الفصل الثالث والعشرون

أستير في البيت الأحمر

ولم يكد عمر يبلغ بركبه سفح الجبل حتى ظهر لهم من بعيد رجل يركض ركضًا شديدًا. فلما وقع نظر إيليا على هذا الرجل عرف أنه أرميا فقال في نفسه: قبحًا لمنظر هذا الثقيل ولملقاه.

وكان الشيخ سليمان قد عاد إلى المزرعة بعد أن ودع عمر، وإيليا يسير وراء الأمراء منفردًا؛ لأن رفيقه القس الترجمان قد عاد إلى البطريرك قبل قصدهم جبل الزيتون؛ ليطلعه على نتيجة مهمة إيليا، ويبلغه أن الأمير أمسك إيليا عنده.

وكان إيليا يسير وفكره شارد عند أستير وأبيها، ولذلك استعاذ بالله لما نظر أرميا قادمًا. فنوى أن لا يلتفت إليه، فأطرق إلى الأرض وبقي سائرًا في طريقه.

أما أرميا فإنه ما اقترب من الركب ولمح إيليا من بعيد حتى صاح بأقوى صوته: كيريه إيليا كيريه إيليا. تعالَ تعالَ إليَّ.

فالتفت نحوه إيليا لفتة، ثم صرف وجهه عنه، وسار في طريقه.

وقد عجب الأمراء من حالة هذا الرجل وصرف إيليا وجهه عنه، ولكن أبا عبيدة أخبر الأمير أنه معتوه فحلَّ الابتسام محل العجب عندهم.

أما أرميا فإنه هجم كالذئب الكاسر على إيليا وأخذ به. ثم جثا على الأرض صارخًا بكل قواه: كيريه إيليا كيريه إيليا. رحماك خلصنا. صديقي. أخي. حبيبي. لا تتركنا.

فدهش إيليا من هذه اللهجة الجديدة فلم يرَ بدا من سؤال أرميا عن مراده وقصده، فصاح أرميا والجنون يقصف ويعصف في عينيه: – إيليا. إيليا. إذا تركتَ أستير فإنني أقتلك … ها ها … هلم معي إليها … هي تنتظرك … هي تنادي إيليا إيليا ولا أحد يجاوبها … اسمع اسمع. إن البطريرك أرسلني إليك … وأبوها عنده الآن … وهو يطلب أن يراك … ففتشت عليك المدينة كلها فلم أظفر بك إلا هنا … إيليا إيليا … لا تستغرب كلامي … لا تظنني مجنونًا فأنا أقول لك الحق … نعم، قد دخل الشيطان منذ مدة إلى قلبي فصنعت ما صنعته معك … ولكن ما كنت أظن أنها تحبك إلى هذا الحد … فاسمع يا صاحبي … يا أخي في المسيح. الله يبارك لك فيها … انظر … ها إنني أنفض يديَّ أمامك منها … خذها وحدك … لك وحدك يا إيليا … ولا آخذ منها أنا غير خصلة من شعرها … ولكن خلِّصها … آه لو كنتُ علمت أنه سيحدث ما حدث لما كنتُ صنعت شيئًا … ولكن ما جرى جرى … ولا نعود إليه … هلم معي يا عزيزي لنخلصها.

فلما سمع إيليا هذا الكلام ونظر إلى حالة أرميا اشتد جزعه على أستير، فأنهض المعتوه وسكَّن باله واستخبره الخبر، ولما علم منه كل شيء طارت نفسه شعاعًا، فاستأذن الأمير، وسار مسرعًا إلى المدينة قاصدًا المقام البطريركي.

