العالم التحت أرضي

إذا كان آنكي إلهًا فقد الخلود وأصبح «إنسي»، فهل كان مُمكنًا في العقائد السومرية أن يتحوَّل الإنسان إلى إله؟ أو بصيغة أخرى، هل كان مُمكنًا في الاعتقاد السومري أن يحصُل البشر على الخلود الدائم؟

يقول الباحثون إنه لم يخطر قطُّ للسومريين، ولا للشعوب السامية في الرافدين أو باقي الهلال الخصيب، حتى قبل زمن المسيح بقليل، أنه يمكن للإنسان أن يُخلَّد. وقد قرَّرت ملحمة جلجامش ذلك صراحة بتأكيدها: أنه «عندما خَلَقت الآلهة الإنسان، قدَّرت عليه الموت، واحتفظت لنفسها بالخلود.»١ وهنا الفارق بين الإنسان والإله، فالإله خالد والبشر فانٍ إلَّا أنَّ هناك قبسًا إلهيًّا ظلَّ في البشرية، هو المَنيُّ الذَّكَري والفرْج الأنثوي، الذي يعود إلى الأب الأول «آنكي» والأم الأولى «ننتي»، أول رعيلٍ إلهي تحوَّل إلى بشر، فجمع اللاهوت مع الناسوت، أو الألوهية مع البشرية.
وقد عبَّر السومريون عن قناعتهم باستحالة خلود البشر في مجموعة أُخرى من الأساطير، منها أسطورة «جلجامش وأرض الأحياء» وتقول: إن «جلجامش GELGAMISH» كان يبحث عن نبات الحياة، فالخلود هنا مصدرُه مادي في شكل مادة إذا أكلها الفاني خلد، وهي ذات الفكرة التي قالت بها التوراة، حول شجرة الحياة في الجنة (التكوين ٢: ٩–٢٢) وكي يحصُل جلجامش على ثمرة الخلود، رحل إلى دلمون بالذات، فهيَ مقرُّ الآلهة الخالدة، ليبحث هناك عن بغيتِهِ، وفعلًا وجد الشجرة، واقتطف من ثمرِها السحري، وعند عودته:
رأى جلجامش بركةَ ماءٍ
نزل فيها، استحمَّ بمائها
تشمَّمت الحية رائحة النَّبتة
تسلَّلت، صعدت من الماء
خطفتْها
وفيما هي عائدة
تجدَّد جلدُها
وهنا جلس جلجامش وبكى.٢

حقيقة، إنَّ النص بليغ الدلالة، يلخِّص ما ذهبنا إليه، ويؤكده بوفاءٍ واضح جَلي، فها هي شجرة الخُلد في «دلمون» مسكن الآلهة، وموطن آباء البشر الأوائل، تتعرَّض مرة أخرى لمحاولة السَّطو عليها، لكن الحيَّة، والحيَّة بالذات دون جميع الكائنات، رمز الحيا (الفرج، الجنس) تتسلَّل مرة ثانية لتسلُب الساعي إلى الخُلد ثمرة مَسعاه، لتنعم به دونه، وتخلُد بانسلاخها من جِلدها كلما آنَ أوان موتها. ولا يكتفي السومري بهذه الرمزية الواضحة إنما يزيدنا إيضاحًا، فيفقد «جلجامش» الخلود في بئرٍ أو بركة ماء، والبئر أو البركة باستدارتها رمز واضح آخر للفرج، إنها قصة تدفعنا أو تكاد للظنِّ أن الوعيَ والشعور كان مسألةً مُبكرة جدًّا في تاريخ نشوء الحياة على الأرض فاحتفظ الكائن إلى اليوم في عقله بكافَّة مراحل تطوُّره الأولى، منذ كان كيانًا دقيقًا، يستمرُّ في الوجود عبر عمليات الانقسام الذاتي، حتى تخصَّصت فيه أعضاء للذكورة، وأخرى للأنوثة، ثم الانتقال إلى انفصال الذكَر عن الأنثى (الضلع عن آنكي) لينتهي عهد الخلود الفردي ليبدأ عهد الخلود الجماعي للنوع، عبر التناسُل، الذي استدعى التجمُّع الإجباري والتجاور لمُمارسة الجنس، حفاظًا على النوع واستمراره، ممَّا أدَّى بالضرورة إلى نشوء التجمع الإنساني.

