الفصل الثاني عشر

بين مسيحي ويهودية

وفي فجر اليوم التالى قبل أن تتعارف الوجوه تقريبًا كان على قبر الراهب ميخائيل الكائن في وسط المزرعة كما تقدم شخص جالس يتأمل والبرد قارص والريح شديدة، وكان هذا الشخص إيليا؛ لأنه لم ينم بقية ذلك الليل، وكان يقول وهو جالس على القبر: يا أستاذي ميخائيل، إن خطبتك على الجبل كانت حدًّا فاصلًا وطورًا جديدًا في حياتي، وها أنا الآن قد وصلت إلى طور جديد آخر، إنني لم أكن أفهم لذة الوجود وبهجة الدنيا، ولذلك سئمتها وضجرت منها. أما الآن فصرت أفهمها. إنما أرجو من روحك الكريمة التي ترفرف في فضاء هذه المزرعة دائمًا أن تمس قلب أستير، وتجعلها تشعر شعوري.

ولما طلع الصباح، وانتبه أهل المزرعة عاد إيليا إليها فوجد بنات الشيخ سليمان عند أستير يلاطفنها، ويتناولن طعام الصباح معها، وكانت هذه أول مرة يرى فيها إيليا أستير وجهًا لوجه على ضوء النهار.

فرأى إيليا أستير فتاة في نحو العشرين من العمر، وكانت بقد رشيق طويل كأنه غصن بان، ووجه ممتلئ ناصع البياض كالثلج تخالط بياضه حمرة الصحة والعافية كأنما اجتمع فيه كل ما في الورد من اللون الزاهر، وفوق وجهها التفاحي الجميل شعر أبنوسي يؤلف سواده الفاحم مع ذلك البياض وتلك الحمرة منظرًا عجيبًا. أما العينان: فقد انفردتا بلون رابع وهو اللون الأزرق الصافي صفاء بديعًا وهو ما يندر تحت الشعر الأسود. فكأن هذا الرأس الملائكي الجميل آلى خالقه على نفسه أن يجمع فيه كل بياض الزنبق وحمرة الورد وسواد المسك وزرقة السماء بأشد جمالها ومعانيها؛ ليكون مثالًا للجمال الذي يمكن أن تدركه عين بشرية.

فلما شاهد إيليا في ذلك الصباح وجه أستير على نور الشمس سجد قلبه في صدره لصانع هذا الحسن، وأدار نظره إلى السماء من النافذة ليرى أيهما أعمق وأجمل؛ زرقة عيني أستير أم زرقتها.

وبعد الطعام طلبت أستير محادثة إيليا فهرع الشاب إليها، وخرج معها إلى الحقول. فلما رآهما الشيخ سليمان سائرين قال: لقد آن أن يكون لإيليا شمس تبدد همومه الدائمة. فأظن أن أستير ستكون من بنات المزرعة بعد الآن.

ولما انفردت أستير بإيليا ابتدرت الكلام قائلة: ماذا نصنع الآن يا كيريه إيليا هل أذهب إلى المدينة أم يأتي أبي إلى هنا لأخذي؟ فتنهد إيليا وأجاب: يظهر أيتها السيدة أنك غير مسرورة بالإقامة هنا، ولكن ما الحيلة إنك لا تقدرين على الذهاب إلى المدينة؛ لأن جيوش العرب تحصرها كما ذكرت لك، وأبوك لا يقدر أن يأتي إلينا؛ لأنه لا يستطيع ترك أمك وحدها.

فاغرورقت هنا عينا أستير بالدمع لدى ذكر أمها، وتنهدت بكآبة وحزن. فكاد قلب إيليا يتفطر لعنائها، وبعد السكوت برهة قالت أستير: وإلى كم يطول حصار المدينة؟ فأجاب إيليا: لا أعلم فعلينا أن ننتظر منتهى هذه الحادثة.

وفي هذا الحين التفت إيليا نحو المزرعة فأبصر أرميا راكضًا نحوه، ولما وصل إليهما حيَّاهما ببشاشة، وأخبر إيليا أن أهل دير العذراء دروا في الصباح بفرار الفتاة، فاضطربوا وكاتبوا البطريرك، وأرسلوا يسألون أرميا هل رآها؟ فأجابهم أرميا أنه ما رأى أحدًا.

وفي الحقيقة أن جواب أرميا لهم كان أن شابًّا يدعى إيليا في مزرعة الشيخ سليمان هو الذي اختطفها.

وبعد وصول أرميا إلى إيليا وأستير لزمهما ولم يعد يفارقهما، وكان كثير المراقبة لأستير على الخصوص. فلاحظ منه إيليا هذه المرة ما لم يلاحظه من قبل. فاستاء في نفسه وعاد بالفتاة إلى المزرعة.

وبقيت أستير كئيبة حزينة طول النهار، فحاول الشيخ سليمان كثيرًا أن يزيل كآبتها فلم يقدر فأحال عليها إيليا قائلًا: هل أنت جماد لا تتحرك. فكيف تترك هذه الفتاة تذوب كآبة لفراق أهلها، ولا تحاول تعزيتها.

فوا أسفاه إن الشيخ سليمان لم يكن يدري أيضًا ما كان في نفس إيليا.

مجيء المسيح وصلبه

وفي ذلك المساء قبل غروب الشمس بساعتين عرض إيليا على الفتاة أن يذهب بها ليريها الحقول والبساتين في المزرعة. فرضيت الفتاة بذلك، وذهبا يتنقلان بين تلك الطبيعة الجميلة التي زادتها عناية يد الإنسان ثمارًا وجمالًا.

وما زالا سائرين حتى بلغا قبر الراهب ميخائيل، وكان إيليا قد نثر الزهر في الصباح على القبر حسب العادة، وكان حول القبر عدة مقاعد من حجر فجلس على أحدها وجلست الفتاة بعيدة عنه، وبعد أن جلست سألت إيليا عن صاحب ذلك القبر. فلما سمعت اسم «راهب» أجفلت ونهضت. فاستاء إيليا في نفسه لهذه الإهانة لأستاذه، ولكنه أظهر الابتسام والضحك، فقال: اجلسي اجلسي يا أختي، لنتحادث في موضوع نفورك، وأرجو أن تسمحي لي بذلك فإن هذا الأمر قام في نفسي منذ رأيتك على الطريق تمتنعين عن إنقاذ نفسك وأبيك بعلامة ترسمينها على صدرك.

