الفصل الحادي عشر

الصليب أهون من هذا

قصة أستير

ولما خرج الاثنان من الحديقة كان قلب الفتاة يرقص مسرة بالنجاة، وقلب إيليا يرقص اضطرابًا لعاقبة صنعه هذا، وفرحًا بإنقاذ فتاته، وإراحة ضميره. لكن ما خطت أستير بضع خطوات حتى سألت إيليا بصوتها اللطيف: أين أبي؟

فتلجلج إيليا وأجاب: ستلقينه غدًا أيتها السيدة.

فلما سمعت أستير هذا الجواب أجفلت ووقفت. ثم تأملت في الهدوء الشامل حولها في ظلمة ذلك الليل في ذلك الجبل المقفر، فخارت قواها وهلع قلبها؛ لأنها كانت تظن أن أباها ينتظرها بالخارج، ولولا ذلك لما رضيت بالانفراد مع شاب في ذلك الليل. ثم تذكرت أن ذلك المسيحي قال لها على النافذة: إنه قادم من قبل أبيها فخيل إليها حينئذ أنه احتال عليها بذلك لإخراجها. فرجعت القهقرى صائحة: أنا عائدة إلى الدير. فالصليب أهون من هذا.

فصعق إيليا لهذا الجواب، وأسرع وراء أستير، فجاءها من أمامها، وقال بأدب وجد: يا أيتها السيدة. إنك لا تجهلين أنني خاطرت ليلة أمس بنفسي في سبيل إنقاذك مع أبيك من أيدي العامة. فأي غرض كان لي حينئذ مع أنني لا أعرفكما من قبل، ولقد خاطرت بنفسي أيضًا الليلة لإنقاذك، ولا غرض لي غير راحتك وراحة ضميري؛ لأنني عجزت أمس عن إنقاذك. فهل من العدل أن تجزيني على هذا الصنع بسوء الظن والإهانة إلى هذا الحد.

فسكتت أستير حينئذ تفكر بنفسها وتتساءل: هل هذا المسيحي صادق في ما يقول؟ ثم أجابت: وأين تذهب بي الآن؟ فأجاب إيليا: إلى مزرعة قريبة في سفح الجبل حيث تنتظرك كثيرات من الفتيات مثلك، وغدًا يلاقيك أبوك إليها. فقالت: ولماذا لا نذهب إلى المدينة؟ فأجاب إيليا: لأن جيوش العرب تحصرها فضلًا عن أن الأبواب لا تُفتح في الليل؛ فتنهدت الفتاة وسكتت، ولكنها بقيت ترتعد من انفرادها بالفتى في ذلك المكان.

وكان القمر في تلك الساعة ملتحفًا بالغيوم السوداء المنذرة بالمطر، والريح تهب باردة بردًا يدل على قرب مطر مثلج، ولكن كأن القمر كان له غرض في الأرض في تلك البرهة فأطل من وراء الغيوم ينظر بعينه البيضاء الواسعة إلى الجبل والشخصين الواقفين عليه، وكان وجه أستير مستقبلًا القمر، فلما وقع عليه أول شعاعه ورأى إيليا برقة في عينيها سرت في جسمه كهربائية فتاته الغائبة التي أحبها عشر سنوات متوالية، وكانت هذه أول مرة وقع فيها نظر إيليا على نظر أستير وجهًا لوجه؛ فذابت حشاشة إيليا لقسوة قلب أستير وعدم فهمها عواطفه، وعلم حينئذ أن أصعب شيء على القلوب الكريمة التي تستحق الحب الصادق لشرفها وصدقها وكرامتها، هو أن تحب ويبقى المحبوب جاهلًا أو متجاهلًا حبها وكرامتها لا يثق بشيء لها حتى ولا بإخلاصها.

لكن يظهر أن أستير بعد أن فكرت مليًّا اقتنعت بالذهاب مع الشاب؛ لأنه أهون الشرين. فقالت له: وهل المزرعة بعيدة من هنا فإنني أخشى المطر والبرد. فتنفس إيليا الصعداء حينئذ وقال: نعم أيتها السيدة، إن المزرعة بعيدة، ولكننا سنصل إليها في ساعة بعون الله.

