شهر العسل

تهلَّل وجهاهما بالرضا وهما يدخلان. وقفا تحت النجفة الصغيرة يُلقيان نظرة شاملة على الحجرة، وقاسا بعينٍ دقيقة المسافةَ بين الكنبة الرئيسية والصوان الجامع للراديو والتلفزيون. ونظرا إلى الفريجدير القائم في الركن بشيءٍ من الفتور؛ إذ كانا يتمنَّيان لو اتَّسعَت له حجرةُ السفر. قال باسمًا وهو يختال في بذلته الجديدة: مباركةٌ عليكِ الشقة الجديدة يا حبيبتي.

– مباركةٌ عليكَ يا حبيبي.

– يتجلَّى ذوقُ والدتك في تنسيقها البديع.

– ولا تنسَ دورَ ذوقي في ذلك.

فلثم خدَّها وهو يضحك، ثم قال: شقَّة لُقْطَة!

– حقيقة.

– تُرى أين أمُّ عبد الله؟

– لعلها في المطبخ أو الحمام.

– ترينَها يا عزيزتي أهلًا للثقة؟

– كل الثقة، لم تُفارق ماما مذْ كانت في العاشرة.

– ستُقيم في شقَّتنا أكثرَ منَّا، وستُدير جميع شئونها، أمَّا نحن فلن نهنأَ بها إلا حين الراحة والنوم.

– نَدُرَ بين أمثالنا من الأزواج العاملين مَن ظفر بمدبِّرةِ بيت مثلها.

– أي بهجة لشقةٍ جميلة كهذه بدون مدبرة؟

– هذه هي الحقيقة، هي في ذات الوقت مشكلة، ولكن …

وجعلَت تتشمَّم الهواءَ في قلقٍ وتتساءل: ألا تَشمُّ رائحةً غريبة؟

– رائحة غريبة؟

وراح يتشمَّم بدوره ثم قال: أَجَلْ .. ثمَّة رائحة غريبة.

– رائحة طبيخ.

وقاما بجولةِ تفتيشٍ في الأركان؛ تحت المقاعد، تحت الكنبة، وصاح الشابُّ باستنكارٍ: توجد حَلَّة تحت الكنبة.

– حلَّة؟!

أخرَجها الشابُّ بوجهٍ متقزِّز وهو يُتمتم: حلَّة طبيخ في حجرة الجلوس!

– وهو طبيخ حامض، ما معنى ذلك؟!

– شيءٌ لا يتصوَّره العقل.

وصفَّق بيدَيه بشدةٍ ونرفزة، وصاحت الفتاة: أم عبد الله!

ترامى إليهما وقْعُ أقدامٍ ثقيلة. دخل رجلٌ قصير بدين، مصبوبٌ في كتلة قوية كأنه برميل. غليظ الرأس والوجهِ والعنق كأنه مصارعٌ محترف، ومن عينيه الغائرتين تنبعث نظرةٌ جامدة بليدة. وقف في بنطلونه الترابي وقميصه الأسود وحذائه المطاط، ينظر إليهما ببلادةٍ وعدم اكتراث. صرخَت في عينَيهما نظرةٌ ذاهلة غير مُصدقة. تبادَلا نظرة سريعة، ثم عادا للحملقة في وجهه البليد. وسألَته الفتاة: مَن أنت؟

لم يُجب. كأنه لم يسمع. سأله الشابُّ بصوتٍ رنَّان: من أنت؟

فنظر إلى الشابِّ مليًّا ثم تمتمَ بهدوءٍ بارد: أنا ابنُ أم عبد الله.

– ومَن أَذِن لك بدخول الشقة؟

– استدعَتْني لأحُلَّ محلَّها في أثناء غيابها.

– أليست في الداخل؟

– سافرَتْ إلى طنطا لحضور مولد السيد.

– متى سافرَت؟

– صباحَ اليوم.

فقالت الفتاة باستياء: لكنها لم تستأذن منا، بل ولم تُخطِرنا …

فجعل ينظر ببلادةٍ وعدم اكتراث حتى سأله الشاب: ومتى ترجع؟

– لا أدري.

– وماذا كنتَ تفعل؟

– لا شيء …

– ماذا تعرفُ من شئون المنزل؟

– لا شيء.

– ألكَ حِرْفةٌ تتعيَّش منها؟

– كلا.

– وكيف تعيش؟

– آكُل وأشرب وأنام.

فنفخ الشابُّ في يأسٍ، ثم سأله: ولم استدعَتْك أمُّك إذا كنتَ لا تُحسن شيئًا؟

– لأحلَّ محلها في أثناء غيابها.