ولما دخل إيليا على البطريرك وجده جالسًا على مقعد وهو مطرق يفكر، ويظهر أن الأشهر التي مرت في اثناء الحصار وما تلا ذلك من فتح المدينة قد أثَّر في نفس البطريرك تأثيرًا شديدًا، ولذلك كان لونه الناصع الوردي الاعتيادي مشوبًا بالاصفرار، وجسمه قد نحل قليلًا، ولما وقع نظر البطريرك على إيليا صاح البطريرك: بمَ أجاب الأمير يا ولدي، فمد إيليا يده إلى جيبه وهي ترتجف، وأخرج له الرق السري، وأبلغه جواب الأمير. فتناول البطريرك الرق بيده وهي ترتجف أيضًا، وقال بنزق: من أين وصل هذا الرق إلى يد ذلك اليهودي؟ فدهش إيليا وقال: أي يهودي يا مولاي؟ فقال البطريرك: أبو الفتاة التي قبض عليها الشعب في طريق بيت لحم، ولذلك بعثتُ في طلبك مع أرميا لتدبر هذه المسألة. فازدادت دهشة إيليا، وظن أن أرميا كاذب بما قاله عن أستير. فقال: وما شأن هذا اليهودي؟ فقال البطريرك: اجلس يا إيليا.

ثم إن البطريرك أخذ يقص على إيليا ما حدث. فعلم إيليا أن أبا أستير جاء البطريرك باكيًا منتحبًا، فانطرح على قدميه، وأخبره أن إيليا أساء إلى ابنته، وقد أشرفت على الموت، ولذلك فهو يسأله أن يرسل إليها إيليا؛ ليظهر لها الرضى ويعزيها حتى إذا شفيت من علتها وعاودتها صحتها سافر بها أبوها. فدهش البطريرك من هذا الاقتراح البارد ورد الشيخ بخشونة. فذهب الشيخ باكيًا، وأرسل إليه مع أحد الشمامسة ورقة مختومة فيها هذه العبارة: «إذا لم يفعل البطريرك ما ذكرته له، وماتت ابنتي، فإنني أنتقم لنفسي بأن أكتب للإمبراطور، وأطلعه على مسألة الرق السري الذي دفعه إلى أمير العرب».

فلما قرأ البطريرك هذه الورقة أسقط في يده، وأرسل يسترجع الشيخ. فرجع الشيخ، وعلم منه البطريرك ما يريد علمه عن أستير وإيليا، وكانت السيدة تيوفانا التي ذهبت بأستير إلى دير العذراء على جبل الزيتون قد عادت من الدير بعد فتح المدينة، فاستدعاها البطريرك، وطلب منها أن تنقل أستير من خيام العرب في حيز بيت المقدس إلى منزل موافق لصحتها وتحسن مداراتها. فاختارت تيوفانا «فندق البيت الأحمر» في بيت لحم فذهبت مع أبي الفتاة ونقلت أستير إليه، وقد وعد البطريرك الشيخ بأن يبعث إليه إيليا في المساء.

وكان أرميا قد جاء مع الشيخ إلى المقام البطريركي، فأرسله البطريرك في طلب إيليا، فذهب أرميا وجرى له مع إيليا ما جرى.

فلما وقف إيليا على هذه التفاصيل خُيل له أن الأرض أخذت تميد به، وسمع صوت أستير في باطنه يناديه: إيليا إيليا. فما فرغ البطريرك من كلامه حتى وثب إيليا، وقال: أنا سائر إلى البيت الأحمر يا مولاي حسب أمركم.

فقال البطريرك مبستمًا مع اشتغال باله وكثرة همومه: لا بأس يا بني، فإن إنقاذ روح محبة من الموت كإنقاذ نفس ضالة من جحيم الضلال.

وبعد خمس دقائق كان إيليا على جواد يعدو على طريق بيت لحم، ووراءه أرميا يركض كالكلب وراء صاحبه.

ولما وصل إيليا إلى «البيت الأحمر» نظر في الباب من بعيد أبا أستير واقفًا ينتظره طبقًا لوعد البطريرك، وما وقع عليه نظر الشيخ حتى أسرع إليه والدموع في عينيه. فدخل إيليا إلى الفندق مع الشيخ. أما أرميا فاهتم بتدبير مربط للجواد.