ثم إنه سار أمامها يدلها على الطريق، وسارت وراءه بخطى سريعة.

ولكن يظهر أن السماء رامت الانتقام من أستير؛ لأنها أساءت الظن بإيليا. فهبت على الجبل في تلك اللحظة زوبعة شديدة تمازجها رعود وبروق وثلج ومطر شديد كأفواه القرب، وكانت أستير بثياب النوم. فجزع إيليا لهذا المصاب الجديد، فخلع عنه رداء شتويًّا كان عليه وألقاه على جسمها. إلا أن ذلك لم يجدها نفعًا فإن المطر بلل جميع ثيابها، والبرد قلص وجهها وأطرافها، والتعب أفنى قوتها فسقطت على الأرض ضعيفة واهية القوى؛ فجزع إيليا جزعًا شديدًا لذلك فدنا من أستير، وقال: أيتها السيدة استندي إلى ذراعي لأحمل عنك شيئًا من مشقة السير فنصل في وقت قريب. فترددت أستير أولًا إذ كيف يجوز أن تمس يدها يد مسيحي، ولكنها رأت أنها بدون ذلك لا تستطيع السير، فنهضت وهي ترتعد من الخوف وأسنانها تصطك من البرد. فوضعت ذراعها اليسرى في ذراع إيليا اليمنى، أي أخذ إيليا جانب قلبها ثم سار بها. فشعر إيليا حينئذ بسرعة نبض ذلك القلب اللطيف لخوفه وتعبه فازداد نبض قلبه أيضًا، كأنما سرى بين القلبين نوع من الكهرباء.

ولكن الفتاة لم تخطو خطوتين حتى سقطت لعدم استطاعتها الوقوف. فازداد قلق إيليا فدنا منها ثانية بوجل، وقال: هل تسمحين لي أن أحملك؟

فعند هذا السؤال نفرت أستير بأنفة، وأشارت برأسها إشارة سلبية، وكان قلبها يقول حينئذ: الموت بردًا أسهل من أن يخالط جسمي جسم رجل خصوصًا إذا كان مسيحيًّا.

وفي هذه الدقيقة سُمع على الطريق من جهة المزرعة صوت أقدام تعدو بسرعة شديدة فخاف إيليا، ولكنه لما ظهر صاحب الصوت صاح به – أرميا أرميا أسرع إليَّ. فأجاب أرميا: كيريه إيليا ماذا تصنع هنا؟ ولما وصل أرميا وشاهد أستير فهم سر المسألة. فوقف مبهوتًا يتأمل، ولكن إيليا لم يطل وقفته؛ بل إنه صنع من بعض ثيابه وثياب أرميا ملفًا فلف به جسم أستير دون رأسها، ثم حملاها كل واحد منهما من طرف، وكانت المسافة بينهم وبين المزرعة ساعة، والمسافة بينهم وبين كوخ أرميا تحت الأرزة عشر دقائق فقط، ولذلك أسرعا بها إلى هذا الكوخ؛ لاتقاء المطر والبرد.

وعند وصولهم أُدخلت إليه أستير، وأغلق عليها الباب، وبقي إيليا وأرميا خارجًا يوقدان النار؛ لتدفئة الفتاة، وتجفيف ملابسها، وبعد حين كتب إيليا ورقة وأعطاها إلى أرميا؛ ليوصلها إلى المزرعة، ويعود منها بملابس جافة وفرس للركوب.

فسار أرميا وهو يلتفت إلى الكوخ ليرى هل يبقى إيليا خارجًا أم يدخل إليه، وفي طريقه كان يردد في نفسه قوله السابق لإيليا تحت الأرزة: يا لله ما أجملها. حقًّا لا أعلم لماذا تكون الوثنيات جميلات هكذا.

وكان المطر لا يزال شديدًا في الخارج وإيليا لاجئ منه تحت الأرزة؛ لأن أستير لم تدعه ليدخل احتماء منه في الكوخ، وإيليا لا يمكن أن يدخل بدون إذنها. فازداد استياء إيليا لإساءة الفتاة ظنها به، ولكن مع ازدياد استيائه هذا ازداد حبه لها؛ إذ لا شيء يزيد الحب مثل التمنع والجفاء.

