عالم آدم

وهكذا بات واضحًا أن قصة التكوين السامية (أكدية أو بابلية)، والتي اصطلحْنا على تَسميتها «سِفر التكوين البابلي»، لم تختلف كثيرًا عن «سفر التكوين السومري»، بل ردَّدت مفاهيم سومرية حول الآلهة وطبيعتها، مع إضافاتٍ وتعديلات تتلاءم مع التطوُّر الذي لحِق النظام الاجتماعي، الذي أرسى نهائيًّا دعائم حُكم الذكَر، وعبادة الذكَر. وغنيٌّ عن الذِّكر أن ذات قصة التكوين، قد عرفت طريقها إلى التراث السامي في مختلف مناطق الهلال الخصيب، مع تعديلٍ طفيف في التفاصيل دون الأصل، مع تغيُّر خلع الإله الخالق وتنصيب غيره بتغير السادات، فالإله «آشور» يأخذ دور «مردوخ» عندما تخضع الرافدين للآشوريين، بينما يكون لدى الكنعانيين هو «بعل»، الذي يقوم بمُهمة الخلق التي قام بها البعل البابلي «مردوخ» و«آنليل» و«آنكي» السومريين.

وفي مصير الموتى، ظلَّ العالَم التحت أرضي قائمًا في مختلف العقائد السامية وفي ذلك يقول «بوتيرو»:

«بالنسبة للبابليين بصورةٍ عامة فإن ما بعد الموت لم يكن مُغريًا لهم … وفي أسطورة نزول عشتار إلى العالم السُّفلي … وردت تعابير غير شيِّقة أبدًا عن حالة الموتى التعيسة … إن طعامهم هو من الطين، إن غذاءهم هو من التراب، لا يرَون النور أبدًا، فهم يسكنون بالليل.»

