الفصل الثالث عشر

حلم أستير

في أن للمجاذيب قلوبًا تتحرك أيضًا

***

ولما رجعت أستير من سياحتها في المزرعة مع إيليا كانت صفراء اللون بعد الاحمرار مبهوتة تفكر كثيرًا وتتنهد كثيرًا، وفي تلك الليلة لم تتناول طعامًا ولا نطقت بكلمة، وكان الشيخ سليمان يعجب من هذه الحالة، ولكن إيليا كان يراقبها مراقبة شديدة ليعلم ما وراءها؛ لأنه كان على ثقة من أنها نتيجة حديثه معها.

فكأن هذا الحديث هدم الحواجز التي كانت في نفسها، فاشتغلت هذه النفس بالخرائب التي حصلت فيها، وهذا شأن الهدم إذا لم يُقرن بالبناء، وقلما يُبنى على أنقاض الأخربة المهدومة.

ولما هبط الظلام استأذنت أستير في الدخول إلى غرفتها للنوم طلبًا للراحة، وقبل أن دخلت إليها ألقت في خلال كآبتها وانقباضها نظرة إلى إيليا وابتسمت له. فطار صواب إيليا لهذا الابتسام الملائكي، وقال في نفسه: لعله جواب إيجابي عما تقدم.

واتفق أن غرفة إيليا كانت بجانب غرفة أستير فلما مضى الهزيع الأول من الليل دخل إيليا إلى غرفته أيضًا، وبعد أن خلع ملابسه ورقد في فراشه سمع تقلُّب أستير في فراشها في غرفتها. فعلم أنها لم ترقد بعد. فبقي إيليا ساهرًا في فراشه لا يزور الكرى جفنيه حتى سكنت حركات أستير ورقدت، وكان ذلك بعد منتصف الليل. فألوى إيليا حينئذ رأسه على وسادته وتنهد تنهدًا من صميم قلبه، ثم استلسم إلى الكرى فطارت روحه إلى عالم الأحلام لتلتقي بروح أستير التي سبقتها إليه.

وكانت عين إيليا آخر عين رقدت في المزرعة في تلك الليلة.

إلا أن عينًا أخرى من غير المزرعة كانت حينئذ في ظلمة الليل ترصد المزرعة من خارج، وتحوم حولها كما يحوم النسر على الفريسة، ولذلك لم تمر نصف ساعة بعد منتصف الليل حتى كان شبح يتسلق جدار المزرعة ويهبط إليها.

وكأن هذا الشبح كان يطلب في المزرعة غرضًا معلومًا؛ لأنه لم يهبط إلى أرضها حتى سار متلصصًا نحو غرفة أستير ووقف على نافذتها المشرفة على فناء المزرعة.

وهناك بقي جامدًا هامدًا يصغي بكل جوانحه.

لكن هذا الشبح لم يكد يستقر في مكانه وراء النافذة حتى علا من غرفة أستير صراخ وبكاء. فأجفل الشبح وصار ينظر حوله خوفًا من أن يفاجئه أحد. ثم اشتد البكاء مقرونًا بزفير وشهيق متصلين. فيظهر أن إيليا انتبه على صوت بكاء أستير فهب من رقاده مهرولًا، وخرج من باب غرف المزرعة قاصدًا نافذة أستير الخارجية ليتنصت عليها. فما كاد يصل إلى النافذة حتى لمح الشبح الأول الذي كان واقفًا هناك.

وكانت زوبعة أمس قد سكنت والريح هادئة والظلام دامس. فهجم إيليا بشجاعة نحو الشبح ولا سلاح في يده غير قبضته، ولما وصل إليه أخذ بيديه أخذًا شديدًا وصاح به: من أنت١ فضحك حينئذ الشبح ضحكًا شديدًا، وأجاب: أما عرفتني يا كيريه إيليا؟ فحينئذ عبس إيليا وأجاب: وماذا تصنع هنا يا أرميا؟

أما أرميا وهو عين الشبح المذكور فإنه زاد ضحكًا وأجاب: أنا أصنع كما تصنع أنت. فغضب إيليا حينئذ وقال: يا أرميا إن نزولك إلى المزرعة تحت جنح الدجى أمر غير حسن. ثم تركه إيليا ودخل فأيقظ الشيخ سليمان، وأخبره ببكاء أستير في الليل، ووجود أرميا في المزرعة.

أما الشيخ سليمان فلم يبال بهبوط أرميا إلى المزرعة في تلك الليلة؛ لأن إيليا لم يوقفه على سبب ذلك، ولهذا لم يهتم إلا بأمر أستير. فذهب في الحال ونبه بناته، وبعد ثلاث دقائق اجتمعن في عرفة أستير يؤانسونها.

أما أستير فإنها لما وقع نظرها على إيليا زاد بكاؤها حتى كاد يُغمى عليها، وكان أرميا من خارج يسمع صوتها. فقال في نفسه: إذا لم يكن ذلك الليلة فغدًا.