فهنا جزعت أستير جزعًا شديدًا، وصبغ الاصفرار وجهها من شدة الجزع. فثارت نفس إيليا لذلك، وصاح: يا أختي، أقسم لك بخالق السماء والأرض إلهكم وإلهنا، إنني لا أقصد الإساءة إليك أو إلى معتقدك بشيء. فإنني من الذين يحرِّمون الضغط حتى على ضمير النملة إذا كان لها ضمير. فعلامَ هذا الجزع والخوف من لا شيء.

فدمعت عينا أستير، وأجابت باضطراب شديد: لا أريد أن أباحث أحدًا في هذه المواضيع، فإنني رأيت أسلوبكم في البحث أول أمس في طريق بيت لحم وأمس في الدير.

فهنا ابتسم إيليا وأجاب: اسمعي أيتها الفتاة الكريمة لأزيل سوء ظنك وإهانتك بكلمتين: إنك تقيسينني أيتها السيدة على العوام الذين شاهدناهم في طريق بيت لحم وعلى الراهبات اللواتي رمن اجتذابك في دير العذراء، ولكنك تخطئين بهذا القياس؛ فإن العامة أناس لا رأي لهم غير ما تلقنوه، وهم لا يفتكرون بعقولهم بل بعقول غيرهم، والراهبات وغيرهن من المنقطعين إلى الله في الأديرة وغيرها لا يُلامون إذا تمسكوا بمعتقدهم تمسكهم بالحقيقة المطلقة؛ لأنهم لو لم يكونوا يعتبرون أنه الحقيقة المطلقة لما انقطعوا إليه عن كل ملاذ الدنيا. أما نحن باقي البشر الذين لنا عقول نعقل بها وعلينا أن نعيش مع عناصر مختلفة في الأرض فإن حالنا غير حال أولئك. فإننا إنما نحن تلامذة البحث والتنقيب والأخذ والرد. ثم ابتسم إيليا وقال: فابحثي معي يا أيتها السيدة، ولا تخافي إذ ما أدراك أنك لم ترسلي من السماء لهدايتي، ما أدراك أن العناية الإلهية لم ترسلك إلي لإعطائي ما ينقصني إلى الآن.

فابتسمت أستير لهذا الكلام اللطيف، وظنت أن إيليا يريد به الجهة الدينية. وفي الحقيقة أنه كان يريد به الجهة القلبية؛ إذ ما كان ينقصه معلوم مما تقدم.

ثم إن إيليا أردف كلامه السابق بقوله: ومصداقًا لقولي أيتها السيدة الكريمة، أذكر لك شيئًا عن صاحب هذا القبر الكريم الذي أجفلتِ منه لمجرد معرفتك أنه راهب. هل سمعت يا سيدتي بمبادئ وأخلاق الراهب ميخائيل؟ هذا الراهب صرف كهولته في جمع المال من أهل المال، ولكنه توفي ولا فلس في صندوقه؛ لأنه كان يوزعها كلها على الفقراء والمساكين، وكان عنده جميع الفقراء على السواء مسيحيين ويهودًا ومجوسًا؛ لأنهم كلهم عيال الله كما كان يقول. هذا الراهب اضطهده بعض الناس حسدًا وبغضًا، وأساءوا إليه، وقطعوا رزقه، ولكنه كان يباركهم إلى آخر نسمة من حياته، وفي ساعة موته أشار إليَّ فدنوت منه، فقال لي وهو يجود بنفسه: إذا سافرتَ إلى بلادي يومًا ورأيت أحدًا منهم فقل لهم إنه يقرئكم السلام، ويطلب أن تصلُّوا من أجله. هذا الراهب طرد من سلك الرهبانية؛ لأنه خطب خطبة لام فيها الحكومة ورجال الدين؛ لاضطهادهم اليهود في سوريا وفلسطين، وكان كلما مر في طريقه بيهودي فإذا كان فقيرًا يحسن إليه بشيء من المال وإذا كان غير فقير استوقفه وحادثه وآنسه وذلك على سبيل الاحتجاج على اضطهاد الحكومة لبني جنسه، وقد قلتُ لكِ إنه كان «يحسن» إلى الفقير، والصحيح كما كان يقول إنه كان يفي له «الدَّين» الذي عليه. هذا الراهب عاش في هذه المزرعة عشرين سنة، وليس بين الناس هنا وفي القدس واحد يقول إنه أساء إليه بشيء ما طول حياته حتى ولا الكهنة الذين كانوا في خلاف معه. هذا الراهب إذا جادل الناس بعضهم بعضًا أمامه في الدين كان يعبس ويقطع حديثهم بقوله: فلنبحث يا أولادي في ما نعلمه ونفهمه من شئون الأرض أما شئون السماء فإننا لا نعلمها، وحسبنا أن نكون صالحين طاهري القلوب مسلمين أمورنا إلى الله تعالى فنعيش كلنا في الأرض إخوانًا في إخوان مهما اختلفت مذاهبنا. – هذا أيتها السيدة هو الراهب الذي أجفلتِ من ذكر اسمه. أفكنت ترفضين مباحثته كما رفضت مباحثتي لو كان حيًّا؟

وكانت أستير مصغية إلى إيليا أشد اصغاء. فلما فرغ من كلامه قالت: إذن لم يكن هذا الراهب مسيحيًّا؟

فقهقه إيليا قهقهة تكاد تُسمع من المزرعة وأجاب: بل كان مسيحيًّا يا أختي؛ لأن هذه هي المسيحية الحقيقية.

