دراسة نقدية

بقلم  د. سمير سرحان

بدأت رحلة الكاتب المسرحي محمد عناني مع المسرح منذ عام ١٩٦٣، فهو من الرعيل الثاني من كتَّاب المسرح الحديث، الذين ظهروا بعد جيل نعمان عاشور، وسعد وهبة، ويوسف إدريس، وغيرهم .. ولقد كانت النهضة المسرحية الكبرى التي بدأت مع أوائل الستينيات مع ظهور فِرَق التليفزيون المسرحية؛ مسئولةً عن ظهور عدد من الكتَّاب الشبان الذين أوتوا موهبة مسرحية خالصة .. وقد كفَّ بعض هؤلاء عن الكتابة للمسرح بعد المسرحية الأولى، وقليل منهم مَن واصل الكتابة؛ ليثبت بدأبه وإخلاصه الشديد لهذا الفن العريق أن المسرح المصري قادر أن يجدد نفسه دائمًا، وأن يُفْرِخَ جيلًا بعد جيل من الكتَّاب الموهوبين الذين يعبِّرون عن ضمير هذا الشعب. ومن بين هؤلاء القلائل الذين لم يتساقطوا في وسط الطريق الدكتور محمد عناني.

وتجربة محمد عناني في المسرح لم تقتصر على مجرد التأليف — وإن كان قد كتب عام ١٩٦٢ مسرحيته الأولى «الدرجة السادسة» التي كادت أن ترى النور بالمسرح الكوميدي من إخراج عبد المنعم مدبولي — ولكن دخوله إلى عالم المسرح الرحيب كان من عدة أبواب، وليس من باب واحد، كان من بينها باب الإعداد المسرحي؛ عندما اشترك مع كاتب هذه السطور في إعداد مسرحية «من أجل ولدي» عن القصة المعروفة للأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله، وكانت أول مسرحية تقدِّمها مسارح التليفزيون وأخرجها نور الدمرداش، وكذلك مسرحية «عندما نحب» عن قصة للأستاذ محمد التابعي. وكان أحد الأبواب التي دخل منها محمد عناني إلى عالم المسرح السحري هو باب الترجمة. فقد اشترك مع كاتب هذه السطور أيضًا في ترجمة مسرحية تشيكوف العظيمة «الخال فانيا» التي قدَّمها المسرح القومي في موسم ١٩٦٤، وكان لها دويٌّ هائل في الأوساط الثقافية والمسرحية، وكذلك مسرحية «الخرتيت»، وهي من روائع مسرح اللامعقول.

ولذلك فإن محمد عناني عندما أقدَم على تأليف مسرحيته الثانية «البر الغربي» كان قد تمرَّس بفنون العرض المسرحي والتجربة الحية في ملامسة الجمهور، والوقوف على نبضه .. ومن خلال التجربة الساخنة مع المسرح خصوصًا في مسرح الحكيم استطاع أن يكتشف عالمه، ويكتشف موهبته، ويسيطر على أدواته ككاتب مسرحي من خلال الإعداد والترجمة، وتجربة أولى غير مكتملة هي «الدرجة السادسة».

وعندما ظهرت أول مسرحية له على خشبة المسرح في موسم ٦٤-١٩٦٥ وهي «البر الغربي»؛ أفصحت عن موهبة مسرحية حقيقية، وعندما جاءت مسرحيته الثالثة «ميت حلاوة» أكَّدت أن موهبته قد نضجت ورسخت .. وأنه أصبح من الكتَّاب الذين نعوِّل عليهم الكثير في إثراء الحركة المسرحية.