– ولكنها تقوم هنا بكل شيء.

– قالت لي ابقَ هنا حتى أرجع.

لوى الشابُّ شفتَيه امتعاضًا. أشار بحدَّة إلى الحَلَّة، وسأله: ألم ترَ هذه الحلة من قبل؟

فنظر الرجلُ إليها في بلاهة وقال: لا أتذكَّر.

– ألم تأكُل من الكرنب؟

– أكَلْت.

– في هذه الحجرة، أليس كذلك؟

– لا أتذكَّر!

– ثم دفعتَ بها تحت الكنبة؟

فقال في ابتهاجٍ طارئ: بحَثْنا عنها طويلًا …

فنفخ الشابُّ في غيظ وقال: لا جَدْوَى من الكلام، على أي حال تفضل غيرَ مطرود!

فاستدار ليرجع من حيث أتى؛ ولكن الشاب استوقفه ثم أشار إلى ردْهَة مُفضِيةٍ إلى الباب الخارجي، فمضى الرجلُ نحوها بشكل آلي، غاب قليلًا ثم رجع وهو يقول: ذاك الباب يؤدي إلى الخارج!

– أعرف ذلك.

– أتطردُني؟

– لا حاجة بنا إليك؟

– قالت لي ابقَ حتى أرجع.

– ولكني صاحبُ الشقة!

– أنا لا أعرف إلا أمي!

فصاحت الفتاة: أتريد أن تبقى بالقوة؟

فقال بثقة: سأبقى حتى ترجع.

– ولكننا لا نريدك.

– سأبقى حتى ترجع.

فذُهلت الفتاة ونظرت صَوْبَ زوجها. شعر الفتى بأنه مُطالَب بأداء واجبٍ فوق احتماله. وبدا أمام الرجل كغصن طريٍّ حِيالَ جذع شجرة بلح. واحتدم غضبًا فصاح بالرجل: اذهبْ في الحال.

– قالت لي ابقَ حتى أرجع!

– اغرُبْ عن وجهي بلا مناقشة.

– لن أذهب، اذهبْ أنت إذا شئت!

أعماه الغضبُ فانقضَّ على الرجل ودفَعه بكل قوته. لم يتأثر الرجل أقلَّ تأثر ودفَعه بكتفه دفعة بسيطة فانقذف الشابُّ إلى أقصى الحجرة متعثرًا في طريقه بخُوان، فسقطا سويًّا. نهض بسرعة لاعنًا؛ ولكنه كفَّ عن تجرِبة قوته. واندفعت الفتاةُ نحو النافذة المطلَّة على الطريق ففتحتها على مِصراعَيها، وراحت تصوِّت بأعلى صوتها مستغيثة. وإذا بأصوات ترتفع لاعنةً في غضب، وإذا بالطوب ينهالُ على النافذة ويمرق بعضُه إلى داخل الحجرة حتى تنحَّت الفتاة والفتى في ركنٍ آمن وهما مذهولان.

تساءلت وهي ترتجف: ماذا جرى للناس؟

– يقذفوننا بالطوب بدلًا من إغاثتنا!

والرجل الغليظ لم يسكت. تقدَّم خطواتٍ فتناول الخوان المقلوب وجرى نحو النافذة فرمى به منها بأقصى قوته، ثم أغلق النافذة! صاحَ الشابُّ: ماذا فعلت؟

فعاد إلى موقفه وهو يقول: طيلة الوقت تبادَلْنا الضرب.

– الضرب؟

– وانتصرتُ عليهم دائمًا!

فسألته الفتاةُ بحنق: كيف جعلتَ مِن شقتي ميدانَ قتال؟

– الحق عليهم، كلما ظهرتُ في نافذةٍ بادَروني بمعاكساتهم، اضطُرِرت إلى قذفهم بالأطباق فقذَفوني بالطوب …

– لقد جعلتَ من أهل الطريق أعداءً لنا!

– لا يهمك.

– أَلا ترى أنك تتصرَّف في الشقة كما لو كانت مِلكَك الخاص؟

– الحق عليهم كما قلتُ لك.

– إنك تُبدِّد الأشياء الثمينة وتُعرِّضنا للخراب.

– أهذا جزاء مَن يُدافع عن شقتك؟

– يا سيدي تُشْكَر، ما نريد منك إلا أن تذهب بسلامٍ!

هزَّ منكبيه العريضَين ثم ذهب إلى الردهة المفضية إلى الباب الخارجي. لكنه لم يلبث أن عاد فرفع الحَلَّة في هدوءٍ ومضى بها إلى الداخل. همست الفتاة: النَّجْدة!