فسكتت أستير هنيهة، ثم أجابت: حقًّا هذه أول مرة أسمع بها مثل هذا الكلام عن مسيحي، ولكن كيف كان إيمانه به؟

وقد نطقت أستير بهذا الكلام على غير وعي تقريبًا. فترك إيليا حينئذ الضحك، وصار يفكر بجد واهتمام في الجواب الذي يجيبها به؛ ذلك لأنها إنما قصدت بسؤالها السؤال عن إيمان الراهب ميخائيل بالمسيح، والبحث في ذلك معها صعب لعدة أسباب منها رغبته في أن تكون مسيحية، وإلا فلا يمكنه الاقتران بها، وهذا يقتضي مباحثتها في ذلك بحثا دينيًّا لا بحثًا عقليًّا. فشرع أولًا في البحث الديني فأجاب: يا سيدتي، تسألينني سؤالًا غريبًا؛ إذ كيف يكون الإنسان مسيحيًّا ولا يؤمن بالمسيح؟

وكانت أستير قد تحمست من كلام إيليا الذي قال لها فيه إنه يحتمل أن تكون مرسلة إليه من العناية الإلهية لهدايته. فجمعت قواها كلها لمباحثته في أمر كانت قد سمعت كثيرًا من المباحثات فيه لعلها تهديه، ويا للغرابة. إن هذه هي أول مرة بدأت بها تميل إلى إيليا، ولكن لا لا. لا غرابة في ذلك؛ لأن هذه هي أول مرة بدأت بها تهدم الحاجز الاجتماعي الذي كان بينها وبينه، ومتى انهدم هذا الحاجز مسَّت نفسها نفسه بحكم الطبع فتتآخيان بأمن وسلام.

أما نفس إيليا فإنها لم تكن محتاجة هذا الهدم ليحصل التآخي بينها وبين نفس أستير؛ لأن هذا التآخي حصل لها من النظرة الأولى.

فلما سمعت أستير جواب إيليا ابتسمت وقالت: وأنت يا كيريه إيليا اصدقني. أتؤمن به أيضًا؟ فأجاب إيليا برزانة: بلا شك أيتها السيدة، وإنني آسف لأنك لا تؤمنين أنت به أيضًا. فابتسمت أستير وأجابت: هل تغضب إذا جهرت بكل رأيي كما يغضب أبناء مذهبك أو تريد أن أسكت؟ فقال: لا لا تكلمي يا سيدتي، فقالت أستير: إنني أؤمن بالمسيح يا كيريه إيليا، ولكنني أؤمن بالمسيح الحقيقي الذي لم يأت بعد، ولا بد أن يأتي.

فنظر إيليا حينئذ ضاحكًا إلى تينك الشفتين الورديتين اللتين كان يخرج منهما هذا التجديف على الاسم الذي يفديه بدمه، وقال في نفسه: لو خرج هذا التجديف من شفتين غير هاتين الشفتين لعضضتهما وقطعتهما بأسناني؛ لأنني إذا كنت أبحث في الكائنات والفلسفات بحثًا عقليًّا مجردًا عن كل تقليد فإنني أضع دائمًا فوق كل بحث وكل علم اسم الذي مس يومًا بأصبعه الإلهية صورة الكمال السماوية فكان مثالًا لها في هذه الحياة المملوءة بالصغائر والنقائص والشرور.

فبعد أن فكر إيليا هنيهة أجاب: يا أيتها السيدة أأنت إسرائيلية أم لا؟ فقالت أستير: نعم إسرائيلية. فقال: ألا تعتقدين بصحة التوراة؟ فأجابت أستير: بلا شك أعتقد بها. فقال إيليا: فالتوراة كتابك المقدس يشهد أن المسيح قد أتى.

فهمَّت أستير أن تجاوبه فابتدرها إيليا بقوله: دعيني أكمل أولًا، وبعد ذلك قولي ما تشائين. اسمعي يا أستير، هل قرأتِ الإصحاح التاسع والأربعين من سفر التكوين. اسمعي ماذا يتنبأ يعقوب لابنه يهوذا. قال «يهوذا إياك يحمد أخوتك. يدك على قفا أعدائك. يسجد لك بنو أبيك – لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون» أي المسيح؛ لأن هذا أحد أسمائه. فيا أستير إن قضيب الملك قد زال من يهوذا وتفرقت مملكته أيدي سبأ، وهذا يدل على أن «شيلون» قد أتى.

فهمَّت أستير أن تجاوبه ثانية فصاح إيليا: دعيني أكمل أولًا. ما قولك يا أستير بنبوءة أشعيا في إصحاحه السابع؟ اسمعي ماذا يقول: «يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابنًا، وتدعو اسمه عمانوئيل (الذي تفسيره: الله معنا)» فيا أستير إن العذراء قد حبلت وولدت في بيت لحم الصبي المنتظَر طبقًا لقول ميخا النبي في الإصحاح الخامس حيث يقول: «أما أنتِ يا بيت لحم فأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا؛ فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» فيا أختي أستير، هل من شهادة أفصح وأبلغ من هذه الشهادات؟

وكانت أستير قد بدأت ترتعد من غضبها وتأثرها خصوصًا لأن إيليا لم يكن يترك لها سبيلًا للجواب. فتأثر إيليا أشد تأثر لذلك، فقال: يا أختي، سكني روعك، ولا تخافي من الحقيقة إذا لمستها أصبعك، ولا يسوءنك تأثرك الآن؛ إذ ما هذا العناء بالقياس على العذاب الذي لقيه غيرك. اسمعي ماذا قال أشعيا في الإصحاح الثالث والخمسين عن عذاب «شيلون»: «محتقر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا. محتقر فلم نعتدَّ به» ألم يكن يسوع هكذا يا أختي؟ ثم إنه يقول: «ليس مبغضي تعظم عليَّ فأختبئ منه بل أنت إنسان عديلي. إلفي وصديقي الذي معه كانت تحلو لنا العشرة» فلماذا يا أختي صنع قومك هكذا مع صديقه وصدِّيقه. اسمعي أيضًا نبوءة النبي داود في مزموره الثاني والعشرين «أحاطت بي … (عذرًا فلا أذكر هنا الكلمة يا أختي لئلا تسوءك) جماعة من الأشرار اكتنفتني. ثقبوا يديَّ ورجليَّ. أحصي كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون فيَّ. يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون» — أفما تم كل هذا يا أختي بصلب شيلون، وكيف نستطيع إنكار مجيئه بدون مناقضة التوراة وكتابك.

