يديه، وهكذا بخطوات رسمية محتومة — وبقدر هائل من التحفُّظ والثقة — غطت يده يدي. وعندما حدث هذا رفع يدي من فوق ظهر المقعد وأمسك بها بيننا. انتابني إحساس ملائكي يغمره الامتنان وكأنني أخرج إلى مستوى آخر من الوجود، أحسست أنني لا أريد شيئًا آخر، فلا توجد حميمية أكثر مما أشعر به.

ثم دوَّت الترنيمة الأخيرة.

أحب أن أروي قصة.
ستكون عن المجد.
أن أحكي قصة قديمة قديمة …

قادنا الزنوج في الغناء، جميعهم إلا الرجل ضئيل الحجم الذي أخذ يلوح بيديه طالبًا من الجمهور أن يرفع صوته، وأخذ الناس يتمايلون وهم يغنون معًا. انتشرت رائحة عرق نفاذة كرائحة البصل، كرائحة الخيول، كرائحة روث الخنازير، وشعرت أنا بأنني محاصرة مقيدة وكأن ثمة ما يحملني بعيدًا، وكأن السعادة المرهقة الحزينة تصعد حولي مثل سحابة. كنت قد رفضت أن آخذ الورقة المكتوب عليها الترانيم التي قدمها إليَّ السيد بيوكانن وآخرون من رجال الكنيسة لكنني كنت أذكر الكلمات فغنَّيت معهم. وكنت وقتها أستطيع غناء أي شيء.

لكن عندما انتهت الترنيمة، ترك يدي وابتعد وانضمَّ إلى مجموعة من الناس المتَّجهين إلى مقدمة القاعة، استجابة لدعوة باتخاذ قرار من أجل يسوع، أن يوقِّع على عهد أو على تجديد عهد، ليضفي طابع الإنجاز على تلك الأمسية. لم يخطُر ببالي أنه أراد أن يفعل هذا، ظننت أنه ذهب ليبحث عن شخصٍ ما. حدث ارتباك كبير في القاعة وفقدتُه في لحظة، فاستدرت وتلمست طريقي إلى خارج القاعة ونزلت السلالم وتلفت حولي أكثر من مرة باحثة عنه (لكني كنت مستعدة لأتظاهر بأنني كنت أبحث عن شخص آخر إذا ما رأيته ينظر إليَّ). تلكأت في المشي في الشارع الرئيسي وأنا أنظر إلى النوافذ، ولكنه لم يأتِ.

كان هذا مساء يوم الجمعة. ظللت أفكر به طوال عطلة نهاية الأسبوع، وظلَّت صورته خلفية ثابتة في ذهني لكل ما أضطر للتفكير فيه. كنت دائمًا أحاول تحرير ذهني منه، لكن أجد ذهني ينزلق إلى التفكير فيه مرة أخرى، حاولت أن أستعيد إحساسي بلمسة يده على يدي، وأحاول أن أتذكر بدقةٍ ضغط أصابعه المتفاوت. فكنت أفرد يدي أمامي مندهشة أنها لم تكن تخبرني سوى بالقليل ممَّا أردت أن أعرفه. لم تكن تَشِي بالكثير، بالضبط مثل تلك الأشياء الموجودة في المتاحف التي كانت تَخُصُّ الملوك. وكنت أحلل تلك الرائحة التي شممتها هناك، وأفرز عناصرها المألوفة وغير المألوفة، وكنت أتصوَّره كما رأيته لأول مرة عبر القاعة؛ لأنني لم أنظر إليه قَطُّ عندما جاء ليقف بجانبي؛ فتذكرت وجهه الأسمر الحذر العنيد. بدا لي وجهه يحمل كل احتمالات الضراوة والعذوبة، الكبرياء والخضوع، العنف وضبط النفس. لم أَرَ فيه قط أكثر مما رأيت في المرة الأولى؛ لأنني وقتها رأيتُ كل شيء، رأيت كل شيء سأذوب فيه حبًّا ولكني لا أستطيع أن أُحكِم قبضتي عليه أو أفسره.

لم أعرف اسمه، أو من أين أتى، أو ما إذا كنت سأراه مرة أخرى.

في يوم الإثنين، بينما كنت أهبط هضبة شارع جون بعد المدرسة مع جيري، انطلق نحونا نفير شاحنة قديمة مغبَرَّة محملة بالقش وأطل منها ذلك الوجه، وجهه، لم يتغير وجهه أو يتقلص في ضوء النهار.

قلت لجيري: «الموسوعات! لأمي عنده بعض النقود، عليَّ أن أتكلم معه، اذهب أنت في طريقك.»

شعرت بالدوار بهذا الظهور المتوقَّع الذي لم أرْجُهُ، إنه كتجسد الخيال في عالم الواقع، ركبت الشاحنة معه.

«ظننت أنك لا تزالين في المدرسة.»

أجبت بسرعة: «كدت أنتهي من الدراسة، فأنا في الصف الثالث عشر.»

«سررت لمقابلتك، فعليَّ أن أرجع إلى مخزن الأخشاب، لماذا لم تنتظريني في تلك الليلة؟»

قلت كما لو كنت لم أره: «أين ذهبت؟»

«اضطررت لأن أذهب إلى مقدمة القاعة، كان هناك حشد كبير من الناس هناك.»

أدركت أن عبارة «اضُطُرِرت لأن أذهب إلى مقدمة القاعة» تعني أنه ذهب ليوقِّع بطاقة العهد أو لأن يمنحه واعظ النهضة الدينية الخلاص. وقد كان هذا هو أسلوبه أنه لا يقول شيئًا محددًا أبدًا؛ فهو لا يفسر شيئًا إلا إذا اضْطُرَّ لهذا. ما انتزعته منه من معلومات عن نفسه — خلال ركوبي الشاحنة في عصر ذلك اليوم وبعده — لم يكن إلا سلسلة من الحقائق البسيطة التي يقدمها ردًّا على أسئلتي. كان اسمه جارنيت فرينش وكان يعيش في مزرعة بعد وادي جيريكو، لكنه كان يعمل هنا في جوبيلي في مخزن الأخشاب. قبل عامين، كان قد أمضى أربعة أشهر في السجن لاشتراكه في شجار مريع خارج حانة بورترفيلد فقد فيه رجل إحدى عينيه. وفي السجن، زاره قس معمداني وساعدة على التوبة والعودة إلى الرب. كان قد ترك المدرسة بعد الصف الثامن لكن سُمح له بأن يدرس بعض مواد المدرسة الثانوية في السجن؛ لأنه فكر أن يلتحق بكلية لاهوت ويصير قسًّا معمدانيًّا. كان يتحدث عن هدفه هذا دون أن يشعر بحاجة مُلِحَّة إليه الآن، وكان في الثالثة والعشرين من عمره.

أوَّل مكان طلب مني أن أذهب إليه معه هو اجتماع لجمعية الشباب المعمدانيين. أو ربما أنه لم يطلب؛ إذ لم يقل سوى: «حسنًا، سوف آتي لاصطحابك بعد العشاء.» ثم أقلَّني بشاحنته إلى ذلك المكان القريب من بيتنا وهو يأخذني مشدوهة وصامتة إلى آخر مكان في جوبيلي يتوقع أحد ظهوري فيه، ربما فيما عدا بيت الدعارة.

كان هذا ما استمررت في فعله كل ليلة إثنين طوال الربيع والصيف، أجلس على مقعد خشبي طويل في الكنيسة المعمدانية، وهو ما لم أعتده أبدًا، فقد كنت دائمًا مندهشة ووحيدة مثل شخص بقي وحيدًا بعد تحطُّم سفينته. لم يسألني قط إذا كنت أريد أن أكون في هذا المكان، أو ما رأيي في هذه الاجتماعات عندما أكون هناك، لم يسألني أي شيء. قال لي ذات مرة: «الأرجح أنني كنت سأعود إلى السجن مرة أخرى لولا الكنيسة المعمدانية، هذا هو كل ما أعرف، ولا أريد أن أعرف سواه.»

«ولماذا قد تعود إلى السجن؟»

«لأنني كنت معتادًا على الشجار واحتساء الخمر.»

على ظهر المقاعد الخشبية الطويلة في الكنيسة كانت هناك قطع من العلكة الممضوغة القديمة، تحول لونها إلى الأسود الفضي وأصبحت صُلبة كالحديد. كانت الكنيسة تفوح برائحة حمضية كرائحة مطبخ جرى تنظيفه بمياه قذرة وتُركت خرق التنظيف القذرة لتجف خلف الموقد. أما هؤلاء الشباب، فلم يكونوا كلهم شبابًا؛ إحداهم كانت كادي ماكويج التي تعمل في محل جزارة مونك، تُلقي قطع اللحم النيئ في مفرمة اللحوم وتقطع سيقان الأبقار بمنشار كبير وهي مرتدية مئزرًا أبيض مغطًّى بالدماء، وكانت ضخمة البنية ومرِحة مثل مونك نفسه صاحب المحل الألماني. أما في الكنيسة فكانت ترتدي فستانًا من قماش الأورجانزا منقوشًا بالزهور ويداها النظيفتان تعزفان على آلة الأرجن، وعنقها الأحمر عارٍ لأن شعرها قصير وتبدو وديعة ومهذبة. وكان هناك شقيقان — إيفان وأورين وولبول — قصيرا القامة وجههما يشبه وجوه القرود يؤديان حركات رياضية. وامرأة ممتلئة الثديين ذات وجه بارد كانت تعمل مع فيرن دوجرتي في مكتب البريد وكانت فيرن تسميها «بيتي المقدسة». وفتيات من متجر تشينواي وهن شاحبات مغبرات ككل فتيات متجر تشينواي لأنهن كن الأقل أجرًا والأقل مكانة اجتماعية بين جميع الفتيات اللاتي يعملن في المتاجر في جوبيلي. وكانت إحداهن — لا أذكرها أيهن — من المفترض أن تكون وضعت مولودها.

كان جارنيت هو الرئيس، وأحيانًا كان يقود الصلاة بادئًا بصوته الثابت: «أبانا الذي في السماوات …» اختفت حرارة شهر مايو المبكرة وبدأت أمطار الربيع الباردة تغسل النوافذ. خامرني ذاك الشعور القوي الغريب بأنني في حُلم وأنني سأصحو منه الآن. وفي البيت كانت على الطاولة في الغرفة الأمامية كتبي المفتوحة وقصيدة «آندريا ديل سارتو» التي بدأتُ قراءتها قبل أن أخرج، والتي لا تزال كلماتها تتردد في ذهني:

الضوء الرمادي يغطي كل شيء باللون الفضي
وقت الشفق، أنا وأنت متشابهان …

بعد انتهاء ما يُسَمَّى بخدمة العبادة، كنا ننزل إلى قبو الكنيسة حيث توجد طاولة للعب كرة الطاولة، حيث كان يجري تنظيم مسابقات. وهناك كانت كادي ماكويج ومعها إحدى فتيات تشينواي يُخرجان شطائر أحضرتاها من المنزل وتُعِدَّان الكاكاو على السخان الكهربائي. وكان جارنيت يعلمهم لعب كرة الطاولة ويشجع فتيات تشينواي اللاتي بالكاد يستطعن رفع المضرب، ويمزح مع كادي ماكويج التي تصير صاخبة عندما تنزل إلى القبو بالضبط كما تكون في محل الجزارة.

