الفصل السادس عشر

بين أستير وأرميا وإيليا

في أثناء الحصار

فأقام أبو عبيدة نحو أربعة أشهر * على حصر بيت المقدس على هذا المنوال، وكان جنده لانكشافهم أمام أسوار عدوهم يلاقون بلاء أشد من بلاء المحصورين، ولم تُغن عنهم درفهم شيئًا، وكان الوقت وقت مطر وبرد وثلج فعانى الفريقان من ذلك ما عانياه حتى سئما الحرب والقتال. *

وفي ذات يوم بينما كان أبو عبيدة في مضربه، ورحى القتال دائرة حول المدينة، وإذا برجل يقصده ويسأل الناس عنه، وكان وراءه عجوز على حمار. فلما وصل إلى مضرب الأمير أنزل العجوز إلى الأرض وفرش لها رداء لتجلس عليه، ثم دخل على الأمير فسلم وناوله كتابًا صغيرًا كان مخبوءًا في ثيابه. فلما قرأه أبو عبيدة بغت وصاح به: أنت يوسف؟ فقال الرجل: نعم أيها الأمير، فقال: اجلس وقص عليَّ ما تعلم فقد كُتب إليَّ في شأنك منذ أشهر، ولماذا لم تفد علينا قبل الآن؟ فأجاب الرجل: لأنني لم أجد قبل الآن عذرًا يمكنني من الخروج من المدينة لملاقاتكم؛ لأن الروم دروا بأمري. فقال أبو عبيدة ضاحكًا: وهل قبضوا عليك؟ فغص الرجل بدمعه، وقال: قبضوا عليَّ وعلى ابنتي، فأطلقوني وأسروا ابنتي في دير لهم. وأمس زرت هذا الدير بأمر بطريركهم، فعلمت منه أن ابنتي فرت من الدير ولم يوقف لها أثر. فقال أبو عبيدة: وكيف تركوك تخرج الآن من المدينة؟ فقال الرجل: إن قائد الجند دعاني إليه بأمر البطريرك وإشارته فأظهر لي اللطف والمجاملة، ثم عهد إليَّ أن أجيئكم، وأظهر أنني فارٌّ منهم إليكم، وبعد ذلك أخبركم بقوتهم وعزمهم على القتال، وقرب وصول المدد إليهم حتى أوهن عزائمكم، فتبدءوا بطلب الصلح منهم، ويظهر لي أن غرضهم من ذلك هو الصلح ليأس البطريرك من ورود مدد إلى المدينة من ملكهم.

فأطرق أبو عبيدة يفكر ثم سأله: لقد مر على قتالنا لهم بضعة أشهر بدون جدوى فما ظنك لو حاربناهم شهرين أيضًا. فتأمل الرجل هنيهة ثم أجاب: هؤلاء النصارى لا يؤثر فيهم شيء مثل الضغط عليهم. فشد عليهم الوثاق أيها الأمير، ولا تقبل منهم الصلح؛ إذ أية فائدة لكم فيه. أما إذا أخذتم المدينة فتحًا بالسيف فإنكم تغنمون كنوزهم وأموالهم.

فنظر حينئذ أبو عبيدة إلى ذلك الرجل، وقال في نفسه: إن البغض بين هذين الفريقين من أهل الكتاب — اليهود والنصارى — لا يزول أبدًا، وكان ضرار بن الأزور عائدًا حينئذٍ من ساحة القتال لحاجة فناداه الأمير، وقال له: خذ هذا الرجل إلى خيمتك وأصلح حاله في هذا الشتاء. فسار الرجل والعجوز وراء ضرار إلى خيمته.

وما كاد الثلاثة يصلون إلى خيمة ضرار حتى سمعوا من الخيمة بكاءً فقال ضرار لرفيقه: أتعرف لغة الروم يا رجل؟ فأجاب الرجل بالعربية، وكان يعرفها كما تقدم: نعم أعرفها أيها الفارس الهمام فأي أمر تريد؟ فقال ضرار عندي فتاة من الروم أسرتها منذ مدة على طريق مهد عيسى١ مع رومي مجنون، وهي لا تزال تبكي ليلًا ونهارًا، وقد أحبتها أختي خولة، وعزمت على إدخالها في الإسلام؛ لتكون لي زوجًا، ولكنها لا تستطيع مخاطبتها؛ لأن الفتاة لا تفهم لغتنا.