وكانت أستير تبكي في أثناء هذا الكلام، وتعض شفتيها من شدة تأثرها. فلما فرغ إيليا من كلامه صاحت من صميم قلبها: يا كيريه إيليا لقد ظلمتني، فإنك أنت تقول كل شيء وأنا لا أقدر أن أقول كل شيء، وهذا سبب شدة تأثري وبكائي. فأنا أكتفي إذن بشيء واحد. إنكم تظنون أن نبوءات التوراة تنطبق على يسوع الناصري ولكن رجال ديننا يقولون: إنها لا تنطبق عليه، وحسبي أن أذكر لك نبوءة واحدة دليلها فيَّ الآن. إن رئيسنا وملكنا داود قال في مزموره الثاني والسبعين متنبئًا عن زمن المسيح: «يشرق في أيامه الصدِّيق وكثرة السلامة إلى أن يضمحل القمر» أي نهاية العالم. فهل الصدِّيق هو المنتصر في العالم الآن، وأين هذه السلامة الموعودة؟ انظر فإنني أنا أبكي أمامك الآن، وأضطراب كريشة في مهب الريح. ثم إن يوئيل النبي يقول في إصحاحه الثاني: «ويكون بعد ذلك — أي بعد سعادة إسرائيل بمسيحه — أني أسكب روحي على كل بشر» فهل روح الله الآن في أولئك الذين يضطهدون ويظلمون ويملئون الدنيا بالشرور، وقال ميخا في إصحاحه الرابع مشيرًا إلى المسيح: «يقضي بين شعوب كثيرين. ينصف لأمم قوية بعيدة فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد». فيا صديقي إيليا، هل جرى شيء من هذا إلى الآن لتقول بمجيء المسيح؟ انظر إن السيف والنار يأكلان العباد والبلاد في كل الجهات، وهو ذا أورشليم نفسها محصورة الآن بنطاق من الرماح والسيوف، وقال أشعيا في الإصحاح الستين والخامس والستين مخاطبًا أورشليم بعد مجيء مسيحها: «لا يُسمع بعد ظلمٌ في أرضكِ، ولا خراب أو سحق في تخومك؛ بل تسمين أسوارك خلاصًا وأبوابك تسبيحًا – الذئب والحمَل يرعيان معًا، والأسد يأكل التبن كالبقر. أما الحية فالتراب طعامها. لا يؤذون ولا يهلكون في كل جبل قدسي» – فيا أخي إيليا هل تم هذا كله؟ هل ساد السلام في الأرض بين البشر والحيوانات كما تنبأ أشعيا ليجوز لك أن تقول بمجيء ملك السلام. ماذا تجيب عن هذا؟

فعجب إيليا في نفسه من إخراج أستير الموضوع عن محوره الأول، ومهاجمتها له بدل الدفاع. فتأمل هنيهة ثم أجاب: إذن أنت لست بإسرائيلية يا أختي؟ فصاحت أستير وقد تركت البكاء: كيف ذلك؟ فقال إيليا لأنك لو كنت إسرائيلية لكنت تؤمنين بالله تعالى خالق هذا الكون ومدبِّره. فصاحت أستير كلبوَة جُرحت: بلا شك أنا أؤمن بإلهنا وإله آبائنا وأجدادنا. فقال إيليا حينئذ: فكيف تؤمنين بوجود الله يا أختي ولا تؤمنين بأعماله. أتظنين أنه يقوم شيء في الأرض ويعم الدنيا كلها بدون إرادته. دعينا من النظر في الكتب فإن كل فريق منا يُئَوِّلُهَا تأويلًا ينطبق على مذهبه ومصلحته، ولننظر في الأشياء بعقولنا فقط. ألا يجب أن تعتبري انتصار المسيحية في الأرض وتغلُّبها على الأديان القديمة وعقول ملايين البشر دليلًا على أنها من أفعال الله تعالى، فهذا برهان واقعي بسيط على أن تأويلي للتوراة أصح من تأويلك، ولا ينقص هذا البرهان إلا القول بأن الله لا يدبِّر شئون الكون بل ليس هو بموجود أصلًا، وهذا الأمر أجلُّك عن أن تقولي به أو تفكري فيه. يا أختي كلنا عباد الله ولا تسقط شعرة في نظام الكون ومسير الدنيا بدون إرادته، ومتى اعتقدنا هذا الاعتقاد ثبت لنا أن انهدام أورشليمكم القديمة وقيام أورشليمنا الجديدة كان بإرادة الله وفعله؛ لأنه رأى ذلك أفضل لنظام الدنيا. فيجب علينا إذن أن نسلِّم لإرادة الله ونعترف بأفعاله، ولا نعارض في أحكامه.

فعند هذا الكلام تحول ضعف أستير إلى قوة وغيظ، فنظرت إلى إيليا بعينين ثائرتين، وصاحت: يا كيريه إيليا لا تتهددونا بإلهنا وربنا. فإنه لم يُسقطنا إلا لينهضنا. اسمع قول هوشع النبي في إصحاحه الثالث: «لأن بني إسرائيل سيقعدون أيامًا كثيرة بلا ملك وبلا رئيس وبلا ذبيحة وبلا تمثال وبلا أفود وترافيم، وبعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب وإلى وجوده في آخر الأيام» ونحن الآن بلا ملك لأن مملكتنا زالت وبلا ذبيحة لأن هيلكنا قد هُدم ولكن سنُعيد مملكتنا وهيلكنا طبقا لوعد إلهنا. نعم، إن الله يستحيل أن يترك شعبه، وإذا تركه حينًا فما ذلك إلا لتأديبه، وقد كفانا يا إلهنا هذا التأديب الهائل. لقد أخذوا بلادنا وسلبونا إرثنا واقتسموا كل مالنا. حتى أنت نفسك صاروا يدعونك إلههم لا إلهنا، وبذلك أصبحنا غرباء ضعفاء في الأرض التي عاهدتَ نفسك على إعطائنا إياها لنا ولأولادنا. انظر إلينا إننا متشتتون في جميع أقطارها كالسلك المنشور. أولادنا يبكون وآباؤنا يحزنون وبناتنا يلبسن السواد؛ لأنك نصرت الأعداء علينا، ولا نكاد نجد لدى هذه الأمم القاسية ملجأ نأوي إليه براحة وسلام مع عيالنا، ولا حجرًا نضع عليه رءوسنا. اسمع كيف يتهكمون علينا ويضحكون منا. يقولون: إنك أقمت إسرائيل جديدًا بدل إسرائيل القديم، ولكن هل أنت قاس إلى هذا الحد لتهمل القديم بعد إقامتك الجديد. لماذا لم ترشد القديم إلى هذا الجديد إذا كانوا صادقين في ما يقولون، وبناء على هذا أرد إليك يا أيها الفتى إيليا الكريم سهام برهانك قائلة: لا يمكن أن يكون الله هو الذي هداكم؛ لأنه لا يمكن أن يضلَّنا.

