الفصل الثاني

لغة الأمتعة

ما المقصود بكلمة luggage (الأمتعة) في اللغة الإنجليزية؟ تعود أصول الكلمة إلى ثقافة الحرب: لمئات السنين، أشارت إلى المتاع، والذخائر، وإمدادات الجيش، بما فيها من الصناديق، وحقائب الظهر، وأدوات الطعام، وحقائب الكتِف والحقائب المناسبة للجندي، وخاصة الفرسان أو جنود المدفعية. كانت أشياء ثقيلة بشكلٍ مزعج يجب جرُّها. في مسرحية شكسبير «هنري الخامس»، عبَّر النقيب الويلزي فلويلين عن رعبه من ارتكاب القوات الفرنسية لفعلٍ عنيف: «اقتل الصبيان والأمتعة! هذا مخالف لشعار النبالة صراحة» (٤.٧.١).1 هؤلاء الضحايا الصغار كانوا يحرسون أمتعة الجيش في أجينكورت. في قصة تيم أوبراين «الأشياء التي حملوها»، نتعرف على ما تحمله فصيلة من الجنود في فيتنام معها: ليس مجرد أشياء عملية، مثل حصص الإعاشة الإضافية، والأسلحة، والجوارب، ولكن أيضًا الرسائل والصور الفوتوغرافية. تبدأ القصة ببعضٍ من هذه الرسائل: «حمل الملازم الأول جيمي كروس رسائلَ من فتاةٍ تُدعى مارثا، طالبة في السنة قبل الأخيرة في كلية ماونت سيباستيان في نيو جيرسي. لم تكن رسائل حب، بل كان الملازم كروس يأمُل ذلك؛ لذا أبقاها مطوية بالبلاستيك في الجزء السفلي من حقيبة ظهره.»2 هذه الرسائل، المحفوظة والمخزَّنة بعناية، تربط الملازم كروس، وإن كان بشكل طفيف، بدياره وبمستقبلٍ منشود. تدور هذه القصة حول الجهد؛ جهد حمل الأشياء التي لها وزن حقيقي وعاطفي. أن تقول إنك «تحمل» شيئًا ما يعني ضمنًا عبئًا أكثرَ من قول إنك «أحضرت» شيئًا معك. بالنسبة إلى الجنود، المصطلح هو «يحمل على ظهره»: «أن تحمل شيئًا ما يعني أن تحمله على ظهرك، كما حدث عندما كان الملازم جيمي كروس يحمل على ظهره حبَّه لمارثا عبر التلال والمستنقعات. حرفيًّا، يعني هذا المصطلح المشي، أو السَّير، ولكنه ينطوي على أعباءٍ تتجاوز بكثير المعنى الحرفي.»3 هذه هي أعباء العلاقات الإنسانية وأعباء الارتباطات والذكريات. إنها أعباء الرغبة، والحب، والأمل. الرسائل ليست مجرد رسائل: إنها كتابات من فترةٍ ما بعد الحرب. تذكِّرنا هذه القصة بأن القيمة شيء معقَّد. قد يكون كيس الأرز ذا قيمة، مثل سترة واقية من الرصاص أو غطاء الأرض المقاوم للماء؛ ولذا يريد الجنود هذه الأشياء، أو يحتاجونها. لكن بالنسبة إلى الشخص البعيد عن منزله، المحاط بالعنف، ويواجه احتمال الموت، فإن الأشياء الأخرى تكتسب قيمةً تتجاوز المنفعة. تتسم القصة بأنها قائمة جرد؛ قائمة لا تختلف عن قائمة حزْم الأمتعة. ويسمح هذا الشكل الذي يبدو غير شخصي للقارئ بالوصول ليس فقط إلى الجزء الداخلي من حقائب الظهر هذه، ولكن أيضًا إلى داخل شخصية الجنود؛ أفكارهم، وذكرياتهم، وأنفسهم.
اليوم، تعني «الأمتعة» جميع المتاع الخاص بالمسافرين والركَّاب، وخاصة المتاع المنقول عن طريق وسائل النقل العام. غالبًا ما نشير إلى أمتعتنا باسم «حقائبنا»، محوِّلين إياها إلى أنواعٍ أخرى من الحاويات التي تحمل أغراضنا وتسمح لنا بنقلها. من الصعب التفكير في الحياة دون حقائب. وكما يذكر ستيفن كونور، «يحوِّل البشر العالَم إلى حقائب؛ لأن التمسُّك بالأشياء، وحملها، والحفاظ على أنفسنا ودعمها، كلها أمور مهمة جدًّا بالنسبة إلينا.»4 من المؤكَّد أن المنتجات التي تصنعها ديلسي، وترافيل برو، وتومي وريموفا، وسامسونايت، وأتلانتيك، وأمريكان توريستر، وروكلاند هي أمتعة، لكننا نحمل أغراضنا في جميع أنواع الحاويات التي قد لا تكون حقائبَ سفر بعَجلٍ. هل حقيبة الظهر من الأمتعة؟ ربما الكبيرة المخصَّصة للمغامرات في الهواء الطلق، ولكن ليس الصغيرة المخصَّصة للمدرسة. أكياس التسوق، والحقائب القماش، والمحافظ، وحافظات الأوراق، وحقائب المستندات، وحقائب الكتف، وحقائب الخَصْر، وحقائب الكاميرا، وسِلال النزهات، والصناديق الكرتون، وأكياس القمامة، وحافظات الجيتار، وحقائب التزلُّج — هل هذه أمتعة؟ هل حقيبة إفون من الستينيات المزخرفة باللونين الأخضر والأزرق التي تحملها شخصية ديان ويست «بيج» في فيلم «إدوارد سيزورهاندز» (۱۹۹۰) من الأمتعة؟ سمح لك حزام كتب عتيق ذات مرة بحملِ كتبك، لكنه ليس حاوية أو حقيبة. الجثة هي شخص تحوَّل إلى شيء؛ لذلك ربما يكون كيس الجثث من الأمتعة. تُنقل التوابيت حول العالم في عنابر الشحن بالطائرات التجارية. قد تكون من الأمتعة. نتحدَّث عن بعض الأمتعة على أنها «حمولة»، سواء بالنسبة إلى الطائرات أو السفن. تميل هذه الفئة إلى الارتباط بالأشياء التجارية بدلًا من الأغراض الشخصية، لكننا نشير إلى الجزء بالطائرة الذي يحمل أمتعتنا الشخصية باسم «عنبر الشحن»، وهو مصطلح يقضي على هذا التمييز. يحمل الدُّب بادينجتون، الذي يعود تاريخه إلى عام ۱۹٥۸، بطاقةَ أمتعة مثبتة عليه مكتوبًا عليها «بيرو المظلمة إلى لندن إنجلترا عبر محطة بادينجتون»، وعلى ظهرها طلبٌ مكتوب بخط اليد، «يُرجى الاعتناء بهذا الدُّب». فربما يكون دبًّا، وربما يكون من الأمتعة.