فقال الرجل مفكرًا: سأراها الساعة. ثم بدأ يرطن بلغته مع العجوز فاستوت العجوز حينئذ على حمارها، وقد أبرقت عيناها دهشة، وسار الجميع بخطى واسعة إلى الخيمة والعجوز تتطاول نحوها.

ولكن ما كاد الثلاثة يشرفون على الخيمة ويلقون نظرة إلى داخلها حتى صاحت العجوز صيحة أجفل لها النساء والأولاد الذي كانوا في الخيام القريبة، وهرع الرجل والعجوز نحو الفتاة الأسيرة في الخيمة يُقبِّلانها وتُقبلهما باكين جميعًا.

فعلم ضرار حينئذ أن هذه الفتاة نسيبة للشيخ والعجوز.

أما القارئ فإنه ولا شك علم أن الفتاة هي أستير والرجل أبوها والعجوز أمها.

أما ضرار فإنه لما علم من الشيخ أبي أستير أن الفتاة ابنته أُسقط في يده؛ لأنه كان يُطمع نفسه فيها. إلا أنه صار أكثر إكرامًا للشيخ مما كان قبل علمه بذلك.

وقد قصت أستير على أبيها وأمها كل ما جرى لها، وكيف أنقذها شاب من مزرعة تحت جبل الزيتون، ثم فرت منها فأسرها العرب على طريق بيت لحم. إلا أنها لم تذكر لها شيئًا مما حدث لها مع إيليا، وقد غصت بدمعها مرارًا وهي تحكي لهما قصتها من ذكرى ذلك الشاب الكريم الذي فارقته رغمًا عنها.

ومنذ هذا الحين أصبحت أستير طليقة في حي العرب مع أبيها وأمها.

وكان أول شيء فكرت فيه أستير بعد إطلاق سراحها إنقاذ أرميا الذي أحسن معاملتها وأُسر معها. فسأل أبوها ضرارًا عنه فأخبره أنه أسير عند رجل من البادية لم يقدر أحد غيره على كبح جماحه. فسارت أستير مع أبيها وضرار إلى خيمة الرجل. فلما أطلوا عليها أبصروا في إحدى زواياها رجلًا مطروحًا كالجذع الممدود وهو موثق اليدين والرجلين بحبال ثخينة. فلما سمع هذا الرجل صوت حركة وراء الخيمة انتفض انتفاضًا شديدًا، وأخذ يصيح ملء فيه — يا قتلة الأنبياء وآسري المرسلين. أهكذا تصنعون بي؟ كفى الأرض ما فيها من الظلم فلا تزيدوا ظلمًا جديدًا فيها. أتظنون أنها تفتح لكم بالاضطهاد والأسر والقسوة. لا لا. فإنكم إذا لم تعدلوا لم تسودوا، وإذا كانت هذه فاتحة أعمالكم فخاتمتها بلاء وعذاب. تأسرون الأنبياء وتطرحونهم على الأرض كالكلاب. تأسرون الفتيات الضعيفات وتسيئون إليهن. أخذوها أخذوها، وحرموني إياها. إيليا إيليا. أظن هذا عقابًا لي لأنني خنتك، وهذه عاقبة الخائن دائمًا، وأنتم أيضًا تخونونني فستكون عاقبتكم كذلك.

ولما ترجم الشيخ أبو أستير لضرار هذا الكلام ضحك منه حتى استلقى؛ لأنه علم من أستير وأبيها أن الرجل معتوه. ثم دخل وحده على أرميا. فلما رآه أرميا هاج كالجمل الثائر وصاح: أنت كبيرهم. أنت ظالمهم. أين الفتاة؟ أما تخافون الله ويوم الحساب؟

فدنا حينئذ ضرار منه وفي يده سيفه، فلما رأى أرميا السيف قامت قيامته، وصار يعوي عواء الكلاب والذئاب خوفًا من القتل. فعلم ضرار خطأه، فدعا الشيخ أبا أستير فدخل وحده. فقال الشيخ لأرميا بعد أن أسكته إن ضرارًا لا يقصد إلا قطع وثاقه بالسيف. فلم يطمئن أرميا بل عاد العواء والصراخ، وصار يدفع ضرارًا رفسًا برجليه وبصقًا بفيه كأنه حسب البصاق حجارة مقلاع تدفع عنه، وكان ضرار في أثناء ذلك يضحك ضحكًا شديدًا. فلما رأى الشيخ خوف أرميا من ضرار أخذ السيف بيده ودنا من أرميا فعاد أرميا إلى العواء والصراخ والرفس والبصق. فيظهر أن أستير علمت وهي تراقب هذا المشهد من خارج الخيمة أنه لا يحل هذه المشكلة غيرها فدخلت باسمة تختال بحلل الجمال والدلال.

