مقدمة المؤلف (١)

مختلف الآراء في الثورة الفرنسية

لم أضع هذا الكتاب لأمدح الثورة الفرنسية أو لأذمَّها، بل لأفسرها بما ذكرته من السنن النفسية في كتاب «الآراء والمعتقدات».

ومع أن الغاية التي توخيتها تجعلني لا أبالي بالآراء التي قيلت في الماضي فإنني رأيت الاطلاع عليها مفيدًا، فخصصت فصلًا لبيان ما أتى به المؤرخون من مختلف الأفكار في الثورة الفرنسية.

لا تعبِّر الكتب إلا عن آراء أصبحت قديمة، وهي — وإن أمكن أن تهيئ الأفكار المستقبلة — قلَّما تعرب عن الأفكار الحاضرة، والمجلات والجرائد وحدها هي التي تعبر عن الوقت الحاضر تعبيرًا صادقًا، ولهذا فإن ما يجيء فيها من النقد مفيد جدًّا.

يمكن أن نستخرج من المقالات التي نشرت حول هذا الكتاب ثلاثة آراء دالة على ما يدور الآن حول الثورة الفرنسية من الأفكار:

فالرأي الأول: يَعُدُّ الثورة الفرنسية معتقدًا يجب قبوله أو رفضه بأسره، والرأي الثاني: يعتبرها سرًّا غامضًا، والرأي الثالث: يعدها حادثة لا يجوز الحكم فيها قبل نشر كثير من الوثائق الرسمية التي لم تطبع بعد، ولا يخلو البحث بإيجاز عن قيمة هذه الآراء الثلاثة من فائدة.

تعتبر الأكثرية في فرنسة تلك الثورة من المعتقدات، ولذلك تظهر لهذه الأكثرية حادثًا ميمونًا قد أخرجها من طَور الهمجية وحررها من ظلم الأشراف، ولا يزال يعتقد كثيرٌ من رجال السياسة أنه لولا نشوب الثورة الفرنسية لكانوا الآن أُجراء عند الأمراء الإقطاعيين.

وقد ظهرت هذه الحالة النفسية في بحث مهم خصصه السياسي الشهير، مسيو إميل أوليڤيه لمناهضة كتابي، فبعد أن ذكر هذا العضو الفاضل في المجمع العلميِّ النظرية التي تعد الثورة الفرنسية حادثة غير نافعة قال:

تناول غوستاڤ لوبون هذا الموضوع فجاء في كتاب حديث بحث فيه عن روح الثورة الفرنسية، وتجلت فيه قوة تأليفه وبيانه «أنَّ الثمرة التي اقتطفت بعد القيام بكثير من أعمال التخريب لا بدَّ من نيلها في نهاية الأمر مع سير الحضارة بلا عناء.

لم يرضَ أوليڤيه بهذا الرأي، فالثورة الفرنسية عنده ضربة لازب، وقد ختم كلامه بما يأتي:

هل يأسف على وقوع الثورة الفرنسية من لا يريد أن يكون مسخَّرًا لصيد الضفادع في الغُدران لكيلا تقلق الأمير الإقطاعي في نومه؟ وهل ينوح على حدوثها من لا يريد أن يري كلاب شابٍّ عاتٍ تخرِّب حقله؟ وهل يحزن على نشوبها من لا يريد أن يسجن في البستيل لوَلع رجل من بطانة الملك بزوجته أو لانتقاده أحدُ الوجوه؟ وهل يأسى على اشتعالها من لا يريد أن يبغي عليه وزير أو موظف وأن يكون تحت رحمة أحد من الناس، وأن يؤخذ منه أكثر مما يفرض عليه، وأن يهينه ويشتمه من يدَّعي أنه فاتح؟ — لذلك أشكر، وأنا من الطبقة الوسطى، أولئك الذين أنقذوني، بعد عناء شديد، من هذه القيود التي لولاهم لظلت تقيدني، وأهنئهم على الرغم من زلاتهم.

فالمعتقد الذي تجلى في مثل هذه الكلمات قد ساعد — مع قصة ناپليون — على جعل الثورة مرضيًّا عنها في فرنسة، ومصدر هذا الوهم الشائع، حتى بين كثير من أقطاب السياسة، هو المبدأ القائل: إن طرق الحياة عند الأمة تكون وَفْقَ نظمها، والواقع أن تلك الطرق تابعة للمبتكرات العلمية والاقتصادية، فتأثير القاطرة في مساواة الناس غير تأثير المِقصلة، ولا ريب في نيلنا، منذ زمن طول، ما بلغناه وبلغته أمم كثيرة من المساواة والحرية سواء علينا أشتعلت هذه الثورة أم لم تشتعل.