أما إيليا فلما سمع هذا الكلام أثر فيه أشد تأثير وخيل له أنه يسمع صوت أمة بأسرها ينادي هذا النداء. فعلم أنه يستحيل عليه بعد كل ما بذله من الجهد أن يقنع الفتاة من طريق الكتب والدين ما دام كل واحد يرى الأمور بعين تختلف عن عين الآخر. فترك إيليا الكتب والدين جانبًا ورام البحث من وجه آخر، وقد قال في نفسه إن أستير إذا تحركت أحشاؤها وتأثرت من هذا الوجه فإنها تكون كأنها صعدت أول درجة من درجات الإيمان، ولذلك قال للفتاة وهي في أشد اضطراب: يا أختي أستير، إنني أندب معك حالة قومك، وآسف للاضطهاد الجائر الذي يصيبهم من عدوان الناس وبغضهم، وكوني على ثقة من أن المسيحيين الذين يصنعون هذا يخرجون عن حدود المسيحية؛ لأن المسيحية إنما هي حب الأعداء ومباركة المبغضين، ولكن اشتراكي هذا معك لا يمنعني يا أختي من تذكيرك بأمر جدير بالذكر في هذا الموضوع، وهو أن الذي داس الحق في زمانه لا تؤثر كثيرًا في النفوس شكواه من دوس الناس حقه، ولنضرب لذلك مثلًا: لنفترض أن العامة في ليلة عيد الميلاد في بيت لحم وجدت فتاة يهودية تُدعى أستير فثارت تصوراتها وطلبت إما تنصير الفتاة أو قتلها؛ لأنها خالفت أوامر الحكومة بالدخول إلى بيت المقدس. فأرسلت الفتاة إلى دير على جبل الزيتون لإقناعها بجحود دينها. فرفضت ذلك رفضًا قطعيًّا، وفضلت الموت على ترك دين آبائها. فقام أولو الأمر وصلبوها على خشبة وأهانوها وقتلوها. ثم بعد ألوف السنين صارت أورشليم إلى اليهود، وقام محل الدير المسيحي في جبل الزيتون معبد يهودي كان اليهود يصلبون فيه الفتيات المسيحيات اللواتي يأبين جحود ديانتهن. فأي تأثير يكون في النفوس لكلام المسيحيين إذا كانوا يقولون يومئذ إن اليهود برابرة؛ لأنهم يصلبون الفتيات المسيحيات. ألا يرد حينئذ اليهود عليهم بقولهم: إننا تعلمنا هذه البربرة منكم.

فهمَّت أستير أن تجاوب إيليا فصاح إيليا: دعيني أكمل أولًا، وبعد ذلك تقولين ما تشائين. فيا أستير لو صلبوك — لا سمح الله — في دير العذراء، فماذا كان يقول أهلك وقومك؟ انظري إنني لا أبحث هنا في مسألتنا من وجه ديني قطعيًّا بل إنني أضع الدين والتوراة والإنجيل جانبًا، وأسألك كفتاة رقيقة القلب تبغض الشر والقسوة والظلم. فأجيبيني. أي ذنب جناه المصلوب الذي سفك دمه أجدادك، اسمعي ولا تقطعي حديثي فإنني أعرف اعتراضاتك. إنك تقولين إنه خان وطنك وجدَّف على دينك ورام هدم هيكلك، ولكن كل هذا لا أبالي به ولا يلتفت إليه اليوم أحد، وإنما يجب أن نسأل من كان المحق والمحقوق في تلك الحادثة الهائلة، فصاحب الحق وحده هو الذي يجب أن يعطى الحق بقطع النظر عن كل شيء.

واسمعي من كان صاحب الحق في هذه الحادثة — ماذا كان يقول المصلوب؟ — إليك خلاصة مطاليبه يا أختي بصرف النظر عن المسألة الدينية فإنني لا أنظر معك هنا الآن إلا في ناسوته نظرًا بشريًّا.

جاء ابن الإنسان يا أختي من دم يهودي. فنظر قومه وشعبه شاردين عن كتابكم التوراة يا أختي مفعم بمبادئ العدالة والرفق والصدق والمساواة والحكمة، ولكن هذه المبادئ كانت لا تتعدى الكتاب. أي إنه لم يكن منها شيء في النفوس. فالكهنة ألَّفوا في الأمة طبقة ممتازة لها السيادة والقوة والثروة والجاه، وكان الشعب تحتهم يئن من الفقر والذل والضيق، وهو ينظر شزرًا الاغنياء والعظماء؛ لأن غناهم وعظمتهم مخالفان لمبادئ المساواة الاجتماعية المعلنة في التوراة، وكأن هذا الخلل الاجتماعي لم يكن كافيًا وحده لعذاب الشعب المسكين فجاء مقرونًا بخلل ديني أيضًا فوضعوا أن العبادة الحقيقية لا تكون إلا في هيكل أورشليم. أي إنهم جعلوا بين نفوس البشر وبين خالقها تعالى حاجزًا عظيمًا لا يرفعه إلا الكهنة خدَمة ذلك الهيكل، ولا عجب في ذلك؛ لأن دخل الهيكل كان المورد العظيم لرزقهم وثروتهم. ثم استطردوا من تقييد الدين بالمكان إلى تقييده بالجنس، فقالوا: إن كل الأمم كلاب ولا إنسانية إلا في شعب إسرائيل، ولذلك كانوا يعتبرون باقي الناس نجسين لا يجوز لليهود معاشرتهم ولا الإحسان إليهم، وبما أن العبادة قد تقيدت بالمكان والجنس لزم أن يجر هذا القيد قيودًا أخرى، ومن هنا بدءوا يدخلون على دين موسى ما ليس منه في شيء، فأصبحت الظواهر الدينية الذي يسهل العمل بها مقدمة على البواطن لصعوبة العمل بها؛ فصار مثلًا الفريسي يمشي في الشوارع مغمض العينين لئلا يرى الشر والنساء * ومع ذلك فإنه كان يأتي في السر أكثر ضروب الشر، وإذا كانت جبهته تدمى أحيانًا من لطمه جدارًا في طريقه * لمشيه مطبق العينين فإن كثيرين من الناس كانت قلوبهم دامية من إساءاته وقسوة قلبه وسوء معاملته، وهكذا الصائم أيضًا؛ فإنه كان إذا صام عد عمله فضيلة وإن كان ينقض بأفعاله معاملاته كل أصول الفضائل، وهكذا حافظ السبت … وهلم جرا.