فلما وقع نظر أرميا على أستير دُهش وصاح متنهدًا من أعماق قلبه قائلًا: من أنقذك؟ هاها، ما أقوى النساء الجميلات. فإنهن ينقذن أنفسهن دائمًا، أعطوها السيف أعطوها السيف. فإنني لا أأتمن غيرها على روحي. ياعزيزتي، اذكري أنني خلصتك فخلصيني.

فأخذت أستير السيف بيدها البيضاء الجميلة، ودنت من أرميا وهو ممدد، فصار أرميا يضحك لها. فقطعت أستير بالسيف الحبال التي كانت توثق يديه ورجليه، فنهض أرميا، وصار يتمطى كنمر كان مقيدًا وأطلق من قيده.

وبعدما أصلح أرميا شأنه وملابسه دنا من أستير باهتمام وقال لها: لقد أطلقونا الآن فهلمي بنا. فضحكت أستير وأجابت: إلى أين؟ فصاح أرميا: كل الأماكن خير من هذا المكان. هلمي يا أختي لنعيش بالبرية معا كالرعاة. فعبس أبوها وهز رأسه، وهو يقول في نفسه: إنه صار يجب عليه إنقاذ الفتاة لا من ضرار فقط بل من أرميا المعتوه أيضًا، ومنذ هذا الحين عرف صعوبة موقف الرجل بين بعض الرجال إذا كان يصحب فتاة متناهية في الجمال.

أما ضرار فإنه لما علم بمطلب أرميا هز سيفه حتى دب الموت بإفرنده وقال له: والله إذا ذكرت الرحيل مرة أخرى لأجعلنك مرتعًا له. – فابتعد عنه أرميا دون أن يفهم كلامه، وهو يدير فيه عينين مذعورتين، ويبحث بهما في الأرض عن حجارة أو أخشاب يدفع بها عن نفسه إذا هاجمه صاحب السيف.

أما الشيخ أبو أستير فإنه خلا بأرميا وأخبره أن أمير العرب أسرهم، ولا يأذن لهم بالرحيل، ولكنه أذن لأرميا بذلك، وكان أرميا قد علم أن الشيخ هو أبو أستير فقال له: أنا مقيم معكم حيثما تقيمون.

ومنذ هذا الحين صار أرميا يتجول في حي العرب بين الخيام؛ لمشاهدة تلك المنازل البدوية الغريبة، وفي المساء يعود إلى خيمة ضرار وينام في الليل على بابها، وأستير في داخلها مع أبيها كأنه حارس لها.

وفي ذات يوم بينما كان يدور بين الخيام متجنبًا المضارب التي فيها نساء وأولاد وأصوات القتال واردة من جهة بيت المقدس وإذا به قد بلغ خيمة رفيعة العمد عالية الأطناب، وكان حول هذه الخيمة خيام كثيرة تحيط بها على مسافات مختلفة، والناظر إليها يعرف لأول نظرة أنها خيمة زعيم قومه، وفي الحقيقة أنها كانت خيمة الفارس المغوار المشهور عمرو بن معدي كرب الزبيدي الذي ترك بوادي اليمن، وجاء في رجاله لنصرة جند الشام مع مالك بن الأشتر النخعي في أواخر خلافة أبي بكر.٢

فلما دنا أرميا من هذه الخيمة الشامخة سمع فيها صوتًا يتكلم باللغة اليونانية، فعجب من ذلك، وتقدم متلصصًا، فلما أطل على الخيمة أبصر في إحدى زواياها ما أثار دهشته، فرجع القهقرى مستغربًا.

ذلك أنه أبصر في تلك الزاوية «إيليا» جالسًا مشدود اليدين شدًّا خفيفًا.

وكان إيليا يحادث رجلًا آخر جالسًا أمامه لكن هيئته كانت تدل على أنه ليس بعربي.

