تاسعًا: التمييز كمنهج جدلي١

التمييز أيضًا منهج جدلي يقوم على النقد والتطهير والجدة؛ فالواقع أن الظاهريات حركة نقدية، ولا يعني النقد هنا نفس معناه في الفلسفة النقدية؛ أي بحث تراجعي حول إمكانية المعرفة، النقد الظاهرياتي نتيجة منهج الإيضاح كمنهج للتمييز، ويعني تحديد مكان الخلط بين شيئين متميزين، وتتضمن «بحوث منطقية» اعتبارات نقدية وتأملات خاصة بالمؤلفات المنطقية،٢ وقد وُجه نقد آخر إلى النسبية النوعية خاصة النزعة الأنثروبولوجية،٣ وهناك نقد لكل نظرية نفسانية، وقام النقد على أساس منهج التمييز، ويبدو كل خلط داخل النظرية النقدية خلطًا بين المضمون والصورة، بين التمثل والفكرة، بين التمثل والمتمثَّل، بين صفات الموضوعات والمضامين الحالة، بين التمثل الحدسي وتمثل الدلالة، ويوضح منهج التمييز الفرق الأساسي بين الصفات الأولى والصفات الثانية ضد أي تماثل بينهما،٤ وتبين ضرورة نقد التجربة والمعرفة الترنسندنتالية أن هذا النقد المطلوب لا يتجاوز منهج الإيضاح القائم على التمييز.٥ ويُعتبر أحيانًا النقد الظاهرياتي للمعرفة كنقد ترنسندنتالي للمعرفة في مواجهة المثالية النفسانية التي تتعارض منذ البداية مع المثالية الظاهراتية.٦
والمنهج النقدي المستعمَل هو أيضًا منهج تطهير؛ فبعد وضع كل تحليل في مستواه الصحيح، يُعلن عن المعنى الصحيح لموضوع التحليل لكل المستويات، فقد أُعلن عن المعنى الصحيح للتمثل التمثلي العام بعد إعطاء النظرية قيمتها الصحيحة،٧ وعادةً ما يتم نقد التعريفات الشائعة من أجل تطهير الموضوع قبل تحليله، وهذه حالة نقد التعريف الشائع للموضوع المستقل الذي يمكن تمثله بنفسه الموضوع التابع الذي يمكن فقط ملاحظته وليس تمثله.٨ وقد فرَض إرجاع الظاهريات إلى بيئتها الطبيعية تخصيص ملحقات خاصة بالنقد، وذلك مثل النقد الموجه إلى «نظرية الصور» ونظرية الموضوعات «الحالة» للأفعال.٩ منهج التمييز كمنهج جدلي منهج يقترح باستمرار تأويلات جديدة كوسائل لتطهير المبادئ شبه الخاطئة، وذلك مثل: التأويل الجديد للمبدأ القائل بأن التمثل أساس كل الأفعال بفضل التصور الجديد المقدم سلفًا، وهو الفعل المموضِع كحامل أولي للمادة.١٠
ويقوم المنهج النقدي الذي تستعمله الظاهريات على قاعدة أن كل شيء صحيح، في مستواه الخاص، نظرية التمثل العامة صحيحة كإجراء لاقتصاد الفكر وليس كنتاج لموضوع مثالي، والتمثل التمثلي العام يمكن أن يُستعمل كخاصة أساسية للتمثلات؛ الأفكار العامة دون القدرة على إعطاء الوحدة المثالية للنوع، هناك تفسيرات عديدة في الوعي بالعمومية ولكن الحدس الحسي ليس هو الوحيد.١١ ويُوجه المنهج النقدي أحيانًا ومباشرةً ضد النظرية المناقضة على مستواها الخاص من أجل معرفة أين يكمن الخطأ، ليست نظرية التمثل التمثلي إلا إحلال بديل محل آخر، تخلط بين العلامة والدليل، بل إن الحجة المستخرجة من منهج البرهان الرياضي تنزلق بسبب ميلها التجريبي. والسبب الرئيسي للأخطاء هو عدم التعرف على التمييز الوصفي بين الفكرة المتفردة في القصد الفردي ونفس الفكرة المتفردة في القصد العام،١٢ ويطور منهج التمييز كمنهج للتطهير مبدأً ثم يعود إليه، وذلك مثل تطوير المبادئ الأساسية للأفعال المركبة ثم استرجاعها بعد حسن تأويلها.١٣