انتقل الشابُّ إلى التليفون فرفع السماعة، جعل ينقر عليه. ثم أعادها غاضبًا وهو يقول: حَرَارَتُه مفقودة!

– رَبَّاه!

– لعله عبث به، ومَن يدري؛ فلعله عبث بالراديو والتلفزيون أيضًا …

– كارثة حلَّت بشقتنا الجديدة، ولكن لا بدَّ من عمل شيء.

– فلنذهب سويًّا إلى نقطة الشرطة.

– قد ينتقم من الشقة في غيابنا!

– لا بدَّ مما ليس منه بُد.

مضَيا معًا نحو الباب الخارجي ولكنهما رجَعا وهو يقول: أغلقَ الباب بالمفتاح!

ومضى يُفتش عن المفتاح حيث وضَعه على ترابيزة صغيرة فلم يجده .. تمتم: ليس الوحش غبيًّا كما تصوَّرت.

– لقد سجَنَنا!

– حتَّامَ نمضي في السجن تحت رحمته؟

– ذلك لا يمكن أن يقعَ ولا في الخيال!

وإذا بدفقة مروِّعة من أصوات خشنة مختلفة المصادر تنقذف من ناحية المطبخ؛ وَقْع أقدام، ارتطامٌ بجدران، سقوطُ أوعية، تحطيمُ آنية، صيحاتُ وعيد. وقبل أن يُفيق الزوجان من الصدمة الجديدة اندفع الرجل الغليظ مشتبكًا مع آخرَ في مثلِ حجمه إلى الحجرة وهما يتصارعان. تصارعا بعنفٍ ووحشية، وكلٌّ منهما يحاول قهرَ الآخر؛ فمرةً هذا تحتَ الآخر، ومرة العكس. حتى تمكن الرجل الغليظ من غرس الآخَر تحته دون أن يدَع له فرصةً للإفلات أو الحركة، ثم هتف بصوتٍ جَذْلان: فيفا فلا!

ونهض فنهض الآخَر. تصافح الاثنان كما يتصافح متباريان عقبَ مباراة عادلة. وانتبها إلى الزوجين فجعلا ينظران إليهما ببلادةٍ وبرود. وحلَّ صمتٌ ثقيل كالاختناق. ثم خرج الشاب من ذهوله فأشار إلى الرجل الجديد وسأل ابن المدبرة: مَن هذا؟

– صديق!

– أكان موجودًا معك من قبل؟

– نعم.

– هل علمَت أمُّك بوجوده؟

– كلا.

– وكيف تدعوه إلى شقة آخرين؟

– دعوتُه لأني لا أحبُّ الوحدة، ولِنُواصل تدريبنا …

– أأنت رجلٌ عاقل؟

– نحن نتصارع في الموالد، ولا غنى لنا عن التدريب المستمر.

– لعلك توهَّمتَ أنك صاحبُ الشقة!

– أنا لا أحب الإقامةَ في البيوت!

فقالت الفتاة: إذن غادِرْ بيتنا مصحوبًا بالسلامة!

– قالت لي ابقَ حتى أرجع …

فقال الشاب: نحن على استعدادٍ للذَّهاب، فلم أغلقتَ الباب بالمفتاح؟

– حتى ترجع أمي من المولد.

– ولكننا نريد أن نذهب.

– إلى أين؟

– يَا له من سؤالٍ! ألسنا أحرارًا؟!

– مَن أدراني أنكما صاحبا الشقة الحقيقيان؟

– أيُداخلك شكٌّ في ذلك؟

– يجب أن تبقَيا معنا حتى ترجع أمي من مولد السيد.

فعضَّ الشابُّ على أسنانه من الغيظ وقال: على الأقل يجب أن تلتزم بالنظام!

فأشار الرجلُ الغليظ إلى زميله قائلًا: أراد أن يُجرب قوته معي، وقد رأيتَ النتيجة بنفسك!

– حسْبُكما ما كان من ضجيجٍ وتخريب.

– لن يأتيَكَ من ناحيتنا بعد ذلك إلا الطرب!

– أريد الهدوء الشامل الكامل …

– ألا تحبُّ الغناء والرقص؟

– الغناء والرقص!

– معنا في المطبخ راقصة وبعض أفراد الجوقة!

فصاح الزوجان معًا: ماذا تقول؟!

– إنهم من الزملاء الموثوقِ بهم …

– لقد جعلتَ من الشقة ساحةَ مولد!