وما صار الشيخ وإيليا وحدهما في الحديقة التي أمام الفندق حتى انطرح الشيخ على يد الفتى ليقبلها. فأجفل إيليا ورجع القهقرى. فقال الشيخ باكيًا: يا كيريه إيليا، لقد أنقذتني مرة فأنقذني مرة أخرى.

فقال إيليا بجدٍّ وهدوء: ماذا جرى؟

فقال الشيخ: جرى ما سيقتلني ويقتل أمها إذا ماتت. فإذا كنت أنا مذنبًا فما ذنبها هي؟ يا كيريه إيليا، لقد علمتُ كل شيء. فإنها ذكرت أثناء هذيانها وذهولها كل ما حدث لك معها في المزرعة، ووقفتُ من أرميا على سبب إغمائها ونفورك منها. فلنتحادث في ذلك الآن بهدوء يا كيريه. أي جناية ارتكبتُ لأستحق احتقارك؟ نحن وأنتم قوم نتنازع على هذه الأرض، وكل منا يحارب خصمه بكل سلاح يقع في يده. فلقد هدمتم هيكلنا وحرَّمتم علينا الدنو من بيت مقدسنا وسفكتم دماءنا وجعلتمونا نهيم على وجوهنا في الأرض كحيوانات سائمة. فهل يُنكر علينا بعد كل ذلك أن نحالف عليكم من يقوم لاستخلاص البلاد منكم؟ ولو كنتم في مكاننا وكنا في مكانكم أفما كنتم تفعلون ما نفعله نحن الآن؟ بل إنكم الآن تفعلون مثله مع أعدائكم العرب؛ لأنكم تبعثون إليهم من يتجسس أحوالهم ويتنسَّم أخبارهم. فلماذا تحمِّلني وحدي يا إيليا عار الجاسوسية ما دامت هذه الوظيفة القبيحة من لوازم الحروب والاضطرابات.

أما إيليا فلم يلتفت كثيرًا لهذا الكلام، ولا جاوب عنه؛ بل سأل الشيخ دون أن ينظر إليه: أين السيدة أستير أيها الشيخ، فإنني أحب أن أراها لأثبت لها أنني ما زلت أحترمها كما كنتُ، وأن ما بلغها عني خطأ محض.

فأشرق وجه الشيخ وأكبَّ ثانية على يد إيليا صارخًا بدموع: بارك الله في شهامتك يا أيها الرجل الكريم. نعم يا ولدي، قل لها: إنك لا تحتقرها، وأنا على ثقة من شفائها.

انظر يا بني، إنها منذ الصباح لا تفارقها نوبة إلا وتقع في نوبة، وكلما تكاد تصحو يشتد هياجها فتلطم وجهها وتقطع شعرها، وفي إحدى المرات عرفتني فصاحت صياحًا شديدًا، وصرفت عني وجهها نائحةً معولةً، وهي في أثناء كل ذلك تنادي «إيليا إيليا» وتقص على غير وعي كل ما جرى لك معها. فيخيل لسامعها والناظر إليها أنها فقدت عقلها. فيا ولدي الكريم، ليس لي ولأمها في الأرض أحد نهتم به ويهتم بنا غير هذه الفتاة. فهي شمس آمالنا وعصا شيخوختنا. فساعدنا على تسكين أعصابها ورد عقلها إليها يكن لك الأجر والثواب عند الله والناس.

وإن القلم ليعجز عن وصف ما قام في نفس إيليا في أثناء هذا الكلام. فمد يده وأخذ بيد الشيخ، وقال: هلم بنا إليها.

فدخل الشيخ وإيليا إلى الفندق يقصدان غرفة أستير.

ولم يفتحا باب الغرفة ليدخلا منه حتى انتصب في وجهيهما شبح امرأة وضعت أصبعها على شفتيها وأشارت إليهما بالرجوع. فوقف إيليا والشيخ في مكانهما ولم يدخلا، وصاح إيليا بدهشة: السيدة تيوفانا.

