مقدمة: السَّفر وأغراضه

هناك شيءٌ ما في منطقة تسلُّم الأمتعة. شيء مميز في أن تنتظر حقيبتك. لطالما أحببت ذلك، ربما لأنه نشاط ممل، لكنه نشاط له هدف محدَّد. وأنا أحبه لأنه يتعلق بالوجود مع الغرباء، ولو فترةً من الوقت فقط — كل تلك الوجوه من الرحلة التي لن تراها مرة أخرى أبدًا. في بعض الأحيان، أختار سير الأمتعة الصحيح ليس من خلال النظر إلى الشاشة التي تخبرك إلى أين تذهب، ولكن من خلال البحث عن الركَّاب الذين كانوا معي في الرحلة نفسها. أين تجمعوا؟ آه. ها هم أولاء. والجميع يقف هناك، في انتظار بدء تشغيل السير وخروج الحقائب، لا يعرفون كيف يشغلون أنفسهم. أو يستخدمون هواتفهم ويبدءُون في التحدث وإرسال الرسائل النصية. ربما يفكرون في الرحلة، وسعداء بانتهائها. سعداء لوصولهم إلى ديارهم أو أينما كانوا. ربما كانوا يتمنَّون ألا تُسجَّل حقائبهم. ربما لم يكونوا يخطِّطون لذلك، لكن المضيفة أخذت حقائبهم بعيدًا في آخر دقيقة — بسبب نقص مساحة التخزين أو لأنها كانت كبيرة جدًّا. وعندما تُؤْخَذ حقيبتك منك، تعلم أنه عليك الانتظار في منطقة تسلُّم الأمتعة.

هناك شعور عابر ومؤقت بالانتماء للأشخاص حول سير الأمتعة. فقد نساعد بعضنا بعضًا في سحب حقائبنا من فوق السير أو وضعها عليه مرة أخرى عندما نكتشف أننا أخذنا الحقيبة السوداء الخاطئة. الأمر ليس أننا نهتم حقًّا بعضنا ببعض، لكننا نشعر بطريقةٍ ما أننا عالقون في الموقف. هذه العلاقة، إذا كان من الممكن أن نطلق عليها اسم علاقة، لا توجد عادة على متن الطائرة، حيث تتآمر المساحات الضيقة لخلق بيئةٍ مقيدة بالتوترات المتحكم فيها. بعدئذٍ، عند الوصول إلى وجهتنا، يُطلَق سراحنا، فقط لنكتشف بعد عشر دقائق أن عددًا منا تجمَّع مرة أخرى، في مكانٍ آخر، قبل أن ننتقل إلى المرحلة التالية من رحلاتنا وحيواتنا. على متن الطائرة، أحاول الحفاظ على مسافة نفسية بيني وبين الركَّاب الجالسين بجواري حتى لا أتورَّط في محادثة تافهة، أو الأسوأ من ذلك، حديث حقيقي يتبيَّن أنه فظيع. لكن عندما أرى الركَّاب الذين كانوا معي في الرحلة مرةً أخرى في منطقة تسلُّم الأمتعة، أشعر كما لو أنني أعرفهم، كما لو كنَّا نخوض شيئًا ما معًا، وأكاد أتمنى أن أتحدَّث معهم. لقد مررنا بشيءٍ ما: تجربة عادية تمامًا لا تعني شيئًا على وجه الخصوص وسيتم نسيانها على الفور تقريبًا، ربما بمجرد أن نسير عبرَ الأبواب الزجاجية المنزلقة، إلى الخارج حيث الطقس حارٌّ أو بارد.

أشاهد حقيبةً وراء حقيبة على السير الذي يُصدِر صريرًا، وأفكِّر في أي الحقائب قد تنتمي لأي شخص من الأشخاص الذين لا أعرفهم ولن أعرفهم أبدًا. بعض الحقائب ثقيلة وصعبة الحمْل وعليها ملصقات الوزن الزائد. يُغلَّف بعضُها بإحكام بالبلاستيك الشفاف، مثل بقايا طعام ضخمة في الثلاجة. أعتقد أن هذا من المفترض أن يكون بمثابة حماية ضد السرقة، ولكن يجب أن تكون إزالته أمرًا صعبًا بالنسبة إلى موظفي إدارة أمن النقل إذا احتاجوا إلى ذلك. أفكِّر في الحقائب التي أحبها أكثرَ من حقيبتي، وألاحظ تلك التي يبدو شكلها أقبح. إذا كان هناك شخصٌ ما يسافر بأمتعة متطابقة، يمكنك تحديد حقائبه بمجرد أخذه الحقيبة الأولى. أنظر إلى الصناديق الكرتونية ذات الشكل الغريب وأتساءل عما تحتويه. هناك دائمًا مجموعة متنوعة من الأمتعة في منطقة تسلُّم الأمتعة. معظم الحقائب الموجودة في المقصورات العلوية بالطائرة متشابهة: حقائب صغيرة سوداء مزوَّدة بعجل. يقوم بعضُ الأشخاص بربط الأوشحة أو العِصابات حول هذه الحقائب لتمييزها بعضها عن بعض. فمثل الزي الرسمي، لا تكشف الحقائب الصغيرة السوداء شيئًا عن مالكها. فهي غامضة، ولا يسهُل تمييزها. لذا يمكنك خياطة رقعة عليها أو وضع ملصق أمتعة فاقع على شكل كرة قدم أو سلحفاة، وفجأة تصبح شيئًا آخر. في منطقة تسلُّم الأمتعة، ترى الحقائب بجميع الأشكال، والأحجام، والألوان. والحقائب السوداء المملة تسبِّب الحيرة. «معذرة، لكني أعتقد أن هذه ملكي. لا، أنا متأكد من أن هذه لي — دعني أتحقَّق من الملصق. أوه، أنا آسف جدًّا — إنها تشبه حقيبتي تمامًا.» هذه هي رقصة سير الأمتعة. نحاول استعادة ممتلكاتنا. نحاول التعرُّف عليها. فيضع بعض الأشخاص الأحرف الأولى من أسمائهم على أمتعتهم. إنه أمرٌ عملي حيث يساعدك الحرف الأول في التعرُّف على حقيبتك ولكنه مرتبط أيضًا بالهوية بطرقٍ أعمق. حرف واحد فقط هو الخلاصة النصية لهويتك وإعلان الملكية. «هذه لي.» يصبح علامة تجارية أخرى: علامتك التجارية جنبًا إلى جنب مع علامة الحقيبة التجارية؛ علامة للذات، قابلة للتَّكرار إلى ما لا نهاية ويمكن التعرُّف عليها على الفور.