– لمَ تُعقِّدان الأمور بلا سبب؟

– كل ذلك وتقول بلا سبب؟!

– ما كنتُ أتصور وجود ناس يكرهون الناس والطرب بهذه القوة!

ورفع منكبَيه العريضين استهانةً، ثم تأبَّط ذراع صاحبه، ومضى به إلى الداخل. وجعلا يتبادلان النظرَ في غضبٍ ويأسٍ حتى ترامى إليهما دقُّ دُفٍّ وعزفُ مزمار وإيقاعُ رقص، وما لبثت الحناجر الخشنةُ أن غنَّت بغرابة:

يا زرمباحه يا زرمباحه
خواتمك ستَّة وقدَّاحه

هتفت الفتاة: سأُجنُّ إنْ لم أكن جُننت بالفعل.

ومضى الشابُّ نحو النافذة بتصميم، فقالت له محذرة: الطوب!

– لعلَّهم ذهبوا.

ثم وهو يُمسك بمقبض الضَّلْفة: علينا أن نُوصِّلَ صوتنا إلى الناس!

ولكن ما كادت الضلفة تتحرَّك حتى انهال الطوبُ عليهما كالرصاص. أغلقَها مرةً أخرى وهو يسبُّ ويلعن، وتساءل فيما يُشبه التنهُّد: غُلِبنا على أمرنا؟

فتمتمت: إنه كابوسٌ قاتل …

– ولكن لا بدَّ أن يوجد مَخْرَج.

– أجل، يجب أن يوجد مخرج.

– ولكن ما هو؟

وتفكَّر قليلًا ثم تساءل: لنسأل أنفسنا: ماذا نريد؟

– أظننا جئنا ونحن نحلم بقضاءِ شهر عسل سعيد!

– ولكنْ عاقنا عن ذلك وجودُ أولئك الشياطين.

– فعلينا أن نتخلَّص منهم.

– طَيِّب، فلنُفكِّر كيف يمكن التخلص منهم؟

– الباب مغلق، التليفون مُعطَّل، النافذة يَنْهَال عليها الطوب.

– إذن فلا مفرَّ من الاعتماد على أنفسنا!

– ولكننا دونهم في القوة بما لا يُقاس!

– ولكن هنالك الحيلة.

– أجل .. الحيلة.

– هل يسَعُنا حبسُهم في المطبخ؟

– يلزمنا معاينةُ المكان هنالك.

– سأذهب لصُنع فنجال قهوة.

ودون ترددٍ غادر الحجرة، ثم رجع بالقهوة، فسألَته بلهفةٍ: ماذا وجدت؟

فقال بضيقٍ: باب المطبخ مفتوح، والزَّمَّار جالس على الأرض مُسند الظهر إليه؛ ولكن لم يمُت الأملُ.

– حقًّا؟

– اختلستُ مفتاح المطبخ من فوق الرفِّ.

– ألم تعثر على مفتاح الشقة؟

– ليس الرجل بالغباء الذي نتصوره، ولكنهم …

– ولكنهم؟

– يجرعون النبيذ بإفراط!

– ننتظر حتى يفقدوا الوعي؟

– أجل.

– لكنه سلاحٌ ذو حَدَّين!

– أجل، قد يزدادون جنونًا، ولكن إذا غلبهم النوم فسوف يتساوَون بالأموات.

– علينا أن ننتظر الليل.

– وليس الليل ببعيدٍ!

تنهدَت في ضيقٍ شديدٍ متسائلة: متى ترجع أم عبد الله؟

– ذاك يتوقف على انتهاء المولد.

– ألديك فكرةٌ عن تاريخ الليلة الكبيرة؟

– لا فكرة عندي عن المولد.

راحت الفتاة تَذْرع الحجرة مَحْنيَّة الرأس تحت همٍّ ثقيل. حانت منها التفاتةٌ إلى ما وراء الفريجدير فشدَّ بصرَها شيءٌ ما. اقتربت منه ممعنة النظر، ثم قالت باستغرابٍ: أرفف الفريجدير مخلوعة ومطروحة أرضًا وراءه!

وانتقلَت إلى باب الفريجدير فجذبته؛ وإذا بكتلة بشرية تندلق من داخله منكفئةً على وجهها فوق الأرض.

صرخَت الفتاة بجنون وهي تترنَّح. وثب الشاب إليها فتلقاها بين ذراعيه. تفحَّص الكتلةَ المطروحة بذهول، انحنى فوقها حتى رأى الوجه، ثم هتف: أم عبد الله!