فخرجت تيوفانا وأغلقت الباب، ثم سلمت على إيليا، وقالت: يا كيريه إيليا، لا يمكن أن أتركك تدخل على الفتاة الآن؛ لأنني أخشى عليها من البغتة، وفضلًا عن ذلك فهي الآن راقدة، وهذه أول مرة رقدت فيها واستراحت منذ إغمائها.

فشعر إيليا بأن كلام تيوفانا هذا لا يخلو من تهكم المرأة التي يلذ لها عذاب رجل وإبعاده عن حبيبة له في قبضتها غيرةً منها.

وفي هذا الحين وصل أرميا إلى باب غرفة أستير عائدًا من الإسطبل. فلما سمع كلام تيوفانا عن راحة أستير صلَّب وقال في نفسه: «كيريالايسون. إن أستير بمجرد دخول إيليا إلى الفندق بدأت تستريح. فكأنها مسحورة منه».

وكاد إيليا يمتثل لأمر تيوفانا وحيلتها فينتظر إلى ما بعد انتباه أستير من رقادها لا سيما وأنه سر بهذا الرقاد؛ لأنه يدل على تحسن صحتها، ولكنه لم يخط خطوة عائدًا عن الباب حتى سمع من الغرفة صوتًا يصيح بذعر ويأس: إيليا إيليا.

وكانت أستير هي التي صاحت من الغرفة هذا الصياح في الحلم، ولكنها لم تلبث أن انتبهت مرتعدة لصياحها، وأخذت تبكي.

فارتعد إيليا لهذا الصوت، وبقي جامدًا في مكانه، ولما سمع بعده بكاءها تقطعت أحشاؤه فدفع باب الغرفة ودخل إليها.

فلما سمعت أستير صوت حركة الباب رفعت رأسها عن وسادتها، والتفتت نحوه بعينين ثائرتين منتفختين.

وكانت العجوز أمها بجانبها، فلما رأتها تنتبه إلى صوت الباب وتنظر بعينين واعيتين عرتها الدهشة إذ كانت هذه أول مرة انتبهت فيها أستير هذا الانتباه.

وقد دخل إيليا إلى الغرفة وحده، وبقي الشيخ وأرميا وتيوفانا خارجًا.

فلما وقع نظر إيليا على أستير ابتسم لها ابتسامة كابتسامته القديمة، وتقدم نحو فراشها.

أما أستير فإنها ألوت رأسها الأصفر النحيف، وعادت إلى وسادتها وهي تتلفظ بين شفتيها بكلام لم يسمعه أحد.

فدنا إيليا منها والابتسام لا يزال في شفتيه. ثم أخذ يدها ليجس نبضها.

فلما التقت يده بيدها ارتعشتا معًا كما يرتعش سلكان كهربائيان مختلفان حين التقائهما.

وكانت أستير حينئذ بلون الأموات نحيلة كالخيال ضعيفة القوى كالطفل، وكانت تغض من طرفها، وتحاول ستر وجهها من إيليا بيدها. فأثَّر ذلك في نفس إيليا تأثيرًا بلل عينيه بالدمع. فقال لها: كيف حال السيدة أستير، وهل ذهب ألمها؟

فأجابت أستير برزانة وجدٍّ وصوتها في منتهى الضعف: نعم، قد ذهب كل شيء.

ففهم إيليا معنى كلامها فابتسم إخفاء لتألمه، وقال: فلماذا تبكين إذا كان الألم قد ذهب؟

فأظهرت أستير الدهشة، وقال: أنا أبكي؟ معاذ الله، وإنما تهيجت عيناي مما أصابني، ثم تنهدت وقالت: أف أف فلقد كنت متوقعة ذلك منذ الصباح. فإني انتبهت من النوم ورأسي مثقل وصدري ضيق. فلعل ذلك من عدم تعودي الرقاد في خيام العرب في ليالي البرد.