والفارق بين «البر الغربي»، و«ميت حلاوة» يكاد يبلغ عشر سنوات .. وهي السنوات التي تفرَّغ فيها الكاتب لنيل درجته العلمية في الأدب الإنجليزي .. ولكن تجربته الأكاديمية لم تصرفه عن المسرح، بل أكاد أقول إنه لولا هذه التجربة نفسها لمَا وصل محمد عناني إلى ما وصل إليه الآن من نضج ككاتب مسرحي. فطوال هذه السنوات التي قضاها في إنجلترا كان يختلف إلى المسارح المتعددة التي تمتلئ بها لندن، ويملأ عينيه وحواسه ووجدانه بكل جديد ومثير من العروض المسرحية التي يموج بها المسرح الإنجليزي. ولقد كان لهذا الاحتكاك المباشر بالمسرح الغربي أثره في تطوير شخصية محمد عناني ككاتب مسرحي، وإثراء وجدانه، وزيادة سيطرته على أدواته المسرحية.

والكاتب الأصيل هو ذلك الذي تشغله دائمًا موضوعات وتيمات معيَّنة .. وهذا هو الحال مثلًا مع «إبسن» الذي نجد عنده تيمة الماضي الذي يجثم بأنفاسه على الحاضر حتى يدمره .. «سترندبرج» المشغول دائمًا بتيمة الحرب النفسية والجنسية والفكرية بين الرجل والمرأة .. و«تشيكوف» الذي نجد عنده تيمة الإحباط والعجز .. وهذه التيمات المترددة في أعمال الكتَّاب الراسخين؛ هي التي تعطي عملهم المسرحي مذاقًا فريدًا يميِّز كل منهم عن الآخر، ويعطي تجربته طعمها الخاص.

وبالرغم من أن محمد عناني ما زال أمامه شوط ليس بالقصير لكي يصل إلى ما وصل إليه هؤلاء الراسخون .. إلا أنه اختار لنفسه مذاقًا فريدًا، وعبَّر في عمليه الأخيرين عن تيمات مترددة، من الواضح أنها تشغله منذ البداية؛ فالذي يتأمل «البر الغربي»، و«ميت حلاوة» — بالرغم من الفارق الزمني بينهما — يجد أن الأحداث في كلتا المسرحيتين تدور في قرية ساحلية صغيرة، ليست موجودة على الخريطة، وإنما تمثِّل في تكاملها ونظام حياتها عالمًا قائمًا بذاته له قوانينه الخاصة، أو كما يقول مكرم لغريب في «ميت حلاوة»: «مكان ممتاز .. قدر ينسى الزمن زي الزمن ما نسيه .. قدر يخلق لنفسه قوانينه الخاصة .. أحكامه الغريبة اللي محدش يفهمها غيره .. أصبح عالم غريب قائم بذاته .. زي عالم الفن.»

وفي «البر الغربي» نجد أن هذه القرية الخيالية التي تحكمها قوانينها الخاصة تقع على النيل .. وفي «ميت حلاوة» قرية من طرح النيل نسيها الزمن كما نسيتها بقية مصر. والحدث الرئيسي الذي ينتظم كلتا المسرحيتين هو حدث فانتازي خيالي .. أو من الممكن أن نسميه «حدث خارق» يلقي به المؤلف كالقنبلة في بداية المسرحية، ثم ينسج حوله أطراف الصراع، ويكشف من خلاله أعماق الشخصيات، ويتطور به إلى نهاية تكشف موقف الكاتب من الكون والحياة.