فماذا فعل ابن الإنسان يا أختي لدى هذه الأمور الجافة الباردة. هل اعترض على الدين. كلا. إنه قال: «ما جئتُ لأنقض بل لأكمل» وإنما نفسه اللطيفة كانت لا تستطيع قبول هذا الخروج عن الشرائع الإلهية الأبدية؛ لذلك نادى أن العشَّار الغريب المنبوذ أفضل من الكاهن الفريسي إذا هو استقبل الله بقلب نقي، والسامري المضطهَد المحتقَر أفضل من اليهودي إذا هو أغاث غريبًا جريحًا على طريق أريحا ولم يغثه اليهودي، وبذلك وضع أساس الإخاء والمحبة بين جميع أجناس البشر على الإطلاق هادمًا الحواجز الاجتماعية الموضوعة بينهم وجاعلًا مقياس الفضل والصلاح ومحبة القريب صنع الخير المجرد لأي إنسان كان، ولما قالت المرأة السامرية على بئر شكيم (نابلس) إن اليهود يقولون إن الصلاة لا تجوز إلا في أورشليم صاح بها قائلًا: «أيتها المرأة قد جاءت الساعة التي فيها يُعبد الله في كل مكان بالحق والروح» أي إن كل إنسان يجب أن يكون كاهن نفسه، وعبادته يجب أن تكون في كل مكان «بالحق والروح» أي بطهارة القلب دون شعوذة لربح المال ودون ظواهر مادية محسوسة. فيا أختي إن هذه العبارة وحدها هدمت العالم لتنشئ عالمًا جديدًا، ووا أسفاه ليت العالم الجديد يبقى متمسكًا بها.

فمن ذلك يا أختي أستير تفهمين السبب العظيم الذي من أجله ثار قومك على ابن الإنسان؛ فإن البشر لا يؤلمهم شيء مثل التعرض لمصالحهم وكبريائهم للإضرار بها، وهم أول ما يشعرون بالضرر والألم يتسترون بالدين، وينادون بأن تلك المبادئ التي تضر مصالحهم تضر الدين وتهدمه، وهذا ما جرى يومئذ. فإنه لما قويت سلطة ابن الإنسان على الشعب ورأى الكهنة والفريسيون أن تلك المبادئ الجديدة ستهدم مبادئهم ومصالحهم إذا استمروا ساكتين عنها قاموا يفترون على صاحبها بخيانة الملة والأمة والتجديف على الدين، ولكي يتمكنوا من بلوغ أربهم منه كذبوا عليه لدى والي الرومان بيلاطس بأنه يقول إنه «ملك اليهود وهم لا يريدون ملكًا غير قيصر» فيا أختي، هل رأيت في زمانك قط ظلمًا كهذا الظلم ورياء كهذا الرياء؟ إن قومك كانوا يكرهون الرومان وقيصر كل الكراهة، ويطلبون إلى الله أن يخلع عنهم نيره، ومع ذلك لم يأنفوا من تسليم واحد منهم للصلب بحجة أنه يقاوم قيصر مع أنه هو القائل لمن استفتاه في طاعة قيصر: «أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر».