ويظهر أن أستير قد شعرت بخشونتها؛ لأنها لم تلبث أن أخرجت رأسها من باب الكوخ، وفتحت الحديث بقولها: هل الفجر بعيد يا كيريه إيليا.

فتنهد إيليا ودنا نحو الكوخ وأجاب: أظن أيتها السيدة أنه لم يبق من الليل سوى أربع ساعات. فقالت: ولمن هذه المزرعة التي سنذهب إليها؟ فأجاب: هي لرجل كريم يدعى الشيخ سليمان، وهو الذي ساءه خبر سجنك في هذا الدير. ثم قص عليها شيئًا مما جرى له معه.

فعجبت أستير من ذلك في نفسها؛ لأنها بناء على ما سمعته من قومها، وما رأته من هيجان العامة أمس في طريق بيت لحم لم تكن تعهد أن يوجد بين المسيحيين رجلان كإيليا والشيخ سليمان يساعدان المظلوم وإن كان من غير دينهما ولا يعرفان عنه شيئًا.

وهذا وا أسفاه داء من أدواء البشر فإن كل فريق منهم يخص قومه بالفضائل دون سواهم.

ثم دار الحديث بين إيليا والفتاة. وكان أول ما سألها عنه سبب وجودها مع أبيها في بيت لحم في ليلة أمس. فعلم منها إيليا قصتها وهي: كانت أستير من عائلة إسرائيلية مقيمة في مصر، وقد شاع يومئذ في المملكة البيزنطية كلها أن المنجمين قالوا: إن السلطنة ستصير إلى قوم مختونين١ * فثارت تصورات بعض الإسرائيليين، وانتشر بينهم أن المسيح أي المسيح الذي لا يزال اليهود ينتظرونه قادم لإعادة مملكتهم والاستيلاء على العالم، وفي ذات يوم ورد على أبي أستير كتاب من بلاد العرب مع رسول من أبناء جنسه، فتأهب بعد هذا الكتاب للسفر إلى فلسطين مع زوجته وابنته، وكانت زوجته في نحو السبعين من العمر وهي مقعدة لمرض عضال أصابها، وكانت أقصى أمانيها أن تموت في أورشليم، وتطلق روحها في فضائها بجانب هيكل سليمان، ولذلك فرحت فرحًا شديدًا بسفرهم إلى فلسطين، وقد شاركتها ابنتها أستير في هذا الفرح؛ لأنهم قالوا لها: إن المسيح سيظهر في ذلك العام في فلسطين. فجاءوا إلى أورشليم متخفين متنكرين؛ لينتظروا المسيح فيها، ويكونوا أول من يستقبله من أبناء إسرائيل، وقد استأجروا في القدس منزلًا صغيرًا بإزاء الجدار الذي كان المسيحيون يلقون عليه فضلات منازلهم،٢ وكان الثلاثة كثيرًا ما يخرجون في ظلمة الليل سرًّا، ويقفون هناك ويصلُّون باكين الصلاة التي يصليها بنو إسرائيل دائمًا أمام جدار هيكلهم القديم في أورشليم، وهي: (يقول واحد) من أجل الهيكل المقدس العظيم (فيرد الجماعة) نقف بذلة وننوح.

(يقول واحد) من أجل أسوار هذه المدينة الساقطة (فيرد الجماعة) نقف بذلة وننوح.

(يقول واحد) من أجل مملكتنا التي بادت (فيرد الجماعة) نقف بذلة وننوح.

(يقول واحد) من أجل رؤسائنا الذين ماتوا (فيرد الجماعة) نقف بذلة وننوح.

(يقول واحد) آه تحنن على صهيون (فيرد الجماعة) واجمع شتات أورشليم.

(يقول واحد) أعد سابق مجدك لصهيون (فيرد الجماعة) وانظر مترحمًا إليها … إلخ.