ولعلِّي لا أُغالي إن قلت: إنَّ السومري القديم، حاول جاهدًا — بلُغتِه البدائية — أن يُبلغنا بما بقِيَ في اللاشعور الجمعي من ذكريات سحيقة في القِدم فوضع أساطير أخرى مثل أسطورة معراج «أدابا ADABA» إلى السماء، حيث دعاه هناك إله السماء وأكرم وِفادته، فدعاه إلى مائدةٍ تحوي طعام الخُلد لكن «آنكي» كان أسبق من إله السماء، فأوعز إلى «أدابا» ألَّا يتناول منها شيئًا فيرفض «أدابا» الوليمة الإلهية، ويخسر الخلد،٣ فهل بعد هذا بلاغة في محاولة السومريين تبليغنا.
فقط، إنسان واحد فقط، رفعَه مَجد عملِه إلى رتبة الألوهية، ونال الخُلد؛ وحتى يناله فعلًا تمَّ نقلُه إلى «دلمون» دار الخلود، ذاك هو بطل أسطورة الطوفان، الذي أنقذ بِذرة الحياة على الأرض، في فلك أسطوري،٤ فكان أن مُنح الحياة الخالدة، أو نصيبًا:
زيو سودرا الملك
سجد أمام آن وآنليل
فمنحاه حياةً كحياة الآلهة
وجاءا إليه بأنفاسٍ خالدة
كأنفاس الآلهة
وبأمر آن وآنليل
أمام الملك زيو سودرا
الذي يحفظ أسماء «خرم بالنص»
والبشر
في جبل العبور، جبل «دلمون»
حيث تطلع الشمس.٥
ويبدو أن بطل الطوفان «زيوسودرا ZIUSUDRA» كان شخصًا حقيقيًّا، استطاع أن يُنقذ في قاربه إبَّان كارثة فيضان عاتي، أفراد أُسرته وآخرين، فكان مجد عمله كفيلًا برفعه إلى رُتبة الألوهية، وكانت الأعمال الفدائية والمجيدة فيما نرى هي السبب الأساسي في تأليه الوالدين والأسلاف، في غابر الأزمان، وسبق أن أفضْنا في التدليل على وجهة نظرِنا هذه في اثنَين من أهم أعمالنا المنشورة؛ الأول كان بعنوان «الأضاحي والقرابين، الجذور الاجتماعية»، والثاني «القمر الأب أو الضلع الأكبر في الثالوث».٦
ومن ثم اكتسب «زيوسودرا» الألوهية والخلود، بعد أن خسر حياته فيما يبدو إبَّان محاولة إنقاذ بَنيه، وقد أخذ الساميُّون بهذه الأسطورة لكن البطل حمل اسم «أوتنابشتيم UTNABESHTEM» و«إثرا خاسيس ETHRA KHASIS» و«تجنوح TAGNOAH»، لكن الأسطورة المصوغة لبطولة «تجنوح»، دخلتْها عناصر من قصة الخلق، فقالت إنَّ «تجنوح» لم يستمر في هذه الحياة الخالدة، بعد أن خسِرها، لمَّا أكلَ من فاكهة محرَّمة،٧ ولنلاحظ القُرب الزماني لأسطورة «تجنوح» من وقت ظهور التوراة، حيث اختُصر فيها «تجنوح» إلى «نوح»، الذي تقول التوراة إنه عاش عمرًا مديدًا بلغَ حوالي تسعمائةٍ وخمسين عامًا، وهو يكاد يكون ترديدًا لمعنى الخُلد الألفي، الذي ينقطع فجأةً بالأكل من الثمرة المُحرَّمة في القصة الأصلية «تجنوح» (تكوين ٦: ٩).