يضع بعض الأشخاص على حقائبهم ملصقاتٍ من الأماكن التي كانوا فيها، على الرغم من أن هذا أصبح الآن طرازًا عتيقًا بعض الشيء. وتُنشئ الملصقات وصفًا شخصيًّا لمالك الحقيبة. في كتاب «الحَمَل الأسود والصقر الرمادي»، تكتب ريبيكا ويست عن أحد الركَّاب، على متن قطار من سالزبورج إلى يوغوسلافيا السابقة: «الملصقات الموجودة على حقيبته تشير إلى أنه إما ممثل أو راقص، وبالفعل كان جسده الممشوق مشدودًا بشكلٍ غير طبيعي بسبب التمارين الرياضية وكأنه يرتدي مشدًّا.»1 تسمح لها ملصقات الحقيبة بتخمين مهنة صاحبها، ويعزِّز جسدُه ما توحي به أمتعته. غالبًا ما نشأ تصميم ملصقات الحقائب في القرنين التاسع عشر والعشرين من ملصقات السَّفر، لكن لم يكن الغرض منها إثارة الرغبة في السَّفر، كما كان الحال مع ملصقات السَّفر؛ فقد عملت بوصفها تذكارات أثبتت وضعَ المرء على أنه دائم السَّفر ومثقَّف.2 في التَّكرار الحالي، لا تشير ملصقات الأمتعة إلى رأس المال الثقافي فحسب، بل أيضًا إلى رأس المال الفعلي: تقدِّم لوي فيتون «خدمة التخصيص»، حيث ستُخصَّص حقيبة جديدة مع رقعٍ من «المواقع الغريبة» وشعارات لوي فيتون العتيقة.3 تمثِّل الحقيبة الناتجة ارتباطًا مبتذلًا بتاريخ ملصقات الأمتعة وحنينًا للماضي. لست بحاجةٍ إلى أن تكون قد ذهبت إلى أي مكان؛ فالعلامة التجارية للأمتعة ستخلق هذه الرواية لك. ولكن ملصقات الأمتعة في شكلها الحقيقي تروي أين كنتَ وما رأيته. وتكون دليلًا على تجربة شخصية. ويتعذَّر إزالتها باعتبارها هدايا تذكارية مضافةً بالفعل إلى حقيبتك. قد تتآكل بمرور الوقت، أو قد تُنزع أطراف أحدها في لحظةِ ملل، ولكن بمجرَّد أن تلصقها على حقيبتك، تظل هناك لتبقى، على عكس الذكريات. تشير ملصقات الأمتعة إلى عدم إمكانية استعادة الرحلة بمجرد انتهائها.

كل السَّفر، إلى حدٍّ ما، محدود؛ إنه يتعلَّق بالوجود ليس هنا ولا هناك، دائمًا في عملية الذهاب والمجيء والصيرورة. في القطار في وقتٍ متأخر من الليل، قد تشعر بهذا في اهتزاز عربة القطار الخاصة بك على القضبان، أو في اختفاء المناظر الطبيعية خارج نافذتك في الظلام الحالك، في الفراغ الذي تتحرَّك خلاله. قد تشعر به في رحلة طويلة، بعد عدة ساعات، عندما تبدأ في تحديد الوقت بالأغاني التي شغَّلتها، أو مستوى جوعك، أو حاجتك إلى التبوُّل. ولكن ربما لأن منطقة تسلُّم الأمتعة تُوقِف حركة تقدُّم الرحلة وتطلب منك الانتظار، تصبح مساحة حدية لها إحساسها الخاص بالوقت. هذا لا يعني أن الوقت يتوقَّف أو يُعلَّق، على الرغم من أنه قد يبدو هكذا، خاصة إذا كنت متعبًا، وتميل منطقة تسلُّم الأمتعة إلى أن تكون مكانًا للأشخاص المتعبين. إنها فترة أخرى مقتطعة من الفترة الزمنية الفاصلة للسَّفر، وهذه الفترة مؤقتة حتى عندما تشعر أنها لا تنتهي — وحتى عندما تكون حقيبتك هي آخر حقيبة تخرج على السَّير أو عندما لا تخرج على الإطلاق، وعليك الذهاب إلى مكتب الأمتعة المفقودة اللعين. حتى في تلك المواقف، فأنت تعلم أنك ستغادر المطار في النهاية لأن المطارات تتعلَّق بالمغادرة. أحيانًا أشاهد آخر حقيبة لم يُطالَب بها على سيرٍ آخرَ، وأتساءل عن مكان صاحبها (أهو في الحمَّام؟ ربما). ومثل دوامة الخيل في مدينة الملاهي، فإن سَير الأمتعة هو حلقة مغلقة تدور وتدور، وفي النهاية، لا تذهب إلى أي مكان. تقربك منطقة تسلُّم الأمتعة من الشعور بالعدم. عندما يكاد يكون ذهنك خاليًا، عندما لا تستطيع تحديدَ ما إذا كنت قد وصلت إلى وجهتك أو لم تصل إليها بعدُ، عندما تكون في هذا المكان الذي لا يوجد فيه شيء، فأنت تتساءل عما إذا كنت أنت أيضًا لا شيء، ولكنك متعب جدًّا بحيث لا تقلق بشأن ذلك كثيرًا. لذلك تختار حقيبةً على السير وتراقبها حتى تختفي في حفرة في الحائط.