وقد مرت عليهم ثلاثة أشهر على هذه الحال، وفي كل يوم كان يذهب أبو أستير لمشاهدة آثار المدينة، ويختلط بأهلها متزييًا بزي اليونانيين والسوريين. أما أستير فإنها كانت تخرج أحيانًا من المدينة مع أبيها، وتجلس على رابية عالية لترى منها هل المسيح آت أم لا؟ وفي أكثر الأحيان كانت تلازم أمها العجوز المقعدة في البيت وتخدمها. ففي ليلة أمس اشتهت أستير أن تشاهد عيد المسيحيين في بيت لحم فغضبت أمها من ذلك، ولكن أباها رضي بأخذها إلى بيت لحم، فذهبا للتفرج فيها فجرى لهما ما جرى.

فلما سمع إيليا هذه القصة صار يسأل نفسه، هل هذه العائلة ساذجة إلى هذا الحد حتى خاطرت بنفسها في القدس من أجل هذه المسألة، أم هنالك أمر آخر كتمته عنه أستير أو كتمه أهلها عنها، ولم يظهروا لها منه غير المسألة الدينية. إلا أنه كان يظهر في كلام أستير أنها مخلصة في قولها كل الإخلاص، ولذلك رجح إيليا السذاجة على السياسة.

وبعد السكوت حينًا ابتدر إيليا الكلام، فقال: فأمك إذن الآن في المدينة يا أختي.

فلما سمعت أستير كلمة «أختي» من فم الشاب حصل ارتياح في نفسها لازدياد طمأنينتها. إنما تساءلت في نفسها: هل يجوز لمسيحي أن يدعوها أخته؟ ثم أجابت والدموع في عينيها لذكر أمها: نعم يا كيريه إيليا، وهي مقعدة لمرضها.

وكأن أستير بعد هذا الحديث رأت أنها فعلت ما كان عليها، ولذلك انزوت في إحدى الزوايا بداخل الكوخ. فعاد إيليا عن الباب متنهدًا، وبقي الاثنان بعد ذلك ساكتين، ولكن «الهوى» في قلبه و«الهواء» في الخارج على أغصان الأرزة كانا يتكلمان ويزئران زئيرًا شديدًا.

وبعد نصف ساعة سُمع صوت حوافر جواد ينهب الأرض نهبًا، فنهض إيليا لعلمه أن أرميا قد عاد من المزرعة، ولكنه عجب من هذه السرعة؛ لأنه لم يكن يدري أن أرميا سار في ذهابه بسرعة الجواد، وعاد بسرعة الجواد؛ لكي لا يترك أستير مع إيليا وقتًا طويلًا.

وكانت أستير قد دفئت قليلًا في داخل الكوخ، فغيرت ملابسها بالملابس الجافة التي جاءها بها أرميا، ثم ركبت الجواد وهمت بالمسير. فقال إيليا لأرميا: خذ بقياد الفرس يا أرميا وسر سيرًا سريعًا. فحك أرميا رأسه وأجاب: بل دعني أسير على مهل وراءه يا كيريه إيليا لأنني تعبت. فأخذ إيليا بقيادة الفرس، وسار أمامه دون أن يدري بالسبب الذي من أجله طلب أرميا أن يكون وراء، وهكذا سار الثلاثة بين العواصف والقواصف؛ إيليا أمام، وأستير في الوسط على ظهر الفرس، وأرميا وراء، وكان أرميا لا يرفع نظره منها.

ولما وصلوا إلى المزرعة كان الشيخ سليمان ينتظرهم فدنا وقبَّل رأس إيليا سرورًا بفعله، ثم دفع أستير إلى بناته فاستقبلنها استقبال أخت وصديقة قديمة، وقد خصصن بها غرفة بجانب غرفتهن، فنامت أستير بقية الليل نومًا هنيئًا بعد أن عجبت كثيرًا من هؤلاء المسيحيين.

١  لذلك يقول بعض أدباء العرب: إن هذه النبوءة انطبقت عليهم، وهو من الغرابة بمكان، ولكن لعل هذه النبوءة لم تظهر إلا بعد ظهور العرب.
٢  هو بقية هيكل هيرودس الذي أقامه على هيكل سليمان، ووراءه اليوم حي اليهود في القدس على ما في الخريطة التي أمامنا، وهو أحد جوانب الحرم المشهور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