وفي «البر الغربي» نجد أن الحدث الخيالي الخارق هو ظهور «حندوسة» في البر الغربي للنيل .. و«حندوسة» هو مجرم خطير يهدد القرية كلها بالدمار .. وإن لم يره أحد من أهلها على الإطلاق. وعند ظهوره في بداية الحدث تصبح القرية كلها في حالة توجُّس وخيفة من هذا الخطر الكامن؛ ﻓ «حندوسة» إذن هو استعارة درامية لفكرة الخطر الذي يتهدد مجتمعًا بأَسْره. ورغم ذلك فإن المؤلف يوظِّف هذه البداية الخيالية لكي يكشف عن الكثير من العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي تسود هذا المجتمع الصغير؛ إذ يتصادف أن يسمع أهل القرية إطلاق الرصاص في نفس الوقت الذي يتصادف فيه مرور المدرس الإلزامي البسيط الساذج «جمعة» بساحة القرية وحده، وعندما يأتي مَن يعلن قتل «حندوسة»؛ يتصور البعض أن «جمعة» لا بد أنه هو البطل المغوار الذي أنقذ القرية من هذا المجرم العتيد. وتبدأ حركة العلاقات الإنسانية في التغيُّر، فبعد أن كان «جمعة» مدرسًا عاديًّا، بل ومثار سخرية الناس في كثير من الأحيان؛ تحوِّله الحركة الديناميكية لمجتمع بأَسْره من صعلوك إلى بطل، ثم إلى طاغية أشد خطرًا على القرية من «حندوسة» نفسه؛ ولذلك فإن البطل في هذه المسرحية ليس هو «جمعة» — وإن كان «جمعة» هو الشخصية الرئيسية فيها — وإنما هو القرية بأكملها في خوفها من خطر وهمي .. وفي صناعتها للبطل .. ثم في وقوعها ضحيةً لِمَا صنعته بأيديها عندما يتحوَّل البطل إلى طاغية.

وفي «ميت حلاوة» يستخدم الكاتب نفس تكنيك «الحدث الخارق» الذي يفجِّر به الموقف الدرامي منذ البداية .. وهو ضمنًا اختفاء ثلاثة أو أربعة آلاف رأس من أغنام القرية في ليلة واحدة .. في نفس الوقت الذي يصل فيه قادم جديد من القاهرة هو الأستاذ غريب مفتش الضرائب؛ ليطالب أهل القرية — التي نسيها الزمن كما نسيته — بما تأخر عليهم من ضرائب لسنواتٍ وسنوات.

ولكن .. ما هو الموقف الأساسي الذي يدخل فيه هذان العاملان الجديدان، فيغيران من تركيبته، ويفجران فيه قوى التغيُّر والتغيير؟

نحن بإزاء قرية خيالية من طرح النيل غير موجودة على الخريطة، نسيها الزمن كما نسيتها بقية مصر، هي قرية «ميت حلاوة». وهذه القرية استنَّت لنفسها منذ سنوات عديدة نظامها الاقتصادي والاجتماعي الخاص؛ فهناك جمعية بها المأكل والملبس والغلال، يأخذ منها كلٌّ حسب حاجته .. وهناك «مجلس إدارة» لهذه الجمعية يدير شئونها تتولى أموره «نبوية»، وهي امرأة رائعة الجمال طاغية الشخصية تُحكِم قبضتها على أعوانها بيدٍ من حديد؛ حتى يسير النظام كما يريدون له أن يسير.

ولا يلغي نظام الجمعية الاحتكار فيما يتعلق بالأمور الاقتصادية فقط، وإنما يلغي أيضًا الكثير من المشاعر الإنسانية الطبيعية والفطرية؛ مثل: الحب والغيرة، أو حب السيطرة التي يعتبرها جميعًا جزءًا من غريزة حب التملك والامتلاك التي قام نظام الجمعية ليقضي عليها. ويذهب النظام في إلغائه لغريزة التملك إلى حدِّ التطرُّف، فيفرض نظامًا خاصًّا للزواج، لا يصبح الزواج بمقتضاه عقدًا أبديًّا بين رجل وامرأة، وإنما هو عقد ينتهي عند أجلٍ معيَّن، بعده يصبح للزوجين من جديد حرية الاختيار في أن يستمرا معًا، أو يختار كل منهما لنفسه شريكًا آخر.

ورغم أن هذا الموقف الأساسي يشير إلى نظام اقتصادي معيَّن؛ إلا أن الكاتب لا يحدد تمامًا هذا النظام بدولة، أو مذهب سياسي بعينه .. وإنما يفضِّل أن يترك الأمور دون تحديد؛ ليصبح نظام «ميت حلاوة» دلالةً على أي نظام شمولي بشكل عام.