ربما تكون الأمتعة هي أي شيء يحمي شيئًا (أو مجموعة من الأشياء) ويجعله قابلًا للنقل. في القرن التاسع عشر، سُلِّمت المكتبات المحمولة إلى المنارات على طول الساحل الشرقي للولايات المتحدة. وفَّرت هذه المكتبات، التي نُقلت في صناديقَ خشبيةٍ تشبه صناديق الملابس أو أرفف الكتب الصغيرة، الراحةَ التي كان الحراس في أمسِّ الحاجة إليها بسبب العزلة والجهد المبذول في العمل. وتشهد دفاتر السجلات من هذه الفترة على حقيقة أن حرَّاس المنارات عملوا بشكلٍ يكاد يكون مستمرًّا، وخلال عطلات نهاية الأسبوع والأعياد. قد تسافر أيُّ مكتبة بعينها عبر ساحل المحيط الأطلسي بأكمله، وتتوقَّف عند جميع المنارات على طول الطريق لإعارة الكتب.5 يصعُب تصنيف مثل هذه الأشياء المحمولة. سافرت جين أوستن مع طاولة كتابة، أو صندوق كتابة، محمولة من خشب الماهوجني، كانت على الأرجح هديةً من والدها القس جورج أوستن في عام ۱٧۹٤، عندما كانت في التاسعة عشرة من عمرها. (الطاولة موجودة في مجموعة المكتبة البريطانية في لندن منذ عام ۱۹۹۹.) تحتوي على دُرجٍ جانبي، وتُطوى أسطح الكتابة للخلف لتكشف عن أماكنَ لحفظ المخطوطات، والمحابر، وأدوات الكتابة. في أواخر تسعينيات القرن الثامن عشر، كانت أوستن تعمل على مسودات «كبرياء وتحامل»، و«عقل وعاطفة»، و«دير نورثانجر» — وكما يقول أحد النقاد، «تعلَّمت كيفية الكتابة أثناء التنقل».6 كانت طاولات الكتابة «عناصرَ مرغوبًا فيها للغاية، وهي شكلٌ من أشكال المعدات الحديثة في عالَمٍ يعني فيه تحسين الطرق والعربات أن الناس يسافرون أكثرَ من أي وقت مضى.»7 في فيلم «ميس أوستن ريجريتس» عام ۲۰۰۸ عن السنوات الأخيرة من حياتها، تساعدها أختها كاساندرا في حَزْم مخطوطة «إيما» في رحلةٍ لزيارة ابنة أخيها فاني. على الرغم من أن الرواية قيد التنفيذ هنا حُزِمت مع ملابسها وليس في طاولة الكتابة، فإن مشهد حَزْم الأمتعة هذا يتحدَّث عن رؤية فيرجينيا وولف لجين أوستن في «غرفة تخصُّ المرء وحدَه» (۱۹۲۹). بالنسبة إلى وولف، كانت أوستن هي الكاتبة الوحيدة التي تمكَّنت من العمل دون امتلاك مثل هذه المساحة — دون غرفة خاصة بها. سواء في الداخل أو في الخارج، كتبت وهي محاطة بإلهاءات الحياة. طاولة الكتابة عبارة عن صندوق. إنها قطعة أثاث. وهي من الأمتعة. مكَّنت أوستن من العمل والسَّفر، وأخرجتها إلى العالَم الذي فهمته جيدًا ثم سمحت لها بكتابة كل شيء. وذات مرة، كادت أن تضيع. في رسالة إلى كاساندرا بتاريخ ۲٤ أكتوبر ۱٧۹۸، كتبت أوستن عن «المغامرة الصغيرة» المتمثلة في الفقدان المؤقَّت لطاولة الكتابة، والتي وصفتها بأنها تحتوي على «كل ثروتي الدنيوية». وُضعت الطاولة وبعض صناديق الملابس عن طريق الخطأ في عربةٍ انطلقوا بها نحو جريفسيند، ولكن أُرسل رجلٌ بسرعة على ظهر حصان لإنقاذ الأشياء.8 الأمتعة ليست مجرَّد حقيبة أو محتوياتها. إنها ليست مجموعة من الأشياء بقدرِ ما هي فكرة؛ طريقة للتفكير في الأشياء التي نحملها معنا في الحياة ولماذا. يأتي المرادف الإنجليزي لكلمة أمتعة Luggage من الفعل to lug الذي ربما يكون من أصل إسكندنافي. وكما يذكر قاموس أوكسفورد الإنجليزي، فإن الفعل السويدي lugga يعني جذب شعر الشخص. فكرة عدوانية إلى حدٍّ ما. من القرن الرابع عشر إلى القرن التاسع عشر، كان للفعل lug أيضًا دلالة شريرة تتمثَّل في مضايقة، أو إزعاج، أو اصطياد شخصٍ ما أو شيءٍ ما — مثل دُبٍّ أو ثور. كان اصطياد الدببة من الرياضات الدموية الشهيرة في عصر النهضة بلندن، واستضافت بعض المسارح التي عرضت مسرحيات شكسبير هذه الفعاليات، حيث يقيد الدُّب بالسلاسل في خشبة المسرح وتمزِّقه الكلاب. وكان يقال على هذا المخلوق المسكين إنه lugged: لقد تحوَّل إلى شيء في مشهدٍ قاسٍ. في مسرحية شكسبير «هنري الرابع، الجزء الأول»، يقول فالستاف للأمير هال، «اللعنة، أنا حزين مثل قط مخصي أو دب lugg’d.» (٥-١.٢.٧٤).9 تؤكِّد المقارنة شيوعَ هذا العنف. فالقط المخصي والدُّب الذي يُجرُّ ليلقى حتفه، بالنسبة إلى فالستاف، مخلوقان متشابهان إلى حدٍّ ما، وكلاهما مناسبان للمقارنة مع حزنه الكئيب. يُستعمل الفعل lug مع الحصان، بمعنى سحبه أو جره من لجامه، ومع الخمور بمعنى شُرْبها. (وعلى نفس المنوال، نقول اليوم «اسحب» نفَسًا من السيجارة). الآن، الفعل lug يعني سَحب شيء بشكلٍ شاقٍّ؛ فالمصطلح يؤكِّد الصعوبة والجهد.