وحتى عشتار نفسها لم يكن لها القابلية أو الحقُّ في الدخول بين هؤلاء إلا بعد أن نزعتْ كل ما يستُرُها … قطعة بعد أخرى، وأصبحت على صورة العُري الكامل، الذي يستلزِمه الذهاب إلى هذا العالَم.١
ولهذا السبب كانت «الحياة بالنسبة للبابلي من أعظم وأكثر الآمال، ونعرف منذ العصر السومري أن الملوك والخاصَّة، الذين أقاموا المعابد وجهَّزوا الهدايا للآلهة، عمِلوا ذلك بكل الوضوح، خوفًا على حياتهم، حتى تكون هذه الحياة طويلة الأمد، وهذا هو الهدف الذي يَنشُده الوَرِعون والأتقياء من رجال الدين أيضًا، فتقديم القرابين للآلهة يُطيل العمر.»٢
ويشرح موسكاتي تطابق وجهة نظر البابليين والسومريين في عالم تحت الأرض بقوله: إنهم اعتقدوا «أن روح الإنسان بعد الموت تنفذ من القبر إلى العالَم السُّفلي أرالو AraIlu، وهي مدينة كبيرة يلفُّها الظلام والتراب، ويعيش فيها الموتى عيشةً حزينة كئيبة، يشربون الماء القذِر ويأكلون التراب، ولا يمكن التخفيف من هذا البلاء إلَّا بالقرابين، يُقدِّمها أصدقاء الميت وأقرباؤه، الذين لا يزالون على قيد الحياة.»٣
ومن هنا يُعقِّب «ديورانت» على فكرة البابليين عن العالَم البابلي التحت أرضي بقوله: إنَّ «فكرة البابليين عن الحياة الأخرى، كانت في جُملتها … فكرة أموات منهم قدِّيسون، وأنذال، ومنهم عباقرة، وبُلهاء يذهبون إلى مكانٍ مُظلم في جوف الأرض.»٤
هذا بينما يُحيطنا «دو لابورت» علمًا باسمٍ آخر لهذا العالم، إضافة إلى «أرالو» في قوله: «وبعد أن يُعِدَّ الميتُ إعداده الأخير، يهبط إلى الأدمو، إلى الأرض الكبيرة، مأوى الظلمات … إلى البيت الذى يدخُلُه الداخل ولا يخرُج منه، وهو كما تصِفُه رحلة عشتار … موضِع من الأرض تُخيِّم عليه الظُّلمات، وتُحيط به أسوار سبعة، لكلٍّ منها بابٌ واحد، والموتى قد نبتت على جوانبهم أجنحة كأجنحة الطيور، يأكلون التراب ويتغذَّون بالرُّغام، هذه هي المملكة التي يتزعمَّها نرجال (عرفناه باسم كور عند السومريين)، والإلهة اللاتو (وتعني اللات وهى مؤنث إل أو إيل) … التي تحت أمرِها أرواح الطاعون والأمراض التي ترعى الموت، وتحُول في المعتاد دون عودتهم إلى الأرض للإيقاع بالأحياء.»٥
ولكن على ما يبدو أن ما طرأ من تطوُّر في الأوضاع الاجتماعية على الأرض، انتقل إلى ما تحت الأرض، وإلى هناك انتقل التمايُز الطبقي الناشئ عن قيام الدولة الملكية المركزية، فنشأ تمايُز مُماثل في العالم التحت أرضي، جاء في الصياغة السامية لمَلحمة جلجامش السومرية، وبالتحديد في اللَّوح الثاني عشر، حيث نجد في هذا العالَم:
أمواتًا عظماء
وأمواتًا حقراء
أغنياء وفقراء
سعداء وتعساء.٦
وتبقى هنا مسألة، تُثيرها طبيعة اللغة السامية التي تعشَّقَت فيها روافد مُتعدِّدة، فدخلت البابلية ألفاظٌ سومرية لفظًا ومدلولًا، وتبُودِلت المعاني والألفاظ بين مختلف اللغات السامية لظروف الجوار والغزو، والعلاقات السياسية والاقتصادية وحتى الدينية، ممَّا أدَّى إلى تشابُكٍ لُغوي هائل، وإن كنَّا سنحاول التعامُل مع الإشكال في أسهل الحدود المُمكنة: لقد سبق وعلِمنا أن السومريين أطلقوا على عالم تحت الأرض اسم إدين Edin وتُنطق أيضًا الدين وأدن، وبما نعلَمُه عن الخلط القديم بين «الميم» و«النون»، يمكن أن تتحوَّل «أدين» إلى «أديم»، ورأينا البابليين يُطلِقون على العالَم التحت أرضي «أدمو» أو «آدم»، وبما نعلَمُه عن الخلط بين «العين» وبين «الهمزة» تُصبح أيضًا «عدم» و«عدن» فيُصبح عالم تحت الأرض هو عالم: أدن، الدين، أدين، أديم، أدمو، آدم، عدم، عدن (ولنلحظ ارتباط المعنى القائم بين مختلف الأسماء فكلُّها تُعطي معنى العودة إلى العدَم)، والأصل وهو التراب أو الأديم، وأدم من تراب وإلى عدم أو إلى أديم يعود، واللفظ آدم لفظ سامى يدلُّ على أبي البشر، جاء في النصوص الأوجاريتية المُكتشفة مؤخَّرًا، وهي لُغة سامية فينيقية، وكما في ملحمة «كارت ملك صيدون»:
أب آدم ويقرب (أي ويقترب الأب آدم)
أو ظهر له في الحلم إيل، في رؤياه ظهر أبو
أدم.٧
و«أدم» في هذا تعني الإنسان أو البشر، وواضح في النصِّ وراثة الاعتقاد القديم في عبادة الأب الأول، لذلك جاء «إيل» الإله الأعظم في النص كأبٍ للبشرية، وهو الذي لُقِّب في ملحمة البعل الأوجاريتية الفينيقية بأنه:
خالق الخلائق …
خالق الكائنات
لطفان (كثير اللطف)
إله الرحمة …٨
وهي كلها صِفات تُشير إلى الألوهية ممزوجة بالحنان الأبوي وكان «إل» أو «إيل» يُعدُّ لدى الفينيقيين الإله الأعلى، ويُلقَّب ﺑ «العلي God suprem»، فهو أبو الآلهة جميعًا، وأبو البشر أيضًا.
وإلى جانب «إل» عبَدَ الفينيقيون إلهًا آخر لا يقلُّ عنه أهمية بل هو أقرب إلى الناس من الأب الأول «إل» عُرف في فلسطين باسم بعل، وفي لبنان في فينيقيا باسم «أدونيس Adonis»، الذي هو «أدون» بعد حذف الياء والسين التي تلحق بأسماء الأعلام أو «أدوم» أو «أديم» أو «آدم» أو «عدم» أو «عدن».
figure
كتابة مسمارية من اللوح الرابع في قصَّة الخلق «إينوما إيلش» الرافدية القديمة.
١  بوتيرو: سبق ذكره، ص١٣٠.
٢  نفسه: ص١٣٢.
٣  موسكاتي: سبق ذكره، ص٨٠.
٤  ديورانت: سبق ذكره، ص٢٢١.
٥  ك. دولابورت: بلاد ما بين النهرين، حضارة بابل وآشور، ترجمة مارون الخوري، دار الروائع الجديدة، بيروت، ١٩٧١م، ص١٩٦.
٦  بوتيرو: سبق ذكره، ص١٣٢.
٧  السوَّاح: سبق ذكره، ص٨٧، ١١٨.
٨  فريحة: ملاحم، سبق ذكره، ص١٢٤، ١٢٥، ١٤١، ١٤٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