وحينما تحقق أرميا وجود إيليا هناك ابتعد عن الخيمة، وجلس يفكر مليًّا، ويظهر أنه قرر في نفسه شيئًا؛ لأنه أول ما أبصر رفيق إيليا قد خرج من الخيمة لحاجة له نهض مسرعًا إليه، ولما صار بجانبه خاطبه باليونانية قائلًا: هل أنت عربي أيها الأخ؟

فنظر إليه الرجل وقال: أخبرني أولًا من أنت لأخبرك من أنا؟ فأجاب أرميا: ما قصدتك لهذا، وإنما لأخبرك خبرًا عظيمًا. أتحب ذلك؟ فأجاب الرجل وقد بدأ يتأمل في وجه أرميا: وما هو هذا الخبر؟ فقال أرميا باهتمام شديد: أما عرفت هذا الرجل المقيم في هذه الخيمة مشدود اليدين؟ فقال الرجل: وقد بدأ يهتم لحديث أرميا: لا ومن عساه يكون؟ فضحك أرميا وقال: أنتم تقبضون على كنز ثمين بل على مفتاح المدينة دون أن تعلموا بذلك. فزاد اهتمام الرجل، وقال: ومن عساه يكون؟ فقال أرميا: هذا الأسير ستفدون به عشرة آلاف أسير منكم إذا شئتم. فصاح الرجل وقد فرغ صبره: ألا تقول من هو. فدنا أرميا حينئذ من الرجل وانحنى على أذنه وهمس فيها قائلًا: هذا ثيودوروس أخو الإمبراطور.

فدهش الرجل ورجع القهقرى عجبًا. ثم سأل أرميا: ومن أين عرفته؟ فضحك المعتوه وقال: وهل أحد منا يجهل أخ الإمبراطور؟ فاحرصوا عليه جيدًا إذا شئتم فتح المدينة فإنه ربما افتداه الإمبراطور منكم بالمدينة كلها.

فعاد الرجل نحو الخيمة التي كان إيليا فيها وهو يفكر كثيرًا، أما أرميا فإنه عاد عنها نحو خيمة ضرار، وصار يبذل جهده؛ ليمنع أستير وأباها من الذهاب نحو خيمة إيليا.

والعادة أن علو المقام يجرُّ دائمًا زيادة الأتعاب والأثقال، ولذلك ما انتشر بين تلك الخيام أن أخ الإمبراطور أسير في خيمة الأمير عمرو بن معدي كرب حتى تهافت الناس من كل جانب لمشاهدته، وأدى هذا الأمر إلى التشديد في حراسته والتضييق عليه.

أما إيليا فلم يكن يفهم شيئًا من ذلك الإكرام الجديد له والتألب عليه. حتى الترجمان نفسه الذي كان يقصده ويحادثه في الخيمة صار لا يقترب منه إلا بإكرام خاص.

وكان غرض أرميا من صنع ما تقدم رغبته في أن يحول دون إطلاق سراح إيليا وإبقائه بعيدًا عن أستير إلى أن يتمكن من إخراجها من هذا المكان بالكلية، ولكنه ما درى أن هذه الحيلة ستؤدي إلى عكس غرضه. فإنه لما فشا بين المسلمين أن أخ الإمبراطور وقع أسيرًا في قبضة بعض من رجال عمرو بن معدي كرب الذين ساروا لارتياد الضواحي وراء القدس، ووصل هذا الخبر إلى الأمير أبي عبيدة القائد العام أمر أبو عبيدة في الحال بأن يؤتى إليه باليهودي يوسف؛ ليتحقق منه هذا الأمر، وكان هذا الاسم اسم أبي أستير كما تقدم. فلما حضر الشيخ بين يدي أبي عبيدة صحبه أبو عبيدة إلى خيمة عمرو بن معدي كرب وأراه إيليا؛ ليعلم أهو أخو الإمبراطور حقيقة لعله يعرفه، ولكن ما وقع نظر الشيخ على إيليا حتى أسرع إليه صارخًا: هذا إمبراطور لا أخو امبراطور؛ فإنه إمبراطور الشهامة والرفق والمروءة.

ثم قص أبو أستير على أبي عبيدة ما صنعه إيليا معه ومع ابنته على طريق بيت لحم. فدنا حينئذ أبو عبيدة الرجل الكريم المحب للكرام، وقطع وثاق إيليا بيده، وأطلق سراحه.

وقد جرى كل ذلك دون أن يدري به أرميا وأستير. فكأن أرميا نفع إيليا من حيث قصد مضرَّته، وذلك مصداق لقول من قال: «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها».

أما إيليا فإنه لما وقع نظره على أبي حبيبته خفق قلبه خفقانًا شديدًا، وكان أول سؤال وجهه إليه بعد انطلاق سراحه هو هذا: هل وجدتَ السيدة أستير؟ فوضع الشيخ يده في يده، وأجاب: هلم بنا إليها.