ثم هناك كلمة baggage. على الرغم من أننا نستخدم أحيانًا كلمتي luggage (أمتعة) وbaggage (متاع) بشكلٍ مترادف، إلا أن لكلٍّ منهما آثاره الخاصة. ومثل luggage، يمكن أن تشير baggage إلى المعدات التي تجرُّها الجيوش معها. تأتي كلمة baggage من الكلمة الفرنسية القديمة bagage، التي تشير إلى الممتلكات المحمولة بغرض نقلها. معنى الفعل baguer هو يربط، أو يوثِّق، أو يقيِّد، ويشير الاسم bagues إلى الصُّرر والرُّزم. ومصطلح bag (حقيبة) مشتقٌّ من مصطلح اللغة الإنجليزية الوسطى المبكِّرة bagge؛ وفي اللغة الاسكندنافية القديمة، التي قد تكون أصل المصطلح الإنجليزي، كانت baggi معناها حقيبة، أو رِزْمة، أو صُرَّة. (بالنسبة إليَّ، أي ذكر للصُّرَر يعيد إلى ذهني الآنسة هانيجان عشيقة السيد بندلز في فيلم «آني» عام ۱۹۸۲، حيث وفَّرت حاويات صُرر الغسيل المتسخ الغطاء المثالي لآني للفِرار من دار الأيتام.) أثناء فترة الإصلاح، استُخْدِم كلمة baggage بشكلٍ متنوعٍ إلى حدٍّ ما في طقوس عبادة الروم الكاثوليك وأدوات الزينة. أحد كُتَّاب القرن السادس عشر قال منتقدًا: «This Popyshe baggage of dumme ceremonies (متاع بوبيشي هذا من الاحتفالات البلهاء).» وكان للمصطلح أيضًا معنًى معادٍ للنساء بشكلٍ واضح: فيمكن أن تعني baggage امرأة سيئة السمعة وعديمة القيمة، وغالبًا ما يظن المرء أنها تعيش حياة فاسدة (لا تختلف عن كلمة «عاهرة»). وتعني أيضًا امرأة سخيفة، أو وقحة، أو داهية، أو خبيثة. وفي سياقٍ ذي صلة، فإن «الحقيبة القديمة» هي امرأة عجوز غير جذابة، وربما عاهرة عجوز. وفي القرن السادس عشر، كانت baggage يمكن أن تعني أيضًا قذارة، أو نفايات، أو قمامة — شيء فاسد أو عفن، بما في ذلك الأشخاص. وكانت كلمة baggage تعني عديم القيمة وسيِّئ. اليوم، تُستخدم الكلمة بشكلٍ شائع في الولايات المتحدة للإشارة إلى الممتلكات المنقولة أثناء السَّفر. في اللغة الإنجليزية نقول baggage claim (منطقة تسلُّم المتاع) ولكن lost luggage office (مكتب الأمتعة المفقودة)، مما يوحي أنه إذا لم تظهر حقائبك، فإنها تتحوَّل من baggage إلى luggage. ومع كلمة baggage ندخل عالَم الاستعارة. لا تشير كلمة baggage إلى أعبائنا الفعلية فحسب، بل إلى أعبائنا العاطفية أيضًا. ومع هذا الاستخدام، لا نعتمد على معنى عصر النهضة الخاص بالقمامة، ولكن على استخدامٍ آخر يتعلَّق بالمسائل المهمة. كتب فرانسيس بيكون في كتابه «مقالات»: «I cannot call Riches better than the Baggage of Vertue (لا يمكنني تذكُّر ثرواتٍ أفضلَ من أعباء الفضيلة).» هنا، «أعباء الفضيلة» شيء مرغوب فيه أكثر من الثروات، شيء جدير بالاحترام وقيِّم، على الرغم من صعوبة تحمُّله. ترتبط الأعباء بالشعور بالواجب وثِقَل الفكر. لكن الأعباء في بعض الأحيان ليس لها قيمة رمزية. ربما صخرة سيزيف عبء: العبء النهائي الذي لا يقدِّم شيئًا سوى العناء. فسيزيف دائمًا ذاهب إلى مكانٍ ما؛ ولكنه لا يصل أبدًا إلى أي مكان. وبعض الرحلات قد لا تتضمَّن أمتعة، بل أعباء. عندما نزل دانتي إلى الجحيم مع فيرجيل كمرشد له، لم يجلِب معه شيئًا؛ إنها ليست هذا النوع من الرحلات. أمتعته هي أعباء المشاهدة: «لسماع صرخات اليأس، ورؤية الأرواح المعذَّبة القديمة وهي تنوح/بالتزامن مع الموت الثاني الذي يجب أن يلتزموا به.»10 وهذا يكفي بالتأكيد. في بعض الأحيان تصبح الأمتعة وسيلةً لتخيُّل حياتنا العاطفية بمعزلٍ عن أنفسنا. في «شالكروس»، كتبت الشاعرة سي دي رايت عن «حقائب الحزن المدولبة الخاصة بي»؛ أي الحقائب التي تحمل أكثرَ مشاعرنا إيلامًا؛ تلك المشاعر التي لا يمكننا أحيانًا احتواؤها أو الاحتفاظ بها لأنفسنا.11 وفي قصيدة سينيد موريسي «النافذة العالية»، يشير المتحدث إلى شخصية السكرتيرة الكلاسيكية في رواية ريموند تشاندلر على أنها «تتمتَّع بحياة ضيقة جدًّا، ربما منذ البداية/مجموعتها الصغيرة المثيرة للشفقة من الآثار الباهتة/يمكن وضعها داخل حقيبة واحدة.»12 حياة ليست مملوءة حتى بالأشياء، ولكن «بالآثار».
بلغة قِطاع المساعدة الذاتية، تميل أمتعتنا الشخصية إلى الارتباط بالماضي وتُفْهم على أنها مسئولية ومشكلة. أثناء جلوسي في مترو أنفاق نيويورك مؤخرًا، رأيت إعلانًا لموقع Clutter.com يسأل: «هل لديه أمتعة؟ سنحملها.» تعتمد هذه الخدمة على المفاهيم التقليدية للرومانسية بوصفها محمَّلة بأمتعة شخص واحد على الأقل (وربما شخصين)، ويُقدَّم التخزين على سبيل المُزاح كحل. الأشياء المادية الفعلية — التي دائمًا ما تكون خادعة في شقة صغيرة في المدينة، بالطبع — تصبح رموزًا لماضي شريكك يجب إدارتها، والتحكُّم فيها، وربما إبعادها عن الأنظار. أمتعته ليست مجرَّد طاولةِ قهوةٍ ذاتِ عجلةِ عربة. والتي يمكن تخزينها. لا، إنه يجلب معه أمتعة ذكورية مبتذلة: لا يمكنه الالتزام، لا يستطيع التواصل، وما إلى ذلك. لكن عيوبه وأمتعته يمكن حملها ونقلها بعيدًا. وهكذا تتحوَّل إنسانيتنا المعقَّدة، ماضينا، من مأساة محتملة إلى كوميديا — أو على الأقل إلى نكتة سيئة.

