مدخل

على الأرض السلام

على جبل الزيتون فوق بيت المقدس كان في سنة ٦٣٦ قبل عيد الميلاد بثلاثة أيام طيف يتمشى متأملًا في المدينة تحته وهو يقول كأنه يخطب في الدنيا كلها: منذ نحو ألفي سنة رن في فضاء هذه الأرض التعيسة صوت خارج من جهات مجهولة يقول: «المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة».

ومنذ ألفي سنة والبشر بشر، السلام على شفاههم لا في القلوب.

•••

منذ ألفي سنة هجمت المادة الترابية في عالمنا الدنيء للاتحاد بالجوهر الإلهي. فقبضت يومئذ الأرض على قسم من السماء، ولكن السماء عادت فأفلتت منها فعاد إلى الأرض ما هو من الأرض، وإلى السماء ما هو من السماء، واختفى عنا ذلك النور الذي أضاء تاركًا البشر في ظلمة ليلاء.

•••

منذ نحو ألفي سنة ثارت بين أسواركِ يا «ابنة صهيون»١ الحرب الأبدية بين الحق وبين التقليد الذي يضع نفسه موضع الحق. بين المبادئ وبين المصالح. بين الفكر وبين المادة. بين القديم الذي يظن نفسه قويًّا راسخًا أبديًّا لا يزعزعه شيء، وبين الجديد الضعيف المسلح بمعول العقل والفكر ولا سلاح له سواه. فزلزلت الجبال، واندكت الأسوار، ونسف الفكر معالم التقليد والمصالح والمادة نسفًا، فقلب عالمًا وأقام عالمًا.

ولكن ماذا جرى بعد ذلك؟ هل حفظ الغالب السلاح الذي تغلَّب به؟ أخبرونا يا رجال صهيون الجديدة يا جند إسرائيل الجديد، وا أسفاه إن الغالب عاد إلى عادات المغلوب. إن المادة قويت على الروح، والمصالح على المبادئ، والتقليد على الفكر والعقل. فهاتوا لنا معولًا آخر للهدم مرة ثانية. إلينا يا ملائكة السماء بجرَّاح جديد لمداواة هذه الحسناء المريضة، ولكن رحماكم فلتكن سكين هذا الجرَّاح نحيفة. إننا نشفق على جسمها النحيل، وقلبها الرقيق، وجمالها الساحر، ونفوس الملايين العديدة المتعلقة بها. هات روحك يا بوذه لنعلِّمها الصبر والقناعة. هات فكرك يا كونفوشيوس لنعلمها الحكمة. هات بلاغتك الإلهية يا أفلاطون؛ لندخل إلى عروقها دم الفلسفة ممزوجة بالأنوار السماوية. هات عقلك يا أرسطو لتقوية عقلها. هاتوا يا حكماء منفيس والإسكندرية وأثينا وبيناريس ورومة كل حكمتكم وفلسفتكم لعلها تُشفى بها، وإياكم أن تقولوا إنها في غنى عن كل ذلك بما لديها من المبادئ الفطرية الساذجة؛ فإنها نسيت ما لديها ونسيت الفطرة والسذاجة. نعم، إن فاها لا يزال يردده، ويترنم بألفاظه، ولكن يا للأسف إن قلبها لم يعد يفهمه ولا يقنع به، ولذلك ذهبت منها صحتها وجمالها. أجل يا بيت الحكمة الفطرية الساذجة. يا قدس الأقداس القديم. يا مأوى الفكر الحر المطلق والروح المجرد. إن حمامة الروح السماوية قد طارت من بين جدرانك، وهذا هو سبب مرضك. فهلا استعدتِ روحك لتحيي بها نفسك ويؤهل منزلك. هلا نظرت بإخلاص ونزاهة إلى مرضك؟

إنك لم تريدي ذلك يا ابنة صهيون فهوذا جرَّاح وخصم شديد قادم نحوك، ولكن وا أسفاه؛ إن سكينه ليست بنحيفة كما طلبت، بل هي عبارة عن سيف قوي، ومع السيف رمح ونبلة وترس وجواد عربي. إن رمال قفار العرب قد تحركت يا ابنة صهيون. زحفت نحوك قاصدة الدنيا كلها. فأوسعوا أوسعوا المكان في الأرض لأمة جديدة عظيمة ومدنية جديدة. إن الدنيا تتمخض الآن بدين جديد وسلطنة جديدة. إن أبناء إسماعيل الأقوياء خرجوا من قفارهم الجدباء لملاقاة أبناء إسحق الظرفاء، ولكن يا للأخوة يا لحرمة النسب؛ إن ملاقاتهم كانت للاقتتال على سلطنة الأرض، كأن هذه الدنيا الواسعة تضيق عن أخوين كريمين. فسدوا آذانكم يا أيها البشر؛ فإن أرضكم ستصير ميدانًا واسعًا للحروب والمجازر المختلفة. ناموا أيها الموتى الشرقيون بأمان، واحمدوا الله؛ لأنكم قضيتم قبل العصر الذي تزحف فيه الأمم والقارات بعضها على بعض ليفني بعضها بعضًا، ويا سلطنة بزنطية التي ملأت الدنيا أبهة وسطوة وجلالًا استعدي فقد دنت آخرتك، ولا تلومي أحدًا غير نفسك. لماذا أهملتِ شعبك لتشتغلي بالمجادلات الدينية العقيمة؟ لماذا جهلت أن كل بناء لا يُبنى على «إصلاح أحوال الشعب» بناء ضعيف يتداعى في مدة قصيرة؟ لماذا حصرتِ كل قواك في الاختلافات على خلافة الملك وانتقال السلطنة؟ لماذا رمت الاستيلاء على الدنيا كلها بدل إصلاح شئونك الداخلية فجزَّأتِ قواك بتجزئة اهتمامك على غير فائدة؟ لماذا هجرتِ الروح والفكر الذي يجعل الأفراد أقوياء والشعوب منيعي الجانب سعداء. إن الشعب الشاب الحديث الخارج من رمال بلاد العرب قد استولى على ذلك الفكر الذي هجرتيه، وهجم عليك بسلاحك بريئًا في أول نشأته من تلك النقائص التي أودت بكِ. لقد زحف يمثل الوحدة والعصبية والإصلاحات الشعبية والحياة الروحية والمعيشة الطبيعية والمساواة والإخاء والحرية، ومن فرط ثقته من نفسه ومن مبدئه يظن أنه وحده يمثل الوحدانية، وبهذه المناقب سيستولي يومًا على الكرة الأرضية، وسيبقى له هذا الملك حتى تفارقه المناقب كما فارقتكِ فيصيبه حينئذ ما أصابك، وفي ذلك الوقت تنطرحان كلاكما على الأرض أخوين في المصاب تنظران إلى الأمم والمبادئ الأخرى التي تجيء بعدكم وتقوم على آثاركم.

فيا أيتها الأمم المختلفة التي تقوم وتسقط وتتطاحن كحبوب الحنطة تحت الرحى لكِ أن تقولي «المجد لله في العلى» لأن الله خالقنا عظيم، ولكن لا تقولي «في الأرض السلام، وفي الناس المسرة» فإن الأرض ليس فيها اليوم شيء غير السيف والنار، وليس بين البشر شيء يسرُّ، بل السائد بينهم الفساد والاضطراب والبغض والشقاء والدمار.

١  بيت المقدس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