يدور هذا الكتاب حول ما نحضره معنا عندما نسافر. ويتعلَّق بالحقائب وما تحتويه. إن تاريخ الأمتعة «هو» تاريخ السَّفر: كيف سافرنا، ولماذا، وأين، وماذا حزمنا. يكاد يكون من المستحيل التفكير في السَّفر من دون أمتعة. (هناك تداعيات جنسية معينة عند تسجيل الدخول في فندقٍ مع شخص ما دون أمتعة.) يعني وجود حقيبة أنك ذاهب إلى مكانٍ ما أو أنك أتيت من مكانٍ ما. يذكر بول فوسيل أن «عالَم المسافر ليس العالَم العادي؛ فالسَّفر نفسه، حتى الأكثر شيوعًا، هو سعي ضمني إلى حالة شاذة.»4 ففي بعض الأحيان نذهب في رحلةِ عمل أو نذهب لزيارة أحد الأقارب، لكن السَّفر يأخذنا إلى مكانٍ آخر بعيدًا عن الحياة اليومية، بالمعنى الحرفي والمجازي. الأبطال يعرفون هذا. فالسعي بالتأكيد هو أحد طرق السَّفر — أو أحد طرق التفكير في السَّفر، كما هو الحال بالنسبة إلى فوسيل. والأبطال بحاجة إلى إحضار الأشياء معهم. فسفن أوديسيوس مليئة بالطعام (وفي ذلك الماعز) والشراب، مما يسمح له — إلى جانب غنائم الصيد ورفاهية مضيفاته — بالبقاء على قيد الحياة في الفترة التي تفصل بين الحرب والديار، وهي فترة اختار البقاء فيها لبعض الوقت.5 والشعراء بدءًا من ألفريد، ولورد تينيسون، إلى سي بي كفافيس فهِموا أن أوديسيوس يرغب في المكوث في دياره، لكنه أيضًا ينفر منها. حتى إنه يخشاها. إن مستلزماته — وهي جزء من فئةٍ أكبر من الأمتعة قد نشير إليها على أنها معدات، أو مؤن، أو حمولة — تخلُق إحساسًا بالوطن في الخارج، وتذكِّره بالإطار العائلي الذي ينتظره وتسمح له بالاستمرار في العيش في مساحةٍ من التأجيل. في قصيدة القرون الوسطى الرومانسية «السير جاوين والفارس الأخضر»، لم يكن السير جاوين مجهَّزًا تجهيزًا جيدًا في رحلةِ سعيه. وترك خلفه وسائلَ الراحة في البلاط الملكي وانطلق في عالمٍ عدائي ليثبِتَ نفسه ويردَّ على تحدي الفارس الأخضر. إنه يشعر بالبرد والبؤس. ولا يشعر بالراحة. إنه وحيد. عرف جوزيف كامبل أنه لكي يندمج البطل مرةً أخرى في المجتمع في نهاية المطاف، عليه أن ينفصل عنه للبحث عن المغامرة، وتحمُّل الاختبارات والتحديات، وإثبات نفسه.6 هذا هو العالم، ونظام القيم، الذي كان ثيربانتس يسخَر منه في «دون كيخوتي». يسافر دون كيخوتي «المثل الأعلى والقدوة لجميع الفرسان الهائمين على وجوههم» مع فرسه الحزين روثيناتي ودرعٍ صدِئة متعفنة يبذل قصارى جهده لتنظيفها.7 عندما يتوقَّف عند النُّزل الذي يتخذه «حصنًا» له، يجد صاحب الحانة أن لجامَه، ورمحه، ودرعه، وقميصه الواقي أغراض غيرُ معقولة.8 هذه هي أمتعة الفارس الحقيقي المنطقي، عتاد شخصٍ تائه يقرأ عنه دون كيخوتي في كتبه ويسعى إلى تقليده، شخصٍ لا ينتمي لعالمه على الإطلاق. ولكن نظرًا لأنه ليس فارسًا حقيقيًّا، فإن أمتعته ليست أمتعة فرسان حقيقية. يحب دون كيخوتي الخيال، وهو يفهم مدى إغراء تحويل الخيال إلى واقعٍ خاص بك. هذه هي أمتعته: أنه يرغب في الانتماء إلى عالم قد مات.
لقد انتقل الناس دائمًا من مكان إلى آخر، وكانوا بحاجةٍ إلى إحضار الأشياء معهم. هيرودوت كان مسافرًا، على الرغم من أن نطاق رحلاته لا يزال غير معروف. إن كتاب «التواريخ» (من القرن الخامس قبل الميلاد) هو عمل شخصٍ كان مهتمًّا ليس فقط بالحروب، ولكن أيضًا بالاختلافات بين الثقافات.9 سافر الرومان في عهد أغسطس من أجل صحتهم، ولزيارة العرافين، ولحضور الأحداث الرياضية.10 سار معظم الناس، لكن البعض ركِب على ظهور الخيل أو في العربات، على الرغم من أن الطرق كانت ضيقة وخطيرة.11 ولكن إذا كنت متنقلًا، فربما يكون هذا بسبب احتياجك إلى ذلك — أو كان عليك إنجاز مهمة. ربما كنت تاجرًا. ربما كنت جنديًّا. يحدِّد سببَ سفرك ووسيلة النقل الخاصة بك ما تحضره معك. تطوَّرت لوازم السَّفر لتلبية احتياجات المسافرين، ورغباتهم، وأذواقهم. في العصور الوسطى في أوروبا، كانت العائلات الأوروبية الأرستقراطية تسافر بخزائن، تُزيَّن أحيانًا بشعار النَّبالة. وغالبًا ما كانت هذه الخزائن مصنوعة من الجلد، والخشب، والحديد وكانت مصمَّمة لحماية متعلقاتك من الأحوال الجوية ومن السرقة. وكانت قابلة للنقل وعائلية؛ ففي نهاية الأمر، الصندوق أو الخزينة أيضًا قطعة أثاث. لكن لم يسافر الجميع ومعهم صناديقهم. فإذا كنت تنطلق إلى رحلة حج، فأنت بحاجة إلى السَّفر بأمتعة خفيفة. في العصور الوسطى المتوسطة، سافر الحجاج إلى مواقعَ مثل روما، وكاتدرائية كانتربري في إنجلترا، وسانتياجو دي كومبوستيلا في شمال غرب إسبانيا، وبالطبع الأرض المقدسة. وكثيرًا ما يُصوَّر الحجاج مثل سانت جيمس يحملون حقيبةً صغيرة، بالإضافة إلى عصًا، وقبَّعة عريضة الحواف، وشارة على شكل صدفة. يمكن تعليق صناديق كتاب القداس، والقوارير، والأكياس على العصا أو على حلقات الحزام.12 ونصح سانتو براسكا من ميلان الحجاجَ بإحضار الذهب والفضة، والطعام (بما في ذلك النقانق، والسكر، والحلوى المحفوظة، وشراب الفاكهة)، وحقيبتين إضافيتين، كلٌّ منهما مملوء بمائة عملة من البندقية: حقيبة لتغطية نفقات الرحلة، والأخرى للمرض «أو ظروف أخرى».13 ارتدى بعض الحجاج حاويات صغيرة لنقلِ المواد القيِّمة: كان بهذه الحاويات أمتعة، ومجوهرات، وهدايا تذكارية كلها مرة واحدة. كان من المعتاد أن يقدِّم الحجاج القرابين إلى الأضرحة التي زاروها، وفي ذلك الأواني الشعائرية والملابس الكهنوتية المليئة بالتفاصيل. في مجموعة تشوسر القصصية «حكايات كانتربري»، يمتلك مانح العفو أمتعته الدينية المزيفة؛ فهو يبيع الرُّفات المقدَّس الذي هو في الواقع عظام خنازير.