فعجب إيليا حينئذ من أنفة أستير ورشاقة حيلتها في نسبة علتها إلى غير سببها، وكان أبوها يسمع كلامها من وراء باب الغرفة فسرَّ بجوابها الدال على عزة نفسها. أما أمها فكانت بجانبها تنظر شزرًا إلى ذلك الشاب المسيحي.

غير أن إيليا رأى أن كتمان الداء لا يشفيه؛ بل ربما زاده استفحالًا، فعزم على مصادمته وجهًا لوجه. فانحنى نحو أستير، وقال: هل تستاء فتاة عاقلة مثلك من كلام رجل معتوه كأرميا؟ فهنا غضت أستير من نظرها وترقرق الدمع في عينيها. فقال إيليا: فلو كنت مكانك لضحكت من كلامه بدل أن أتأثر به. فإنه مجنون ولا عتب على المجانين، وإذا شئت برهانًا على كذبه فإنني أقول لك: إنه جاءني اليوم بعد الظهر، واعتذر مني عن كذبه وافترائه، وهو حاضر خارجًا يشهد على ذلك. هل تريدين أن أدعوه لك؟

فلم رأت أستير أن إيليا دخل في الموضوع الذي كرهت الدخول فيه صيانة لكرامتها وشرفها تحول لونها بغتة من الاصفرار إلى الاحمرار، وبدت الدموع في عينيها، وإذ رأى إيليا أنها لم تجاوب عن سؤاله، وكان يعلم أن السكوت في معرض الحاجة بيان نادى بأعلى صوته – أرميا أرميا. ادخل بأمر السيدة أستير.

وكان أرميا قد سمع من وراء الباب حديث إيليا مع أستير، وكلما كان إيليا يذكر عن أرميا أنه معتوه أو مجنون كان أرميا يحرق الأرم ويعض شفتيه من الحنق، ويثور كالجمل قائلًا في نفسه — لقد سمحت له أن يأخذها، ولكني لم أسمح له أن يهينني لديها. فلما سمع صوت إيليا يناديه دخل ونزق الجنون في عينيه، ولكنه ما وقع عليه نظر أستير من وراء طرفها الكسير حتى تحوَّل نزقه إلى هدوء. فأحنى عنقه أمام إيليا كالأولاد، وقال: ماذا يا كيريه إيليا؟

فقال إيليا: يا أرميا أما جئتني اليوم، واعتذرت إلي عما فرط منك؟ فقال أرميا: نعم، يا كيريه إيليا. فقال إيليا: أما ذكرت لي أيضًا أنك لما كذبت كذبتك على مسمع من السيدة أستير كنتَ مضطرب العقل. فتردد أرميا في الجواب، ثم قال: نعم نعم قد قلت لك ذلك، وأنت قلت لي إنك … فهنا خاف إيليا من فلتات أرميا فقطع كلامه قائلًا: أنا لا أسألك عما قلت لك؛ بل أسأل عما قلت لي. فاخرج الآن مشكورًا على إخلاصك.

فأحنى أرميا المسكين عنقه أيضًا، وخرج طائعًا كولد صغير، وبهذه الكذبة وهذه الطاعة في حال كهذه الحال لغرض كالغرض الذي اتفق عليه مع إيليا محا أرميا كل خشونته السابقة، وأظهر أن نفسه نفس رجل كريم؛ بل إنه بهذا الأمر الذي أنكر فيه ذاته إلى هذا الحد ارتقى بجنونه إلى ما فوق العقل، وفاق حبه حب إيليا.

أما أستير فإنها كانت في أثناء ذلك ساكنة هادئة لا تظهر على وجهها دلائل الرضى ولا دلائل السخط، وقد ظن إيليا أنه أقنعها بهذه البراهين، وزاد عليها أنه ذكر لها سببًا سياسيًّا لرحيله بسرعة من معسكر العرب كنصيحة عمرو بن معدي كرب، ودعوة البطريرك له، فضلًا عن اتباع ما ذكرته له في كتابها، ولكن أستير كانت تفكر في شيء آخر.