فيا أيها القارئ العزيز، هل أضعتَ يومًا قلبًا لك على شاطئ البحر بين رماله وحجارته ثم وجدته محفوظًا في إحدى أصدافه الجميلة كأنه درٌّ فيها مكنون. هل كنت في إحدى الليالى مسافرًا في ظلمة ليلاء، وأحاطت بك العواصف والأمطار والوحوش واللصوص، وانسدَّت الطريق في وجهك، ثم بغتة طلع لك القمر أو الشمس تنير طريقك وتدفئ عظامك وتؤمِّن نفسك. هل كنتَ يومًا مريضًا مشرفًا على الهاوية وقد نضب ماء حياتك ورأيت الموت بعينيك ثم انتفضتَ وعادت إليك قوتك وصحة شبابك الماضي، إذا كنت قد لقيت يومًا شيئًا من ذلك فإنك تعرف مبلغ السرور الذي حاق بإيليا حينما قال له الشيخ عن أستير: «هلم بنا إليها».

ولما وصل الشيخ وإيليا إلى خيمة ضرار حيث كانت أستير كان قد أمسى المساء وأخذ العرب يعودون عن أسوار المدينة، وكانوا يطيلون النظر إلى الاثنين في أثناء الطريق، ولكن لم يبالوا بهما؛ لتعوُّدهم مشاهدة التراجمة والعيون من اليهود وأحيانًا من أذناب الروم في معسكراتهم، وهذا أيضًا هو السبب في تجوال أرميا بين المضارب قبل ذلك دون أن يتعرض أحد له.

وحين وصول إيليا مع الشيخ إلى خيمة ضرار كان ضرار قد عاد من ساحة القتال، وجلس في باب الخيمة يطيل النظر إلى أستير، وأخته خولة تضحك من نظراته، وأستير مطرقة تتورد وجنتاها خجلًا وتذوب حياء. فصاح الشيخ حين وصوله: أستير أين أستير؟ فهبت أستير إلى باب الخيمة، ولكن ما وقع نظرها على الشخص الذي يرافق أباها حتى صاحت صياحًا شديدًا، وتراجعت إلى الوراء، وقد انقلب لونها الفضي الوردي إلى لون الزعفران، وصارت ترتجف؛ فأدرك ضرار بذكائه العربي الفطري سر أستير في الحال فعبس وصار يقلِّب طرفه في إيليا. أما إيليا فكان يتقدم والابتسام على شفتيه، ولكن الألم الشديد في قلبه، وكانت جبهته تتصبب عرقًا مع شدة البرد ساعتئذ. فلما وصل إلى أستير نظر إليها نظرة هي وحدها كانت تعرف معناها، وقال: الحمد لله أيتها السيدة على أنني وجدتك بخير وسلامة، فإنني خفت عليك من المعتوه الذي رحلتِ معه، ولذلك ذهبتُ في طلبك.

فأدركت أستير أن إيليا يريد بهذا الكلام تبرئة نفسه لديها عملًا بوصيتها له أن لا يتبعها. فحاولت الجواب فلم تستطع، ولكن عينيها جاوبتا عنها بدمعتين كلؤلؤتين ترقرقتا في حدقتيها.

وفي هذه الدقيقة وصل أرميا؛ لأنه كان غائبًا عن الخيمة.

فلما وقع نظر أرميا على إيليا من بعيد صلَّب على صدره ورجع القهقري قائلًا: «كيريالايسون كيريالايسون، أي شيطان جاء به إلى هنا؟»

ثم توارى؛ لأنه كان يخجل من مقابلة إيليا. أما إيليا فقد لمحه، ولكنه تركه وشأنه؛ لئلا يفتح عليه باب جنونه فيفضح حبَّه.

ولم يكد إيليا يجلس في الخيمة حتى دخل بدوي، وسأل عن ضرار. ثم أبلغه أن الأمير أبا عبيدة يطلب اليهودي يوسف. فاستاء أبو أستير من هذه الدعوة في تلك الساعة أمام إيليا. أما إيليا فإنه لم يفهم شيئًا. فقام أبو أستير وذهب إجابة للدعوة، فبقي في الخيمة إيليا وأستير وأمها وضرار وخولة، وكان ضرار ينظر إلى أستير ويقول في نفسه: ما أجمل بنات الروم، وخولة تنظر إلى إيليا، وتقول في نفسها: ما أضعف رجال الروم، وهكذا كان كل واحد منهما يقيس أمة بأسرها على فرد منها وهو الخطأ الذي كثيرًا ما يقع الناس فيه.