لكن رحلات الحج كان يتم القيام بها لأغراضٍ دينية، وليس للترفيه.14 فالحج هو السَّفر بهدف «الكفارة والتطهير».15 عندما نتحدث عن السَّفر اليوم، فإننا نميل إلى ربطه بقضاء وقت الفراغ. الإجازات. وتدور السياحة حول السعي وراء المتعة والترفيه، بالإضافة إلى استهلاك الأشياء والأماكن على حدٍّ سواء. قبل منتصف القرن التاسع عشر، كان مصطلح «الإجازة» لا يشير إلى الوقت المخصَّص للترفيه والسَّفر، ولكن إلى إجازات الطلاب والمعلمين من المدرسة أو الكلية.16 تُعَد السياحة اليوم أكبرَ قطاع خدمات في العالم، وعلى الرغم من أن هذا القطاع يعتمد غالبًا على تقاليد السعي والحج في العصور الوسطى في فهْمها لمصطلح «الرحلات»، فإن أصولها تكمن في الجولة الكبرى في أوروبا.17 ومنذ القرن السابع عشر، أجرت الطبقة الأرستقراطية (الإنجليزية بشكلٍ أساسي) هذه الرحلات الطويلة كشكل من أشكال التعليم ووسيلة لاكتساب الخبرة، كما أوضح السير فرانسيس بيكون في مقالته «عن السَّفر»، التي نُشرت عام ۱٦۲٥. كانت الجولة الكبرى مطلوبة من أي رجل نبيل — أو طموح — إنجليزي لمدة ۲۰۰ عام.18 وهي تفسح المجال لسفر المواطنين في القرن التاسع عشر.19 وسعى أولئك الذين قاموا بالجولة الكبرى وراء المعرفة والمتعة. كانوا سياحًا من نوعٍ خاص، على الرغم من أن مصطلح «سائح» لم يظهر حتى عام ۱۸۰۰، وكانوا يحملون الكثيرَ من الأمتعة: صناديق تحتوي غالبًا على خزائن وأدراج متقنة الصنع، لا تختلف عن إحضار خزانة أو دولاب ملابس.20 وفي بعض الأحيان كان هؤلاء الرجال يسافرون بالسفن. وكانوا يسافرون أيضًا بالعربة، «مرْكبة غير مخصَّصة للعامة، كبيرة، مرتفعة، أنيقة، خاصة، وغالية الثَّمن» التي تكون مجهزة أحيانًا بأرضيات زائفة ومخابئ أخرى للأشياء الثمينة.21 وكانت هذه العربات، إلى حدٍّ ما، أمتعة أيضًا. غالبًا ما يسافر السادة في الجولة الكبرى مع الخدم، لذلك لم يكونوا ملزَمين بإدارة صناديقهم بأنفسهم.
يصعب أحيانًا التمييز بين المسافر وأمتعته. فنحن نتحوَّل لنصبح مثل أشيائنا. تصوِّر لوحة فرنسية مجهولة من القرن السابع عشر بعنوان «Habit de Mallettier Coffrettier (زي صانع الأمتعة)» رجلًا يحمل صندوقًا تحت كل ذراع، ويتدلى عددٌ من الأكياس من حزامه، وهناك أكياس معلَّقة على كتفَيه، وصندوق متوازن على رأسه (مصمَّم كأنه قبعة). حوَّل صاحب التصميم «نفسه» إلى أمتعة؛ تجسيدًا للكفاءة والرفاهية. إنه لا يستقل عربة. ولا يركب على ظهر خيل. بل يسافر مشيًا على الأقدام حاملًا كلَّ شيء معه. هو صنيعة ذاته. حتى جذعه يشبه الصندوق.
fig1
شكل ١

في لوحة جاك جوزيف تيسو «في انتظار القطار (محطة ويلسدين جنكشن)» (حوالي عام ۱۸٧۱–۱۸٧۳)، تقف امرأة على رصيف قطار شمال لندن، محاطة بصناديقها وحقائبها. هنا أيضًا، تستحوذ ممتلكاتها على الأمر؛ فهي ليست موضوع اللوحة بقدرِ ما تحمله معها. فهي تحمل باقة زهور، ومظلة، ووشاحًا بين ذراعيها، أشياء تذكِّرنا بأن سفر الطبقة البرجوازية يُحدَّد إلى حدٍّ كبير من خلال «الأشياء» التي تحضرها معك. لكن ذراعيها تذكِّرنا أيضًا بأنها لن تتولى مسئولية حقائبها؛ فحمَّال لم يظهر بعدُ سينقلها إلى القطار عند وصوله. تصوِّر هذه اللوحة نوعًا مختلفًا تمامًا من السَّفر عن «الجولة الكبرى»: امرأة تسافر بطريقة جديدة، بالقطار. وإنها تنتظر، وهذا جزء مهم من السَّفر بالقطار. فهي تخضع لجدول زمني.

