الفصل الخامس عشر

في إقامة البُرهان على الحاجة إلى الألفاظ المُستعمَلة بين الناس

فنقول: لمَّا لم يكن الإنسان بحيث يَستقيم أمر حياته في الدُّنيا إِلَّا بِصُحبة آخَرَ مِن نَوعه، لأنَّ الإنسان الواحد عاجِز عن القيام بجميع أُمُوره التي يُضطرُّ إليها من المآكِل والمَشارِب والمَلابس التي تُعمل بالصنائع المُختلفة، وَجَب١ اجتِماع الناس [٢٨] إلى القُرى والمُدن بحيث تحصُل المُساعَدة المذكورة ليَنتظِم قِوام وُجودِهم في الدُّنيا، وذلك لا يَتمُّ إِلَّا بالخِطاب والجَواب فاقتَضَت الحِكمة الإلهية إيجاد الألفاظ التي تَجري بين الناس في المُعامَلات والمُحاكَمات والمُخاطَبات فركَّبوا الألفاظ البارِزة بالجَذْب والدَّفع من قَصَبة الرئة والحَنجَرة وتشكيل اللِّسان والأسنان٢ والشِّفاه بِصُوَرٍ مُختلِفة قُبَالةَ ما تقَع الحاجة إليه.
القول في الأمور الرَّمزية: إنَّ الإنسان له من الاستِطاعة والقُدرة أن يُركِّب لكلِّ شيءٍ في الوجود شكلًا خاصًّا٣ دُون شكل غيره ويُشير إليه بِشكلِه إِما بِعَينه وإِما بِشفَتَيه أو بإصبعِه بل بكلِّ٤ أعضائه المُتحرِّكة بإرادته، وذلك عندما يحصُل الاتِّفاق بينه وبين غيره على هذه الاصطلاحات المذكورة مِثلما لكلِّ عددٍ من الأعداد عَلامة [٢٩] في الأصابع دُون علامة غَيره، والإنسان الأخرَس قد يُوجَد٥ عندَه كثير من هذه الإشارات المذكورة والأمارات المشهورة. ولقد كان يُمكِن أن يَسلُك الناس هذا المَسلَك لكن الألفاظ المذكورة أجلى وأسهل وأقرَب إلى المعرفة وألحَقُ بنوَع البشر.٦
القول في الكتابة، نقول: مِثلما أنَّ لكلِّ معنًى في الوجود لفظة تختصُّ به كذلك يُمكن أن يُجعَل لكلِّ معنًى٧ صورة خاصَّة. ولمَّا كانت المعاني غير مُتناهِية وَصُورها غير مُتناهية وكان الإنسان عاجزًا عن ضبط جَميع الصُّور المذكورة في ذِهنه وذاكرته، تَحيَّل٨ الناس على تحصيل هذه الحروف البسيطة وتسنَّى لهم تركيب الأسماء والمعاني المُتغيرة المُتناهية نِعْمةً من الله تعالى على خَلقِه ولُطفًا بضَعف قُدرتهم تَبارك اسمُه العليُّ العظيم.

في الصَّنائع: حدُّ الصناعة أنها ملَكة في أمر عَمَلي فِكري [٣٠] بواسِطتها يُخرِج الإنسان أصناف المُركَّبات من القوة إلى الفعل؛ ولهذا الأمر مَبدآن: أحدُهما الفاعل، والثاني الآلَة. أما الفاعل فالقوة المُفكِّرة المُتصرِّفة فيما ينبغي أن يُفعَل، وأمَّا الآلَةُ فالأعضاء البدَنية؛ ولذلك لو لم يَتقدَّم الفِكر ويُصوِّر أولًا صورة المَصنوع في ذِهنه لمَا قدَر على إتقانه كما ينبغي، وبهذه الحالة تتفاضَل الصنائع على أمثالها، وإِن كانت رياضة الأعضاء تُساعِد على ذلك الأمر، لكن الفكر أعظَمُ وأقْدَر.

في الحُسن والقُبح٩ والنَّفيس والخَسيس: ومن الحَيوان ما لا١٠ يفعل المَكروه والأذى كالأسد الذي لا يُؤذي مُربِّيه، ولكن هذا ليس له بالطبع والكِيان بل بالقَهْر. أمَّا الإنسان فليس كذلك بل يَعلَم النفائس والخسائس بِذاته، وهذا إذا لم تدخُل النفس الإنسانية تحتَ حُكم القوى الحيوانية.
١  في الأصل: فوَجَب.
٢  في الأصل: والإنسان.
٣  في الأصل: شكل خاص.
٤  في الأصل: بل وبكل.
٥  يلزم حذْف «قد يُوجَد».
٦  أي «في نوع البشر».
٧  سقَط في الأصل: معنًى.
٨  في الأصل: تَحيَّلوا.
٩  لم يَذكُر في هذا الفصل شيئًا عن «الحُسن والقُبح».
١٠  سقط في الأصل: لا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