ولما سألت البنات أستير عن سبب بكائها أجابتهن أنه حلم مريع، ولكنها لم تقص لهن شيئًا من هذا الحلم، وفي الحقيقة أنه كان مؤثرًا. فإن أستير لم تكد ترقد حتى رأت نفسها في كنيسة جاثية أمام الصليب وهي تقول: «إنني أكفِّر يا سيدي عن جناية أمتي» لكنها لم تلبث أن رأت أمها العجوز المقعدة قد دخلت إلى الكنيسة ركضًا؛ لأنها كانت تفتش عنها، وإذ أبصرتها صاحت بها «أهكذا تتركينا يا أستير، أهذه ثمرة أتعابنا فيك». فانتبهت أستير مذعورة مرتعدة، واندفعت تبكي بكاءً شديدًا دون أن تتمالك نفسها كما يحدث كثيرًا للذين يرون أحلامًا مؤلمة.

وكانت حينئذ قد دخلت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وبينما كان الفتيات يسكنَّ روع أستير في داخل الغرفة جاء أرميا وطلب الانفراد بإيليا. فخرج إليه إيليا عابسًا. فأخذه أرميا إلى جانب في ساحة المزرعة، وابتدأ الحديث بقوله: يا كيريه إيليا على أي شيء عزمت الآن؟ فدهش إيليا وأجاب: أي شيء تريد؟ فقال أرميا المعتوه: أنت تعلم أن الصيد لمن صاده، وأنا وأنت قد اصطدنا صيدًا فلماذا تنفرد به أنت وحدك؟ فحملق إيليا وصاح به: ما معنى كلامك هذا؟ فضحك أرميا ضحكة شديدة وأجاب: أنظرت يا كيريه إيليا. إنه لا يغضب إلا المخطئ، وأما الذي يكون ذا حق مثلي فإنه يكون هادئًا دائمًا، واسمع لأفسر لك كلامي. يا كيريه إيليا، ضع يدك على صدري فتعلم أن لي قلبًا مثل قلبك، وهو يتحرك أيضًا كما يتحرك قلبك. فأنا أحب كما أنت تحب، وأول ما وقع نظري على هذه الفتاة الوثنية أحببتها من صميم قلبي، وصرت أرى من واجباتي هدايتها إلى الإيمان الحقيقي. ثم لما اصطدناها معًا على الطريق ليلة أمس صار لي الحق فيها، وأنت أيضًا لك فيها حق لا يُنكر. فماذا تريد الآن هل تبيعني حقك أم تشتري حقي؟

فعند هذا الكلام تحول غضب إيليا إلى ضحك رغمًا عنه، ولكنه بقي يظهر الجد، فقال: ومن أخبرك أنني أحبها، ثم ما هي طريقة هذا البيع والشراء؟

فقهقه أرميا وأجاب: أما حبك فقد عرفته، وأما البيع والشراء فله ثلاث طرق: الأولى: أن نقترع على الفتاة فالذي يربحها تكون له، والثانية: أن نتناظر في الدين فالذي يغلب رفيقه تكون من نصيبه، والثالثة: أن تكون الفتاة للذي يتنازل للثاني عن وظيفته. فأنا وظيفتي حراسة ورثاء أورشليم على الجبل وأنت وظيفتك رئاسة هذه المزرعة. فإما أن تبقى في وظيفتك وتكون الفتاة لي أو تأخذ وظيفتي على الجبل تاركًا المزرعة لي فتكون الفتاة لك.

فهز إيليا حينئذ رأسه وعجب من نفسه لإصغائه لكلام هذا المعتوه. فأجابه باستخفاف ظاهر في وجهه: سنتباحث في هذا أيها النبي أرميا. ثم تركه وعاد إلى منازل المزرعة.

أما أرميا فإنه تأمل فيه وهو عائد عنه، وقال في نفسه: إنك تضحك مني، ولكني أقسم بالله أنني سأحرمك إياها.

وكان الهدوء قد عاد إلى المزرعة، ودخل كل واحد إلى غرفته للرقاد بقية الليل، وكذلك أرميا دخل إلى إحدى الغرف لينام، ولكنه كان ينام بعين ويسهر بالأخرى، وهو يقول في نفسه ضاحكًا ضحك المجاذيب: «إن إيليا سيخسر الفتاة من ذات الباب الذي ربحها منه».

١  قال روسو في كتابه «أميل»: إذا تعرض لك في ظلام الليل الدامس شخص على حين فجأة؛ فأول ما يجب عليك دفاعًا عن نفسك: أن تقبض عليه من جانب يديه، وأن تضغط عليه بكل قوتك، وتسأله من هو؟ وماذا يريد؟ ولا تتركه إلا بعد طمأنينة نفسك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