fig2
شكل ٢
على الرغم من أن السَّفر الأوروبي كان مقيدًا أو مستحيلًا خلال الحروب النابليونية، فإن السنوات التي أعقبت الحرب حقَّقت تقدُّمًا كبيرًا في تقنيات السَّفر، أبرزها المحرك البخاري. يعود تاريخ السَّفر بالسكك الحديدية إلى أوائل القرن التاسع عشر، وبحلول الستينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر، أضافت عربات النوم وتناول الطعام إلى راحة التجربة.22 وجعلت السكك الحديدية السياحة الجماعية ممكنة. وبينما ظلت الصناديق شكلًا شائعًا للأمتعة، تزايدت تلبية تصميمات الأمتعة لاحتياجات المسافرين الذين كانوا ينطلقون إلى النُّزل والفنادق.23 قد تشتري مجموعةَ أدوات طعام مع أدوات مائدة، وكوب، وحاوية توابل، ونازعة سدادات، وعلب لأدوات الاستحمام للرجال والنساء (مصنوعة من الزجاج، والفضة، وصدف السلحفاة، والعاج)، وصناديق صلبة مزخرفة من الورق المقوَّى لحمل الأغراض الشخصية، وحقائب جلدية مصممة على شكلٍ أسطواني مزودة بمساحة علوية يمكن الوصول إليها من خلال غطاء مُثبت من طرف واحد.24 وبالرغم من بساطة بعض هذه الحقائب (حيث كان من المفترض أن تُربَط على ظهر سَرج)، فإن تصاميمها أصبحت أكثرَ تفصيلًا، وبدأت تشبه الحقائب الحديثة. كانت مجموعات أدوات الطعام مفيدة، حيث قد لا يوفِّر نُزلك هذه الأشياء. قد ترغب أيضًا في إحضار أقلام، وأوراق، ومصباح، وإبريق شاي، وشموع معك.25 مع توافد الإنجليز على شاطئ البحر، كان عليهم التأكُّد من أن أمتعتهم تحتوي على ملابس سباحة وحقيبة شاطئ.
لكن السياحة كانت شكلًا واحدًا فقط من أشكال السَّفر في القرن التاسع عشر. لم يكن السَّفر دائمًا من أجل المتعة، ولم يكن دائمًا متعلقًا بوسائل الراحة الخاصة بالطبقة المتوسطة. ففي بعض الأحيان كان الأمر يتعلَّق بالانتقال من مكان إلى آخر، الأمر الذي قد يكون غيرَ مريح وخطير. كان هذا عصر الباخرة والسفينة الشراعية. اليوم، واحد من كل سبعة أمريكيين كان في رحلة بحرية.26 وبينما يود قطاع الرحلات البحرية أن يعتقد العملاء أن الرحلة البحرية هي السليل المباشر للسفن البخارية والسفن عابرة المحيطات، فإن هذا ليس حقيقيًّا. فقد كانت البواخر في أوائل القرن التاسع عشر «تعتمد على اقتصاديات تجارة المهاجرين العظيمة التي حددت نقل الركَّاب خلال الجزء الأول من القرن … التقسيم الطبقي الصارم بين عالم غني ينتمي للدرجة الأولى فوق أسطح السفن والمساحات الضيقة بالأسفل.»27 أُطلق على هؤلاء الركَّاب اسم «البضائع الناطقة»، ووجد أولئك الذين سافروا في أرخص مكان بالسفينة أنفسهم في مكانٍ لا يختلف عن مخزن البضائع.28 كانت السُّفن الشراعية في تلك الفترة تُلقَّب باسم «سفن التوابيت»، حيث كانت معدلات الوفيات أكثرَ من ۱۰ بالمائة من ركَّاب الدرجة الثالثة.29 في الجزء الأخير من القرن، حسَّنت تكنولوجيا السفن البخارية الظروف قليلًا، وقلَّصت وقت السَّفر، لكن السَّفر كان لا يزال أمرًا يفتقد إلى الرفاهية. مع الحرب العالمية الأولى، جاءت التهوية، والمراحيض، والمياه الجارية لركَّاب الدرجة الثالثة، وجاءت أيضًا نهاية فترة الهجرة الجماعية إلى الولايات المتحدة.30
بحلول ستينيات القرن التاسع عشر، كانت السفينة البخارية «جريت إيسترن» تعبر المحيط الأطلسي في اثني عشر يومًا، حيث يتمتع مسافروها البالغ عددهم ۳۰۰۰ راكب بكل أنواع الرفاهية، من الحمَّامات الساخنة إلى الطعام الفاخر والشمبانيا.31 وبالنسبة إلى المسافرين الأثرياء، فإن الأمتعة لم تحمِ ممتلكاتك فحسب؛ بل كانت تعلن عن مكانة طبقتك. يعتمد ما أحضرْته معك على متن عابرة المحيط الأطلسي على مقدارِ ما تملك من أموال. حتى ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الملابس الرسمية للعشاء على أفضل السفن العابرة للمحيطات هي ملابس السهرة، التي كانت أحد الأزياء التي تحتاجها في يوم عادي نهارًا ومساءً. كان من المعتاد بالنسبة إلى راكب الدرجة الأولى إحضار عشرين حقيبة تحتوي على أربعة أطقم من الملابس يوميًّا.32 ولكن يُحتفَظ ببعض هذه الأمتعة فقط في مقصورتك، وفي ذلك صندوق الباخرة، الذي يشبه خزانة محمولة مزودة بحمالات وأدراج. وبعد ذلك كان هناك صناديق لوي فيتون. اشتهرت لوي فيتون، التي تأسَّست في عام ۱۸٥٤ في ٤ شارع نوف دي كابوسين في باريس، بصناديقها المصنوعة من الخشب، والقماش، والنحاس، والحديد، والتي يمكن تصميمها حسب الطلب؛ فيمكنك طلب واحد يتسع ﻟ ۳۰ زوجًا من الأحذية. حتى إن الشركة صنعت أمتعةً تُعلَّق على جانبي المناطيد. (في عام ۲۰۰٧، صمَّمت لوي فيتون حقائبَ سفر مخصصة لفيلم ويس أندرسون «ذا دارجيلنج