ومنهج التمييز منهج جدلي يرى في نفس الشيء مفهومين متجاورين وقع الخلط بينهما حتى الآن بالرغم من أنهما متمايزان تمامًا؛ فمثلًا للفظ «تمثل» معنًى مزدوج؛ تمثل بمعنى فعل أو صفة فعل، وتمثل بمعنى مادة أو مادة فعل، ويرجع ادعاء البداهة في مبدأ تأسيس كل فعل بفعل تمثل إلى الخلط بين المعنيين اللذين ثم التمييز بينهما آنفًا، ثم يُعاد تأسيس هذا المبدأ القائم على الخلط بفضل التصور الجديد للتمثل الذي هو نفسه يقوم على تمييز بين التسمية والنطق، وتحل الصعوبات الناشئة عن هذا التصور الجديد عن طريق مفهوم الاسم نفسه الذي يقوم بدوره على التمييز بين الأسماء الواضحة والأسماء غير الواضحة، والغرض من هذه التمييزات كلها هو الحصول على أكبر قدر ممكن من استقلال الموضوع، وبالتالي على الحقيقة المطبقة في نقطة خاصة، وذلك مثل الفصل بين حكم الوضع الاسمي وكل أجزاء الأفعال الاسمية، وأيضًا مثل رفض نسبة دور الأسماء الكاملة إلى منطوقات اليوم؛١٤ فمثلًا يصطدم الشعور كمعطًى حي قصدي، المستوى الثالث، بالظاهرة النفسية في علم النفس الوصفي، والذي يبدو مشابهًا للمعطى الحي القصدي، يقوم منهج التمييز بنقد هذا التصور المشابه نتيجةً لتشابه لفظ الظاهرة الفيزيقية وتصنيف الظواهر النفسية تحتها، ورد الموضوعي إلى الحسي، وتصنيف الظاهرة النفسية وعدم مدها إلى الأخلاقي والجمالي. وباختصار، ما زال التصور المشابه تجريبيًّا ونفسيًّا ونشوئيًّا؛١٥ ومن ثَم يصبُّ المنهج النقدي في المنهج الجدلي، وبعد انقسام الشيء إلى قسمين يُعاد تركيبهما في ثالث، ولتعبير «التعبير بالفعل» معنًى مزدوج، ثم يظهر معنًى ثالث كنقطة بداية لتطور جديد.١٦ وكذلك يُعتبر التحليل الصوري لعبة فكر بالنسبة للتحليل المنطقي، وقد تم التوصل إلى هذا الاكتشاف بفضل الإشارة إلى تطبيق ممكن ومتضمن في المعنى المنطقي للرياضيات الصورية؛ ومن ثَم ينتهي التمييز بين التحليل الصوري والتحليل إلى رفض واحد والإبقاء على آخر، بفضل اللفظ الثالث، الرياضيات الصورية.١٧
وتقدم الظاهريات منهجًا نقديًّا يضع النسقين المتعارضين في سلة واحدة؛ فالتجريبية شك، والمثالية غامضة، وذلك يقتضي العثور على حل ثالث، ويوجد هذا الحل في الوضع الجديد للسؤال نفسه،١٨ ويُعتبر الوضعي في العمل عالما، والعالم وقت التفكير وضعيًّا.