وقد استند الباحثون إلى مِثل هذه الأساطير ليقطعوا بأنَّ السومري القديم لم يعتقِد في حياةٍ خالدة من بعد الموت، وأن الساميِّين قد تابعوهم في ذلك، وهذا في رأينا فَهْم خاطئ للمسألة من أساسها، لأن الخلود الذي قصدَتْهُ تلك الأساطير كان مَطلبًا لديمومة الحياة في هذه الدنيا، ورفض السومريون الاعتقاد في أنَّ إمكانية تحقُّق ذلك أمر منطقي وعقلاني، رغم رغبتهم الواضحة فيه، أما الاعتقاد في حياةٍ أخرى بعد الموت في عالمٍ آخر، فهو أمر مُقرَّر لدى السُّومريين، ولا يُجادل بشأنه مكابر، ولا يقبل شكًّا أو جدلًا، لكنه لم يأخُذ خطَّه التطوري الذي أخذَه عند المصريين، فلم يعتقِد السومريون بعودة الموتى في شكل بعثٍ جديد ولا في ثوابٍ أو عقاب، وكل ما في الأمر أنَّ الموتى يرحلون جميعًا إلى عالمٍ آخَر، وهو في ملحمة «جلجامش»: «البيت الذي لا يعود داخِلُه»،٨ في عالمٍ تحت أرضي، خالد، لكن ليس فيه ما يُبهج النفس.
وأطلق السومريون على عالمهم التحت أرضي كلمة «كور KUR»، وكانت هذه الكلمة في الأصل، تدلُّ على وحشٍ تخيَّلوا مسكَنَه تحت سطح الأرض، اختطف إلهةً أنثى أرضية هي «إيرشكيجال»، وأخذها لتعيش معه كزوجةٍ في العالَم التحت أرضي، وصارا هناك سيِّدَين للعالَم التحت أرضي الرهيب.٩

وأتصوَّر أن الكلمة «كور» تحوَّلت من دلالةٍ على الوحش السُّفلي، إلى الدلالة على العالَم الأسفل عمومًا، نتيجةَ تصوُّر أنَّ العالَم السُّفلي يتخطَّف الأحياء عن الأرض، ليُنزلهم موتى إلى باطنِه، كمن يلتهِمُهم، أو أنَّ «كور» كان يتخطَّفهم من الدُّنيا الأرضية، وبذلك يكون بداية لفكرة ملاك الموت السامي «عزرائيل».

وفي إحدى مناحات الإلهة «إنانا INANA» على حبيبها «تموز DAMUZI» نجد للعالَم التحت أرضي اسمًا آخر هو «آدن، أو أدين، أو الدين EDIN» فهو عالَم الدين والكلمة «EDIN»، في الأصل تعني السهل.١٠
وقد اهتمَّ السومريون بالموتى، وزخرت قبورهم بالمتاع والطعام والشراب. ويبدو أنه كان بقصد انتفاع المَيت بهذا المتاع؛ لذلك ربما اعتقدوا بعودة روح الميت بين آنٍ وآخر من العالَم التحت أرضي إلى القبر وهو ما افترضه «نجيب ميخائيل»١١ لكن ربما كان لوضع المتاع سبب آخر، وجائز أنهم اعتقدوا ببقاء الميت في قبره حيًّا لفترة مُحدَّدة، قبل هبوطه إلى العالَم التحت أرضي، مما يجعلُه محتاجًا في هذه الأثناء للطعام والشراب. علمًا أنَّ حكَّام سومر قبل عهد العاهل «أورنامو» كانوا يصطحبون معهم عند الموت مُقتنياتهم وحاشيتهم من بشر، بأن يتجرَّعوا السُّمَّ ليهبطوا بصُحبة سيِّدهم إلى عالم تحت الأرض.١٢
وقد لوحظ اعتقاد السومريين أنَّ أعظم شرٍّ يمكن أن يلحَق بالميت هو عدم دفنِهِ وفق تقاليدَ طقسيةٍ مُحددة، لأنه في هذه الحالة سيتحول إلى روحٍ شريرة تجُوس في الأرض تؤذي الأحياء. ويبدو أنَّ هذه الفكرة صياغة كهنوتية قُصد منها الكسْب ليس أكثر، وهو ما يُستنتَج من المثَل السومري الساخر: «أغلى شيء في لجش هو أن تموت.»١٣ مما يُشير إلى ارتفاع أُجُور الكهَّان لممارسة عملهم في طقس الدفن ومُغالاتهم في ذلك.