أجلس الفتاةَ على مقعدٍ ورجع يفحص المرأة ويجسها، ثم تمتم بذهول: جثة هامدة!

واقتحم الحجرةَ الرجل الغليظ وجوقته وهو يقول بنبرة انتقاد: ألا تكفَّان عن الضوضاء؟

وتابع عينَيهما ببصره حتى استقر على الجثة المنكفئة فتساءل: ما هذا؟

ولما لم يسمع جوابًا صاح بغضبٍ مخاطبًا الشاب: أَجِبْ!

فقال الشاب بغضبٍ كظيمٍ: إنها جثة …

– جثة؟

– نعم.

– أهي شقة أم مقبرة؟

– كانت شقةً فأصبحَت مقبرة …

– أين وجدتَها؟

– في الفريجدير.

فقال المصارعُ الآخر ببلاهة: إنهما يتغذَّيان على لحوم البشر.

فقال الشابُّ بحدة: لقد قُتِلت ثم دُفِنت في الفريجدير.

فسأله الرجل الغليظ وعيناه تلتمعان بالسُّكْر: وماذا حمَلَك على قتلها؟

– لقد قُتِلَت من قبلِ وصولنا إلى شقتنا.

– فمَن الذي قتَلها في رأيك؟

– دعني أسألك أنت؛ فقد كنتَ قابعًا هنا من قبل أن نحضر.

فالتفت الرجلُ إلى أفراد جوقته وسألهم: ما رأيكم في مكابرة هذا الرجل؟

فقال الزمار: يَقتلُ القتيلَ ويسألُ عن قاتله!

وقال الطبَّالُ: إنه مجنون، لا بدَّ أن يكون مجنونًا مَن يرتكب جريمةً كهذه.

وقالت الراقصة: ودفنها في الفريجدير على أمَل أن تتحول إلى ديك رومي!

فقال الشاب مخاطبًا الرجلَ الغليظ: انظرْ إلى وجه الجثة.

– لا تهمُّني معرفته.

– إنها جثةُ أمك!

فضجَّتِ الجوقةُ بالضحك، فصاح الشابُّ: إنها جثة أم عبد الله.

فقال الرجل الغليظ بصوت ملتوٍ: أمي ذهبَت إلى مولد السيد!

فأشار الشاب إلى الجثة وسأله في هياج: أليست هذه بأمك؟

قالت الراقصة: كانت أمه يا مُجرم!

وقال الزمار: أمه ذهبَت إلى مولد السيد.

وقال الطبال: إنَّه يدَّعي الجنون لِيُفلت من العقاب.

وصاح الرجل الغليظ: كيف تنبش القبر لتعبث بالجثث؟!

فهتف الشاب: لن تُفلتوا من يد العدالة.

فقال الزمار: تقتل مُدبرة بيتك، يا لكَ من وغدٍ خسيس!

وقالت الراقصة: قتلَها كيلا يدفع لها أجرها.

وقال له الرجل الغليظ: الويل لك أيها المجرم.

فصاح الشاب متحديًا: أهذا ظنُّكم حقًّا؟ إذن فاستدعوا الشرطة!

فضجُّوا بالضحك، وقال الرجل الغليظ: نحن الشرطة ونحن القضاة.

فقالت الراقصة: فلنُقدمه إلى المحاكمة.

فقال الرجل الغليظ: بعد أن نفرغ مما كنا فيه.

وتعالى هتافُهم في حبورٍ، ثم غادروا الحجرة وراء الرجل.

أغمضَ الشابُّ عينيه إعياءً. تجنَّب النظرَ نحو عروسه المنطرحة فوق المقعد. رفع الجثة من الأرض فأرقدها فوق الكنبة وغطى وجهَها بخمارٍ كان معقودًا حول رقبتها. انتقل إلى فتاته متمتمًا: كيف حالك؟

فقال بصوت ضعيف: سيَقْضون علينا قبل أن نقضيَ عليهم.

– من العسير أن يتخيلَ إنسانٌ ماذا تكون خطوتهم التالية، فهم لا يخضعون لمنطق.

– علينا أن نجد حلًّا سريعًا.

– وأن نتوقع ما يخطر بالبال وما لا يخطر.

– لن يتركونا أحياء.

فقال محتدمًا بالغضب: إذا لم يكن من الموت بُدٌّ!

فهمسَت: هذا جميل؛ ولكننا نُفضل ألَّا نموت.

– ولا أحد يريد أن يموت، من رأيي أن تستريحي قليلًا في حجرة النوم.

– وأنتَ؟

– لا أكفُّ عن التفكير، وأُردد في نفسي بلا انقطاع: إذا لم يكن من الموت بدٌّ!