وبمجرد أن يُرسي المؤلف هذه الأرضية المبدئية — النظام الشمولي بكل ما فيه من شعارات المساواة، وإلغاء السيطرة، وحب التملك … إلخ — يبدأ شيئًا فشيئًا في تعرية هذا النظام، وإبراز ما ينطوي عليه من خلل أساسي. وهو يبذر بذور هذا الخلل منذ الحادثة الأولى — حادثة اختفاء أغنام القرية — وهي حادثة من الجسامة والخطورة؛ بحيث يجب أن تزلزل كيان القرية نفسها، ويجعلها تفيق إلى ما يوجد في تكوينها الأساسي من خلل .. ولكنَّ أحدًا لا يبدو أنه يعطيها حجمها الحقيقي سوى شخصية واحدة هي مكرم، ذلك الموظف القاهري الذي وفد على القرية منذ عدة سنوات معيَّنًا بها من قِبَل الحكومة في القاهرة، فوجد فيها حلمه .. حلم الحياة البسيطة، أو يوتوبيا الحياة النموذجية التي يتخلص فيها الإنسان من كل تعقيد المدنية وصراعاتها، ويتفرغ لصناعة السلال ومشاركة أهل القرية البسطاء احتفالاتهم البسيطة من تحطيب ورقص وغناء.

وإذا كان «مكرم» قد وجد ذاته وحلمه في «ميت حلاوة»؛ فيبدو أنه لم يتنبَّه في البداية إلى أخطار النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي استنَّته لنفسها .. ولذلك فعندما تحدث حادثة اختفاء الأغنام أو ضياعها يصطدم بها وعيه، ويكون لوقع الصدمة دويٌّ هائل في نفسه يجعله يفيق من زيف الحلم الذي آمن به، ويفتح عينيه على الخلل الخطير الذي يجعل من «ميت حلاوة» واجهةً لامعةً وراءها أخطر الأمور.

فتفجُّر وعي مكرم منذ البداية إزاء حادثة الغنم، وانكسار الحلم الذي عاش به في «ميت حلاوة» هو الموقف الأساسي الذي يكشف عن الخلل، أو السرطان الذي يكمن في خلايا هذا الجسد اللامع من الخارج .. ويصاحب انهيار حلم مكرم انهيار قيمة الحب أيضًا في وعيه .. فمكرم يحبُّ سونة ابنة القرية، ولكنه يفاجَأ وهو ينتظرها في ساحة القرية عند المغرب أنها قد تزوجت في الصباح .. يخبره بذلك «حميد» ضمير القرية والنموذج النمطي لشخصيتها؛ فهو الجالس دائمًا إلى شيشته يأخذ أعظم الأمور وأخطرها ببساطة مذهلة، ثم لا يلبث في اجتماع مجلس إدارة الجمعية أن يمارس حقه كاملًا في حماية هذا النظام الغريب بكل ضراوة.

ولنعد إلى مكرم فنقول إنه عندما يسمع من حميد بأن سونة التي عاهدته على الزواج قد تزوجت من غيره؛ يصاب بخيبة أمل شديدة، تسلمه إلى الشك في أن حب سونة له كان خداعًا وسرابًا .. ولكن حميد يطمئنه بأنها لم تخدعه، وإنما هي ستفي بوعدها بالزواج منه بعد أن ينتهي الأجل المحدد لعقد زواجها من محروس .. وهنا فقط يدرك مكرم الخلل الأساسي في هذه اليوتوبيا التي كان قد رسم لها في خياله ووعيه صورة وردية، ويدرك أيضًا أن «ميت حلاوة» ليست إلا آلة اقتصادية صمَّاء تلغي إنسانية الإنسان، وتحوِّله إلى ترس لا عقل له، ولا قلب، ولا روح .. ترس صغير لا أهمية له، قد يضيع كما ضاعت الغنم، ومن قبلها الطنابير .. أو قد يُحكَم عليه بالضياع مثل نبيه وفرج.