ويؤدي الرأي الثاني، القائل إن الثورة الفرنسية سرٌّ غامض، إلى محافظة هذه الثورة على نفوذها أيضًا، فإليك ما جاء في مقالة خصصها مدير إحدى الجرائد الكبيرة في باريس، مسيو دورمون، للبحث في كتابي:

لم تزل الحوادث المدهشة التي زعزعت أركان العالم لغزًا من الألغاز، ولم تَكتشف مباحث علم النفس سرَّ تلك الأزمة العجيبة التي ستبقى معدودة من حوادث التاريخ الخارقة.

وينشأ عن تلقي الثورة الفرنسية على هذا الوجه ظنُّ الناس أنها سلسلة وقائع نشأت عن عوامل خفية، وتدل الكلمات التي أوردناها على درجة الشكوك والرِّيب التي تزيد البحث في الثورة المذكورة إبهامًا وتسوِّغ حكمة العلماء الذين يقتصرون على نشر الوثائق.

إذن، يرى المنصف، الذي يودُّ أن يكون ذا رأي صائب في الثورة، نفسه الآن أمام عقائد عمياء، أو أمام مزاعم قائلة إن هذا الحادث العظيم يتعذر إيضاحه بالمعارف الحاضرة.

وقد لاح لي، عندما شرعت في درس الثورة الفرنسية مستعينًا بطريقتي في علم النفس، أن شكوك المؤرخين في هذه الأزمة الكبيرة ناشئٌ عن شرحهم بالمعقول ما صدر عن روح التدين والعاطفة والجماعات من الحوادث.

وفي كل صفحة من صفحات تلك الثورة برهان على ذلك، فمنطق الجماعات، لا المنطق العقليُّ، هو الذي يكشف لنا سبب استحسان المجالس الثورية التدابير المخالفة لرأي كلِّ عضو من أعضائها، ولا يوضح لنا العقل لماذا تنزَّل نوابُ الأشراف في ليلة شهيرة عن امتيازات كانوا شديدي التمسك بها مع أنهم لو كانوا قد أقلعوا عنها في وقت آخر لاجتنب نشوب الثورة الفرنسية على ما يحتمل، وكيف يمكننا أن ندرك علة كون الأذكياء المسالمين من أبناء الطبقة الوسطى، الذين كانوا، وهم في بعض اللجان يضعون المقياس المتريَّ ويأمرون بإنشاء المدارس الكبيرة، قد استصوبوا أفعالًا وحشية كقتل لاڤوازيه والشاعر شينْيه وهدم قبور سان دِنِي الفخمة إذا لم نطَّلع على تقلبات الذات باختلاف الأحوال؟ ثم كيف يمكننا إدراك السبب في انتشار الحركات الثورية إذا لم نكن عارفين سُنن الإقناع الحقيقية التي تخالف ما تدلُّ عليه الكتب من الطرق مخالفةً تامةً.

وقد تأصلت قواعد المنطق العقلي في فرنسة تأصلًا جعل الناس لا يتصورون معه إمكان وقوع حوادث التاريخ بعيدة من العقل مع أنه يجب علينا لتفهُّم ما يعجز المنطق العقلي عن إيضاحه من الحوادث أن نغيِّر الطرق التي نوضِحُ بها وقائع التاريخ.

أرى الأفكار التي بينتها في هذا المؤلف ستشيع سريعًا، وما نُشِرَ من المقالات الكثيرة يُثبت لنا أنها أثرت في كثير من العلماء المدققين، جاء في جريدة التايمس، التي هي أهم صحف إنكلترة، ما يأتي:

يجب على رجال السياسة كلِّهم أن يطالعوا كتاب غوستاڤ لوبون الذي لم يبال فيه بما قيل في تفسير الثورة الفرنسية من النظريات المدرسية؛ فأوضح ما للشعب من الشأن الضئيل في الحركات الثورية، وما في عزائم أعضاء المجالس وهم مجتمعون من المناقضة المطلقة لعزائمهم وهم منفردون، وما سَيَّر أبطال هذه الثورة من الروح الدينية، وما للعقل من التأثير القليل فيهم، فلولا هذه الثورة لصعب إثبات أن العقل لا يحوِّل الرجال وأن المجتمعات لا تتجدد كما يريد المُشترِعون ذوو السلطان العظيم.

حقًّا إن تاريخ الثورة الفرنسية سلسلة من الحوادث التي وقعت في الغالب مستقلًّا بعضها عن بعض كقصة النظام الملكيِّ الذي نُقض لعدم وجود من يدافع عنه، وقصة المجالس الثورية، وقصة الفتن الشعبية وزعمائها، وقصة الجيوش، وقصة النظم الجديدة … وغير ذلك من القصص الدالة في الغالب على قُوًى نفسية متصادمة يجب درسها وَفْقَ طرُق علم النفس.

نعم، قد يجادل في قيمة ما أتينا به من الشروح، ولكنني أعتقد أنه يصعُب بعد الآن أن يكتب تاريخ الثورة الفرنسية من غير أن ينظر إلى ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