«إنني أشعر بالقلق عليك حين تجلسين على كرسي الأرجن الصغير هذا يا كادي.»

«ماذا تقول؟ ما الذي يقلقك؟»

«يقلقني جلوسك على كرسي الأرجن الصغير، إنه يبدو صغيرًا عليك.»

قالت بصوتها العالي المنفعل المبتهج ووجهها أحمر كاللحم الطازج: «هل تخشى أن يختفي؟»

فأجابها جارنيت بصوت نادم وهو مطأطئ الرأس: «لا يا كادي، لم أفكر هكذًا أبدًا.»

كنت أبتسم للجميع غير أني كنت أشعر بالغَيْرة والهلع وأنتظر بلهفة أن ينتهي كل هذا؛ أن تُغسل أكواب الكاكاو وتُطفأ أضواء الكنيسة، وأن يصطحبني جارنيت إلى شاحنته. ثم كُنَّا نذهب بالسيارة عبر ذلك الطريق الموحِل الذي يقود إلى مكان بورك تشايلدز (قال لي جارنيت: «إنني أعرف بورك، إذا ما علقتُ فسيعيرني سلسلة ويساعدني على الخروج.» وقد تسبب التفكير في أنه يشعر بالتوافق الاجتماعي مع بورك تشايلدز — الذي كان بالطبع معمدانيًّا — بخيبة أمل تغمر قلبي، وهو الشعور الذي صار مألوفًا بعد ذلك). لكن الآن، لا شيء يهم؛ فاللاواقعية والإحراج أو الملل الذي كان يخيم على الأمسية الطويلة كان يتلاشى تمامًا في كابينة الشاحنة؛ في رائحة المقاعد الممزَّقة القديمة، ورائحة علف الدواجن، ومرأى جارنيت وهو يشمر عن ساعديه ويداه حرتان وحذرتان تتشبثان بعجلة القيادة. والمطر الأسود الذي يضرب النوافذ المغلقة يحمينا. وعندما يتوقف المطر، كنا نُنزل زجاج النوافذ ونستنشق الهواء العليل قرب النهر الذي لا تصل إليه أعيننا، ونشَم رائحة النعناع الذي ينسحق تحت عجلات الشاحنة حيث توقفنا على جانب الطريق المؤدي إلى الحديقة. كنا نتوغل خلال الشجيرات التي كانت تحتكُّ بغطاء محرك السيارة المعدني. ونوقف السيارة بعد المطب الأخير الصغير الذي كان بمثابة إشارة الوصول، بمثابة تصريح، وكان نور السيارة يشق ظلمة الليل بخفوت، ثم كنا نَخرُج من السيارة ويستدير إليَّ جارنيت بالتنهيدة نفسها، بالنظرة الجادة المستترة نفسها، ثم كنا نمضي قدمًا إلى الريف؛ حيث الأمان التام، حيث لا توجد أية حركة لن تضفي علينا بهجة، حيث لا مجال لخيبة الأمل. لم أشعر بهذا الشعور من قبلُ — إلا حين أكون مريضة بالحمى — شعور بالتحليق والوهن والاحتواء، وفي الوقت نفسه شعور بأنني أملك قوة لا حدود لها. كنا لا نزال في الخطوات الأولى إلى ممارسة الجنس، فكنا نلف وندور، نتقدم ونتقهقر، ونتردد؛ ليس لأننا خائفين أو لأنني وضعت أي قيود على «التجاوز» (كان مثل هذا النوع من المصارحة في تلك البلدة ومع جارنيت أمرًا غير وارد) وإنما لأننا شعرنا بالتزامٍ — كالذي شعرنا به وقت طاردت أيدينا بعضها على ظهر المقعد — بألا نتسرع، وبأن نتراجع مؤقتًا بخجل في وجه مثل هذه اللذة. بل إن كلمة «لذة» نفسها تغيَّرت بالنسبة لي، كنت أعتقد أنها كلمة لطيفة تدل على تدليل معتدل بسيط للذات، أما الآن فقد صرت أراها كلمة متفجرة وحروفها مشتعلة كالألعاب النارية وتنتهي نهاية حالمة.

حينما كنت أعود إلى البيت من تلك الجلسات بجوار النهر لا أستطيع النوم وأحيانًا أظَلُّ ساهرة حتى الفجر، ليس لأنني لم أفرغ شحنتي — كما قد يُتوقع — وإنما لأنه كان عليَّ أن أسترجع في ذهني تلك الهدايا العظيمة التي تلقيتُها، تلك الأعطيات الجميلة، ولا أدعها تُفلِت مني: شفتاه على معصمي، على باطن مرفقيَّ، على كتفيَّ، على ثدييَّ، يداه على بطني، على فخذيَّ، بين ساقيَّ. إنها هدايا. قبلات عديدة، تلامُس بالألسن، أصوات متضرعة وممتنة، جرأة وتكشُّف. أما انغلاق الفم بإحكام على حلمة الثدي فكان يبدو بمثابة إقرار بالبراءة والعجز؛ ليس لأنه تقليد لمشاعر الأطفال الصغار، وإنما لأنه لا يخشى الشعور بالسخف. كنت أرى الجنس استسلامًا تامًّا، ليس استسلام المرأة للرجل وإنما استسلام الإنسان للجسد، هو فعل إيماني محض، إنه الحرية في الإهانة. كنت أستلقي تغمرني تلك المعاني والاكتشافات، كالعالق طوال الليل في مياه صافية دافئة متدفقة بشكل لا يقاوم.

كان جارنيت يصطحبني أيضًا إلى مباريات البيسبول التي أحيانًا كانت تُلعب بعد سقوط المطر مباشرة. وكانت تُقام في المساء في الساحات التي تقع في نهاية طريق دياجونال وفي البلدات المجاورة. كان جارنيت لاعب كرة البيسبول الأول في فريق جوبيلي، وكان اللاعبون يرتدون زيًّا أحمر ورماديًّا. وكانت جميع الملاعب بها مدرجات مكشوفة متداعية وسياجات عريضة مغطاة بإعلانات قديمة للمشروبات الغازية والسجائر. ولم تكن المدرجات تمتلئ بأكثر من ثلثها قط، وكان كبار السن يأتون لمشاهدة المباريات — هم أنفسهم كبار السن الذين كانوا يجلسون دائمًا على المقعد الطويل الذي يقع أمام الفندق، أو الذين يلعبون لعبة الداما في الصيف على لوحة الداما الإسمنتية المطلية خلف النصب التذكاري، والذين كانوا يسيرون لاستكشاف نهر واواناش أثناء الفيضان في كل ربيع، ويقفون يُومِئُون برءوسهم ويُبدُون تعليقاتهم كما لو أنهم هم من جعلوا النهر يفيض. وكان هناك أولاد في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرهم يجلسون على الأعشاب ويدخِّنون. وكانت الشمس تسطع دومًا بعد يوم طويل كئيب وتفترش أشعتها الهادئة الحقل كقضبان ذهبية. وكنت أنا أجلس مع السيدات، صديقات اللاعبين وبعض الزوجات الشابات اللائي كن يَصِحْنَ ويقفزن في المدرجات. أما أنا فلم أكن أستطيع أن أصيح أبدًا؛ لأن لعبة البيسبول كانت تحيرني كما كانت تحيرني الكنيسة المعمدانية، لكنها لم تكُن تشعرني بعدم الارتياح. فكنت أحب فكرة أن هذا الطقس الرجالي ما هو إلا مقدمة لطقوسنا الخاصة.

لكنني كنت لا أزال أذاكر دروسي في الأمسيات الأخرى، وكنت أتعلَّم أمورًا ولم أنسَ كيف تعلمتها، غير أنني كنت أغرق في أحلام يقظة تستمر لنصف ساعة. واستمررت كذلك في مقابلة جيري في مطعم هاينز.

«لماذا ترافقين إنسان نياندرتال هذا؟»

قلت بصوت مبتهج مراوغ يملؤه الخزي: «ماذا تعني بإنسان نياندرتال؟ إنه إنسان كرومانيون.»

لكن جيري لم يكن يملك ترفَ التفكير في أموري؛ فقد كان عقله مثقلًا بالتفكير في قرارات بشأن مستقبله، أخذ يقول: «إذا ذهبتُ إلى ماكجيل …» «لكن إذا ذهبتُ إلى تورونتو …» كان عليه أن يفكر في المنح الدراسية التي قد ينالها، وكذلك عليه أن يتطلع إلى المستقبل أيضًا ويحدد أي جامعة ستتيح له أفضل فرصة كي يلتحق بواحدة من أفضل كليات الدراسات العليا الأمريكية. اهتممت بالموضوع وأخذت أطالع كتيبات الجامعات وأقارن الخيارات المتاحة أمامه وأنا أقلب في ذهني تفاصيل لقائي الأخير مع جارنيت.

«لا زلت عند رأيك أنك ستذهبين إلى الجامعة، أليس كذلك؟»

«ولِمَ قد أكون غيرت رأيي؟»

«عليك إذن أن تتوخَّيِ الحذر، في هذه الحالة. أنا لا أسخر منك، ولست أشعر بالغيرة، إنني أفكر في مصلحتك.»

كانت أمي هي الأخرى تفكر في مصلحتي وقالت لي: «أنا أعرف آل فرينش هؤلاء، إنهم يعيشون بعد وادي جيريكو. إنها أفقر غابة مهجورة يمكنك أن تأملي أن تريها.» لم أخبرها عن جمعية الشباب المعمدانيين، لكنها اكتشفت الأمر بمفردها فقالت لي: «لا أفهم هذا، لا بد أنك فقدت صوابك.»

فقلت بحدة: «ألا يمكنني أن أذهب حيث أريد؟»

«لقد شوَّش ذاك الصبي على عقلك. أنت بما تملكين من ذكاء. هل تنوين أن تعيشي بقية حياتك في جوبيلي؟ هل تريدين أن تكوني زوجة عامل بمخزن أخشاب؟ هل تريدين الانضمام لهيئة مساعدة السيدات المعمدانيات؟»

«كلا.»

«حسنًا، أنا لا أريد إلا أن أبصرك بالأمور، لمصلحتك الشخصية.»