نميل إلى التحدُّث عن أمتعتنا بأثرٍ رجعي. إنه ما نحضره معنا من الماضي: الذكريات والتجارب من منظور سلبي، بوصفها شيئًا مؤلمًا يصعُب تحمُّله. من الصعب تخيُّل وجودِ قِطاع المساعدة الذاتية المعاصر دون فكرةِ أن لدينا جميعًا أمتعةً يجب علينا نحن، والآخرون، أن نتعامل معها. هذا جزء مهم من كيفية فهْم الأمتعة؛ فهي ليست أمتعتك أنت فقط. ووفقًا للحكمة التقليدية، تقع على عاتقك مسئولية الاعتراف بأمتعتك للآخرين، ربما بشكلٍ مخجل، حتى يفهموا كيف شُكِّلت شخصيتك ويعرفوا ما يواجهونه. قيل لنا أن نحذَر من الأشخاص الذين لديهم الكثير من الأمتعة. من المفترض أن يكون مثل هذا الشخص كثيرَ المشكلات، ومرهق عاطفيًّا للغاية. إنه عبء. بالطبع، الكلمة مبتذلة، لذلك لها أعباؤها الخاصة؛ وتُبلى من فرط الاستخدام.

قد نكون أنفسنا أعباء. في بداية فيلم «ذا سيكريت جاردن» للمخرجة أجنيشكا هولاند والكاتبة فرانسيس هودجسون بورنيت عام ۱۹۹۳، فُرِّغت أكوام من الأمتعة من السفينة التي أعادت ماري لينوكس اليتيمة من الهند. أثناء تنفيذ هذا العمل، تم أيضًا فهرسة ومعالجة أعداد كبيرة من الأيتام من الزلزال (وباء الكوليرا في الكتاب). وخُصِّصت لهم أرقام: ماري رقم ٤۳. عندما تأتي مدبِّرة المنزل السيدة ميدلوك لأخذها، تشير إلى الطفلة على أنها «قطعة عادية من السلع». إنها عبء — وليس حتى عبئًا إنجليزيًّا، بل عبء أجنبي. أعباء من الخارج. كانت ماري في السابق تتمتَّع بامتياز ودلال، أما الآن فهي تحظى بتقدير وقيمة أقلَّ من الحقائب التي تملأ الشاشة من حولها. كتبت كونستانس أوردانج في قصيدتها «الأمتعة»:

السَّفر اختفاء
فقط لأولئك المتروكين.
ما يعرفه المسافر
هو أنه يرافق نفسه،
العبء الثقيل الذي لا يمكن تسجيله،
مسروق، أو مفقود، أو خاطئ.13

نحن نرافق أنفسنا؛ نحن نرتبط بأنفسنا بشكلٍ معقَّد. لكننا أيضًا عبء «ثقيل» لا يمكن التخلص منه أو ترْكه. وللمسافرة ذاتٌ منقسمة — إنها ترافق ذاتها — لكنَّ هاتين الذاتين مرتبطتان بعضهما ببعض. إنها ذاتها وحقيبة من نوعٍ ما تجلبها معها. ربما يكون «العبء الثقيل» ذاتًا جوهرية، تتجاوز المادة، وتتجاوز الجسد الذي يتنقل من مكانٍ إلى آخر. تتَّفق هذه الفكرة مع صور الأشعة السينية المخيفة لمحتويات الحقائب المحمولة أثناء مرورك عبر أمن المطار. أحاول دائمًا النظر إلى الشاشة، متشوقة لمعرفة أشكال وظلال أشياء الآخرين المخفية، لكن الصور لا تذكِّرني بأي شيء مثل الأجسام البشرية؛ فالأشعة السينية لصدر شخصٍ ما لا تختلف عن الأشعة السينية لحقيبة. في الواقع، تذكِّرنا عبارة «كيس عظام» بأننا قد لا نكون أكثرَ من حاويات تُحمَل فيها الأشياء. تميل العبارة إلى أن تنطبق على شخصٍ نحيف؛ ولذلك فهي تلفت الانتباه إلى الواقع المربِك المتمثِّل في القدرة على رؤيةِ ما بداخل المرء، أو عظامه، من الخارج.