١٩ ويتكون المنهج الجدلي من رفض النظرتين المتعارضتين؛ الواقعية والمثالية. للأولى افتراضاتها المسبقة النفسية، وللثانية افتراضاتها المسبقة المثالية. والمثالية في عبارة «وهكذا دوالَيك» «إلى ما لا نهاية» التي تتم الحصول عليه بالبناء هو افتراض مسبق إذا ما أهمل طرفه الذاتي، الجدل هو قلب أحدهما في الآخر، وينقلب القانون التحليلي للتناقض في الذاتية، ويمكن اعتبار هذا القلب كمرور إلى الإشكال الذاتي لمنطق الحقيقة، وحدت نفس الشيء في الافتراضات المثالية المسبقة المتضمنة في منطوقات التناقض والثالث المرفوع، وتنقلب قوانينها إلى القوانين الذاتية للبداهة، ويوجد نفس الشيء بالنسبة للافتراضات المسبقة للحقيقة في ذاتها والخطأ في ذاته، وتوجد بداهتهما في قلبهما داخل الذاتية.٢٠ إذَن يستبعد المنهج الظاهرياتي كل النظريات المتعارضة من أجل شق طريق إلى النظرية الجديدة، ويتم تجاوز التعارض بين الواقعية والمثالية بالظاهريات، فإذا كانت الأولى خاطئة تمامًا فإن الثانية خاطئة نسبيًّا، ومع ذلك تظل الظاهريات من جانب المثالية، ويظهر منهج التطهير هذا في النظر إلى الماضي، إلى الردود المثالية. هذه الردود حقيقية، ولكن معناها خفي بل ومنقوص.٢١ وهكذا يظهر الجدل الظاهرياتي في منهجه النقدي، وتتحول الميتافيزيقا وعلم النفس العام إلى أقنوم. الأولى تنسب إليه وجودًا واقعيًّا خارج الفكر، والثاني يعزو له أيضًا وجودًا واقعيًّا في الفكر، وكلا الاسمية والنفسانية استدلالان خاطئان. الأول يرد العام إلى اللغة، والثاني يرده إلى الفكر كمضمون نفسي.٢٢
وينتهي النقد الترنسندنتالي إلى نظرية في البداهة، تضل النظريات الحالية في البداهة بسبب الافتراض المسبق للحقيقة المطلقة والنظرية القطعية (الدوجماطيقية) للبداهة، وتعتبرها النظرية الترنسندنتالية للبداهة كتأثير قصدي؛ بداهة التجربة الخارجية، وبداهة التجربة الداخلية، وبداهة المادة الزمانية الحالة.٢٣ غرض النقد ربط الظاهريات بالتاريخ؛ فقد تم نقد النظريات السابقة عن طريق التمييز بين مفهومين متشابهين وقع بينهما الخلط حتى الآن، وذلك مثل نقد التمييز بين الإدراك الداخلي والإدراك الخارجي.٢٤
١  Ex. Phéno., pp. 403–7.
٢  Rech. Log.ch. X et App., pp. 229–46.
٣  Ibid., pp. 126–32.
٤  Ibid., II, Rech. II, pp. 152–9.
٥  Méd. Car., pp. 129–30.
٦  Log. For. Trans., pp. 230–2.
٧  Rech. Log. II, Rech. II, pp. 208-9.
٨  Ibid., Rech. III, pp. 19–21.
٩  Ibid., Rech. V, pp. 228–31.
١٠  Ibid., Rech. V, pp. 308-9. الفعل المموضِع L’acte Objectivant.
١١  Ibid., Rech. II, pp. 199–207. متفرد Singulier. فردي Individuel.
١٢  Ibid., pp. 209–19. التسمية Nomer. النطق Enoncer.
١٣  Ibid., pp. 309–14. الواضع Positionnel. غير الواضع Non-Positionnel.
١٤  Ibid., Rech. V, pp. 266–88، المشابه، المجاور Voisin.
١٥  Ibid., pp. 165–72. نشوئي Génétique.
١٦  Ibid., III, pp. 24–28.
١٧  Log. For. Trans., pp. 148–50.
١٨  Ideen I, pp. 67–72.
١٩  Ibid., pp. 79–81.
٢٠  Log. For. Trans., pp. 248–72.
٢١  Rech. Log. I, pp. 177–81.
٢٢  Ibid., II, Rech. II, pp. 147–52.
٢٣  Log. For. Trans., p. 368. تأثير Effectuation.
٢٤  Rech. Log. I, p. 36.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