عندما أتى جارنيت إلى منزلي عاملته أمي بكل لباقة وسألته عن مهنة قطع الأخشاب. كان يناديها: «يا سيدتي.» بالطريقة نفسها التي كنت أستخدمها أنا وجيري عندما نقلِّد القرويين بسخرية. كان يقول بتهذيب وثقة في النفس: «لا أعرف كثيرًا عمَّا تسألين يا سيدتي.» وكانت أي محاولة من هذا النوع من المناقشات العامة، أي محاولة لجعله يفكر بهذه الطريقة، أن يتكلم كلامًا نظريًّا، أو يحدد نظامًا؛ كانت تولد نظرة خاوية تفوح بالشموخ الذي لا يخلو من الشعور بالإهانة على وجهه. كان يكره من يستخدمون مصطلحات ضخمة ويتحدثون عن أمور خارج حيواتهم الخاصة. كان يكره من يحاولون ربط الأمور ببعضها، لكن هذه الأمور هي التسلية الكبرى في حياتي، فلماذا لم يكرهني إذن؟ ربما أكون قد نجحت في إخفاء حقيقتي عنه، أو على الأرجح أنه أعاد ترتيب شخصيتي وأخذ منها ما يناسبه فقط، ما يحتاج إليه. وهذا هو ما فعلته أنا أيضًا معه، فقد أحببتُ الجانب المظلم منه، الجانب الغريب منه، الجانب الذي لم أعرِفه، ليس المعمداني الجديد، بل إني رأيت ذلك الوجه المعمداني الذي كان فخورًا به ما هو إلا قناع يلهو به ويستطيع أن يخلعه بسهولة. حاولت أن أدفعه لأن يروي لي عن الشجار الذي دار خارج حانة بورترفيلد وعن تجربته في السجن. فقد كنت أُولِي اهتمامًا كبيرًا لغرائزه ولم أهتم أبدًا بأفكاره.

حاولت أن أجعله يُخْبِرُنِي لماذا أتى إليَّ في تلك الليلة في اجتماع النهضة الدينية.

«أعجبتني نظراتك.»

كان هذا هو كل ما حصلت عليه.

لم يكن ثمة شيء يمكن أن نقوله ليقربنا من بعض، كانت الكلمات أعداءنا؛ فهي لن تفعل إلا أن تشوش على ما نعرفه بعضنا عن بعض. كان ما بيننا هو المعرفة التي يطلق عليها: «الجنس فقط» أو «الانجذاب الجسدي». اندهشت عندما فكرت بهذا الأمر — ولا أزال حتى الآن مندهشة — من الاستخفاف الذي كنت أتعامل به مع هذا الأمر، كما لو كان أمرًا عاديًّا يتواجد بسهولة في أي مكان كل يوم.

اصطحبني لمقابلة عائلته، كان ذلك في عصر يوم أحد، وكانت بداية الامتحانات يوم الإثنين، فقلت له إن عليَّ أن أستذكر فقال: «لا يمكنك أن تفعلي هذا، لقد ذبحتْ أمي دجاجتين بالفعل.»

ولكن كان ذلك الجزء مني الذي يريد أن يذاكر قد ضاع، اختبأ في مكان بعيد، فلم أستطع أن أفهم شيئًا في كتبي أو حتى أضع كلمتين إلى جوار بعضهما وجارنيت في الحجرة، كل ما كان بوسعي فعله هو قراءة الكلمات على لوحة الإعلانات أثناء سيرنا بالسيارة. كان هذا على النقيض تمامًا ممَّا يحدث لي وأنا مع جيري، حيث كنت أرى العالم كثيفًا معقدًا لكنه واضح بشكل مفزع، أما العالم الذي رأيته مع جارنيت كان لا يختلف كثيرًا عن العالم الذي أعتقد أن الحيوانات تراه، عالم بلا أسماء.

كنت قد سرت في طريق وادي جيريكو من قبلُ مع أمي بالسيارة. في بعض المناطق منه يتسع بصعوبة لحجم الشاحنة، وكانت الزهور البرية تحتك بكابينة السيارة. قطعنا أميالًا بالشاحنة عبر الشجيرات الكثيفة. كان ثمة حقل مليء بجذوع الأشجار المقطوعة. تذكرتُ هذا، تذكرت أمي وهي تقول: «في وقت من الأوقات كان الريف بأكمله بهذا الشكل، لكنهم هنا لم يتقدموا إلى ما بعد المرحلة الأولية. ربما كانوا من الكسل حتى إنهم لم يفعلوا هذا، أو أن الأرض لا تستحق العناء، أو كلا الأمرين معًا.»

وكانت هناك أطلال لمنزل وحظيرة محترقين.

قال جارنيت: «هل أعجبك منزلنا؟»

كان منزله الحقيقي في منطقة منخفضة تحيط بها أشجار ضخمة عن قرب شديد حتى إن المرء لا يستطيع أن يرى البيت كاملًا، وإنما يرى السقف الخشبي البني وقمته الباهتة مثلثة الشكل والشرفة، التي كانت مطلية باللون الأصفر منذ زمن بعيد؛ حتى إنه يبدو الآن مجرد خطوط صفراء على الخشب المليء بالشظايا. ولما دخلنا بالشاحنة إلى فناء المنزل ودُرنا بالشاحنة، أخذ الدجاج يرفرف وهو يركض مُحْدِثًا جلبة كبيرة، وجاء كلبان ضخمان ينبحان ويتقافزان نحو نوافذ الشاحنة المفتوحة.

كان ثمة فتاتان في التاسعة والعاشرة تقريبًا تتقافزان فوق مجموعة من الفرش الزنبركية التي تُرِكَتْ في الساحة وقتًا طويلًا بما يكفي لأن تُحِيلَ العشب من حولها إلى اللون الأبيض. توقفتا عن القفز وأخذتا تُحدِّقان فيَّ، لكن جارنيت مشى بي متجاوزًا إياهما ولم يقدمني لهما، في الواقع إنه لم يقدمني لأي أحد. كان أفراد عائلته يأتون — ولم أكن أعرف أيهم أفراد أسرته وأيهم أعمامه أو عماته أو أبناء عمومته — ويتكلمون معه وينظرون إليَّ بطرف أعينهم. كنت أحيانًا أعرف أسماءهم من كلامهم بعضهم مع بعض، لكنهم لم ينادوني باسمي أبدًا.

كانت هناك فتاة أظن أنني رأيتها في المدرسة الثانوية، كانت حافية القدمين ومتزيِّنة بشكل جميل تتمايل حول أحد أعمدة الشرفة. فقال جارنيت: «انظري إلى ثيلما، إن ثيلما عندما تضع أحمر الشفاه تستهلك أنبوبًا كاملًا، وأي رجل يحاول أن يقبلها يلتصق بها ولا يستطيع أن ينتزع نفسه.» ملأت ثيلما وجنتيها المزينتين بالبودرة بالهواء، ثم نفخته في فظاظة.

ثم أتت امرأة قصيرة القامة بدينة الجسد تبدو غاضبة ترتدي حذاءً رياضيًّا دون أربطة، وكان كاحلاها متورمين حتى إن رجليها بدتا مستديرتين تمامًا كأنابيب تصريف المياه. كانت هي أول من خاطبني مباشرة، فقالت لي: «أنت ابنة السيدة التي تبيع الموسوعات. إنني أعرف أمك. ألا تجدين مكانًا تجلسين فيه؟» ثم دفعت بيدها صبيًّا صغيرًا وقطًّا بعيدًا عن كرسي هزاز ووقفت جواره حتى جلست أنا، وجلست هي على أعلى درجة من السلم، وبدأت تصيح مُلقِية التعليمات وكذلك عبارات التوبيخ على الجميع.

«احبسوا تلك الدجاجات في الخلف! أحضروا لي بعض الخس والبصل الأخضر والفجل من الحديقة! ليلا! فيليس! توقفا عن القفز! أليس هناك ما تفعلان خيرًا من هذا؟! بويد انزل من الشاحنة! أخرجوه من تلك الشاحنة! أتعلمين؟! ذات يومٍ حرك عصا السرعة فتحركت الشاحنة عبر الفناء وكادت ترتطم بالشرفة، لولا أن تجاوزتها ببوصات قليلة.»

أخرجت علبة تبغ وبضعة ورقات لف سجائر من جيب مئزرها.

«لست سيدة معمدانية، فأنا أستمتع بالتدخين بين الحين والآخر. هل أنت معمدانية؟»

«كلا أنا أذهب للكنيسة مع جارنيت.»

«أعتاد جارنيت الذهاب إلى هناك بعد أن تورط في المشاكل، هل لديك فكرة عن المشاكل التي تعرض لها جارنيت؟»

«نعم.»

«ما حدث أنه ارتاد الكنيسة بعدما مر به من مشاكل، وأنا لم أقُل قط إن هذا ليس شيئًا جيدًا له، لكنه اكتسب بعض الأفكار المتشددة. كنا جميعًا — ولا نزال — نتبع الكنيسة المتحدة، لكن تفصلنا عن الكنيسة المتحدة مسافة بعيدة بالسيارة، وأنا أحيانًا أكون في العمل، فلا فرق بين أيام الأحد والأيام الأخرى في المستشفى.» أخبرتني أنها تعمل في مستشفى بورترفيلد كمساعدة ممرضة، وقالت: «أنا وجارنيت نعول هذه الأسرة، فالمزارع مثل هذه لا تدرُّ ما يكفي من دخل لإعالة الأسرة.» ثم أخذت تروي لي حوادث رأتها في المستشفى؛ مثل طفل أتى إلى المستشفى مسمومًا حتى إن لونه كان أسود كلون طلاء الأحذية، ورجل أتى ويده مسحوقة، ورجل أتى بصنارة لصيد سمك تخترق إحدى عينيه، وأخبرتني كذلك أنها رأت ذراع شخص تتدلَّى من مرفقه لا تربطها به سوى قطعة جلد. أما جارنيت فقد اختفى. وفي ركن الشرفة، جلس رجل يرتدي رداءً سرواليًّا وكان ضخمًا وشاحب اللون كتمثال بوذا، غير أنه يفتقر إلى التعبير المسالم الذي يرتسم على وجوه تماثيل بوذا. وقد ظل يرفع حاجبيه ويُظهر أسنانه في ابتسامة تختفي على الفور، ظننت في البداية أن هذا تعليق تهكُّمي على قصص المستشفى هذه، لكنني أدركت بعد ذلك أنه تقلُّص لا إرادي يحدث في وجهه.

توقفتِ الفتاتان عن التقافُز وجاءتا لتجلسا حول أمهما لتخبراها بأي تفاصيل قد تكون فاتتها وهي تحكي. أما الصِّبية فقد شرعوا في الشجار في الفناء وأخذوا يتمرغون في الوحل الجافِّ مرارًا في شجار صامت ضارٍ، حتى إن ظهورهم العارية استحالت بنية ناعمة كباطن لحاء الشجر، فصاحت الأم محذرة: «سآتي بإبريق ماء مغلي، وأحرق به جلودكم.» قالت إحدى الفتيات: «هل تحب هي أن ترى جدول الماء؟»

وكانت تقصدني أنا. اصطحبتاني إلى جدول الماء الذي كان عبارة عن مجرى هزيل من المياه بنية اللون بين الصخور البيضاء المستوية، كما أرتاني إلى أين يصل في فصل الربيع، وفي إحدى السنوات أغرق هذا الجدول بيتهم. واصطحبتاني إلى مخزن التبن كي أرى عائلة من القطط الوليدة التي كانت برتقالية وسوداء اللون ولم تكُن قد فتحت عيونها بعدُ، ثم إلى الإسطبل الخالي لأرى كيف أن الحظيرة كانت قائمة على أعمدة وعوارض مؤقتة، «إذا ما تعرضنا يومًا لعاصفة عاتية فستتهاوى هذه الحظيرة.»