ليمتد».) ولم يكن المسافرون الأثرياء بحاجة إلى ممارسة ضبط النفس فيما يخص عدد أمتعتهم؛ لأنهم لم يحملوها بأنفسهم؛ فقد كان الحمَّالون ينقلونها داخل وخارج السفن والقطارات. وكان من الممكن تأجير الحمَّالين في محطات قطارات لندن حتى بداية القرن العشرين.33 وفي الولايات المتحدة، عُرِف العبيد السابقون الذين استأجرهم جورج بولمان للعمل في عربات النوم باسم حمَّالي بولمان. وبموجب قوانين جيم كرو، كانوا ينقلون حقائب الركَّاب البِيض داخل وخارج عربات القطار التي لم يكن مسموحًا لهم بالسَّفر فيها. في عام ۱۹۲٥، شكَّلوا أول اتحاد مكوَّن من الأشخاص السود بالكامل — أخوية حمَّالي عربات النوم — وكانوا مهمين لتقدُّم حركة الحقوق المدنية وتأسيس طبقة وسطى للأمريكيين السود.34
كانت السنوات المحيطة بالحرب العالمية الأولى حاسمة لتطوير السياحة الأمريكية. وأدَّى اندلاع الحرب إلى إغلاق المنتجعات الأوروبية أمام السياح الأمريكيين، وأدَّى إلى طفرة في الروح الوطنية التي تماشت مع شعار السياحة «زُر أمريكا أولًا» في مطلع القرن. كانت السكك الحديدية تتوسَّع. والطرق تتحسَّن. وشهدت العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين انتشار المنتزهات العامة في أمريكا.35 واستمرت السياحة الجماعية في التوسُّع خلال فترة الكساد، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير إلى التطور وظهور إجازة مدفوعة الأجر لمدة أسبوعين للموظفين بدءًا من المديرين التنفيذيين إلى رجال الدِّين في العقود الأولى من القرن.36 وكانت رحلة تشارلز ليندبيرج عبر المحيط الأطلسي في عام ۱۹۲٧ قد أضفت على السَّفر الجوي الدولي سحرًا في المخيِّلة الأمريكية، وقدَّم النصيحة لشركتي طيران رئيسيتين؛ تي دبليو إيه وبان أمريكان. أطلقت تي دبليو إيه على نفسها في الأصل اسم «ذا ليندبيرج لاين»37 ولكن بحلول منتصف خمسينيات القرن العشرين، كان السَّفر الجوي لمسافات طويلة لا يزال نادرًا في أوروبا وأمريكا الشمالية مقارنة بالسَّفر بالقطار أو السفن.38
بحلول عشرينيات القرن العشرين أصبح السَّفر بالسيارات شائعًا، وشهدت العقود القليلة التالية ارتفاعًا في السَّفر الجوي. عندما نشكو من أهوال الطيران اليوم ونضفي طابَعًا رومانسيًّا على الماضي، يجب أن نتذكَّر أنه في عام ۱۹۳۹ كان السَّفر ذَهابًا وإيابًا من مدينة نيويورك إلى فرنسا على متن شركة بان أم «ديكسي كليبر» يكلِّف ٧٥۰ دولارًا، وهو ما يكافئ أكثر من ۱۱۰۰۰ دولار. في عام ۱۹٧۰، كان السَّفر من نيويورك إلى هاواي يكلِّفك ما يعادل ۲٧۰۰ دولار. لكن طائرات مثل ٧۰٧ و٧٤٧ جعلت السَّفر لمسافات طويلة ميسورَ التكلفة.39 وكما تقول إليزابيث بيكر: «بحلول الستينيات انطلق عصر الطائرات النفاثة للسياحة الجماعية. في عام ۱۹٥۸ حلَّقت طائرة بان أمريكان ٧۰٧ من نيويورك إلى بروكسل، وكانت أول رحلة طيران نفاثة تجارية عبر المحيط الأطلسي دون التوقُّف لإعادة التزود بالوقود. وأعقب ذلك انخفاض الأسعار والرحلات المنخفضة التكلفة. خفَّفت الدول الأوروبية القيود المفروضة على جوازات السَّفر وبدأت تنظر إلى السياحة كمحرِّك اقتصادي مهم.»40 نُشر كتاب آرثر فرومر «أوروبا بسعر ٥ دولارات في اليوم» في عام ۱۹٦۰، حيث يقدِّم للأمريكيين من الطبقة المتوسطة نصائحَ سفر عملية ويعيد تصوُّر العطلة الأوروبية كشيء ميسور التكلفة. جعل فرومر، وهو جندي أمريكي كان متمركزًا في برلين بعد الحرب العالمية الثانية، برنامج الجولة الكبرى ليس كجولة أرستقراطية للطبقة العليا تستغرق عدة أشهر، ولكن كجولة تستغرق عدةَ أسابيع يمكن للطبقات الوسطى الاستمتاع بها.41 وبحلول السبعينيات كانت القطاعات في «مجموعة السَّفر والسياحة» من أكبر المعلنين في الصحف الأمريكية.42 وكان السائح يشاهد المعالم، ولكي يشاهد المعالم فهو يحتاج إلى أمتعةٍ خاصة — حقائب الكاميرات، وحقائب الكتف، وحقائب الظهر، التي أصبحت شائعة الاستخدام بعد الحرب العالمية الثانية — بالإضافة إلى «الهيكل المعنوي الخاص بمشاهدة المعالم، وهو شعور جماعي بوجوب رؤية مواقع معينة».43 عندما تأسَّست شركة ديلسي في عام ۱۹٤٦ صنعت حقائب جلدية للكاميرات. كانت مشاهدة المعالم السياحية أمرًا إلزاميًّا وشعائريًّا، وكان على السائح أن يستعد لهذه الشعائر من خلال حَزْم الأشياء الصحيحة. لم يكن فرومر مهتمًّا بتقديم معلومات حول المواقع التي قد تراها، كما كان الحال مع أدلة «باديكر» في القرن التاسع عشر. أخبرك فرومر بكيفية التنقُّل في بلدانٍ غيرِ مألوفة. لقد خفَّف عنك عبء، أو القلق من، أن الأثرياء فقط هم مَن يمكنهم فعْل ذلك.