ولكن هناك رؤًى أكثر وردية للإنسان بوصفه أمتعةً أو متاعًا. في فيلم «ستيل ماجنولياز» عام ۱۹۸۹، قالت كليري (أوليمبيا دوكاكيس) لشيرلي ماكلين: «ويزر، أنتِ تعلمين أنني أحبك أكثرَ من أمتعتي.» عندما تترك شخصًا ما، ويريد أن يقول إنه سيفتقدك، يقول: «ضعني في حقيبتك واصطحبني معك.» إنه تعبير عن الحميمية، أن شخصًا ما يريد أن يكون معك، يريد أن يكون قريبًا منك. مُلقًى بين أشيائك. يسافر متخفيًا. لن يعرف أي شخص آخر أنه موجود بين ملابسك وأحذيتك وفرشاة أسنانك. كتب ستانلي موس في قصيدته «المسافر المتخفي»: «متقدمًا بالعمر، أسافر متخفيًا في قبضة كياني»، وهو سطر يتماشى مع رؤية دابليو بي ييتس الشهيرة في «الإبحار إلى بيزنطة» للإنسان على أنه «مربوط بحيوان يُحتَضَر.»14 بالنسبة إلى ييتس، نموت لأننا عالقون مع أجسادنا التي تُحتضَر، أو بداخلها. رؤية موس مادية وتجريدية في الوقت نفسه. لا يحتفظ الجسم المتقدِّم بالعمر بذاتٍ عجوز فقط، ولكن ربما يحتفظ أيضًا بذاتٍ أصغر سنًّا؛ ذات من الماضي تسافر متخفية. و«القبضة» كيان المرء، والذاتية نفسها، بكل حمولتها المشروعة وغير المشروعة. يعتبر السَّفر متخفيًا تعديًا. أمرًا غيرَ مصرَّح به. وبالتالي، يتصف بالإغراء. المصعد الصغير في فندق لو دوكان في باريس تصطف على جانبيه صناديق خزانة ملابس لوي فيتون عتيقة؛ لذا ستصبح مسافرًا متخفيًا من نوعٍ ما في هذا المكان. في إحدى حلقات «آي لاف لوسي»، تحتاج لوسي إلى الحصول على جواز سفر ولكن لا يمكنها العثور على شهادة ميلادها؛ لذا فهي تسافر متخفية في صندوق الأمتعة وتعلق فيه. يمكن للأمتعة أن تسافر متخفية أيضًا: تصنع ماركة الأمتعة بارافيل حقيبةً قابلة للطي بقيمة ۲٧٥ دولارًا تسمَّى «ستوأواي (السَّفر متخفيًا)» (تبلغ أبعادها وهي مطوية ۱٧٫٥ × ٧ × ۲٫٥ بوصات، وأبعادها وهي غير مطوية تبلغ ۱٧ × ۱۳ × ٦٫٥ بوصات) وتنصحك «بالاحتفاظ بواحدة داخل الحقائب الأكبر حجمًا من أجل الرحلات الليلية أو عندما تسيطر عليك ميول التكديس.»
والأمتعة لها استعارات أخرى. فنحن نتحدَّث عن «فك حزم» فكرةٍ ما، بمعنى فحصها بشكلٍ نقدي، وبالفعل يظهر المصطلح في عنوان أحد أكثر الأفكار التي يُستشهد بها المتعلقة بالآثار اليومية لامتياز أصحاب البشرة البيضاء، وهو قائمة التحقُّق الخاصة ببيجي ماكنتوش «امتياز أصحاب البشرة البيضاء: فك حزم حقيبة الظهر غير المرئية.» إن «فك حزم» مفهومٍ ما هو محاولة تحليل أجزائه المختلفة، وافتراضاته، وآثاره، كما يأخذ المرء الملابس خارج الحقيبة. والنتيجة هي شعور بالفهم باعتباره توسعًا: أن ما كان مطويًّا سابقًا (ولم يكن مرئيًّا بالكامل) قد كُشِفَ عنه في حالته الكاملة المكشوفة. يميل أساتذة اللغة الإنجليزية إلى استخدام هذا المصطلح في الفصل الدراسي. نطلب دائمًا فكَّ الأشياء. فكَّ قصيدة أو تحليلها. فكَّ كلمة. تحتاج الكلمات الممتزجة (Portmanteau) أن تُفَكَّ. وبما أن كلمة porter هي كلمة فرنسية تعني «حمل» وmanteaux تعني «عباءة»، فإن الكلمة تعيد إلى الأذهان فعْل حزم الأمتعة؛ الجمع بين أشياء مختلفة. في القرن التاسع عشر، كانت الحقيبة التي تُفتح إلى نصفين متساويين يُطلَق عليها اسم portmanteau (بورتمانتو). تتكوَّن الكلمة الممتزجة بدمج كلمتين أو أكثر. إنه ما يسميه أحد النقاد «الحاوية اللغوية الفائقة».15 والكلمة الممتزجة «مشتقة من حقيقة أن الأقسام نفسها (الحروف، الوحدات الصوتية، المقاطع) يمكن دمجُها بطرقٍ مختلفةٍ لإنتاج معانٍ مختلفة» وأن «آثارها متزامنة … والنتيجة هي توسُّع في المعنى ليصبح أكثر شمولًا من ذلك الذي يحدِثه التلاعب اللفظي.»16 تشتهر رواية جيمس جويس «يقظة فينيجان» بكلماتها الممتزجة مثل shuit التي تعني البدلة (suit)، والقميص (shirt)، والحذاء (shoes) في وقت واحد.

رأى ديلان توماس الكلمات الممتزجة كجزء من حرفيته؛ الأمر الذي ناقشه في «بيان شعري» عام ۱۹٥۱:

ما أحب أن أفعله هو أن أعامل الكلمات كما يفعل الحِرَفي مع الخشب، أو الحجر، أو ما شابه، بقطعها، ونحتها، وتشكيلها، ولفِّها، وصقلها، وتحويلها إلى قوالب، تسلسلات، منحوتات، تكوينات صوتية تعبِّر عن دافع غنائي، اقتناع أو شك روحي، حقيقة غير مدركة بوضوح يجب أن أحاول الوصول إليها وإدراكها. وأنا حِرَفي مجتهد، حي الضمير، وملتزم، وماكر في استخدام الكلمات … أستخدم كل شيء وأي شيء لجعل قصائدي تعمل وتتحرَّك في الاتجاهات التي أريدها: حيل قديمة، حيل جديدة، تورية، كلمات ممتزجة، مفارقات، تلميحات، جناس، تحريف الكلمات، الاستعمال الخاطئ للألفاظ، العامية، السجع، تَكرار حروف العلة، إيقاع الخطاب.17

في القائمة التي يقدِّمها يظهر المصطلح بعد «حيل قديمة» و«حيل جديدة» و«تورية»، مما يشير إلى البراعة في مثل هذه التوليفات — بل حتى الشعور بأن القارئ ينخدع. في «اعتذار للشعر»، وهو أول عمل للنقد الأدبي باللغة الإنجليزية، كتب السير فيليب سيدني أن الشاعر لا يمثِّل ببساطة العالَم أو يعكسه، أو يحمل مرآة أمام الطبيعة (كما يقول هاملت). إنه يصنع. يخترع. يخلق شيئًا جديدًا لم يكن موجودًا من قبل. ودمج الكلمات هو أحد هذه الأشياء، ويولِّد شيئًا مألوفًا وغريبًا في الوقت نفسه. والكلمات الممتزجة، بوصفها كلمات مخترَعة، هي تجسيد للاختراع نفسه، لفعل الكتابة.