أخذت الفتاتان تثِبان مرحًا في الإسطبل وتغنيان أغنية من تأليفهن: «هذه الحظيرة القديمة ستتهاوى، ستتهاوى …»

ثم اصطحبتاني في جولة في أرجاء المنزل. كانت الحجرات واسعة والأسقُف مرتفعة وبها قدر ضئيل من الأثاث الذي كان يوضع بشكل غريب. كان ثمة فراش نحاسي في حجرة بدت أنها حجرة معيشة، ويتراكم في الأركان وعلى الأرض أكوام من الملابس والأغطية كما لو أن العائلة قد انتقلت لتوها إلى هذا البيت. والعديد من نوافذ البيت لا تغطيها ستائر، وكان ضوء الشمس يخترق الحجرات المرتفعة من خلال الأشجار التي لا تكاد تتحرك ممَّا جعل الحوائط مغطاة بظلال مورقة طافية. ورأيت كذلك الآثار التي تركتها مياه الفيضان على الحوائط، وبعض صور المجلات التي قصُّوها ولصقوها على الحوائط، كانت صورًا لنجوم السينما ولسيدات يرتدين فساتين شفافة في دعاية لفوط صحية.

وفي المطبخ كانت الأم تغسل الخضروات: «هل تحبين أن تعيشي هنا؟ هه! قد يبدو المكان عاديًّا لأي من قاطني المدينة، لكننا هنا نجد كفايتنا من الطعام، والنسيم هنا عليل ورائع في الصيف بالقرب من جدول الماء. جو بارد في الصيف دافئ في الشتاء، إنه أفضل موقع أعرفه لمنزل.»

وكان جميع ما في البيت من مشمع مسودًّا وبه نتوءات لم يبق إلا آثار متقطعة من تطريزه القديم، وكانت قطع المشمع متروكة تحت الطاولة، وبجوار النافذة حيث لا يوجد ما يمكن فرشه. شممت رائحة يخنة دجاج تُطبخ.

فتح جارنيت الباب السلكي ووقف متجهمًا في مقابل الضوء الساطع في الفناء الخلفي، وكان يرتدي سروال العمل ولا يرتدي قميصًا.

«لديَّ شيء أريد أن أريك إياه.»

خرجنا إلى الشرفة الخلفية وكانت معنا شقيقتاه أيضًا؛ وطلب مني أن أنظر إلى أعلى. في الجانب السفلي من أحد أعمدة سطح الشرفة حُفرت قائمة بأسماء فتيات وأمام كل اسم منها وضعت علامة X. صاحت إحدى الشقيقات قائلة: «إنهن رفيقات جارنيت!» ثم انفجرن في الضحك، لكن جارنيت قرأ بصوت عال بنبرة جادة: «دوريس ماكايفر! كان والدها — ولا يزال — يمتلك مصنع أخشاب بعد مدينة بلو ريفر، لو كنت تزوجتها لصرت ثريًّا!»

فقالت أمه التي تبعتنا حتى الباب السلكي: «كأن هذه وسيلة للثراء.»

«دولي فاذرستون، كانت من الكاثوليك، وتعمل في مقهى فندق برونزويك.»

فقالت أمه باهتمام: «لو تزوجتها لعشت فقيرًا؛ فأنت تعرف ماذا يطلب منهم البابا أن يفعلوا!»

«وكأن أمورك أنت تسير على ما يرام بدون البابا يا أماه … مارجريت فرالي، صهباء.»

«لا يمكنك أن تأمن تقلُّب مزاجها.»

«مزاجها كان كمزاج الكتكوت الصغير. ثورا ويلوبي، كانت تبيع التذاكر في مسرح الليسيوم، إنها تعيش في برانتفورد الآن.»

«ماذا تعني علامة X هذه يا بني؟ أتعني أنك توقفت عن الارتباط بهن؟»

«كلا، لا تعني هذا يا سيدتي.»

«ماذا تعني إذن؟»

«هذا سر عسكري!» ثم قفز جارنيت على سور الشرفة، وأمه تصيح محذرة: «إنه لن يحتمل وزنك إطلاقًا!» ثم أخذ ينحت كاتبًا شيئًا ما في نهاية القائمة. إنه اسمي! وعندما انتهى من نقش الاسم رسم حوله نجومًا ثم وضع تحته خطًّا وقال: «أظنني وصلت للنهاية.»

ثم أغلق المطواة الخاصة به، وقفز نازلًا؛ فقالت الفتاتان وهما تضحكان بقوة: «قبِّلها.» فأحاطني هو بذراعه، وأخذت الفتاتان تصيحان بجوارنا: «إنه يقبلها في شفتيها.» أبعدهما جارنيت بذراع واحدة وهو لا يزال يقبل شفتيَّ. ثم بدأ يدغدغني واشتبكنا في معركة دغدغة ضارية تحالفت معي فيها الفتاتان وحاولنا أن نثبت جارنيت على أرضية الشرفة لكنه أفلت منَّا، وأسرع باتجاه الحظيرة. دلفت إلى المنزل وبكل فخر سألت والدته عمَّا بوسعي أن أساعد به في إعداد العشاء لكنها قالت: «ستُفسدين رداءك.» لكنها استسلمت في النهاية وتركتني أقطع الفجل.

تناولنا على العشاء يخنة الدجاج التي لم تكن شديدة الصلابة وصلصة لحم لتلين اليخنة، وزلابية خفيفة، وبطاطس (قالت والدته: «من المؤسف أنه ليس أوان المحصول الجديد».) ورقائق خبز مسطح دائري مصنوع من الدقيق، وفاصوليا معلبة في المنزل وطماطم وأنواعًا عديدة من المخلَّلات، وكانت هناك أطباق بها بصل أخضر وفجل وأوراق الخس في الخل، وكعكة دسمة بنكهة دبس السكر، وثمر العليق المحفوظ. جلس حول المائدة اثنا عشر شخصًا قامت فيليس بعَدِّهِم. على طول أحد جانبي المائدة، جلس الجميع على مقعد طويل عبارة عن لوح خشب موضوع على قائمين خشبيين. أما أنا فجلست على الكرسي الملمَّع الذي أحضروه من الغرفة الأمامية. وقد أحضروا الرجل الضخم شاحب الوجه من الشرفة وأجلسوه على رأس المائدة، واتضح أنه الأب. أتى مع جارنيت من الحظيرة رجل أكبر سنًّا لكن خفيف الحركة، أخذ يقول إنه لم ينم الليلة السابقة بسبب ألم في أسنانه؛ فقال له جارنيت ساخرًا: «إذن فمن الأفضل ألا تأكل دجاجًا، الأفضل أن نكتفي بإعطائك بعض اللبن الدافئ ونضعك في سريرك.» أكل الرجل بنهم وهو يحكي كيف استخدم زيت القرنفل الدافئ، لكن والدة جارنيت قالت: «أراهن بخاتم زفافي أنك استخدمت شيئًا أقوى من ذلك.» جلست أنا بين ليلا وفيليس اللتين كانتا تمثلان أنهما تتشاجران فترفض أن تناول إحداهما الأخرى أي شيء وتُخفيان الزبدة تحت الصحون الصغيرة. روى جارنيت والرجل المسن حكاية عن مزارع هولندي في المنطقة أصاب برصاص بندقيته حيوان راكون ظنًّا منه أنه حيوان غابة خطير. ثم جلسنا نحتسي الشاي، فرفعت فيليس غطاء الملَّاحة بهدوء ووضعت الملح في السكرية وناولتها للرجل المسن، لكن أمها التقطت السكرية في الوقت المناسب وتوعدتها قائلة: «سأسلخك حية يومًا ما.»

لا أنكر أنني كنت سعيدة في هذا البيت.

فكرت في طريق عودتنا إلى بيتي أن أقول لجارنيت: «لقد أحببت عائلتك.» لكنني أدركت كم سيكون غريبًا وقع هذه الجملة عليه؛ لأنه لم يفكر قط في احتمال ألا أحبهم، أو ألا أصير جزءًا منهم. ومن ثَمَّ، فإن إصدار آراء من هذا النوع سيبدو معه نوعًا من ادِّعاء الأهمية والوعي بالذات.

تعطلت السيارة مباشرة بعد أن انعطفنا عن الشارع الرئيسي في جوبيلي، فخرج جارنيت من السيارة ونظر أسفل غطاء محرك السيارة وقال إن السبب كان كما توقَّع؛ عطل في جهاز نقل الحركة. أخبرته أنه يستطيع أن يبيت الليلة في الحجرة الأمامية في منزلنا لكنني شعرت أنه لا يريد ذلك بسبب أمي، وقال إنه سوف يبيت عند صديق له يعمل في مخزن الأخشاب.

ونظرًا لأن وصولنا إلى المنزل لم يُعلَن عنه بضوضاء الشاحنة، فقد كان بإمكاننا أن ندور خلف المنزل ونستند إلى الحائط ونتبادل القبلات واللمسات الدافئة. كنت أظن دائمًا أن اتحادنا النهائي ستسبقه وقفة، بداية احتفالية، مثل ستار يرفع قبل الفصل النهائي من المسرحية. لكن لم يكن هناك شيء من هذا، وعندما أدركت أنه كان يرمي إلى هذا أردت أن أستلقي على الأرض وأردت أن أخلع عني سروالي الداخلي الذي كان يطوق قدميَّ، وأردت أن أنزع حزام فستاني؛ لأنه كان يضغط على حليته فيؤلم معدتي. لكن لم يكن هناك وقت لهذا؛ لذا فقد باعدت بين ساقيَّ على قدر استطاعتي، وسروالي الداخلي يطوقهما، ورفعت نفسي ملاصقة جدار المنزل محاولة الحفاظ على توازني. وعلى خلاف لقاءاتنا الحميمة السابقة، كان هذا اللقاء يتطلب مجهودًا وانتباهًا. كما أنه آلمني، على الرغم من أنه كان قد حاول توسيع فتحتي من قبل بأصابعه. كذلك كان علي أن أمسك بسرواله الداخلي خشية أن يفضحنا لمعان مؤخرته لأي مار بالطريق. شعرت بألم غير محتمل في قوسي قدمي. وفي اللحظة التي فكرت فيها أن أطلب منه أن يتوقف وينتظر على الأقل حتى أضع كعبي على الأرض لثانية، تأوه وأدخله فيَّ بعنف وهو يهوي عليَّ وقلبه يخفق. لم أكن متوازنة بما يكفي لأحتمل ثقله، فسقطنا نحن الاثنين على زهور الفاوانيا وقد انفصلنا بطريقة ما. وضعت يدي على ساقي المبللة فوجدتها تخرج داكنة اللون، كان دمًا. وعندما رأيت الدم أصبح عظم الموقف واضحًا أمامي.