ولم يكد يخرج أبو أستير من الخيمة حتى سُمع صوت من الخارج يقول: «السلام على أهل الإيمان» فنهض ضرار وخولة على عجل، وصاح ضرار بعد رد السلام: أهلا بفارس العرب. فدخل حينئذ رجل معتقل سيفه وفي يده رمحه وكان كبير الهامة شامخ الرأس تكفي هيئته للدلالة على نجابته وشجاعته، وكان وراءه رجل غريب الزي. فقال الفارس القادم لضرار: أجاءكم أسيري يا ضرار؟ وكان إيليا قد هب على صوت الفارس وقام إجلالًا له. فلما رآه الفارس بش في وجهه والتفت إلى الرجل الذي كان وراءه. فنطق حينئذ هذا الرجل باليونانية مخاطبًا إيليا بقوله: إن فارس العرب عمرو بن معدي كرب قد ساءه تركك خيمته، ولقد أذن بما أذن به أبو عبيدة من إطلاق سراحك، ولكنه يريد أن تقيم عنده لا في مكان آخر؛ لسروره بحديثك وأخبارك. فاستاء إيليا في نفسه من هذا الاقتراح؛ لأنه يفصله عن أستير، وإن كان قد سره كرم العربي ورحابة صدره فأجاب: هذا أحب شيء إليَّ فسأحظى في كل مساء بالمثول في حضرة الأمير، وأما في النهار فإنني مضطر أن ألزم أصدقاء لي في هذه الخيمة ما أقمتُ في هذا المعسكر.

فلما علم عمرو بن معدي كرب بجواب إيليا التفت ليرى الأصدقاء الذين أشار إليهم الشاب فوقع نظره على أستير. فلاحظ ضرار تلك النظرة؛ لخوفه من عاقبتها أكثر من خوفه من عاقبة وداد إيليا.

وكان أرميا حينئذ خارج الخيمة يتنصَّت ويتجسس، فلما رأى فارس العرب يقلِّب نظره في أستير قال في نفسه: لقد صرنا أربعة.

أما عمرو بن معدي كرب: فإنه بعد أن أجال نظره في أستير مليًّا قال للترجمان: لماذا لا يصطحب أصدقاءه إلى حيث يذهب. فغضب ضرار لهذا الجواب، وظهر الغضب في وجهه. أما إيليا فإنه لما فهم جواب الأمير أبلغه أن رفيقه غائب وابنته هذه الفتاة لا تستطيع مفارقة أبيها.

فيظهر أن الامير انقلب غرضه من أخذ إيليا إلى أخذ أستير، ولذلك أجاب: سأعود غدًا بعد عودة رفيقك، فوالله يهمني أن تقص عليَّ بقية قصة صاحبك ميكائيل.

وكان الأمير يعني «بميكائيل» الراهب ميخائيل أستاذ إيليا.

فلما انصرف الأمير وترجمانه صار إيليا يفكر في ماذا يصنع للخروج بأستير وأبيها من المعسكر خصوصًا بعد ما رآه من اهتمام ضرار وعمرو بن معدي كرب بها اهتمامًا خاصًّا، وبينما هو يتأمل في ذلك وإذا بأرميا قد دخل على حين فجأة، ودنا من إيليا، وأسرَّ إليه قوله: هل تريد يا كيريه إيليا أن أحدثك على انفراد؟ فحوَّل إيليا وجهه عن أرميا دون أن يجاوبه. فقال أرميا همسًا أيضًا: لا تغضب يا كيريه إيليا فإنني فعلت ما فعلته بأمر أستير نفسها، وعندي الآن لك حديث في غاية الأهمية فاسمعه مني وبعد ذلك اصنع ما تشاء.

فنهض إيليا وخرج من الخيمة، ولما صار خارجًا صاح بأرميا: ماذا تقول للشيخ سليمان غدًا يا أرميا بعد خطفك الفتاة من مزرعته. فأجاب أرميا: لم أخطفها وإنما هي التي طلبت مني أن أذهب بها من المزرعة لتلتقي بأبيها، ولكن دع عنك هذا فإنه ليس في شيء من الأهمية. أعرفت يا كيريه إيليا أبا هذه الفتاة؟

فأجاب إيليا: نعم عرفته. فقال أرميا مظهرًا الاهتمام دائمًا: وهل عرفتَ ما بينه وبين العرب؟ فقال إيليا: لا لم أسأله عن ذلك بعد. فلعلهم أسروه كما أسروكما وكما أسروني. فهز أرميا حينئذ رأسه، وقال همسًا: كلا كلا يا كيريه إيليا. فإنه جاسوس جاسوس.