ويؤكد المؤلف هذا المعنى بطريقة تهكمية ساخرة من خلال أعضاء مجلس إدارة الجمعية التي تدير أمور القرية، فنبوية رئيسة الجمعية تصدر أوامرها بأن يكون التعبير عن المشاعر أثناء الاحتفالات «تلقائيًّا»، وتحدد لهم في نفس الوقت ماذا يقولون، وكيف يعبِّرون عن أنفسهم بالضبط. ونبيه عندما يذهب إلى خارج القرية ليبيع أسماكها يُتَّهم بالاتصال بجهاتٍ أجنبية، ويُحكَم عليه بالضياع .. والجميع مطالبون بالتزام «الوحدة الفكرية»، وهي طبعًا كل ما ترضى عنه نبوية ومجلس الإدارة من أفكار .. والخروج على هذه الوحدة الفكرية معناه الضياع .. الضياع المادي، وليس مجرد الضياع المعنوي، كل ذلك بالرغم من تشديد نبوية على أعضاء الجمعية بضرورة التعبير عن آرائهم بحرية تامة!

والنموذج الكامل لهذه «الوحدة الفكرية» هو زقزوق — محط سخرية المؤلف وسخريتنا؛ فزقزوق هو الذي يحفظ لائحة الجمعية عن ظهر قلب، ويردد ما بها من كليشيهات وشعارات كالببغاء، دون فهم أو وعي .. ويستعرض فصاحته في الخطابة حتى يبهر زوجته ظريفة!

والعامل الآخر الذي يكشف الخلل الأساسي في تكوين «ميت حلاوة»؛ هو وصول الأستاذ غريب الذي جاء يطالب أهل القرية بالعودة إلى حظيرة النظام الإنساني الطبيعي .. فالضرائب التي يطالب بها الأستاذ غريب في البداية ليست إلا دلالة على شيء أعمق، وهو أنه قد حان الوقت لكي تصحو «ميت حلاوة» من سُباتها، وتعود إلى الانتماء إلى الوطن الأم .. فالأستاذ غريب يذكِّر أهل القرية أن هنا دولة تبني لهم طرقًا، وتمدُّهم بخدمات أساسية كالإنارة والمياه .. وأن هذا يمثل رابطًا بينهم وبين عالم أوسع تسير فيه الأمور على نحو مغاير تمامًا لِمَا تسير عليه في «ميت حلاوة».

وتدرك نبوية الخطورة الشديدة الكامنة في وصول هذا الوافد الجديد الغريب .. فالمسألة ليست مجرد ضرائب، وإنما هي أبعد من ذلك وأعمق .. فوجود غريب يعني في الحقيقة بالنسبة ﻟ «ميت حلاوة» تسلُّل أفكار غريبة على هذا النظام الشمولي الذي بنته نبوية، ورعته هي ورجالها حتى أصبح واقعًا، وهي أفكار تهدد النظام بالانهيار التام. ومن هنا يأتي الاجتماع العاجل الذي تعقده نبوية لدراسة أفضل الطرق لإبعاد غريب بأسرع ما يمكن .. ولكن غريب ليس واحدًا من أهل القرية يمكن الحكم عليه بالضياع فيضيع، وإنما هو ممثل الشرعية، والقانون، والحكومة .. وإلحاق أي أذًى به يعني في الحقيقة استعداء الحكومة المركزية، وتذكيرها بالقرية التي نسيها الزمن .. وإذا كان من المستحيل إبعاد غريب، فإن «ميت حلاوة» تقرر امتصاصه، تمامًا كما امتصت من قبله مكرم الذي وفد على القرية غريبًا مثله من سنين.