وماذا فعل ابن الإنسان يا أختي عندما رأى كل هذا الافتراء والظلم والرياء، اسمعي ماذا فعل. إنه لم يغضب ولم يحقد، وفي ليلة صلبه جمع تلامذته وودعهم وغسل أقدامهم وفي جملتها قدما جاحده وعدوه يهوذا الذي أسلمه، ولما قبضوا عليه للصلب لطموه على خده وبصقوا في وجهه ووقفوا حوله يعرضونه للناس ويستهزئون به، ومع كل ذلك بقي ساكتًا هادئًا، ثم أخذوه خارج المدينة، وهناك صلبوه بين لصين فسمروا يديه ورجليه واقتسموا ثيابه واجتمعوا حوله يضحكون منه، وكان قد تركه كل الناس حتى تلامذته إلا النساء يا أختي فإنهن مثال الرقة والحنان ومعرفة الجميل، ومع هذا وهذا بقي المصلوب يا أختي ساكتًا هادئًا، وهل تعلمين يا أختي أول كلمة قالها على الصليب بعد ذلك؟ هي هذه مخاطبًا الخالق «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يصنعون» يا أختي انظري إلى دموعي. فلقد مضت على هذه الحادثة أكثر من ستمائة سنة وقرأتها أكثر من ستمائة مرة ومع ذلك فإنني أبكي لدى ذكرها لك الآن بكاء يفتت كبدي، ويا ما أرق قلبك يا أختي وأشرف عواطفك. إنني أجثو الآن باحترام لدى هذه الدموع التي أراها نازلة من عينيك؛ لأنها دليل على طهارة الإنسانية في داخلك. نعم يا أختي، إن كل إنسان فيه ذرة من طينة الإنسانية الطاهرة يتألم لهذه الحادثة التي انتصر فيها الباطل وخُذل الحق بصرف النظر عن كل مسألة دينية، والإنسان الذي يتألم لها لا يتألم فقط شفقة على عذاب الصدِّيق، بل لمصلحة نفسه أيضًا. إننا في الأرض يا أختي كلنا عرضة لاعتداء الظالمين والأشرار والمفترين. فواجب علينا أن يكون لنا مبدأ يحمينا من الظلم والافتراء؛ لنتمسك به في ظلمات هذه الحياة تمسك الغريق بخشبة في البحر، وهذا المبدأ هو (العدالة) — العدالة المطلقة لكل إنسان كبيرًا أو صغيرًا قويًّا أو ضعيفًا مؤمنًا أو وثنيًّا؛ إذ بفقدان العدالة المطلقة تفقد الحياة أساسها وأثمن ما فيها: وكل واحد من الناس يصير حينئذ في خوف على نفسه؛ لئلا تجعله التقادير المظلوم الذي لا بد من ظلمه لمصلحة طائفة أو أمة أو دولة، وهذا ما يسمونه: «بمصلحة الدولة»١ وبهذا المبدأ يا أختي صلب الصدِّيق؛ إذ قال قومك في مجمعهم يوم قرروا صلبه: «خير أن يموت واحد من أن تموت الأمة».
فيا أختي فلننبذنَّ هذه القاعدة القبيحة التي تحتج بها كل أمة أو حكومة تريد الخروج عن جادة الحق، ولنتمسك بالعدالة المطلقة كما تقدم. فإن التمسك بالعدالة المطلقة هو الذي يجيز الآن مثلًا لك ولقومك أن تحتجوا على ظلم المسيحيين لكم حتى لو كان في هذا الظلم مصلحة كل الأمم المسيحية، ولكن هذا التمسك بالعدالة المطلقة يوجب يا أختي الاعتراف بالجناية الهائلة التي حصلت على الجلجلة، وبدونه يكون كل تظلم رياء وكلامًا فارغًا ذاهبًا في الهواء. فإن الحق حق لا يتجزأ، وسواء في ذلك لدى العدالة المطلقة حق فرد أو حق أمة. فيا أختي فلنعترف بالجناية الهائلة التي حصلت. لنبحث كلنا معًا أمام الصليب؛ لأنه رمز أبدي لا يفنى إلى «الحق» الذي يجب أن لا يُداس في العالم وإذا داسه أحد فإنه ينتصر أبدًا. لنضع شفاهنا على نقط الدم التي جرت عليه لنمحوها بالقبلات والدموع. لنبك بحزن وألم أمام الذي تحمَّل الآلام بصبر إلهي بلا ضعف ولا شكوى، ولذلك قيل فيه: «إذا كان موت سقراط موت رجل حكيم فموت يسوع كان موت إله»٢ وفي الحقيقة يا أختي أي بشر يستطيع تحمل ما تحمله يسوع بقوة كقوته. أي إنسان وصلت فيه الإنسانية إلى هذا الحد من الكمال الإلهي. أستير أستير. هنا أرى يد الله ظاهرة كالشمس. هنا أرى الأرض تتوارى مدهوشة؛ لأن أشياءها وأشخاصها لا تستطيع أن تصل إلى هذا الحد من الكمال. فإذا أنكرنا هذا المثال الإلهي الذي شاء الله إعطاءه للأرض الناقصة التعيسة زعزعنا الكرة الأرضية كلها؛ لأنه بنفس العقل الذي يُنكَر به هذا المثال يُنكر كل ما في الأرض من السماء. تنكر التوراة حينئذ، ويقال عنها إنها أساطير قديمة جمعت في أزمنة مختلفة بناء على شريعة منسوبة لموسى مع أن موسى لم يكن له وجود في العالم كما يقول كثيرون من أكابر العلماء٣ تُنكر نبوءات أشعيا ودانيال وغيرهما في مجيء المسيح؛ لأنهم يقولون إنها صُنفت تصنيفًا لعدم وجود رجلين باسم أشعيا ودانيال في الأرض قط، وإن تلك النبوءات ليست إلا هذر وهذيان شيوخ كانوا مغتاظين من البابليين الذين أسروهم وسبوهم إلى بابل، ولذلك كانوا يعللون نفوسهم في أحلامهم وضيقهم بمنقذ يعيد مملكتهم إليهم. تُنكر أيضًا حينئذ كل ما في الأرض من آثار العناية الإلهية يا أستير، ونصير كلنا في ظلام أبدي. فما الداعي إلى كل هذه الخسارة يا أختي؟ وماذا نربح في مقابلتها؟ لا شيء.
إذن فلنعترف بقدرة الله على كل شيء. فلنعترف بأفعاله الظاهرة في مخلوقاته. فليعترف كل فريق منا بفضائل ومزايا الفريق الآخر. إنني يا أختي أحب قومك حبًّا شديدًا، وأعرف فضلهم على العالم. فهم الذين كانوا مهد الدين والوحدانية. هم الذين كانوا أول من بذروا في الأرض مبادئ المساواة الاجتماعية والعدل والعبادة النقية المنزهة عن عبادة الأمور الحسية، وتاريخهم تاريخ الصلة الأولى بين الله والناس، ولكن هذا الاعتراف يا أستير يجب أن يكون كاملًا، وكماله أن نعترف أيضًا بالسيئات بعد اعترافنا بالحسنات؛ فنقول: إن شريعة قومك بعد التحول الجديد الذي طرأ عليها كما وصفته لك لم تعد بكافية للإنسانية؛ لأن ارتقاء الإنسانية كان يستوجب شريعة أرقى منها، ولذلك جاءت الشريعة المسيحية بآدابها النقية وقداستها السماوية. فتشي وابحثي يا أختي أين تجدين في الكتب القديمة مبادئ كالمبادئ الإنجيلية. انظري ياعزيزتي، إن المعطلين والوثنيين أنفسهم ينحنون باحترام أمام هذه المبادئ بصرف النظر عن المسائل الدينية؛ لأنها أرقى صورة للكمال في هذا العالم، وكثيرون من قومك العقلاء المنصفين يعترفون بذلك، وأؤكد لك أنني سمعت ذلك منهم بأذني، ولا تقولي إن تلك المبادئ مستمدة من التوراة فإن المنصفين٤ الذين يطلبون الحقيقة المجردة دون انتصار لحزب دون حزب يُثبتون أنها منقطعة عما قبلها انقطاعًا حقيقيًّا، ومتى ثبت هذا فقد ثبت الحق في جانب واضعها والمحقوقية في جانب الذين اضطهدوه من أجلها.