فهنا خطا إيليا خطوة إلى الوراء لدهشته، وبقي مبهوتًا، ولما رأى أرميا أن كلامه أثَّر في نفس إيليا تأثيرًا شديدًا أردف بقوله: وهل علمت الآن أين ذهب الرجل حين فارقكم؟ إنه ذهب إلى القائد العام؛ لأنه طلب مع بدوي مقابلته. فلعله يقصد سؤاله عن بعض الأمور، يا كيريه إيليا. قد قيل لي: إنك أنقذته على طريق بيت لحم. فأنت إذن أنقذت جاسوسًا على وطنك، وابنته أستير الجميلة التي أنقذتها أنت مرة وأنا أنقذتها مرة هي ابنة جاسوس. يا كيريه إيليا، حقًّا ما كنت أظن أننا ننزل إلى هذه الدركة من السفالة ونحب أنت وأنا ابنة جاسوس دنيء.

فعند هذا الكلام انكشف غطاء كثيف عن عيني إيليا فذكر أقوال البطريرك، وقصة أستير تحت الأرزة، وذكر على الأخص استعانة أبي عبيدة بالشيخ أبي أستير لمعرفته قبل إطلاق سراحه، وبإرسال أبي عبيدة الساعة في طلبه؛ فلم تبقَ لديه شبهة في أن الرجل جاسوس. فلما تحقق ذلك في نفسه طارت نفسه شعاعًا فترك أرميا بنزق، وأخذ يهيم على وجهه بين الخيام كأنه يطلب منقذًا ليأسه وانكسار قلبه.

أستير ابنة جاسوس؟ يا للهول. ذلك المثال البديع للجمال وأدب النفس قد خرج من دم التجسس واللؤم؟ يا للهول. إذن أين يجد إيليا الطهارة والنقاء في العالم بعد اليوم؟ وما الذي يسليِّه بعد ذلك عن هذه الخسارة التي فقد بها أحلامه وآماله في هذه الحياة؟

إيليا خان وطنه وساعد الجواسيس عليه؟ يا للهول. نعم، إنه لم يكن شديد التعصب لوطنه ومملكته؛ لأن اليونان كانوا العنصر السائد المستبد فيهما، ولذلك قد يمكن أن يكون هذا الفتح مساعدًا للأمة السورية المغلوبة على العنصر المستبد الغالب، ولكن من يضمن أن يكون العنصر الفاتح الجديد أقل استبدادًا وأكثر إنصافًا للأمة المغلوبة من العنصر الفاتح القديم. لا ريب في أن إيليا لم يكن يعتبر الدين جامعة قوية بل هو يضع فوقها الجامعة البشرية أي جامعة «العدالة المطلقة والإنصاف المطلق» ولكن من يضمن له أنه لا يكون في هذا الاستبدال كالمستعين من الرمضاء بالنار وكالمنتقل من نير إلى نير.

وقد بقي إيليا يفكر ساعة في موضوعه الجديد، وبعد أن برَّد هواء المساء جبهته التي كانت متقدة بهذه الأفكار قر رأيه على السفر دون أن يشاهد أستير ولا أباها. فانحرف عن خيمة ضرار وقصد خيمة الأمير عمرو بن معدي كرب؛ ليستأذن منه بالرحيل، ويسأله رجلًا يرافقه إلى خارج المعسكر، وكان غرضه من ذلك أيضًا زيادة التقرب من هذا الأمير، لعله يستعين به على شيء يفيد بني وطنه إذا وقعت المدينة في أيدي العرب.