أما الحياة في العالم التحت أرضي، المُحاط بأسوارٍ سبعة لكل منها بابٌ واحدًا،١٤ يَحكُمه «كور» وزوجته «إيرشكجال» مع مُعاونين من المردة والجن، فلَها قواعد، أهمُّها العُري التام، فالمَيت يدخله عاريًا كما وُلد عاريًا، وهو ما نفهمه من أسطورة «نزول إينانا إلى العالم السُّفلي»،١٥ وإن كان سينال بدَّل الملابس ريشًا ينبُت على جسدِه كالطيور،١٦ لكن للأسف، ليس في هذا العالَم ميزةٌ لصالحٍ على طالح، فالكلُّ فيه في الرغام والطين والظلام الأبدي سواسية؛ الرفيع فيه كالوضيع.١٧
وهكذا يتَّضِح أنه ليس ثمة علاقة مُحددة بين هذا العالَم التحت أرضي وبين عالَم الآلهة الخالد الدلموني، وإنَّ صفة الأبدية في كليهما لا تعني أبدًا وجود قاسمٍ مشترك بينهما، بل إنه ليس هناك أية علاقة بين صِنفَي الآلهة الدلمونية وبين الآلهة التحت أرضية.١٨
figure
بلاد الرافدين.
figure
بلاد الشرق الأوسط والعالم القديم.
figure
آلهة مصرية بالرأس الطوطمي.
figure
آلهة رافدية بجسد الإنسان ورأسه وإن غلَب على الرأس نوع من التجريد إمعانًا في الغموض والتغييب.
figure
خَتم أُسطواني سومري، ينتمي إلى حوالي منتصف الألف الثالث ق.م. كائن حاليًّا بالمتحف البريطاني بلندن، يُمثِّل أفعى تنتصِب خلف امرأةٍ تمدُّ يدَها في شكل دعوةٍ للرجل الجالس أمامها لتناول ثمرةٍ من شجرة أو نخلة بينهما. ولعلَّه من الواضح تمامًا أن هذا النقش الذي سبق تدوين الكتاب المُقدَّس بقرونٍ طويلة يُمثل قصة إيعاز الحيَّة للذَّكر والأُنثى الأوائل بأكل الثمرة المُحرَّمة.
١  ن. ك. ساندرس: ملحمة جلجامش، ترجمة نبيل نوفل وفاروق حافظ، دار المعارف، ١٩٧٠م، القاهرة، ص١٠٢.
٢  السوَّاح: سبق ذكره، ص٢١٤.
٣  موسكاتي: سبق ذكره، ص٩٠؛ انظُر أيضًا ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، ط٢، ١٩٦١م، القاهرة، مج١، ج٢، ص٣٠.
٤  للمزيد ارجع إلى موضوعنا: من الطوفان السومري إلى الطوفان النُّوحي، مجلة آفاق عربية، عدد ٩، ١٩٨٣م، بغداد.
٥  س. لامبرج كارلوفسكي: دلمون مُدخل إلى الخلود، ترجمة كامل مصطفى اللحَّام، مجلة الثقافة العالمية، وزارة الإعلام الكويتية، مارس ١٩٨٣م، ص١٠٤.
٦  سيد القمني: «الأضاحي والقرابين، الجذور الاجتماعية»، فكر للدراسات والأبحاث، دار الفكر للطباعة والنشر، القاهرة، عدد ١١؛ و«القمر الأب أو الضلع الأكبر في الثالوث»، مجلة الكرمل، نيقوسيا، عدد ٢٦.
٧  ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، ط٣، ١٩٦١م، مج١، ج٢، ص٣١.
٨  ساندرز: سبق ذكره، ص٩٢.
٩  السوَّاح: سبق ذكره، ص٢٨.
١٠  د. فاضل عبد الواحد: عشتار، سبق ذكره، ص١٦٩.
١١  د. نجيب ميخائيل: سبق ذكره، ص١٧٧.
١٢  كريمر: السومريون، سبق ذكره، ص١٧٣.
١٣  د. نجيب ميخائيل: سبق ذكره، ص١٧٨.
١٤  كريمر: السومريون … سبق ذكره، ص١٧٨.
١٥  كريمر: الموضع نفسه.
١٦  د. نجيب ميخائيل: سبق ذكره، ص١٧٨.
١٧  جيمس هنري برستد: انتصار الحضارة، ترجمة د. أحمد فخري، مكتبة النهضة المصرية، د.ت، القاهرة، ص١٧٨.
١٨  ملحوظة: المصادر: لويد تشايلد، شيسنو، غود ولييه، التكريتي، فرانكفورت: Royaute وThe Bruth، أخذناها نقلًا عن: د. عبد الرِّضا الطعَّان في كتابه: الفكر السياسي للعراق القديم، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، ١٩٨١م، والكتاب ذو فضلٍ لا يُنكَر لفَهم أبعاد الفكر السياسي في العصر السومري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