في الصباح، لففت حول المنزل لأرى أزهار الفاونيا المكسورة وبقعة دم صغيرة على الأرض. نعم، دم جاف على الأرض. شعرت بحاجة ملحة لأن أخبر أحدًا بالأمر، فقلت لأمي: «هناك دماء على الأرض بجانب المنزل.»

«دماء؟»

«رأيت بالأمس قطًّا يمزق أوصال طير، كان قطًّا ذكرًا كبيرًا مخططًا، لا أدري من أين جاء.»

«يا للحيوانات الشريرة!»

«تعالي لتري الدماء.»

«ماذا؟ لديَّ أمور أهم من هذا؟»

•••

في ذلك اليوم بدأنا الاختبارات؛ أنا وجيري، وموري هيل وجورج كلاين — اللذان سيصير أولهما طبيب أسنان والثاني مهندسًا — وجون جانيت التي اشترط عليها والدها أن تنتهي من الدراسة الثانوية المؤهِّلة للالتحاق بالجامعة كي تتزوج ذلك الفتى الماجن ذا الصدر الغائر الذي يعمل في بنك التجارة. وكانت هناك أيضًا فتاتان من الريف هما بياترس وماري، وكانتا تخططان لأن ترتادا كلية المعلمين.

فتح الناظر ختم المظروف أمام أعيننا ووقَّعنا على تعهد بأن هذا الختم لم يُفَضَّ من قبل. كنا بمفردنا في المدرسة الثانوية؛ فكل طلاب الصفوف الأصغر كانوا في العطلة الصيفية، وبدت أصداء أصواتنا ووقع أقدامنا ضخمة في طرقات المدرسة. كان مبنى المدرسة حارًّا تفوح منه رائحة الطلاء، والفراشون قد أخرجوا جميع المقاعد من أحد الفصول وكوموها في الممر لأنهم كانوا يلمعون الأرضية.

لكنني كنت أشعر أنني بعيدة عن كل هذا. كان الاختبار الأول في الأدب الإنجليزي فبدأت أكتب عن قصيدتيْ «الرجل السعيد» و«الرجل الحزين» لجون ميلتون، كنت أفهم الأسئلة جيدًا، لكن ولسببٍ ما لم أستطع الوثوق بأنها تعني هذا حقًّا، فقد بدت لي سخيفة غير مباشرة مشئومة كجملة في حلم. أخذت أكتب ببطء وبين الحين والآخر كنت أتوقف لأحك جبهتي وأطقطق أصابعي وأحاول أن أستشعر حرج الموقف، لكن دون جدوى لم أستطع أن أسرع أكثر من هذا. أنهيت الامتحان بأكمله لكن لم أَجِدْ وقتًا ولا طاقة ولا رغبة في أن أراجع ما كتبت. شككتُ أنني أغفلت جزءًا من أحد الأسئلة، لكنني تعمدتُ ألا أنظر إلى ورقة الأسئلة لأتحقق ممَّا إذا كان هذا صحيحًا.

كان يغمرني شعور متوهِّج بالأهمية والعظمة الجسدية. صرت أمشي بتلكُّؤ أبالغ في إظهار أنني لا أشعر بالارتياح. وكنت أستعيد مرارًا وتكرارًا شكل وجه جارنيت في عناء مجهوده الشديد وفي لحظة انتصاره المظفَّر قبل أن يسقط كلانا على الأرض. وقد جعلني الإحساس بأني كنت مصدر ألم ثم ارتياح بهذا الشكل لشخص ما؛ معجبة بنفسي.

كانت بياتريس — إحدى الفتاتين اللتين أتتا من القرية — قد جاءت بسيارة عائلتها؛ لأن حافلات المدرسة لم تعُد تعمل. وطلبت مني أن نشرب سويًّا الكوكاكولا في محلٍّ — كان دكان حدادة أعيد طلاؤه وتهيئته — افتُتح على الطريق حيث تجري خدمة الزبائن في سياراتهم في الطرف الجنوبي من المدينة. لم تطلب مني هذا إلا لأنها كانت تريد أن تعرف كيف كانت إجاباتي في الاختبار. كانت فتاة ضخمة مجتهدة، وكانت ترتدي فساتين من قماش الجوخ أزرارها من الأمام. كنت أنا وناعومي نضحك عليها في الماضي؛ لأنها كانت تأتي إلى المدرسة في الشتاء بمعطف مزين بشعر الخيل الأبيض.

سألتني: «بم أجبتِ هذا السؤال؟» ثم أخذت تقرأ ببطء: كان الرجال الإنجليز في القرن الثامن عشر يقدرون قيمة الرسميات والاستقرار الاجتماعي. ناقش مع الإشارة إلى إحدى قصائد القرن الثامن عشر.

كنت أنا وقتها أفكر في أنني إذا ما خرجت من السيارة ومشيت إلى نهاية هذه المساحة المفروشة بالحصى حيث كنا نوقف السيارة، فسأجد نفسي عند الشارع الذي يقع خلف ساحة مخزن الأخشاب. كان العاملون في ساحة مخزن الأخشاب يركنون سياراتهم في هذا الشارع، فإذا مشيت إلى هناك ووقفت في منتصف الشارع سأستطيع رؤية السياج الخلفي والمدخل وسطح السقيفة الطويلة المفتوحة وقمة كومة كبيرة من الأخشاب. كان في المدينة بعض الأماكن التي تُعتبر أماكن بارزة؛ مثل مخزن الأخشاب والكنيسة المعمدانية ومحطة الخدمات التي يُحضِر جارنيت منها الوقود ومحل الحلاقة الذي يقص فيه شعره ومنازل أصدقائه، وبين هذه الأماكن كانت الشوارع التي اعتاد أن يقود شاحنته بها، كلها بدت في ذهني كأسلاك مشعة.

كُنَّا قد انتهينا من المراحل الأولية الجميلة التي كُنَّا لا نزال نتلمس بها طريقنا إلى علاقة كاملة، وتلك المداعبات في الشاحنة تحت قطرات المطر. منذ ذلك الوقت، كنا نمارس علاقة جنسية كاملة؛ فمارسنا الحب على مقعد الشاحنة وبابها مفتوح، وتحت الشجيرات وعلى الأعشاب في الليل. لقد تغير الكثير. في البداية، كنت أشعر بأنني مخدَّرة ويغمرني إحساس بأهمية ما نفعل، واسمه، والتفكير فيه. ثم اختبرت ذروة النشوة الجنسية، والتي عرفت اسمها ممَّا قرأته في كتاب والدة ناعومي، وعرفت إحساسها لأنني جربت تلك الانقباضات بنفسي في الماضي مع كثير من العشاق الخياليين المتلهفين المتعطشين. لكنني اندهشت من المرور بها في صحبة أحد، فقد بدت شيئًا خاصًا للغاية، شيئًا فرديًّا نجده في أعماق الحب. وهكذا، سرعان ما أصبح هذا هو ما يجِب أن نصل إليه، ولم أستطِع أن أتخيل كيف كُنَّا نتوقف قبل الوصول إلى هذه المرحلة. لقد انتقلنا إلى مستوًى آخر، مستوى أكثر تماسكًا أقل إعجازًا حيث يجب الإقرار بالسبب والنتيجة، وحيث بدأ الحب يتدفق بنمط متعمد.

لم نتبادل أية كلمة قط بهذا الشأن.

كان ذلك هو أول صيف أقضيه أنا وأمي في جوبيلي بدلًا من أن نذهب إلى المنزل في طريق فلاتس؛ إذ قالت أمي إنها غير مستعدة للذهاب إلى هناك، كما أن أبي وأوين والعم بيني سعداء بحالهم هناك. أحيانًا كنت أذهب لأراهم، كانوا يشربون الجعة على طاولة المطبخ، وينظفون البَيْض بالصوف المعدني، كانوا قد توقفوا عن تربية الثعالب لأن أسعار الفراء انخفضت للغاية بعد الحرب. اختفت الثعالب وهدمت الحظائر وتحوَّل أبي لتربية الدواجن، فكنت أجلس معهم وأحاول تنظيف البيض أيضًا. كان مع أوين نصف زجاجة من الجعة وعندما طلبت أن أشرب بعضها قال أبي: «كلا، لن يعجب هذا أمك.» وقال العم بيني: «لا خير يُنتظر من فتاة تتجرع الجعة.»

كنت قد سمعت العبارة نفسها، بالألفاظ نفسها، من جارنيت.

كنت أغسل الأرضية وأنظف النوافذ وأتخلص من الطعام المتعفن وأفرش خزانات الأواني بورق جديد، كنت أعمل في جو خانق وكئيب. أوين يزمجر فيَّ لإظهار أنه رجل، ويفرد قدميه بحركة متعجرفة ويحركهما ببطء عندما أقول له: «تحرك! أريد أن أنظف هذه المنطقة، تحرك!» أحيانًا كنت أركله أو يعرقلني هو فنسقط نركل بعضنا البعض أو نكيل اللكمات لبعضنا، فيضحك العم بيني علينا بأسلوبه القديم الذي ينم عن الخجل، أما أبي فكان ينهر أوين كي لا يتعارك مع فتاة ويطرده إلى الخارج. كان أبي يعاملني برقة ويمدح تنظيفي للمنزل، لكنه لم يكُن أبدًا يمزح معي كما يمزح مع الفتيات اللاتي يقطنَّ طريق فلاتس، ليس كما يمزح مع ابنة بوتر — على سبيل المثال — التي تركت المدرسة بعد أن أنهت الصف الثامن والتحقت بالعمل في مصنع القفازات في بورترفيلد. كان يوافق على ما أفعل لكنه كان في الوقت نفسه غاضبًا مني. أكان يظن أن طموحي يظهر رغبة في التكبُّر؟

كان أبي ينام على أريكة المطبخ، ولم يعُد ينام بالأعلى كما اعتاد. وفوق تلك الأريكة رَفٌّ عليه ثلاثة كتب بجوار الراديو وزجاجة الحبر؛ هي: كتاب «موجز تاريخ العالم» من تأليف إتش جي ويلز، ورواية «روبنسون كروزو»، ومجموعة من المقالات لجيمس ثربر. كان يقرأ ذات الكتب مرارًا وتكرارًا حتى يخلد للنوم، ولم يكن يتكلم أبدًا عمَّا يقرأ.