– هل يُحاكمونك حقًّا؟

– لن يتورَّعوا عن شيءٍ.

– إنه الكابوس.

– وربما قتَلوني كما قتلوا المرأة الطيبة.

– تُرى أهي أمه حقًّا؟

– لن يُغير من الأمر شيئًا.

فقالت بإصرار: يجب ألا نموت كالأغنام.

– حتى الموت، يجب أن ندافع عن أنفسنا حتى الموت، وأن ندَّخر لهم ضربةً مذهلة إن أمكن.

– أريد أن أفعل شيئًا ذا بال أكثر من مجرد انتظار نتيجة معركة.

– فكِّرِي، فكِّرِي لحسابك، نحن في موقفٍ لا يجوز لأحدنا فيه أن يدَّعي وصايةً على آخر.

– أعترف لك بأنني أتغلَّب على الخوف بقوة لم تكن متوقَّعة.

– الموقف أكبرُ من الخوف.

– هذا حق.

– والحرص على الحياة خَليقٌ بأن يُضيع الحياة.

– قولٌ جميل.

– يجب أن تكون لنا القوة لتنفيذه؛ هذه هي مشكلة الأقوال الجميلة.

– ألديك خُطة جديدة؟

– لا أكفُّ عن التفكير.

– وأنا أيضًا.

– المهم قوة العزيمة إذا وُفِّقنا إلى خطة.

– مهما يكن من عواقبها …

وهي تتنهد: كنتُ أحلم بشهر عسل بديع.

– انبِذي الأحلام التي تُضعف الهمم.

– طيب.

– استريحي قليلًا في حجرة النوم.

– أخشى أن يُلاحظوا اختفائي إذا قدموا.

– إنهم سُكارى، وهم يقصدونني أولًا.

قامت. قَبَّلَتْه. مَضتْ إلى حجرة النوم.

ومضت فترة قصيرة ثم دخل الرجل وجوقته. لمعت أعينهم بوهج الخمر وشَعَّتْ أساريرهم شرًّا.

وقفوا حيال الشاب على هيئة نصف دائرة مركزها الرجل الغليظ. أشار الرجل إلى الجثة وسأل: مَن قتل هذه المرأة؟

فأجابت الجوقة في نَفَسٍ واحدٍ: أنت يا معلم!

ضحك وضحكوا. ثم سأل: بمَ تحكمون عليَّ؟

فأجابوا: بالسلامة.

فضحك وضحكوا. ثم سأل: مَن الذي انتهك حُرْمَة الجثة؟

فأشاروا إلى الشاب وقالوا: هذا المجرم.

– بمَ تحكمون عليه؟

– بالإعدام.

فرمى الشابَّ بنظرة وسأله: هل لديك ما تُدافع به عن نفسك؟

فلم يجب. نقَّل بصرَه بين الجمع بسرعةٍ وتحفُّز وانتباه. وتوثبت الجوقة للانقضاض لدى أول إشارة.

عند ذاك دوَّت صرخة فظيعة في حجرة النوم؛ اندفعت الفتاة إلى الحجرة وهي تصيح: رجلٌ في صوان الملابس!

وهتف كثيرون في دهشةٍ: رجل!

وظهر الرجل في مدخل الحجرة. عملاق، عملاقٌ ينطق وجهُه البرُنزي بالقسوة والتحدي والاستهتار. تبادلوا نظراتٍ ذاهلة وغاضبة، وتأهَّبوا للعواقب … لم يبدُ في وجه القادم الجديد أيُّ ارتباك ولا خوف. بل تساءل بصوتٍ أَجَش: مَن أنتم؟ وماذا جاء بكم إلى هنا؟

فسأله الشاب بدوره: مَن أنت؟ وماذا جاء بك إلى هنا؟

أجاب العملاقُ ببساطة: إني في بيتي!

– بيتك! .. لكنه بيتي، وتحت يدي ما يُثبت ذلك.

– لا أحب الهَذر، إنه بيتي وكفى.

فقال الرجل الغليظ بحقدٍ: دجَّال، أنت لصُّ مَنازلَ حقير، سأتذكَّر فورًا متى رأيتُك أولَ مرة …

– صَهْ أيها البهلوان وإلا حَطَّمت أضلعك!

– أنت تقول ذلك يا لصَّ المنازل؟

– مُصارع موالد زائف، المصارعة الحقيقية شيءٌ آخر، إني أعرفكم أيها المهرجون.

فقال له الشاب: هذا بيتي، وأنت لصٌّ كالآخَرين.