يحتاج الأشخاص الذين يسافرون بالسكك الحديدية، والسيارات، والطائرات إلى حقائب. كانت الحقائب التي تعود إلى القرن التاسع عشر مصنوعة من الألياف أو الخوص، أو الجلود الصناعية، أو الجلود، أو جلد التمساح، مرتبة ترتيبًا تصاعديًّا حسب الفخامة.44 والكتان، والصوف، والخوص كانت أيضًا موادَّ شائعة. وكانت هذه الحقائب — التي كانت مخصَّصة للبدل — ذات إطارات خشبية أو فولاذية، وغالبًا ما يتم لف الزوايا من الخارج باستخدام أغطية من النحاس أو الجلد.45 ولكن المواد تغيَّرت في القرن العشرين، وأصبحت تُصنع من النايلون، والألومنيوم، والبوليستر. تأسَّست أمريكان توريستر في عام ۱۹۳۳ في بروفيدنس، رود آيلاند، وبحلول عام ۱۹٤٥، كانت تصنع حقائب «هاي تابر» خفيفة الوزن للسَّفر الجوي. وصممت أول حقيبة ذات شكل مميز في الستينيات — حقائب صلبة يمكن أن تتحمَّل البِلى والتَّلف من السَّفر الجوي — واختبرت الحقائب مع مضيفات طيران من شركات الطيران الكبرى. وافتتحت شركة هارتمان، التي تأسَّست عام ۱۸٧٧ كشركة للسلع الجلدية في ميلووكي، مصنعًا في ولاية تينيسي عام ۱۹٥٦. وتأسَّست شركة شوايدر لتصنيع الصناديق في دنفر عام ۱۹۱۰. وأطلق المالك جيسي شوايدر على أحد تصميماته الأولى اسم رجل الكتاب المقدَّس القوي سامسون، وفي عام ۱۹٦٦ أصبحت الشركة سامسونايت. وبالمقارنة مع أمتعة اليوم، ظلَّت هذه الحقائب ثقيلة، حتى عندما تكون فارغة. وبدت مثل حقائب السَّفر. ولم يظهر شيء قريب من الحقيبة المعاصرة المزودة بعجلٍ حتى عام ۱۹٧۲. أضاف رجل يُدعى برنارد سادو أربع عجلات وحزامًا قصيرًا لحقيبة، وحصل على براءة اختراع لفترة قصيرة من الزمن.46 هذه هي الحقيبة التي تجرُّها جون وايلدر (كاثلين تورنر) خلفها في فيلم «رومانسينج ذا ستون» (۱۹۸٤). إلى جانب الكعب العالي، تثبت الحقيبة أنها غير مناسبة لبيئة الغابة الوعرة التي تجد نفسها فيها، وفي نهاية المطاف يفقد جاك تي كولتون (مايكل دوجلاس) صبرَه بسبب طرقها الحضرية ويلقي بها في وادٍ. وعلى الرغم من أن جزءًا من النكتة يتمثَّل في أن النساء سيئات في حزْم الأمتعة وغير قادرات على البقاء من دون الكثير من الأغراض — وهي عبارة قديمة مبتذلة معادية للمرأة — فإن هذا التصميم ليس في الواقع الأكثرَ عملية. وبدحرجة الحقيبة بهذه الطريقة، ستتهادى من جانبٍ إلى آخر، وستهدِّد دائمًا بالسقوط، خاصة إذا وجدت نفسك في طريق ترابي في جبال كولومبيا، تحاول إنقاذ أختك المخطوفة. هذه الحقائب أصبحت الآن شيئًا من الماضي. في عام ۱۹۸٧، قام روبرت بلاث، طيار بشركة نورثويست إيرلاينز، بتغيير اتجاه حقيبة السَّفر إلى الوضع القائم والجانبي وإضافة يدٍ قابلة للتمديد. كانت هذه بداية الحقيبة المزوَّدة بعجلٍ التي أصبحت منتشرة في كل مكان الآن، والتي سُوِّقت في البداية فقط لأطقم الطيران. وبمجرد أن أصبحت متاحةً على نطاق واسع، لم يَعُد المسافرون مضطرين لتسجيل أمتعتهم في عنبر الطائرة، وفي غضون عام، وضعت إدارة الطيران الفيدرالية إرشادات بشأن الحقائب المحمولة.47
الأمتعة مقيدة بقواعد. وُضعت قواعد الأمتعة الأولى في عام ۱۹۳۸. حدَّد مجلس الطيران المدني وزن الحقائب ليكون ٤۰ رطلًا للرحلات الداخلية و٤٤ رطلًا للسفر الدولي. وكانت هذه القيود عملية لأن المساحة كانت محدودة، ولكن مع اتساع الطائرات، زادت أوزان الأمتعة المسموح بها أيضًا، وبحلول أواخر السبعينيات، تمكَّن المسافرون من تسجيل حقيبتَين يصل وزن كلٍّ منهما إلى ٧۰ رطلًا، مجانًا. وكان بيبول إكسبريس أول خط محلي يتقاضى رسومًا مقابل الأمتعة، بغض النظر عن الوزن، ولكن بحلول عام ۲۰۱۰ فرضت جميع شركات النقل المحلية تقريبًا رسومًا على الحقائب المسجلة.48 وهذه الممارسة جزء من «تقاضي رسوم منفصلة»، أو الحساب بثَمن مستقل (كما هو الحال مع الطعام) وهي وسيلة رئيسية تزيد من خلالها شركات الطيران إيراداتها.49 تحدِّد شركات الطيران التجارية الآن ۱۹۰ رطلًا لكل راكب، وفي ذلك الحقائب المحمولة، و۳۰ رطلًا لكل حقيبة مسجَّلة. أربعمائة راكب وأمتعتهم، أو ما يقرب من ٧٥۰۰۰ رطل، تشكِّل ۱۰ في المائة فقط من الوزن الإجمالي لطائرة ٧٤٧ محمَّلة بالكامل. (غالبًا ما يمثل الوقود ثلث إجمالي حجم الطائرة أو أكثر.)50 ولكن لا يزال بإمكانك السَّفر على متن سفينة كونارد «كوين ماري» بأمتعةٍ غير محدودة. وبمرور الوقت أصبح تصميم الأمتعة والمساحة أمرًا موحدًا.51 ولكن لا يوجد شيء موحَّد بشأن الأمتعة، وهذا أحد الدروس العملية الخاصة بها. وفيما يلي قصة حقيبة ورحلة.