ولما وصل إيليا إلى خيمة الأمير عمرو بن معدي كرب وجده راجعًا من خيمة أبي عبيدة. ذلك أن أبا عبيدة كان قد جمع أمراء الجيش ووجوه الجند؛ ليستشيرهم في طول الحرب، وما أصاب الجند من التعب والشدة للمطر والثلج والبرد.٣ فأجمع رأيهم على أنه لا سبيل لأخذ المدينة إلا صلحًا أو يبرز الروم من وراء الأسوار للقتال وجهًا لوجه. لا سيما وأنه قد بلغهم أن الأرطبون مقدم الجند الذي فر من أجنادين ولجأ إلى بيت المقدس في أثناء الحصار معارض في الصلح كل المعارضة. فلما علم الأمير عمرو بن معدي كرب برغبة إيليا في الدخول إلى المدينة استغرب ذلك وسأله بواسطة الترجمان: أين أصحابه؟ وقد عني بهم أستير وأباها. فارتعد إيليا لهذا السؤال. أولًا: لأنه ذكَّره أمره، وثانيًا: لأنه تذكر أن أستير ستبقى بعده هدفًا لميل ضرار وعمرو بن معدي كرب وأرميا.

ولما ودَّع إيليا الأمير قال له الأمير: سنلتقي في المدينة بعد بضعة أيام، فابتسم إيليا وشكر للأمير ما لقيه عنده من الكرامة وحسن الضيافة مدة الأسر. ثم سأله نصيحة لقومه يكون فيها فائدة للفريقين؛ فأطرق الأمير يفكر، ويظهر أنه بدا له أمر مهم ولذلك أشرق وجهه. فقال لإيليا: لقد استنصحتني أيها الشاب، وأنا أصدقك النصيحة. إن هذا الجيش إذا فتح مدينتكم هذه سيكون شديد الوطأة عليها؛ لأنه عانى في هذه الحرب مشقة شديدة، وها قد مرت أربعة أشهر والقتل فيه كل يوم، ولو كان المدد سيصلكم لوصلكم في أثناء هذه المدة الطويلة. فحرَّض قومك على الصلح إذا كنت نافذ الرأي عندهم وكنتم تحبون سلامة مدينتكم، ولكي تعلم صدق نصيحتي أوصيك أن لا تقبلوا بالصلح إلا على يد خليفتنا عمر بن الخطاب فإنه هو الذي يقدر وحده على كبح جماح هذا الجيش بعد عقد الصلح إذا رام الجيش انتقامًا أو اغتنامًا.

وكان الأمير صادقًا في هذه النصيحة، وإن كان قد قصد بها تعجيل الصلح لمنفعة قومه. فشكره إيليا وكرر توديعه وانصرف قاصدًا أسوار المدينة، ومعه رجل من رجال الأمير ليوصله إليها.

وكان إيليا وهو سائر يتلفَّت نحو خيمة ضرار، ويتنهد كلما التفت إليها كما تنهَّد آدم وتلفَّت إلى الفردوس عند خروجه منه.

إلا أن ترك آدم فردوسه كان بكرهه، وترك إيليا فردوسه كان بطوعه اتباعًا لصوت ضميره وكبريائه.

والغريب أن إيليا لم يعاوده اليأس القديم بعد يأسه من هذا الحب الذي كان بنى عليه كل آماله في الحياة. فكأن ما شاهده في هذه الحرب من آثار القتل والعذاب والشقاء البشري والعناء قد أذكره أن الحياة ليست بلعبة يُتلهى بها؛ بل هي واجب عظيم يجب القيام به بأحسن ما يكون، ومعالجة كل ما يعترضه من المصاعب والمتاعب والمصائب، ولذلك صار همه مصروفًا إلى نفع بني وطنه المحصورين؛ لتخفيف شيء من مصائبهم، ومنع الفتك فيهم إذا فتح العرب مدينتهم، وبذلك وجدت نفسه شاغلًا يشغلها عن نفسها.

وقد أذن حراس أسوار المدينة لإيليا بالدخول إليها، ولكنهم أخذوه توًّا إلى البطريرك، وهذا ما كان إيليا يطلبه. فاختلى إيليا بالبطريرك ساعتين تقريبًا.

وفي أثناء ذلك كانت أستير في خيمة ضرار تنتظر إيليا …

١  يريد على طريق بيت لحم.
٢  وقد كتب أبو بكر يومئذ في هذا الشأن كتابًا إلى خالد بن الوليد عامله في الشام لذاك العهد، قال فيه: قبل فتح دمشق: «قد تقدم إليك أبطال اليمن، وأبطال مكة، ويكفيك ابن معدي كرب الزبيدي، ومالك ابن الأشتر» ويقال: إن عدة هذه النجدة كانت تسعة آلاف.
٣  بيت المقدس قائمة فوق الجبال، وعلوها عن سطح البحر ٩٧٠ مترًا، أي هي أعلى من دمشق الشام بمائة متر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