وفي ذلك المساء تعشى إيليا في الفندق وتعشت أستير براحة، وبعد العشاء خرج إيليا إلى الحديقة مسرورًا بأن أستير أخذت تتقدم من الصحة، فوجد في الحديقة أرميا جالسًا إلى مقعد بعيد وهو حزين يتأمل ورأسه بين يديه. فعاد إيليا من حيث أتى اجتنابًا لملقى أرميا، ولما علم أن أستير نامت مستريحة بعد العشاء اطمأن باله فطلب فرسه ليعود إلى القدس على أن يعود في الغد، وقبل رحيله اختلى بأبي أستير، وحادثه بما حادثه بشأن الرق السري، ثم ركب وعاد إلى القدس.

ولم يكد إيليا يصل إلى منتصف الطريق حتى لقي شرذمة من أمراء العرب قادمين إلى بيت لحم مع الإمام عمر؛ لأنه رام مشاهدة المكان الذي ولد فيه المسيح كما شاهد قبره ومصعده. فاستأذن إيليا الإمام بإتمام سيره ليعود إلى البطريرك بمهمة أرسله فيها، فأذن الإمام له.

وفي اليوم التالى عاد إيليا إلى البيت الأحمر فوجد أستير على ما كانت عليه أمس، وقد ابتسمت له هذه المرة، وحادثته وضاحكته.

وفي اليوم الثالث أصبحت تقعد، وتطلب دفاترها؛ لتكتب فيها.

وقد عجب إيليا من أن أستير صارت في مرضها أكثر جمالًا مما كانت، ولكن إيليا نسي المبدأ المشهور: «إن الجمال في عين الرائي» ولذلك لم يعلم أن ذلك الجمال الجديد الذي أصبح يجده لها كان في نفسه فقط، وذلك من قبيل الشفقة على نحولها وضعفها والخوف على حياتها.

وأقامت أستير خمسة أيام متتالية، وعليها ظواهر الصحة مع صداع في رأسها، وكان إيليا كلما زارها وجدها مشغولة بالكتابة في دفتر تضعه تحت وسادتها، وحين دخوله كانت تطوي هذا الدفتر مبتسمة، وتدسه في قميصها.

وفي اليوم السادس لما زارها إيليا طلبت أن تُحمل إلى الحديقة لتجلس ساعة فيها، وكان الوقت قبل منتصف النهار، والشمس تكسر شوكة البرد بحرارتها المحيية. فأخرجوها إلى مقعد تحت شجرة ظليلة، فجلست هناك قريبة من أمها ومن إيليا.

وكانت هذه أول مرة تخرج فيها أستير إلى النور، وتتنشق هواء السماء النقي بعد مرضها. فانشرح صدرها للذة الحياة وأبرقت عيناها، ولكنها لم تلبث أن تغيرت فانقبضت، وسطع في عينيها دمعتان جميلتان كنقط المطر الصافية التي كانت لا تزال على أغصان الأشجار تترقرق في نور الشمس الذهبي كأحجار ماسيَّة معلقة بها.

فانتبه إيليا إلى انقباضها هذا بعد الانشراح، ولكنه لم يعلم له سببًا.

أما أستير فإنها أسندت رأسها اللطيف إلى يدها النحيفة، وصارت تنظر بحزن إلى ما حولها من جمال السماء والأرض.

وبينما هي في تأملها هذا سقطت نقطتان من نقط المطر التي على الشجرة كأن أحد العصافير قصد مداعبة أستير فرشقها بهما. فوقعت إحدى النقطتين على يد أستير والأخرى على التراب أمامها.

