الفصل الثاني عشر

قال الراوي: كان الملك واقفًا بجسده أمام النافذة المطلة على الحديقة، ولكن روحه كانت في تلك الحديقة ذاتها جالسةً على ذلك المقعد الرخامي — الشاهد العدل على تلك الحوادث والأحاديث — تنتظر عودة الحكيم الشيخ، وتتأمل فيما سمعته منه قبل تلبيته دعوة الملك، الأمر يتعلق بمصلحة المملكة وبك أنت، إنك ولي عهد ولست ابن الملك وحسب، أبوة الملك وأبوة المجتمع، وأبوة المجتمع فوق أبوة الملك، سر رهيب يجب أنْ أكتمه، وأنْ أتناساه إذا لزم الأمر، ما هذه الألغاز؟! ألا يكفينا ما أصابنا من استيلاء شدَّاد — ذلك الملك الشاب الجبار — على بعض مدن الحدود، وفرضه الجزية يدفعها الملك صاغرًا؟ هل انقلب هذا الأستاذ على ملك أحبه واحترمه واختاره مربيًا لابنه وولي عهده؟! هل أصبح من اعتقدنا فيه الوفاء ناكرًا للجميل، بتآمر على الملك مع الموتورين المتألبين المفسدين ويخون عهده؟ مسكين أنت يا أبي، وفيما كان ولي العهد غارقًا في هذه التأملات شعَر بيدٍ تُرَبِّتُ على كتفه، فإذا الشيخ يعود، وأمارات الاهتمام على وجهه.

جلس الشيخ في مقعده الأول، وقد أدرك من استقبال ولي العهد خفايا تأملاته، فابتسم، وبادره بقوله: علك أسأت بي الظن، وكان احمرار وجه الشاب في صمته جوابًا.

ح : أنا لا أعتب عليك سوء ظنك بي، ولكن ثق أنني كنت — ولا أزال — الوفي الأمين، ولولا خطورة الحال وأهمية الوضع لما أجزت لنفسي أن أستمر في الحديث، ملحًّا في أن أحصل منك على ذلك الوعد، وأنا الواثق بشرفك لطيب أُرُومَتك ومروءتك.
و : سأعِدك ولكن بعد أنْ تعلِمني عن سبب استدعاء جلالة الملك لك في هذا الوقت، وهو يعلم أنني معك، فهل كان الأمر يتعلق بي وليًّا للعهد أم ابنًا للملك؟
ح : لم يكن الأمر يتعلق بك يا بني، ويسرُّني أنك فرَّقت في سؤالك هذا بين ابن الملك وبين ولي العهد، فقد بدأنا نسير معًا إذن في طريق التفاهم والتفكير.
و : إنك قد هززت كياني كله، وأوقعتني في صراع نفسي عنيف، وقد أقلقتني هذه المقابلة، يستعجلها جلالته، فهل وقع فيها ما يستدعي الكتمان حتى عن ولي العهد؟
ح : إن أحاديث الملوك الخاصَّة تستدعي الكتمان دائمًا، ولكني لن أكتمك بصفتك وليًّا للعهد ذلك الحديث لصلته بما ستكتمه، وكأني بك قد وعدت؟ فالحديث يتعلق بحلم مخيف، أراد جلالته تفسيرًا له، إنه رأى — فيما يرى النائم — أنه في أرض قفر، وأنَّ أسدًا رهيبًا هجم عليه يحاول افتراسه، ولكن يدينِ بشريتين امتدتا في الخلاء ولوت إحداهما عنق الأسد، وردَّت الأخرى الملك إلى الوراء، فوقع في حفرة عميقة، وكان سقوطه هذا سببًا لإيقاظه من نومه مشدوهًا خائفًا، يحمد الله على إنقاذه من الأسد، ولكنه لا يذكر أنه أُنقذ من الحفرة.
و : وبمَ فسرت ذلك الحلم؟
ح : التفسير السطحي بسيط، فقد قلت له: إنه سيتعرض لتهلكة تنقذه منها يد تحبه وتُخلص له، ولكن هذا الإنقاذ ذاته سيُلقيه في نكبة أخف وطأة عليه ولا تفقده حياته.
و : والتفسير العميق؟
ح : إنه يتصل بما ستعِدني بكتمانه، فروح جلالة الملك كانت حساسة جدًّا في رؤياها، وكأنها قد تنبأت عن المستقبل.