سرت عائدة إلى المدينة في وقت مبكر من المساء حين كانت الشمس — قبل أن تغيب بساعة أو ما يزيد — تلقي ظلًّا طويلًا لي على الطريق المفروش بالحصى أمامي. نظرت إلى ذلك الشكل الغريب الممطوط ذي الرأس الصغيرة المستديرة (إذ إنني قمت في عصر أحد الأيام — عندما لم أجِد ما أفعله — بقص شعري) وقد بدا لي كأنَّه ظِلُّ فتاة أفريقية غريبة مهيبة. لم أنظر إلى المنازل في طريق فلاتس، ولم أنظر إلى السيارات التي كانت تقابلني في الطريق وما تثيره من غبار، لم أكُن أنظر إلى شيء سوى ظلي الذي يطفو على الأرض المفروشة بالحصى.

وصلت المنزل في ساعة متأخرة من الليل وأنا أشعر بألم في أماكن غير معتادة — كنت دائمًا أعاني ألمًا في أعلى صدري وفي كتفيَّ — وأختنق وأرتعب من رائحتي، وكانت أمي غالبًا ما تكون جالسة على الفراش والضوء يسطع خلال شعرها إلى فروة رأسها الناعمة، وإلى جوارها على الطاولة بجانب الفراش فنجان شاي تُرِكَ حتى برد، ومعه فناجين أخرى تُرِكَتْ في أوقات أخرى من اليوم أو اليوم الذي يسبقه — وأحيانًا كانت هذه الفناجين تَظَلُّ في مكانها حتى يفسد ما بها من حليب — وكانت تقرأ لي بصوت عالٍ من أدلة الجامعات التي أرسلت في طلبها.

قالت: «سأخبرك ماذا كنت سأختار لو كنت مكانك …» لم تعد أمي تخشى جارنيت؛ لأنه أخذ يتلاشى في ضوء مستقبلي الساطع. «كنت سأختار علم الفلك واللغة اليونانية، لقد كانت دائمًا تراودني رغبة سرية في تعلم اللغة اليونانية.» علم الفلك، اللغة اليونانية، اللغات السلافية، فلسفة عصر التنوير، أخذت تقذفني بهذه الكلمات وأنا أقف على عتبة الباب. لن تعلق هذه الكلمات في ذهني؛ فقد كنت أفكر في الشعيرات السوداء غير الثقيلة التي تصطف على ساعدي جارنيت متوازية حتى لتبدوا لي أنها ممشطة، وفي نتوئَيْ معصميه النحيفين، وفي تقطيب حاجبيه بهدوء وهو يقود الشاحنة، وهو تعبير يجمع بين الإحساس بالضرورة والعملية والذي كان يقودني به إلى الشجيرات أو على طول ضفة النهر بحثًا عن مكان نرقد فيه. أحيانًا كنا لا ننتظر حتى يحل الظلام تمامًا، لم أكن أخشى أن يكتشفنا أحد كما أنني لم أكن أخشى الحمْل. فكل ما كنا نفعله كان يبدو لي كما لو أنه خارج نطاق البشر الآخرين أو العواقب العادية.

كنت أتحدث مع نفسي عن نفسي بضمير الغائب، فأقول: «إنها غارقة في الحب»، «لقد أتت لتوها من موعد مع حبيبها»، «هي سلمت نفسها لحبيبها»، «المني يتقاطر من بين ساقيها.» وأحيانًا كنت أشعر في منتصف النهار أنني أريد أن أغلق عينيَّ وأستلقي حيث أنا لأغرق في النوم.

ما إن انتهت الاختبارات حتى ذهب جيري ستوري ووالدته في رحلة بالسيارة عبر الولايات المتحدة. وبين الحين والآخر في الصيف كنت أتلقى بطاقة بريدية لمنظر من واشنطن العاصمة أو ريتشموند أو فرجينيا أو نهر المسيسيبي أو مُتنزَّه يلوستون، وفي ظهرها رسالة مختصرة مكتوبة بأحرف كبيرة تنم عن ابتهاج تقول: «أتنقل عبر أرض الأحرار، وأتعرض للخداع من قبل أصحاب النزل والجراجات، وغيرهم. وأعيش على الهامبرجر والجعة الأمريكية المتعفنة، ودائمًا أقرأ كتاب «رأس المال» في المطاعم كي أبهر المواطنين المحليين، لكن المواطنين المحليين لا يتجاوبون معي.»

•••

كانت ناعومي على وشك أن تتزوج، اتصلت بي هاتفيًّا وأبلغتني الخبر وطلبت مني أن أحضر إلى منزلها. لم يتغير شيء في شارع ميسون سوى أن منزل الآنسة فاريس سكنه زوجان حديثا الزواج قاما بطلائه بلون أزرق مائل إلى الخضرة.

«مرحبًا أيتها الغريبة!» قالت ناعومي بلهجة اتهامية كما لو أن الشرخ الذي حدث في صداقتنا كان فكرتي وحدي، «إنك تواعدين جارنيت فرينش، أليس كذلك؟»

«كيف عرفت؟»

«أتظنين أنك تُبقين الأمر سرًّا؟ هل صرت معمدانية أم ليس بعد؟ لكنه على أية حال، يعتبر تقدمًا مقارنة بجيري ستوري.»

«من ستتزوجين؟»

قالت ناعومي بحزن: «لا تعرفينه، إنه من تابرتون. كلا إنه من باري أصلًا، لكنه الآن يعمل خارج تابرتون.»

«ماذا يعمل؟» طرحت هذا السؤال من باب اللباقة وإبداء الاهتمام، لكن ناعومي تجهمت له.

«حسنًا، إنه ليس عبقريًّا فذًّا أو شيئًا من هذا القبيل، فهو لم يرتدِ الجامعة. إنه يعمل فنيًّا لتصليح الخطوط في شركة بيل للتليفون. اسمه سكوت جايجن.»

«سكوت ماذا؟»

تهجتها قائلة: «جايجن. لا بد أن أعتاده فسيصير اسمي. ناعومي جايجن. قبل أربعة أشهر، لم أكن قد سمعت بهذا الاسم من قبل. عندما قابلته كنت أواعد شخصًا مختلفًا تمامًا هو ستيوارت كلايمور. بعد أن تركته ابتاع سيارة جديدة من طراز بلايموث. تعالَيْ معي إلى الطابق العلوي سأريك أشيائي.»

صعدنا درجات الطابق العلوي ومررنا من أمام غرفة أبيها.

«كيف حاله؟»

«من، هو؟ هناك فجوات كثيرة في رأسه حتى إن الطيور بدأت تبيض فيها.»

ظهرت أمها أعلى السلم الخلفي ورافقتنا إلى غرفة ناعومي.

وقالت: «قررنا أن نكتفي بزفاف بسيط، ما لزوم حفلات الزفاف الضخمة؟ ما هي إلا للتباهي.»

قالت ناعومي: «لا بد أن تكوني وصيفتي في العرس، فأنت أقدم صديقاتي.»

«متى سيكون العرس؟»

قالت أمها: «بعد أسبوع من السبت المقبل. سنقيمه في الحديقة تحت التعريشة إذا ما كان الجوُّ مناسبًا. سنقترض بعض الكراسي من الكنيسة المتحدة وستأتي المأكولات من شركة دبليو إيه، ولن نحتاج الكثير منها. سيكون عليك أن تشتري فستانًا يا عزيزتي، فستان ناعومي أزرق مائل إلى اللون الرمادي، أريها فستانك يا ناعومي. سيناسبك اللون الأرجواني الداكن كثيرًا.»

أرتني ناعومي فستانها والفستان الذي ستغادر به إلى بيت عريسها وملابسها الداخلية وقميص نومها الذي سترتديه ليلة العرس. ابتهجَتْ قليلًا وهي تريني هذه الأشياء، ثم فتحت خزانة تخزن فيها أغراض زواجها وخزانة أخرى، وفتحت بعض الأدراج وأخرجت بعض الصناديق من الدولاب، وأرتني كل الأشياء التي اشترتها لتفرش وتؤثث بها المنزل. أخذت أفكِّر بائسة في أن كوني وصيفة العروس يلزمني بأن أقيم لها حفل هدايا، وأن أزيِّن لها كرسيًّا بأشرطة من قماش وردي رقيق، وأن أُزيل قشرة الخبز من الشطائر، وأن أقطع الفجل الأحمر على شكل ورود والجزر على شكل أشرطة ملفوفة. كانت قد اشترت أكياس وسائد غير مزخرفة وزيَّنت كل واحدة منها بأكاليل الزهور وسِلال الفاكهة وتماثيل لفتيات صغيرات يرتدين أغطية رأس ويحملن أواني الري. قلت وأنا أشعر بحزن على أيامنا الخوالي التي قضيناها في المكتبة بعد انتهاء اليوم الدراسي: «ستعطيكِ بيلا فيبين وسادة دبابيس.»

سُرَّت ناعومي لهذه الفكرة وقالت: «ليتها تكون خضراء، أو صفراء، أو برتقالية؛ لأن هذه هي الألوان التي سأستخدمها في تزيين المنزل.» وأرتني مناديل المائدة التي خاطتها بالكروشية بهذه الألوان، وبعضها قامت بتقويتها بمحلول من الماء والسكر كي تنتصب حوافها على شكل سلال.

نزلت أمها إلى الطابق السفلي فطوت ناعومي جميع الأشياء وأعادتها إلى أدراجها وصناديقها وقالت لي: «إذن ماذا سمعت عني؟»

«ماذا؟»

«أعرف أن هناك كثيرًا من الناس الثرثارين في هذه المدينة.»

ارتمت جالسة على سريرها بقوة حتى إنها أحدثت فجوة كبيرة في الفراش. تذكرت هذه الحشية وتذكرت كيف كنت أنا وناعومي نتدحرج إلى المنتصف حين أبيت الليل عندها ثم نصحو ونحن نركل وننطح بعضنا.

«أنا حامل! لا تنظري إليَّ تلك النظرة الحمقاء؛ فالجميع يفعل هذا. لكن ليس الجميع على القدر نفسه من سوء الحظ فيحملن. الجميع يمارس الجنس، إنه يصبح معتادًا مثل إلقاء التحية على الآخرين.» استلقت بظهرها على الفراش ووضعت يديها خلف رأسها بينما قدماها لا تزالان على الأرض، وأخذت تُحدِّق في المصباح وقالت: «هذا المصباح يعج بالحشرات.»

قلت: «أعرف هذا، لقد مارسته أنا أيضًا.»

اعتدلت في جلستها قائلة: «حقًّا؟ مع من؟ جيري ستوري؟ كلا، إنه لا يعرف كيف يفعلها. جارنيت؟»

«نعم.»

عادت لتستلقي مرة أخرى وقالت بنبرة شك: «كيف وجدت الأمر؟»

«جيدًا.»