– أنت تَهْذي.

– سيحكُم بيننا القانون.

– سأقذف بك من النافذة، هذا هو القانون الذي أعترف به.

فسألته الفتاة: إذا كنتَ صاحبَ البيت كما تزعم، فلمَ أخفيت نفسك في صوان الملابس؟

– أنا حرٌّ في بيتي، أرقد حيث يطيب لي.

– لا أحد يرقد في صوان الملابس.

– إنه خلوتي المفضَّلة، ولستُ مسئولًا أمام أحد.

فقال الرجل الغليظ: أنت لصٌّ، لصُّ منازل حقير، إني أعرفك.

– اخرسْ أيها المهرِّج الحقير.

فقال الشاب: لندْعُ الشرطة ولنترُكْ لها الفصلَ في الأمر.

فقال العملاق بوضوح: لا أحب الشرطة.

فقال الشاب غاضبًا: فأنت لصٌّ كما قال هذا القاتل.

– القاتل؟! هل قتَل أحدًا هذا المهرج؟

– ها هي جثةُ ضحيته!

فمدَّ العملاق بصرَه إلى الجثة وقال بدهشة: أي تقدُّم أحرزتَه يا مُهرج الموالد!

– هي أمه أيضًا!

– قاتل أمه! .. هذا شرف لا تستحقه أيها المهرج، من أين جاءك هذا الشرف؟

فقال الرجل الغليظ بحنق: يا لص المنازل، احذر إثارة الزلازل!

فقال العملاقُ ساخرًا: أهلًا بالزلازل، هي دواءٌ موصوف لصحتي!

في أثناء ذلك مضَت الفتاة تتسلل ناحيةَ المطبخ … خطوة فخطوة، وعين الفتى تلحظها بقلقٍ. وغطَّى على تحركاتها بتوجيه الخطاب إلى الجميع قائلًا: ما أحوجنا إلى تحكيم نزيه! فهذا رجل يتوهَّم أنه قاضٍ، وهو في الحقيقة قاتل، وذلك رجلٌ آخر يزعم أنه صاحب البيت، وتؤكدون أنه لصُّ منازل حقير، وأنا أقول إنني صاحب البيت، على حينِ يتَّهمني هؤلاء بأنني قاتل المرأة الطيبة. فما المَخْرج من هذه الفوضى؟ لا مفرَّ من أن نستدعيَ الشرطة!

فقال العملاق باستهانة: سيقذف بنا اقتراحُك إلى قعر بئر عميق.

– بل ليس أسهلَ من استدعاء الشرطة.

– ولكن المشاكل تبدأ بمجيئها؛ ستُحرر لنا محضرًا طويلًا عريضًا لا بداية له ولا نهاية، ثم تأمر بتحويلنا إلى النيابة، ويستمر التحقيقُ أيامًا وأسابيع: مَن القاتل؟ مَن اللص؟ مَن صاحب الشقة؟ … ثم تأمر بتحويلنا إلى المحكمة، ويتقاذَفُنا الاتهامُ والدفاع حتى نَتفق، ونؤجَّل من جلسة إلى أخرى، ولن يُنطق بالحكم حتى يكون أول إنسان قد هبط فوق سطح القمر، وفي أثناء ذلك تُغلَق الشقة وتُختم بالشمع الأحمر؛ فتصير نهبًا للحشرات والأشباح، لا تنسَ هذه السلسلة المعقَّدة التي لا نهاية لها.

– ولكنها حاسمةٌ وعادلة!

– أيسَرُ من ذلك أن تنقضَّ على خَصمِك فتُحطم جدران بطنه بلكمةٍ صادقة، فيعترف لك بحقِّك، ثم تتصافحا ويذهبَ كلاكما إلى حال سبيله.

وتقدَّمَت الراقصة خطوة وقالت: فيمَ تتناقشون والعُقَد محلولةٌ بنفسها لا تحتاج إلى حلَّال؟

فقال العملاق ساخرًا: لنستمع إلى الغازيَّة!

ولكنها قالت بهدوء دون تأثرٍ أو غضب: لا حاجة بنا إلى البحث عن القاتل؛ فقد حُوكِم وقُضي عليه بالإعدام!

فقال الزمار بحماس: وبإعدامه يبطل ادِّعاؤه مِلكيةَ الشقة.

وعادت الراقصة تُواصل حديثها قائلة: وتصبح الشقة ملكًا لنا جميعًا على قَدَم المساواة!

فابتسم العملاق لأول مرة؛ ولكنه قال بعجرفةٍ: لا أقبل المساواة!