وترتبط الكلمات الممتزجة «بالكلمات الخفية»، وهو مصطلح اخترعه المحرِّر دابليو دابليو سكيت في القرن التاسع عشر، لوصف الكلمات التي لا وجود لها أو خاطئة، بالإضافة إلى «الكلمات الوهمية»، وهي أخطاء أو تحريفات يرتكبها الكتبة أو عمال الطباعة. يدخل بعض من هذه الكلمات في النهاية إلى اللغة، وتتخلَّص من وضعها الخفي أو الوهمي. في رواية لويس كارول «عبر المرآة»، تناقش أليس وهامتي-دمتي الكلمات الممتزجة في قصيدة «جابروكي». يقدِّم المقطع الافتتاحي للقصيدة سلسلةً من الكلمات الممتزجة، التي يعرِّفها هامتي-دمتي على أنها «معنيان محزومان في كلمة واحدة»، مستخدمًا فكرة حزم الأمتعة:

Twas brillig, and the slithy toves
Did gyre and gimble in the wabe:
All mimsy were the borogoves,
And the mome raths outgrabe.18
في «الغراب وطاولة الكتابة»، كتب فرانسيس هكسلي عن هذه السطور أن «المعاني المخفية تأتي بغزارة وسرعة.»19 عندما سُئل هامتي-دمتي، أخبر أليس أن كلمة slithy هي «lithe (رشيق)» و«slimy (لزج)» في الوقت نفسه (عندما قرأت الكتاب عندما كنت طفلًا، اعتقدت أنها «slimy (لزج)» و«slithering (منزلق)» أيضًا) وادعى أن brillig تعني الساعة الرابعة بعد الظهر — الوقت الذي تبدأ فيه طهي الطعام لتناول العشاء.» لكن لا يمكن تعريف بعض الكلمات الممتزجة بطريقة مباشرة. يقول هامتي-دمتي: «حسنًا، toves هي شيء مثل الغُرَيْر — شيء مثل السحلية — شيء مثل نازعة السِّدَادات»، جامعًا بين ثلاثة أفكار متباينة لا تتعلَّق بالضرورة بصوت الكلمة الممتزجة، ولكن مع ذلك تفسِّر معناها. تستمر هذه المحادثة لبعض الوقت، حيث تسأل أليس عن معنى كل كلمة، ويوضح هامتي-دمتي كيف تعتمد على أصوات أو معاني الكلمات الأخرى. يُترك للقارئ انطباع بأن المعنى ترابطي؛ أي إننا نعرف ماهية الشيء من خلال معرفة شيء آخر.

تعمل الكلمات الممتزجة على تشويه اللغة، مما يجعلها غريبة، على الرغم من أنه يمكن التعرُّف عليها بشكل شبه فوري، وغريزي. إنها تطلب منا التفكير في كيفية عمل المعنى. إن قصيدة ماري روفل «مولر وأنا» مناسبة للتفكير في كيفية تحديد معنى الكلمة من خلال فصل الكلمات التي تتكوَّن منها:

I am an ordinary fauna, one
who can’t remember if a fife
is a rifle or a flute.
After all, there’s strife
and fight in it,
but on the other hand
it’s a short sweet word
that rhymes with life.20
ومن المناسب أن fife ليست rifle (بندقية) وليست flute (مزمارًا)، ولكنها مزيج من الاثنين؛ إنها أداة عسكرية، مزمار يعيش في عالمٍ من البنادق. ولذلك هناك strife وfight (كفاح وقتال) فيها، كما يقول الراوي، ولكن هناك أيضًا مسألة القافية on the other hand (من ناحية أخرى)، مما يوحي إلى أن هذا اللغز لن يُحل من خلال التفكير في fife على أنها كلمة ممتزجة. ومثل القافية، تعتمد الكلمات الممتزجة على العلاقة بين الصوت والمعنى، لكن القافية تأخذك بعيدًا عن الكلمة، خارج الموضوع، إلى كلمة أخرى.
في مقدمة «صيد السنارك»، يعود كارول إلى أفكار هامتي دمتي حول هذه الكلمات: «نظرية هامتي دمتي، المتمثِّلة في معنيين محزومين في كلمة واحدة مثل كلمة ممتزجة، تبدو لي التفسير الصحيح لكل شيء. على سبيل المثال، خُذ الكلمتين «fuming (مستشاط)» و«furious (غاضب)». قرِّر أنك ستقول كلتا الكلمتين، لكن لا تحدِّد الكلمة التي ستقولها أولًا … إذا كان لديك أندر المواهب الفطرية، وعقل متوازن جدًّا، فستقول frumious.» هنا، يركِّز كارول على الترتيب، ويذكِّرنا بأن الكلمة الممتزجة تعيد ترتيب كلماتها، أو أصواتها، مما يؤدي إلى حدوث توازن مثل «العقل المتوازن» الذي ينتجها. وتتعلَّق الكلمات الممتزجة بعدم الاضطرار إلى اختيار المصطلح المناسب لما تريد قوله: يمكنك قول «كلتا» الكلمتين. إذا كانت اللغة تتعلق دائمًا بالاختيار، فإن الكلمة الممتزجة تحرِّرك من هذا القيد. المصطلح Boojum في «صيد السنارك»، وفقًا لكارول، هو «كلمة ممتزجة مكونة من bookjack وboot-jam: ومن الواضح أن المصطلح الأخير يعني ما يحدث عندما لا يمكنك إخراج أي شيء من حذائك (الموجود الآن على القدم الأخرى) حتى بمساعدة Jack of Hearts (الولد ذو القلب الأحمر في ورق الكوتشينة).»21 إن التلاعب الموجود بالمصطلح يلمِّح «بوضوح» إلى عدم قابلية اختراق الكلمة الممتزجة ووضوحها.

قد يكون الشخص حقيبة. يقول راءول دوكيت، راوي قصة كاثرين مانسفيلد في عام ۱۹۲۰ «أنا لا أتحدَّث الفرنسية»:

أنا لا أومن بالروح البشرية. ولم أومن بها قط. أعتقد أن الناس مثل الحقائب — معبَّئون بأشياءَ معينة، يبدءون بالذَّهاب، يُرمَون، يُقذفون بعيدًا، ويُلقون على الأرض، ويُفقدون ويُعثر عليهم، يُفرغ نصفهم فجأة، أو يُضغطون لاحتواء أشياءَ أكثر من أي وقت مضى، حتى يقوم الحمَّال النهائي في نهاية الأمر بأرجحتهم وقذفهم إلى القطار النهائي ليلفظوا أنفاسهم الأخيرة.22
ودوكيت، مثل مانسفيلد نفسها، كان منفيًّا: شاعر مبتدئ يبلغ من العمر ۲٦ عامًا يعيش في باريس، ويقول إنه ليس لديه عائلة وقد نسي طفولته. تبدأ القصة بتأملاته في (وعلى) أحد المقاهي المفضَّلة، حيث يتخيَّل انتقال زبائنه مثل الحقائب عبر الحياة وحتى الموت. في صياغة راءول المضحكة، لا توجد نفس فوق الوصف ولا روح؛ فالمرء ببساطة «معبَّأ بأشياءَ معينة».23 ووفقًا لهذه الرؤية، يصبح هو نفسه «موظف جمارك» يسأل: «هل لديك أي شيء يستدعي الإعلان عنه؟ أي نبيذ، مشروبات كحولية، سيجار، عطور، حرير؟ ولحظة التردد حول إذا ما كنت سأنخدع قبل أن أرسم بالطباشير هذا الخط المتمايل، ولحظة التردد الأخرى التي تعقبها مباشرة، فيما إذا كان لديَّ ما أفصح عنه، ربما تكون أكثرَ لحظتين إثارةً في الحياة. نعم، إنهما كذلك بالنسبة إليَّ.» الجميع في المنفى ويمكنهم خداعك.
إذا كانت الكلمات الممتزجة هي كلمات تحتوي على أشياء، فإن الكتب تحمل أشياء أيضًا. كما كتب سيرجي دوفلاتوف في روايته/مذكراته «الحقيبة»، التي يسجِّل فيها الأشياء التي أحضرها معه عندما غادر الاتحاد السوفيتي في عام ۱۹٧۸، «هناك سبب يجعل كل كتاب، حتى الكتاب الذي لا يتمتَّع بجدية كبيرة، يشبه الحقيبة.»24 والكتب هي حقائب للغة. وبالفعل تحتوي بعض الحقائب على كلمات. ربما يكون تي إي لورنس قد فقد حقيبةً تحتوي على المخطوطة الأصلية «لأعمدة الحكمة السبعة» في محطة قطار ريدنج عام ۱۹۱۹. لكن ربما يكون لورنس قد أحرق المخطوطة. أدَّى اكتشاف نسخة مطبوعة من النص في عام ۱۹۹٧، ربما من عام ۱۹۲۲، إلى إحياء الاهتمام باللغز. في عام ۱۹۲۲، سُرقت حقيبة سفر صغيرة مملوءة بكتابات إرنست همنجواي من محطة ليون بباريس. احتوت على مخطوطاته — والنسخ الكربونية لمخطوطاته — التي كانت زوجته الأولى هادلي ريتشاردسون قد حزمتها لأخذها معها إلى لوزان، سويسرا، حيث كان همنجواي منذ عدة أسابيع. لكنها تركت الحقيبة دون رقابة للحظة قبل أن يغادر القطار، وعندما عادت، كانت قد اختفت. في يناير من العام التالي، كتب همنجواي إلى عزرا باوند عن الخسارة:

أظن أنك سمعت عن فقدان مؤلفاتي، أليس كذلك؟ ذهبت إلى باريس الأسبوع الماضي لأرى ما تبقى، ووجدت أن هادلي قد أكملت المهمة على خيرِ وجهٍ بإدراج كل النسخ الكربونية، والنسخ المكررة، وما إلى ذلك. كلُّ ما تبقَّى من أعمالي الكاملة هو ثلاث مسودات بالقلم الرصاص لقصيدةٍ تافهة تخلَّصت منها لاحقًا، وبعض المراسلات بيني وبين جون ماكلور، وبعض النسخ الكربونية الصحفية. أنت، بطبيعة الحال، ستقول، «جيد» وما إلى ذلك. لكن لا تقُل لي ذلك. فأنا لم أصل إلى هذه الحالة المزاجية بعدُ. عملت ۳ سنوات على هذه الأشياء اللعينة.

يعبِّر إحساسه بمزيج من اليأس والغطرسة عن صعوبة استيعابه لسرقة الحقيبة. وكتب كذلك عنها في كتابه «عيد متنقِّل» الذي نُشر بعد وفاته عام ۱۹٦٤:

لم أرَ أي شخص يتأذى من شيء آخر غير الموت أو المعاناة التي لا تُحتمل باستثناء هادلي عندما أخبرتني عن الأشياء التي ضاعت. لقد بكت كثيرًا ولم تستطِع إخباري. أخبرتها أنه بغض النظر عن الشيء المروِّع الذي حدث، لا شيء يمكن أن يكون بهذا السوء، ومهما كان الأمر، كل شيء كان على ما يُرام ولا داعي للقلق. يمكننا حل الأمر. ثم أخبرتني أخيرًا. كنت متأكدًا من أنها لا تستطيع إحضار النسخ الكربونية أيضًا واستأجرت شخصًا لتغطية عملي في الصحيفة. كنت أجني مالًا وفيرًا حينها في الصحافة، وأخذت القطار إلى باريس. كان هذا صحيحًا، وأتذكَّر ما فعلته بالليل بعد أن دخلت الشقة ووجدت أن الأمر كان صحيحًا.25

هناك خسارتان هنا، يفصل بينهما رحلة عودته إلى باريس: أولًا، فقدان الحقيبة، وثانيًا، فقدان الأمل في أن النسخ الكربونية قد تكون لا تزال في شقتهم. اختفت المخطوطات حرفيًّا دون أي أثرٍ حيث اختفت آثارها أيضًا. لم يكن همنجواي قد نشر أعماله بعدُ عندما سُرقت الحقيبة، وأصبحت هذه الخسارة جزءًا مهمًّا من أفكاره وكيفية سرد حياته المهنية وفهمها؛ كما هو متوقَّع عند غياب الصفحات. وهذه قصة ليست فقط عن المخطوطات المفقودة، ولكن أيضًا عن النزوح الذي يتَّسم به مجتمع الكتَّاب المغتربين في باريس في ذلك الوقت. إنها تتعلَّق بالسَّفر ومواد السَّفر. يتساءل المرء ماذا حدث لمحتويات الحقيبة. من المحتمل أن اللص أصيب بخيبة أملٍ مما وجده. ربما دمَّر الصفحات. ربما ألقى بها بعيدًا. ربما احتفظ بالحقيبة، وما زالت موجودة في مكانٍ ما، في خزانة أو تحت السرير.

تحدَّث أورخان باموق، في محاضرته بمناسبة جائزة نوبل لعام ۲۰۰٦، عن كتابات والده. احتفظ والده بهذا العمل لنفسه سنواتٍ عديدة، ولكن بعد ذلك، في أحد الأيام، سلَّمه إلى باموق في حقيبة: «كُنَّا في مكتبي محاطين بالكتب. كان والدي يبحث عن مكانٍ لوضع الحقيبة، يتجوَّل مثل رجلٍ يرغب في التخلُّص من عبءٍ مؤلم. في النهاية، وضعها بهدوء، وبصورةٍ غير ملحوظة، في زاوية.»26 تعامل باموق، الذي كان محاطًا بالكتب، مع ما يسميه «الوزن الغامض» لحقيبةٍ مليئة بدفاتر الملاحظات التي لم تتحوَّل قط إلى كتب، دفاتر ملاحظات تمثل الإنتاج الإبداعي لأبيه. تعرف على «الحقيبة الجلدية السوداء الصغيرة، ذات القفل والزوايا الدائرية»، وتذكَّر أنه عندما كان طفلًا، كان والده يحمل وثائق من وإلى العمل فيها. إنه يخشى فتْح الحقيبة وقراءة كتابات والده؛ يخشى مما ستكشفه عما يعنيه أن تكون كاتبًا وما يعنيه أن تكون سعيدًا. يعتقد باموق أن والده سعيد. لكن السعادة كانت بالنسبة إليه أمرًا صعب المنال. تتوسَّط الحقيبة في العلاقة بين الرجلين وبين الطرق المختلفة للوجود في العالم.