«إنه يتحسن بمرور الوقت. في المرة الأولى تألمتُ كثيرًا، لم تكن مع سكوت أيضًا. لقد كان يضع واقيًا ذكريًّا. ألم رهيب! كان يجدر بنا أن نستخدم الفازلين. لكن من أين كنا سنأتي بفازلين هناك بين الشجيرات في منتصف الليل؟ أين كانت مرتك الأولى؟»

أخبرتها عن زهور الفاونيا وعن الدم الذي سقط على الأرض وعن قصة القط والطائر. تمددنا بعضنا بجوار بعض على السرير على وجهينا وأخذنا نحكي بعضنا لبعض كل شيء، كل التفاصيل الفاضحة، بل إنني حكيت لناعومي بعد كل هذا الزمن ما حدث مع السيد شامبرلين، وكيف كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا الشيء وأرى ما فعله به. أخذت تضحك وتضرب الفراش بقبضتها قائلة: «يا إلهي! لم أر حتى الآن أي أحد يفعل هذا.» لكنها بعد برهة، عادت لتكتئب مرة أخرى ونهضت من على الفراش، وأخذت تُحدِّق في بطنها.

«لكنك برغم هذا محظوظة، لا بد أن تبدئي في استخدام وسيلةٍ ما، عليك أن تكوني حذِرة، فلا شيء مضمون على أية حال، وتلك الواقيات الذكرية القديمة البالية تتمزق في بعض الأحيان. عندما عرفتُ أنني حامل، تعاطيت الكينين، والدردار الأحمر، وأخذت أبتلع تلك المليِّنات اللعينة والعناب، وجلست في حمام الخردل حتى ظننت أني سأتحول إلى إصبع نقانق، لا شيء من هذا يفيد.»

«ألم تسألي أمك؟»

«كانت فكرة حمام الخردل فكرتها، إنها لا تعرف الكثير كما تدَّعي.»

«لست مضطرة للزواج، يمكنك أن تذهبي إلى تورونتو …»

«بالطبع، ويجري إيداعي في إحدى دور جيش الخلاص. المجد للمسيح!» ارتعشت وأضافت بشكل لا يتفق إطلاقًا مع ما قالته قبل قليل عن الخردل والكينين: «على أية حال، لا أظن أنه من الصواب أن أعطي طفلي لغرباء كي يربوه.»

«حسنًا، لكن إذا لم تكوني ترغبين في الزواج …»

«من قال إنني لا أريد هذا؟ لقد جمعت كل هذه الأشياء لأنني كنت أريد الزواج. إن المرأة تكتئب دائمًا عندما تحمل للمرة الأولى بفعل الهرمونات. كما أنني أعاني من إمساك لعين.»

رافقتني إلى الخارج حتى الرصيف، ثم وقفت هناك تجول ببصرها عبر أرجاء الشارع وهي تسند يديها على فخذيها وتدفع بطنها للأمام كي تبرز من تنورتها القديمة ذات النقش المربع. تخيلتها زوجة، وأمًّا شابة متسلطة ومرهقة ومشبعة تخرج بحثًا عن أبنائها، تناديهم كي يأووا إلى الفراش أو لتصفِّف شعورهم في جدائل أو لتتدخل في حياتهم بأي شكل آخر. ثم قالت لي بحرارة: «وداعًا يا من لم تعودي عذراء.»

وعندما وصلت إلى منتصف المربع السكني تحت مصابيح الشارع إذا بها تصيح: «يا ديل!» ثم أتتني تعدو بشيء من الخرق وهي تلهث وتضحك، وعندما اقتربت مني وضعت يديها على جانبي فمها وقالت بهمس وكأنها تصيح: «لا تأمني كذلك للانسحاب قبل القذف!»

«لن أفعل!»

«فأولئك الأوغاد لا يسحبونه قط في الوقت المناسب!»

ثم ذهبت كل منَّا في طريقها، بعد أن استدرنا ولوَّحنا لبعضنا مرتين أو ثلاث مرات بمبالغة ساخرة كما كنا نفعل دومًا.

•••

بعد العشاء ذهبت مع جارنيت إلى ثيرد بريدج للسباحة. مارسنا الحب أولًا على الأعشاب الطويلة بعد أن بحثنا في المنطقة حتى وجدنا مكانًا خاليًا من الأشواك، ثم أخذنا نسير بارتباك يحتضن أحدنا الآخر عبر طريق يتسع لشخص واحد وكنا بين الحين والآخر نتوقف لنتبادل القبلات. لقد تغيرت نوعية قبلاتنا عن الماضي كثيرًا، أو على الأقل تغيَّر جارنيت؛ فتحول من القبلات التواقة الشغوفة إلى قبلات بغرض الإرضاء وبث الطمأنينة، ومن التوسل إلى العطاء. بل وكم أصبح بإمكانه أن يستعيد نفسه بسرعة من الحالة التي يكون فيها بعد أن يصرخ بالطريقة التي يصرخ بها وتدور عيناه لأعلى ويرتعش جسده كله ويغوص في داخلي بعنف! وأحيانًا كنت أسأله بعد أن يستعيد أنفاسه بالكاد بماذا كان يفكر فيقول لي: «كنت أفكر كيف أصلح شكمان الشاحنة …» لكن هذه المرة عندما سألته، أجاب: «كنت أفكر متى سنتزوج.»

كانت ناعومي قد تزوجت وسكنت في تابرتون، في ذلك الوقت كنا قد تجاوزنا ذروة فصل الصيف، وذبلت ثمار أشجار السمن، وانخفض منسوب مياه النهر — بعد أسابيع لم تشهد سوى هطول قليل من الأمطار — ليكشف عن أشباه جُزُر مليئة بالأعشاب التي تنمو في المياه والتي بدت متماسكة بما يكفي للسير عليها.

سرنا في الماء خائضين في الطين حتى وصلنا إلى قاع النهر الرملي المليء بالحصى. كانت نتائج الاختبارات قد ظهرت في ذلك الأسبوع، ونجحتُ، لكنني لم أنَل المنحة الدراسية ولم أنل درجات عليا ولا في مادة واحدة.

«هل تريدين أن تنجبي طفلًا؟»

أجبته: «نعم.» أخذ الماء — الذي كان دافئًا كالهواء من حولنا — يلمس مؤخرتي المتقرِّحة المجروحة، وكنت أشعر بالوهن من أثر ممارسة الجنس فكنت أشعر بالدفء والكسل وأنا أنزل بظهري وذراعيَّ وصدري في الماء كأوراق ثمرة كرنب ضخمة ترتخي وتتمدد على الأرض.

من أين جاءت هذه الكذبة؟ إنها ليست كذبة.

قال لي بخجل: «عليك أن تنضمي للكنيسة أولًا، لا بد أن يتم تعميدك.»

سقطت على الماء وذراعاي مفرودتان والذباب الأزرق يطير مباشرة بتذبذب عند مستوى عيني.

«هل تعرفين كيف يفعلون هذا في كنيستنا؟ أعني التعميد.»

«كيف؟»

«يغطسونك تحت الماء. فلديهم حوض مغطًّى خلف المنبر، يمارسون فيه هذا الطقس. لكن الأفضل أن يتم هذا في النهر حيث يمكن تعميد أكثر من شخص في آنٍ واحد.»

ألقى بنفسه في الماء وسبح مطارِدًا إياي محاولًا أن يمسك إحدى قدميَّ.

«متى ستقومين بهذا الأمر؟ هل يمكن أن يكون هذا الشهر.»

استدرت أسبح على ظهري وأنا أركل الماء في وجهه.

«لا بد أن تنالي خلاصك يومًا ما.»

كان النهر ساكنًا كبِركة، حتى إن الناظر إليه لم يكن يستطيع تحديد اتجاه التيار، وكان ينطبع عليه انعكاس الضفتين المتقابلتين وبلدة فيرمايل التي تبدو معتمة بأشجار الصنوبر والأرز.

«لماذا يجب أن أفعل هذا؟»

«أنت تعرفين لماذا.»

«لماذا؟»

لحق بي وأمسك بكتفيَّ وأخذ يدفعني برفق لأعلى وأسفل في الماء. «ينبغي أن أعمدك الآن وأنتهي من هذا الأمر، ينبغي أن أعمدك الآن.»

فضحكت.

«أنا لا أريد أن أُعمَّد، لن يكون للأمر جدوى إذا لم تكن تلك رغبتي.» رغم أنه كان من السهولة أن أستسلم في تلك اللحظة كدعابة، فإنني لم أستطع. ظل يردد: «سأعمدك!» واستمر في دفعي لأعلى وأسفل في الماء بمزيد من القوة، وأنا أواصل الرفض والضحك وأهز رأسي نفيًا. شيئًا فشيئًا ومعركتنا تتواصل، توقف الضحك وقست الابتسامات العريضة المصمِّمة المؤلمة على وجوهنا.

قال برفق: «إنك ترين نفسك أفضل من أن تُعمدي.»

«كلا، لا أظن هذا.»

«إنك ترين أنك أفضل من أي شيء، من أي أحد منا.»

«كلا.»

«إذن فلتعمدي!» قالها ودفعني تحت الماء مباشرة على حين غرة، فرفعت نفسي من تحت سطح الماء أبصق من فمي وأنفي.

«المرة القادمة لن أتركك بهذه السهولة! سأُبقيك تحت الماء حتى تقولي إنك ستعمدين! قولي إنك ستعمدين! أو سأعمدك أنا رغمًا عنك …»

دفعني تحت الماء مرة أخرى لكن هذه المرة كنت مستعدة له فكتمت نفسي وقاومته، قاومته بقوة وبشكل طبيعي كأي شخص يُرغم على البقاء تحت الماء، دون أن أفكر كثيرًا في من كان يمسك بي. لكنه عندما تركني أرفع رأسي مدة كافية كي أسمعه يقول: «الآن قولي أنك ستفعلينها.» رأيت وجهه غارقًا بالماء الذي رششته عليه وشعرت بالدهشة، ليس لأنني أتعارك مع جارنيت وإنما لأن أي شخص قد يرتكب مثل هذا الخطأ؛ خطأ أن يظن أن له سيطرة عليَّ. كنت مندهشة بقوة حتى إنني نسيت مشاعر الغضب، نسيت مشاعر الخوف، فكرت أنه من المستحيل ألا يكون قد فهم أن كل السلطة التي منحتُها إياه كانت مجرد تمثيلية، هو نفسه كان تمثيلية، وأنني كنت أنوي أن أُبقيه يلعب دور الحبيب الذهبي للأبد، حتى لو كنت قد حدثته قبل خمس دقائق فقط عن الزواج منه. كنت أرى هذا واضحًا وضوح الشمس في النهار؛ لذا فقد هممت أن أقول له ما يجعل هذا واضحًا بالنسبة له أيضًا، ولكني رأيت أنه يعرفه مسبقًا. لكن ما كان يعرفه هو أنني كنت أقابل عروضه المحمودة بعروضي المخادعة، سواء أكنت أعرف هذا أم لا، كنت أقابل نواياه الصادقة بما أحمله من عُقد وأداء تمثيلي.

«إنك تظنين نفسك أفضل من هذا.»