ولكن غريب ليس «مكرم» .. فمكرم رجل كان له حلم عظيم، ووجد في «ميت حلاوة» حلمه، ثم اكتشف أن هذا الحلم قد خانه .. أما غريب فهو من ذلك الطراز من الرجال الذين لا يحلمون، وإنما يتعاملون فقط مع حقائق الواقع الصلبة .. وهكذا يقرر غريب أن يمتص «ميت حلاوة»، ويسرق تجربتها لحسابه الخاص قبل أن تمتصه هي .. وهو ينفذ خطته في نفس اللحظة التي يبدأ فيها وعي نبوية في التفتُّح على حقائق النفس البشرية التي تشكِّل إنسانية الإنسان، وأهمها الحب والغيرة والمشاعر الخاصة.

ويقود غريب مجلس الإدارة في انقلاب حاسم على نبوية؛ ليخلعها من إدارة الجمعية بتهمة أنها سمحت للمشاعر الشخصية أن تسيطر عليها عندما وقعت في حب مكرم وتزوجته .. وأنها في حبها لمكرم وغيرتها عليه قد خرقت لائحة الجمعية التي تحرِّم مثل هذه المشاعر الدنيا؛ فلم تعد تصلح للقيادة. وبعد هذا الانقلاب يتولى غريب بنفسه رئاسة الجمعية.

والحقيقة أن وقوع نبوية في حب مكرم ودخولها في منطقة خصوصية المشاعر الإنسانية؛ يمثل في مسرحية «ميت حلاوة» إرادة التغيير التي تأتي من داخل البشر أنفسهم، وليس من خلال أي عامل خارجي من عوامل الحبكة الدرامية .. فالجمعية لم تفلح في الحقيقة في حل المشكلة الاقتصادية، ورفوفها ظلَّت دائمًا خاوية لا تحوي إلا أقل القليل بالرغم من كل الشعارات والاجتماعات والهتافات .. وزقزوق نفسه — أكبر المتحمسين — يعبِّر عن هذه الحقيقة المؤلمة عندما يقول بطريقته الخطابية المثيرة للسخرية: «كانت الخيرات تعم الجميع في الماضي بينما يسود الفقر في حقيقة الأمر وواقع الحال!» .. ومع عجز الجمعية عن حل المشكلة الاقتصادية رغم كل الشعارات؛ عجزت أيضًا عن إلغاء إنسانية الإنسان، وأيضًا رغم كل الشعارات!

ولقد عجزت كل محاولات نبوية نفسها أثناء رئاستها للجمعية عن قتل الشعور بخصوصية الحب الذي تتولد عنه بالضرورة مشاعر الغيرة وحب التملُّك .. ولكن المفارقة الأساسية التي يبني عليها المؤلف تطور الحبكة؛ هي وقوع نبوية نفسها فيما كانت تحذِّر منه أتباعها .. فهي أولًا وأخيرًا بشر .. وهي عندما أحبت مكرم بدأت تدرك قيمة المشاعر الإنسانية وتفرُّدها وخصوصيتها .. وهكذا — كما تقدَّم القول — يبدأ التغيير من داخلها هي .. عندما تتحول من طاغية إلى إنسانة تحب، وتحاول حماية حبها بوصفه شيئًا خاصًّا بها هي، لا دخل للتجربة الشمولية فيه .. ومن هنا يتم دقُّ المسمار الأخير في نعش التجربة التي عاشت بها «ميت حلاوة» سنين طويلة؛ عندما تدرك نبوية أنها ساهمت في خلق وحش كبير — هو الجمعية — وسمحت له مع بقية أهل «ميت حلاوة» أن يلتهم إنسانيتهم.