هنا اشتد اضطراب ولي العهد، واهتزت أعصابه، ووجد في قوة الصراع في نفسه حافزًا لاكتشاف ذلك السر، لا سيما وهو غير مقيَّد بشرط قبول أيه فكرة يحتويها، فوقف ورفع يده؛ ليؤدي قسم الوعد على ما لقنه أستاذه الشيخ الحكيم وقال:

و : إنني أقسم بالله وبشرفي وبما عاهدت عليه الأمة من إخلاص وتضحية في سبيل مصلحة المملكة، أنْ أكتم ما سيطلعني عليه أستاذي عن كل إنسان، وأن أتحمله مهما آذاني ولا أحقد على أحد، والله على ما أقول شهيد.
ح : بورك فيك يا بني، فقد أنقذت المملكة والملك وأنقذت نفسك، إنك مدعو لإنقاذ العرش، فإن العرش في خطر.

وكان الأستاذ الحكيم بعد أن استمع إلى القسم واقفًا يردد هذه العبارات وعيناه تذرفان الدموع، وقد قابلتهما عينَا ولي العهد في هذا الموقف الرهيب بدموع حارَّة، التقت مع دموع الشيخ على رصيف الحديقة المرمري، فانبثق من امتزاج دموع الشيخوخة المتألمة بدموع الشباب المتوثب نور تلألأ في الأجواء ورسم العبارة التالية: ما أجمل هذا الالتقاء! وما أروع هذا الامتزاج في سبيل الإنقاذ!

وما هدأت نفس الشيخ نوعًا، حتى أخذ يواصل حديثه بصوت متهدج، فأنشأ يقول:

ح : تذكر يا بني كيف استذلَّنا شدَّاد، وكيف يتحكم بالمملكة، إنه أصبح الحاكم وراء الستر والحجب، بعد أن استولى على قسم كبير من أراضي المملكة ومدنها، وتعْلم — كما يعلم الواعون من الرعية ورجال الحلِّ والعَقد — أنَّ السبب فيما وصلنا إليه من استسلام وخنوع، إنما هو تفكك في أوصال المجتمع، بدأ منذ أنْ زيَّنَت حاشية السوء لجلالة الملك سياسة جديدة؛ هي سياسة فرِّق تسُد، إنها سياسة الطغاة، وهي هي سياسة الطامعين في الاستيلاء على مقدرات غيرهم من الأمم، ويؤسفني أنْ أقول: إنَّ صاحب الجلالة والدك قد التقى في هذه السياسة الخرقاء مع شدَّاد خصمه، وأصبحا يتعاونان على إذلال هذا الشعب المسكين بتفريق كلمته، وقد كانت واحدة في أوائل ملكه، وفي أيام أجدادك العظماء، ولا فرق عندي أن يكون ذلك مقصودًا أو غير مقصود، فالشعب ينهار، ولعل شدَّادًا هو الموحي بتلك السياسة بطريقة غير مباشرة، وما حاجته للإيحاء المباشر وفي خدمته مَن حول أبيك من جواسيس وأعوان، يخونون بلادهم، ويخدعون الملك ليترفوا وليُثْرُوا على حساب شعب مسكين، استمر طويلًا يصفِّق لهم ويهلل، وهو لا يدري أنه يرقص على القبر الذي سيُدفن فيه، وأنه يصفِّق لمن سيتولون أمر دفنه، ولكن الشعب مهما صبر فلصبره حدٌّ، ومهما تحمل فإنما يحتمل لأجل، ولا سيما متى استشرى الفساد وتفاقم أمره، وأُبعد المخلصون من رجال الدولة والقديرون، لفائدة الأنصار والمحاسيب من جهلة وأغبياء، إلَّا في شئون الشغب والتدليس، عندئذ تكثر الرشوة، وينتشر البغي والجور، وتتفشى الأمراض الاجتماعية على ما ترانا عليه اليوم، فإذا قُدِّر للأمة البقاء أوقظ روح الخير في رجالها الأحرار، فيقومون للعمل بالتؤدة والحلم والموعظة الحسنة أولًا، وإلَّا فالثورة تصبح واجبة، وكل ثورة فكرية لا تبلغ الهدف تؤدي إلى ثورة الدم حكمًا حسب طبيعة الحياة، ونحن اليوم — وقد استنفد الأحرار كل ما لديهم من وسائل إعادة الأمور إلى نصابها — في دور ثورة الدم وهي تتهيأ، وأصبحت وشيكة الاشتعال، وأخشى عليك وعلى أبيك وعلى العرش ذاته من لهيب نارها، لذلك أردت مصارحتك لتكون أنت ولي العهد قائد هذه الثورة، فبذلك تحفظ على جلالة أبيك حياته، وعليك عرشك، وعلى الأمة كيانها، وتبعد عنا سيطرة شدَّاد وتحكمه.
و : أشيخ هرم يتكلم عن الثورة وإليها يدعو، وعلى أبي تريدني أن أثور؟
ح : ليست الشيخوخة بالعمر، وليس الهرم هرم الجسم، وإنما الشيخوخة في خبل العقل، وما الهرم إلا في خمود نار الثورة في النفوس، لا حياة لأمة لا تستمر نار الثورة مشتعلة في نفوس رجالها، ولا خير في شعب لا يعرف كيف يثور، ولا أمل في ولي عهد يستسلم للدعة، ويطمئن للترف، ويتلهى بالوهم وخرافاته، وبالتقاليد البالية وآفاتها، فلا تجد نار الثورة إلى قلبه سبيلًا.
و : مهلًا أيها الشيخ الوقور، والله إنَّ نار الثورة تحرق كياني كله، إنني أرى ما يراه الناس من فساد وإفساد، ومن استغلال واستهتار، ومن بغي وجور، ولكنني ما كنت أدري أنه يجوز لابن أنْ يثور على أبيه، وما كنت أقدِّر أن نار الثورة ألهبت قلوب الشيوخ بشعلة الشباب.
ح : روح الثورة بركة ويمن، إنها تحفظ في الأمة روح المقاومة، فلا تستكين ولا تذل، أمَّا الشباب فيُخدع من يعتقد أنه سن الشباب، إنَّ ما يدعونه الشباب إنما هو الدور الذي تتكون فيه روح الشباب في الإنسان لتستمر مدى الحياة، ولا تخبو نار شباب حَسُنَ تكوينه، وأما ثورتك على أبيك ففيها رحمة به وبر، بعد أنْ تعذر إقناعه بالعدول عن الاستهتار بشئون الرعية وعن اتباع أقوال المغرورين من الخونة المتآمرين لمصلحة المسيطر الطامع اللئيم، وإليك الآن تفسير حلم أبيك؛ فالثورة قائمة ولا بُدَّ، وهذا ما رمز إليه الأسد، وإنك قائدها بلا ريب، ويداك وقد ظهرتا في الخلاء هما اللتان تحفظان على والدك حياته، فتكتفي الأمة بخلعه، وهذه هي الحفرة، وتكون أنت الملك، وهذا ما يعنيه ردُّك لأبيك باليد الأخرى، فكن برًّا بأبيك متى ظفرت، فتصبح البارَّ بوطنه وبأبيه.
و : ومن يكونون هؤلاء الذين يدبرون الثورة؟ وكيف ألتقي بهم؟
ح : غدًا أجمعك بهم، وفي مثل هذا الموعد، فإلى اللقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