سأذهب إلى مؤتمر في أتلانتا، وأنا بحاجة إلى حزْم الأمتعة.

ثلاثة أيام من الندوات، وحلقات النقاش، والمحادثات عن شكسبير. لكنَّ جزءًا من الطريق السريع بين الولايات آي-۸٥ انهارَ قبل بضعة أسابيع؛ لذلك قرَّرت أن أسلك طريقًا آخر. طريقًا ذا مناظر خلابة. أشعر أنني بحاجة إلى رحلة بالسيارة. أخرجت الأطلس الخاص بي وحدَّدت مسار رحلة من منزلي في وسط كارولينا الشمالية إلى هيلين، جورجيا، وهي قرية بافارية وهمية على بُعد ساعة واحدة شمال أتلانتا. الوقت متأخِّر في الصباح؛ لذا حزمتُ الأمتعة في السيارة وانطلقت على الفور، كل شيء على ما يُرام؛ يمكنني البقاء في هيلين الليلة والتوجُّه إلى المدينة غدًا. ويمكنني اصطحاب كلبتي ميلي معي وأضعها في مكانٍ لاستضافة الحيوانات أثناء وجودي في المؤتمر. هذا يجعلني سعيدة لأننا دائمًا نقوم برحلات بالسيارة معًا.

بحثت في خزانة ملابسي واخترت حقيبتي البرتقالية الصلبة. إنها ليست ضخمة، لكنها ليست بحجم حقيبة محمولة أيضًا، ولا يوجد سبب لحزْم الأمتعة بكفاءة عندما تسافر مستخدمًا سيارتك. يمكن أن تصبح سيارتك حقيبتك. تظل بعض الأشياء في سيارتي: القهوة السريعة التحضير، ونازعة السِّدَادات، ومنبه السَّفر في تابلوه السيارة. بخلاف ذلك: واقي الشمس، ورذاذ الحشرات، والمظلات، وأكياس القماش المتينة، وبطانية النزهة، والأطلس، وحافظة الأقراص المضغوطة من الكلية التي شكَّلت ذوقي في الموسيقى منذ عشرين عامًا، لكنني أجد أنه مع استثناءات قليلة، هذا جيد بشكل عام. هذا يعني أنني سأستمع إلى الكثير من أغاني فرقة إنديجو جيرلز عندما أقود السيارة. بعد عشرين عامًا، يمكنني القول بثقة تامة إنني ما زلت لا أفهم أغنية «جاليليو».

ليس لديَّ تقنية في حزْم الأمتعة. إذا كنت سأسافر بالطائرة آخذةً حقيبةً صغيرة، كنت سأوفِّق الأشياء معًا بشكلٍ أكثرَ دقة، ولكن في ظل الظروف الحالية، لديَّ مساحة أكبر مما أحتاج. أحبُّ تصميم هذه الحقيبة لأنها تُفتَح لتكشف عن جانبين متساويين في الحجم، مثل دُرجين، وكلٌّ منهما يُغلق بسحَّاب. هذا يعطي إحساسًا بالاحتواء والأمان. أحزم ملابس المؤتمر الخاصة بي على جانب واحد (التنانير، والبلوزات، وجورب، وسترة جميلة، وبعض المجوهرات، وحقيبة يد صغيرة، وحقيبة كتب) وملابس الرحلة على الجانب الآخر. أحزم زوجًا من الأحذية ذات الكعب العالي الذي يتناسب مع كل شيء في الجانب الخاص بالمؤتمر. يقوم بعض الأشخاص بحزْم أحذيتهم في أكياس صغيرة، لكني أقلب النعل إلى الجزء الخارجي من الحقيبة. لديَّ زيٌّ رسمي لرحلات السيارة تطوَّر مصادفةً تقريبًا على مر السنين: تنورة قطنية سوداء طويلة (أو اثنتين) يمكنني ارتداؤها لعدة أيام متتالية، قمصان داخلية بلا أكمام بيضاء رجالي (أشتري مجموعة أخرى إذا نفدت من عندي)، ووشاح كبير أو سارونج لربطه حول خَصري. وأحضر عددًا من الأوشحة الأخرى للتبديل. كل هذا في جانب الحقيبة الخاص بالرحلة. أيضًا أدوات النظافة الشخصية وبعض أشياء المؤتمر: جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي، البحث، وبعض الكتب — بعضها متعلِّق بالعمل (شكسبير) وبعضها ليس كذلك (معظمها شعر، وليس لشكسبير). ونظاراتي. أرتدي قرطي الذهبي من تارجت، وعِقدًا كبيرًا مطليًّا بالمينا باللونين الأسود والذهبي اشتريته من متجر الهدايا التابع لجمعية نيويورك التاريخية منذ سنوات وأرتديه كلَّ يوم تقريبًا، وساعتي. جميعها مجوهرات مقلَّدة.

أضع حقيبتي في السيارة بالإضافة إلى مصباحٍ يدوي وكرسي قابل للطي، قد يكون مفيدًا. وأحزم طعام ميلي وسريرها وأطباق أكلِها. ومشروب بوربون. وزجاجتين من الماء. ونظارتي الشمسية. تقفز في المقعد الخلفي، حيث أربط لها حزامَ مقعد الكلب الخاص بها، ونرحل في وقت الغداء تقريبًا، متجهَين إلى جبال الألب الخيالية، ونبتعد عن الواقع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