وعند هذه النقطة تكون حركة الحدث قد سارت في خطوط متقابلة بعد أن كانت تسير في مستويات متوازية .. ففي الوقت الذي تدرك فيه نبوية إنسانيتها من خلال مكرم، وتلفظ النظام الشمولي الذي صنعته بيديها؛ يتحوَّل غريب إلى طاغية حقيقي بعد أن يتخذ لنفسه زوجة من فتيات القرية وهي عبلة .. الفتاة البلهاء الساذجة في بداية المسرحية التي لا تلبث بعد زواجها من غريب أن تتصرَّف وكأنها مالكة الجمعية بما فيها ما دامت زوجة صاحب السلطة .. وهنا يعطينا المؤلف صورة لذلك النوع من الحكام الذين يحوِّلون التجربة السياسية إلى مغنم شخصي لهم .. ويصل هذا الاتجاه إلى قمته عندما يستولي إبراهيم بدوره على السلطة، بعد أن يدبِّر انقلابًا ضد غريب .. فعندما يستولي إبراهيم على السلطة يصرِّح دون مواربة ولا مواراة أنه «لا يمكن إنعاش الريف دون إنعاش مجلس الإدارة».

والحقيقة أن إبراهيم الذي يأتي به الانقلاب الثاني؛ ما هو إلا التجسيد الكامل لجرثومة الفساد التي كانت كامنة في نظام الجمعية منذ البداية.

ويهمني قبل أن أختتم هذه الدراسة العاجلة أن أتوقف قليلًا عند الدور الذي يؤديه التوازي بين ثنائي مكرم ونبوية من جانب، وغريب وعبلة من جانبٍ آخر؛ فالتقابل والتضاد بين حركة الثنائي الأول وحركة الثنائي الثاني يمثِّل نقطة الارتكاز في بناء المسرحية .. فبينما نجد أن حركة نبوية ومكرم الدرامية تبدأ بالتسليم بمواضعات «ميت حلاوة» وقوانينها الخاصة لتنتهي من خلال الحب إلى إدراك فساد تجربة الجمعية، وبالتالي إدراك إنسانيتهما وعثورهما على ذاتهما؛ نجد أن الحركة الدرامية لغريب وعبلة هي الخط المضاد لذلك .. فغريب يبدأ برفض «ميت حلاوة»، ثم ومن خلال الزواج القائم على المصلحة يستوعب تجربتها، ويسخِّرها لمصلحته الشخصية .. وعبلة لم تكن في البداية أكثر من فتاة بلهاء لا وعي لها بالأبعاد الكبرى لتجربة «ميت حلاوة» بعكس نبوية صاحبة التجربة وعقلها المفكر في البداية، وعندما تستولي عبلة على التجربة من خلال زواجها بغريب تتحول من البراءة الساذجة إلى إنسانة قد تجمَّدت إنسانيتها، وأصبحت ترى كل شيء بعين السلطة التي تعطيها الفرصة لامتلاك ما ومَن في بيت الشعب، وبعده «ميت حلاوة» ذاتها.

فالحركة في الثنائي الأول هي من الجمود وفقدان الذات إلى إدراك كل منهما لإنسانيته، ومن خلال ذلك عثوره على ذاته، ويعبِّر عن ذلك رمزيًّا صيحة مكرم المترددة في أعمق أعماق المسرح بأنه قد عثر على الغنم بالرغم من كل شيء .. أما الحركة في الثنائي الثاني فيمكن وصفها بأنها حركة من البراءة إلى فقدان الذات، وبالتالي فقدان كلٍّ من غريب وعبلة لإنسانيتهما.

إن «ميت حلاوة» مسرحية متعددة الخطوط، متشابكة المستويات، لا تكفي دراسة قصيرة كهذه أن تفيها حقها .. أو تفصح عن عمق رؤيتها الفنية وأحكام بنائها الدرامي الذي تلعب فيه كل شخصية وكل جملة من جمل الحوار وظيفة أساسية في الكشف عن أبعاد الحدث وتطويره .. ولكن عذري هنا أن القارئ يملك أمامه المسرحية نفسها، وهي تفصح في نسيجها وتركيبها عن أن مؤلفها قد استطاع بعد رحلة دامت أكثر من خمسة عشر عامًا مع المسرح أن يمتلك حقًّا كل أدوات الكاتب المسرحي المُجيد .. والأصيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