فقال الرجل الغليظ بعجرفةٍ مماثلة: وأنا أرفضها!

فقال العملاق: ليكن نصيبُ كلٍّ بحسَب قوته.

فقال الرجل الغليظ: ليكُن!

فقالت الراقصة: الخير بين أيدينا أكثرُ من أن يُحصى!

أحاطت الجوقة بالرجل الغليظ تُحاول إقناعه. وتنَحَّت الراقصة بالعملاق جانبًا لتُلطِّف من صلابته. أمَّا الزوجة فقد رجعَت خُفيةً إلى موقف زوجها. وقفت لِصْقَه وهي تدسُّ شيئًا في جيبه. وراحا يُراقبان الحشد الذي يتآمر على قتلهما ونهَب بيتهما بغرابة. غير أن طارئًا سرى في الجو بخفةٍ كالهمس، رائحة ما، وشيء كالزفير أو الهسيس. وتفشَّى في دفقاتٍ كالفحيح مُفجِّرًا رائحةً مميزة كالدخان. وانتشرَت طقطقةٌ مجنونة بسرعة غير متوقَّعة، فاقتحمَت على المتآمرين خلوتهم. جذبَت منهم بعنفٍ أعينًا محملِقة نحو رَدْهة المطبخ. وما لبثت أن غابت في سحاباتٍ من دخان تسبح فيها عناقيدُ من الشرر، وتلاطمت صرخاتهم في غضبٍ: النار!

– حريقة في المطبخ!

– الشقة في خَطَر.

– كل شيء في خطر.

– فلنُطفِئها بأي ثمن.

ودَبَّتْ حركةٌ وحشية. ولكنها لم تكن إلا صدًى خفيفًا لحركة رعديةٍ أطبقَت على الطريق في الخارج. ارتفع الصياح. دقَّ جرس الباب بلا انقطاع. انهال دقٌّ عنيف على الباب الخارجي. وهُرِع المتآمرون إلى ردهة المطبخ؛ غير أن العملاق مال نحو الشاب فجأة وهو يصيح: لن أتركك حرًّا.

انقضَّ على الشاب. وإذا بالشاب يُفاجئه بضربة من سكِّينة استلَّها من جيبه فاستقرَّت في القلب، وتهاوى على أثرها العملاقُ دون أن ينبس. لم تَغِب الواقعة عن الرجل الغليظ، فوثب على الشاب وهو يصيح: خيانة!

وفي الحال صرَعه وبرَكَ فوقه، ولكن الزوجة استلَّتْ بدورها سكينة مدسوسةً في جيب معطفِها، وبكل قوتها غرزَتها في عُنق الرجل.

وتتابَعَت الأحداث في سرعة البرق؛ تحطم البابُ الخارجي، اندفع منه رجالٌ متهورون، ورنَّ جرس المطافئ، وصفَّارة النجدة، وارتطمَت في الشقة الجديدة قُوى المقاومة بقُوى الغدر؛ فانخرطَت في معركةٍ شاملة تحت أَلْسِنة اللهب المندفع والماء المتدفِّق وقطع الأثاث المتناثرة.

•••

وفي المساء نشَر الهدوءُ ألْويتَه فوق الحي جميعه. خلَت الشقة من الغرباء، ولم يبقَ بها قائم، إنْ هي إلا أشلاءُ مقاعدَ وحُطام أجهزةٍ ونُفايات مفارش. جلس الزوجان على أريكةٍ تحت نجفة صغيرة لم ينجُ من مصابيحها إلا شمعةٌ واحدة شعَّت ضوءًا شاحبًا. لم يخلُ وجْهاهما ورأساهما من كدمات وتسلُّخات وأورام خفيفة، أمَّا مَلابسهما فقد تمزَّقَت في أكثرَ من موضع، وتلوَّثَت بالسِّناج. جعلا ينظران فيما حولهما بوُجوم ويتبادلان النظر. وفجأة أغرَقا في ضحك هستيري ركبهما طويلًا، حتى رجعا إلى الصمت والوجوم. ورغم كل شيء فإنَّ القلب لم يخلُ من ارتياحٍ خفي وامتنان، وتردد صوتُه في إعياء: ضاع كل شيء.

فربَّتَت على كتفه بحنانٍ وقالت: نجَونا بأعجوبة!

فهزَّ رأسَه في تسليم وتمتَم: أجل، نجَونا بأعجوبة.

ثم بنبرةٍ وَشَتْ بنشوةٍ طارئة: لم يَضِع شيء لا يمكن تعويضه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