لكن الحقيبة ليست فقط رمزًا لعلاقة حب مضطربة بين الأب والابن. إنها تحكي أيضًا قصة عن المنفى، المنفى الجغرافي — إحساس باموق بأنه كان «يعيش في الأقاليم، بعيدًا عن مركز الأشياء» في إسطنبول — والمنفى المعنوي الذي يشعر به الكاتب، المعزول عن العالم. الحقيبة تفوح منها رائحة السَّفر. قضى والده وقتًا بعيدًا عن عائلته، في باريس، يكتب. وأعاد معه الكتب. تحتوي الحقيبة على دليلٍ لجانب آخرَ لشخصية هذا الرجل الودود والاجتماعي. إنها تكشف عن سخطه الذي يراه باموق «السمة الأساسية التي تحوِّل الإنسان إلى كاتب». يوجد في الحقيبة الأفكار المخفية، والكلمات، التي أدَّى السخط إلى نشأتها:

عندما كنت أحدِّق في حقيبة والدي، بدا لي أن هذا كان جزءًا مما كان يسبِّب لي القلق بعد العمل في إحدى الغرف، محاولًا البقاء ككاتب في تركيا لمدة خمسة وعشرين عامًا، شعرت بالحزن لرؤية والدي يخبئ أفكاره العميقة في هذه الحقيبة، لرؤيته يتصرف كما لو كانت الكتابة عملًا يجب القيام به في الخفاء، بعيدًا عن أعين المجتمع، والدولة، والناس.

الحقيبة تخفي ذاتًا خلقت «عوالم جديدة»، كما يفعل الكُتَّاب. عندما يتحدَّث عن قراءة دفاتر ملاحظات والده، يتحدَّث عن صعوبة التذكُّر: «ما الذي كتب عنه والدي؟ أذكر بعض الإطلالات من فنادق باريس، وبعض القصائد، والمفارقات، والتحليلات … عندما أكتب، أشعر وكأنني شخص تعرَّض لتوه لحادث مروري ويكافح من أجل تذكُّر كيف حدث ذلك، بينما أخشى في الوقت نفسه من احتمالية تذكُّر الكثير.» لم يناقشا دفاتر الملاحظات أبدًا.

استيقظت في وقتٍ مبكِّر من صباح اليوم التالي؛ لذلك لديَّ وقتٌ للتجول في المدينة قبل التوجُّه إلى أتلانتا. أردت أن أذهب إلى محلات بيع الهدايا التذكارية. يعتقد معظم الناس أن الهدايا التذكارية غير مهمة، لكني أحبها. ذكريات مادية رخيصة، جميلة وقبيحة على حد سواء — أشياء فارغة تحمل معنًى. أخذت ميلي في نزهة على الأقدام ثم تركتها مستلقية على السرير في غرفة النزل وتوجَّهت إلى أسفل الدَّرج وخرجت من طاحونتي الهوائية. تبادلت التحية مع الخادمات اللاتي يعملن في الغرف بأحد المباني الرئيسية. لا أعتقد أن هناك العديد من الغرف الأخرى المشغولة.

سرت في طريق الاستراحة، إلى شارع المدينة الرئيسي، ثم انعطفت يسارًا نحو المتاجر والمطاعم. في الأفق، خلف العديد من سلاسل الاستراحات على طراز جبال الألب — ربما أحد فنادق هامبتون إن؟ — يوجد النهر الذي يبدو هادئًا وحزينًا. مررت بجانب متحف يسمَّى مملكة شارلمان (مغلق). ومرَّت شاحنة صغيرة تحمل دبًّا قطبيًّا محنَّطًا على متنها. على بُعد شارع، توقَّفت الشاحنة عند إشارة المرور؛ لذا أسرعت خطواتي لألحق بها. حمل رجلان الدُّب ووضعاه على الرصيف. مخلبه ممدود، ويقاتل غُرَيْرًا. فراء الدُّب مشعث ويحتاج أن يُملَّس. هناك مطر خفيف، وأنا قلقة من أن يبتلَّ. حمله الرجلان إلى زقاقٍ واختفى.

دخلت إلى متجرٍ يبيع أحذيةً خشبية من جميع الأحجام؛ أحذية خشبية حقيقية ومصغَّرة ومغناطيسات للأحذية الخشبية. الجدران مغطاة بصفوف من الأحذية الخشبية. اشتريت بعض الأحذية الصغيرة. في الجهة المقابلة للشارع يوجد متجر متخصِّص في ساعات حائط طائر الوقواق. اخترت عددًا قليلًا من الملصقات الممغنطة التي تُلصَق على الثلاجة: أقداح بيرة، وطفلين شعرهما أصفر يقبِّلان بعضهما بعضًا مزينين بعبارة «هيلين، جورجيا» بالأسفل، وسفينة فايكينج، ودمية روسية. زوج من ساعات طائر الوقواق. مزيج لا بأس به. أعتقد أنني سأضيف القليل إلى مجموعتي في المنزل وأوزِّع الباقي. قرَّرت شراء كرة ثلج زجاج أيضًا، وأخذت كل شيء لمكان دفع الحساب. كان الرجل العجوز هناك يتحدَّث مع العميلين الآخرين في المتجر، ويبدو أنه المالك. غادر العميلان، والتفت إليَّ. أجرينا محادثة صغيرة عن المطر والملصقات الممغنطة.

قلت له: «بالتأكيد سأعود يومًا ما لأحصل على ساعة حقيقية.»

قال: «بالتأكيد.»

عُدت إلى الاستراحة، ولففت المغناطيسات في ملابسي ووضعتها في حقيبتي، على الجانب الخاص بالرحلة. لن أرتدي ملابس العمل الآن؛ سأترك هذا الجانب من الحقيبة مقفولًا بالسحَّاب الآن. سأبدِّل ملابسي عندما أصل إلى هناك. سحبت الحقيبة إلى أسفل الدرج، خارج الطاحونة الهوائية، ووضعتها في السيارة. قفزت ميلي.

إلى: أتلانتا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