«إذن قولي إنك ستفعلينها.» كان وجهه الداكن الودود الكتوم قد مزق ملامحَه الغضبُ الشديد وشعوره العاجز بالإهانة. شعرت بالخزي لإهانتي له، لكن كان عليَّ أن أتمسك بها لأنها كانت تمثل اختلافاتي، تحفُّظاتي، كانت حياتي. كنت أتخيله يركل ذاك الرجل أمام حانة بورترفيلد مرارًا، ظننت أنني أريد أن أعرف المزيد عنه لكنني في الحقيقة لم أَشَأْ هذا، لم أكن في الحقيقة أريد أسراره أو عنفه أو حتى أريده هو خارج سياق هذه اللعبة الغريبة السحرية، والتي قد تكون مُمِيتَةً، كما اتضح لي الآن.

هَبْ أنك حلمت ذات مرة أنك تقفز بإرادتك في حفرة وأخذت تضحك بينما يُلقي الناس عليك عشبًا ناعمًا لطيفًا، إلى أن تدرك بعد أن يغطي العشب وجهك وعينيك أن الأمر ليس لعبة على الإطلاق، أو إذا كان لعبة، فإنها لعبة تتطلب أن يتم دفنك حيًّا. قاومت تحت الماء كما سيقاوم أي أحد يمر بحلم كهذا، بشعور يأس لم يباغتني على الفور، وإنما أخذ يشق طريقه إليَّ عبر طبقات من الارتياب. لقد ظننت مع هذا أنه قد يُغرقني، ظننت هذا بحق، وظننت أنني أقاتل دفاعًا عن حياتي.

عندما تركني أصعد فوق الماء مرة أخرى حاول أن يجري عملية التعميد بالوضع المعروف، بأن جعلني أنحني إلى الخلف من عند خاصرتي وكان هذا خطأً منه؛ فقد استطعت أن أركله أسفل بطنه — ليس في أعضائه التناسلية رغم أنني لم أُبَالِ بهذا فلم أعرف أي جزء منه كنت أركل ولم أبال — وكانت هذه الركلات كافية لأن تجعله يفقد اتزانه بعض الشيء ويُفلتني ممَّا مكَّنني من الهرب. ما إن صارت تفصلنا عن بعضنا مسافة ياردة حتى تبدَّى لنا سخف عراكنا والرعب الذي ينطوي عليه ولم يكن من الممكن أن نستكمله، لم يلاحقني، فمشِيت بتؤدة واطمئنان خارجة من الماء الذي لم يكن في هذا الوقت من السَّنَة يجاوز ارتفاع إبطيَّ. كنت أرتجف وألهث وأستنشق الهواء بشغف.

ارتديت ثيابي على الفور داخل الشاحنة وأنا أواجه صعوبة في إدخال ساقيَّ في سروالي القصير، وحاولت أن أكتم أنفاسي كي أثبت وأنجح في إغلاق أزرار قميصي.

ناداني جارنيت:

«سأوصلك إلى منزلك.»

«أريد أن أمشي.»

«سآتي لأصطحبك مساء الإثنين.»

لم أُجِبْهُ وافترضت أنه يقول هذا بدافع المجاملة؛ فهو لن يأتي. لو كنا أكبر سنًّا لكنَّا بقينا وتفاوضنا حول كلفة التوصل لحل وسط، ثم أخذنا نشرح المواقف ونبرر الأمور وربما سامحنا بعضنا، وحملنا معنا هذا الأمر إلى مستقبلنا، لكننا كنا أقرب إلى الطفولة، فكنا نؤمن بالجدية المطلقة لبعض الشجارات وأنها قد تخط سطور النهاية، وعدم إمكانية التسامح مع بعض الضربات. لقد رأى كل منا في الآخر ما لم يكن يحتمل، ولم نكن نعرف أن الآخرين يرون هذا ويستمرون، وأنهم يكرهون بعضهم ويتشاجرون بل ويحاولون قتل بعضهم — بسُبُل عدة — ثم يزدادون حبًّا بعضهم لبعض.

شرعت أمشي على طول الطريق الفرعي الذي يقود إلى الطريق الرئيسي، وبعد برهة جعلني المشي أكثر هدوءًا وأكثر قوة فلم تعُد ساقاي واهنتين. مشيت عبر المنطقة الثالثة التي كانت تؤدي إلى طريق المقبرة. كان أمامي ما يقرب من ثلاثة أميال ونصف لأقطعها.

مشيت عبر المقابر، وكان الظلام قد بدأ يحل. كان الجو في شهر أغسطس بعيدًا عن منتصف الصيف بالضبط مثل شهر أبريل، وهي حقيقة كنت دائمًا أجد صعوبة في تذكرها. رأيت صبيًّا وفتاة — لم أستطع أن أميِّز من هما — يرقدان على العشب المقلم بالقرب من ضريح موندي، الذي كنت قد كتبت على جدرانه الإسمنتية القاتمة أنا وناعومي من قبل نقشًا على الضريح، ارتجلناه ورأينا أنه شرير ومضحك للغاية، لكنني لم أعد أذكره جيدًا:
هنا ترقد أجساد كثير من آل موندي
الذين ماتوا لأنهم كانوا يتبوَّلون في حسائهم في أيام الآحاد …

نظرت إلى هذين العاشقين الممدَّدين على أعشاب المقبرة دون أي حسد مني أو فضول. وفي طريقي إلى جوبيلي، أحسست أني أعدت امتلاك العالم؛ الأشجار، والبيوت، والأسيجة، والشوارع كلها عادت إليَّ بأشكالها العادية المألوفة. لقد عاد العالم إلى هيئته الطبيعية القاسية، منفصلًا عن حياة المحبين ولا يلونه الحب. صدمتني هذه الحقيقة أولًا، لكني وجدت فيها بعد ذلك مواساة غريبة، ثم بدأت أشعر أن نفسي القديمة — نفسي المراوغة الساخرة المنعزلة — بدأت تتنفس من جديد بداخلي وتتمدد وتستقر، رغم أن جسدي المحيط بها بدا مشروخًا مصدومًا غارقًا في ألم الخسارة الأحمق.

كانت أمي قد أوت إلى فراشها بالفعل. عندما فشلت في الحصول على المنحة الدراسية، انهار أمامها حلم لم تشك أبدًا في إمكانية تحقيقه؛ ألا وهو آمالها في المستقبل التي كانت تضعها في أبنائها. لقد واجهت احتمال أنني وأوين لن نفعل شيئًا ولن نصير شيئًا، وأننا شخصان عاديَّان لا يميزنا شيء، أو أننا قد أصابتنا عدوى الحماقة الفظيعة المتكبرة المقدسة لعائلة أبي. فها هو ذا أوين يعيش في طريق فلاتس، لا تخلو كلماته من الأخطاء النحوية والإملائية، ويقتدي بالعم بيني في الأساليب النحوية، ويقول إنه يريد أن يترك المدرسة، وها أنا ذي أواعد جارنيت فرينش وأرفض الحديث عن الأمر ولم أنجح في الحصول على المنحة الدراسية.

قالت بمرارة: «افعلي ما تريدين.»

لكن هل من السهل أن أعرف ما أريد؟ دخلت إلى المطبخ وأوقدت النور، وأعددت لنفسي خليطًا كبيرًا من البطاطس المقلية والبصل والطماطم والبيض، وأخذت آكُلُه بنهم وتجهُّم من المقلاة مباشرة وأنا أقف في المطبخ. كنت أشعر أني حرة وغير حرة، أشعر بالارتياح والبؤس والوحدة. ماذا لو لم أُفِقْ وأعُد إلى نفسي؟ ماذا لو أني تركت نفسي أستلقي وأُعمَّد في نهر واواناش؟

لعدة سنوات، كنت أفكر في هذا الاحتمال بصورة متقطعة كما لو كان لا يزال متاحًا، ومعه كنت أفكر في ظلال أوراق الشجر وبقع الماء في منزله، وكنت أفكر في سخاء جسد عشيقي.

لم يأتِ جارنيت يوم الإثنين، انتظرت لأرى إن كان سيأتي. مشطت شعري وانتظرت وراء الستار في حجرة الاستقبال كالمعتاد، لم أعرف ماذا سأفعل إن أتى؛ فقد كان ألم رغبتي في رؤية شاحنته ورؤية وجهه يبتلع كل شيء آخر. فكرت أن أسير من أمام الكنيسة المعمدانية لأرى إذا ما كانت شاحنته هناك، لو كنت فعلت هذا، ولو كانت الشاحنة هناك، لربما كنت دخلت إلى الكنيسة وأنا متصلبة كمن يمشي خلال نومه. غير أنني في الواقع لم أتجاوز الشرفة، ولاحظت أنني أبكي، أبكي بذلك الأنين الرتيب الذي يفعله الأطفال عندما يتألَّمون. استدرت وعدت إلى البهو كي أنظر في المرآة المعتمة إلى وجهي الباكي المبتل، راقبت نفسي، دون أن يخفف هذا من ألمي، واندهشت من فكرة أن ذلك الشخص الذي كان يعاني هو أنا؛ لأنه لم يكن أنا على الإطلاق. لقد كنت أشاهد، كنت أشاهد وأعاني. خاطبت المرآة بأحد أبيات تينيسون، قرأته في كتاب الأعمال الكاملة لتينيسون الذي تملكه أمي، والذي أهدته لها معلمتها القديمة الآنسة راش، تلوتُه بإخلاص شديد وسخرية مطلقة: «قالت إنه لن يأتي.»

كان ذلك البيت من قصيدة «ماريانا»، وهي واحدة من أكثر القصائد التي قرأتُها سخافة في حياتي، لكنها جعلت دموعي تنهمر بحرارة أكثر على وجنتيَّ. كنت لا أزال أراقب نفسي، ثم ذهبت إلى المطبخ وأعددت لنفسي فنجانًا من القهوة، ثم أخذته إلى غرفة الطعام وكانت لا تزال جريدة المدينة على المائدة، وقد قصَّت أمي منها الكلمات المتقاطعة وأخذتها معها إلى فراشها. فتحت الجريدة على صفحة الإعلانات وأمسكت بقلم رصاص حتى أضع دائرة حول أي إعلان وظيفة قد تكون ملائمة. أفهمت نفسي ماذا أقرأ، وبعد برهة أحسست ببعض الامتنان الرقيق المعتدِل تجاه تلك الكلمات المطبوعة المفعمة باحتمالات غريبة. كانت هناك أسماء مدن، وإعلان يطلب عاملات خدمات هاتفية. لا يزال بإمكان المرء أن يرسم خطوط مستقبله دون حب ودون منح دراسية. وأخيرًا، ودون أي خيالات أو خداع للذَّات، وبتناسي أخطاء الماضي، الفادح منها والبسيط، وبتناسي ما به من حيرة وارتباك، وبحقيبة ملابس صغيرة أحملها في يدي وأستقل الحافلة — كما تفعل الفتيات في الأفلام عندما يتركن منازلهن أو أديرتهن أو عشاقهن — اعتقدت أنني سأبدأ حياتي الحقيقية.

«جارنيت فرينش، جارنيت فرينش، جارنيت فرينش.»

«حياة حقيقية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