فيا أختي أستير، فلنضع كل جدال ديني جانبًا. لنترك المماحكات التي لا فائدة فيها لبشر بعقول قاصرة محدودة كعقولنا. أنت يهودية وأنا مسيحي، ولكن لا أنت يمنعك دينك أن تعترفي بالحق ولا أنا يمنعني ديني أن أعترف به، وإلا فإن الأديان تكون أديان فساد لا أديان صلاح وصدق وإخاء ومساواة. فأنا أعجب بتاريخكم وبشعبكم وبحكمائكم وبقوة نفوس أمتكم، ولكن إعجابي هذا سابق لصلب الصدِّيق، وأما ما بعده فإنني آسف؛ لأنكم لم تجدوا في نفوسكم وحبكم القديم للصدق والحق والعدل من القوة ما يمكنكم من الاعتراف بالخطأ الهائل الذي حدث على يدكم.

فيا أستير أخبريني، أيطاوعك قلبك اللطيف الرقيق بعد الآن أن تخافي من الصليب الذي هو رمز انتصار الحق وانكار الذات والآلام والمصائب الأرضية. بالله قولي. ماذا طلبوا منك على الطريق لكي تظهري كل ذلك النفار والإباء من طلبهم. طلبوا منك أن ترسمي في الهواء على صدرك بإشارة يدك شكلًا كشكل هذا الرمز. فلو رسمت هذا الشكل لما كان لذلك من معنى لديك سوى هذا «إنني أذكر بهذه الإشارة أن الحق لا يُداس في الأرض بل ينتصر أبدًا» ثم هل علمت معنى اليدين الممدودتين اللتين خفت منهما في الدير؟ معناهما: «يا أختي يا بنت دمي ولحمي، إنني متُّ وأنا أغفر لكم فإذا لم تشائي الإيمان بي فلا أقل من التألم لحادثتي» – فيا أستير مدي يدك بجرأة إلى هاتين اليدين وخذي بهما ولا يروعنك أمرهما. هو ذا انظري. منذ طفولتي اعتادت أمي أن تعلق في عنقي صليبًا صغيرًا عُلِّق أيامًا على الصليب الكبير القائم في الجلجلة، والذي لا يزال حتى اليوم بختمه كما ختمته الملكة هيلانه أم قسطنطين٥ * فإليك هذا الصليب الصغير لنرى ألا تزالين تخافين منه. خذيه في يدك. نعم هكذا، انظري إليه بحنو لا بخشونة، لماذا تبكين يا أختي؟ هل هذه الدموع للغيظ أم للحنان. إذا كانت للغيظ فرديه إلي، وإذا كانت للحنان فبالله ضعيه على شفتيك، آه ما أشد حنان قلبك وأرق عواطفك، اسمحي لي الآن بعد وضعه على شفتيك أن أقبِّله أنا أيضًا، وبذلك لا أُقبله فقط بل أقبل أيضًا شفتيك. أستير أستير إنني الآن في أشد حالات الهياج، ولم أعد قادرًا على ضبط نفسي. فأنا أصيح على مسمع منك، والله يسمع كلامي، ويشهد عليَّ: إنني أحبك أحبك، بحياتك لا تنفري واسمعي، إنني منذ وقع نظري على نظرك سرت في نفسي كهربائية نفسك، قد كنت مللت هذه الحياة الباردة الجافة، وسئمت كل ما فيها؛ لأن كل ما فيها صغير دميم خشن دنيء، أما الآن بعد أن عرفتك فقد صرت أراها جميلة مثلك. نعم، ما أطيب العيش وما أرغد الحياة معك. إن كل الأشياء فيها تستمد حينئذ بهاءها من بهائك، وكل ألوانها تصبح حمراء زرقاء بيضاء بلون خدك وعينك وعنقك، وأما لون شعرك فلا تستمد منه أيامي شيئًا معك. فيا جميلتي، إن الله أرسلك إلي كما أرسلني إليك. فلا تتركي الحواجز الصناعية التي يضعها البشر تحول بيني وبينك. يا أستير، لا تظني أنني قدمت لك كل تلك المقدمة الطويلة لأحولك عن مذهبك. كلا يا أختي، إنني أحترم مذهبك، وكل مذهب يجد فيه صاحبه راحة وسلامًا وحقًّا وفضيلة، وإنما قصدت أن أعلمك احترام مذاهب غيرك.
قصدت أن أريك أنه من المضحك في الحياة أن يأكل الرؤساء الحصرم والمرءوسون يضرسون. فالرؤساء يضعون الترتيبات والنظامات التي تفرق بين البشر، والبشر يتبعونهم مغمضي العيون كعميان يقادون إلى حيث لا يعلمون. فما لنا ولهم يا أستير، فلندعهم في أعمالهم ومصالحهم، ولنعمل نحن أيضًا ما فيه مصلحتنا. لنضع أديان البشر جانبًا في مكان مقدس محترم، ولنجتمع على دين جديد يقبل كل الأديان الفاضلة ولا يرفض أحدها، وهذا الدين هو دين العدالة التي تقدم ذكرها والحق والمحبة والصفح للجميع،٦ ونحن الصغار المرءوسون المظلومون بهذه الحياة في أشد حاجة إلى إقامة «الحق والعدالة والمحبة» مقام كل شيء. فيا أستير ضعي يدي في يدك لنعيش بسلام في هذه الأرض على هذا الدين الجديد الذي تُحترم فيه كل الأديان. فأنت تحترمين مذهبي كما أحترم أنا مذهبك ونترك الزمان يفعل فعله، وإذا اقتضت الحال عرض مسألتنا على البطريرك فلا أطلب منك شيئًا أكثر من تقبيل هذا الصليب الصغير أمامه كما قبلته الآن أمامي».

هذا ما خاطب به إيليا أستير لدى قبر الراهب ميخائيل، وكانت أستير مصغية إليه أشد إصغاء في أثناء كلامه، وإن القلم ليعجز عن وصف ما قام حينئذ في نفسها.

١  Raison d’état.
٢  قول لجان جاك روسو في كتابه أميل.
٣  اسم موسى في الأنسكلوبيذية الفرنسوية.
٤  في جملتهم الفيلسوف رنان في كتابه تاريخ المسيح.
٥  درابيرون.
٦  هنا يظهر في كلام إيليا أثر تعليم الراهب كما ورد في ختام خطبته على الجبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