فحينئذ ابتسمت أستير ونظرت إلى إيليا وقالت: هل نظرتَ ما نظرتُ؟ فأجاب إيليا: نعم نظرتُ. فقالت أستير: فبماذا تشبههما؟ فقال إيليا: أشبههما بمذهبي الجاحد والمؤمن. فحملقت أستير وأشارت بعينها إلى أمها كأنها ترجو منه أن لا يبحث في أمر ديني على مسمع منها، وإن كانت لا تحسن اليونانية. فعلم إيليا أنها لم تفهم كلامه فال: نعم أشبههما بمذهبي الجاحد والمؤمن. فإن النقطة التي وقعت على الأرض وصارت وحلًا دنيئًا رمز إلى مذهب الأول في مصير الإنسان، والنقطة التي وقعت على يدك وبقيت ماسة صافية جميلة رمز إلى مذهب الثاني.

فبهتت أستير وسكتت تفتكر. فراب إيليا سكوتها، فقال لها: وأنت بمَ تشبِّهينهما؟

فرفعت أستير رأسها، وابتسمت، ولم تزد على الابتسام.

وفي هذا الحين وصل الشيخ أبوها، فلما رآها جالسة في الحديقة، وهي تكاد ترتعد من البرد أسرع إليها وأعادها إلى فراشها رغمًا عنها، ويظهر أن هذه النزهة كان لها تأثير شديد على مرضها.

فإنه قبل دخول الليل اشتد صداعها، وعاودها إغماؤها وهذيانها، وكثر اضطرابها.

ولم يدنُ الفجر حتى وصل أرميا إلى مزرعة الشيخ سليمان مذعورًا وهو يلهث من التعب. فقرع باب غرفة إيليا حتى كاد يكسره فانتبه إيليا مبغوتًا، فأخبره أرميا باكيًا أن أستير في خطر.

فطار إيليا إلى بيت لحم. فوجد أستير بلا حراك في فراشها، وحولها أمها وأبوها يبكيان بدمع سخين.

وكان وجه الفتاة في سكونها هذا وجه ملاك عابس وممدد في فراش كولد صغير.

فعجب إيليا من هذا الانقلاب، وسأل أباها وأمها عن سببه فلم يستفد شيئًا.

ذلك وا أسفاه أن الجميع كانوا يجهلون علتها.

ولذلك كانت العلة كل الأيام الماضية متمكنة منها، ولم يشعروا بها.

ولكن ما هي هذه العلة؟ الحب؟

هذه علة قديمة فيها، ولكن هنالك علة جديدة.

وما هي؟

هي سم ينتشر في دم الإنسان بهدوء وبطء، فيسممه ويفني قواه وحياته، هو الداء الذي ما عرفوا اسمه وميكروبه إلا منذ زمن. هو الآفة التي ترتعد منها فرائص الأمهات والآباء؛ إذ كم اختطفت منهم عزيزات وأعزاء.

هي الحمى التيفوئيدية.

فيا أيها الميكروب القاتل الذي دخلت جسم أستير النحيل، وتمكنت منه دون أن يدري بك أحد إنك ستجري دموعًا وتكسر قلوبًا.

وقرب الظهر فتحت أستير عينيها. فلم تعرف إيليا بل ظنته أباها. فقالت بصوت متقطع: أبتاه أما جاء كيريه إيليا؟

فوضع إيليا يده على عينيه ليمسح دموعه.

فأردفت أستير بقولها: إنني راحلة يا أبتاه، وقد شعرتُ بدنو أجلي، فأرجو منك أن تدعوه لي لأراه المرة الأخيرة … أما أنت يا أماه فصلِّي من أجلي.

فمسح أبوها دموعه، وأخبرها أن إيليا قد أتى وهو واقف أمامها. فابتسمت أستير ابتسامة جرت عادة ملاك الموت أن يجعلها في منتهى الجمال والحلاوة على شفاه الراحلين. ثم مدت يدها إلى إيليا فأخذت يده، وقالت بصوت متقطع: يا كيريه إيليا شكرًا لك. ثم خنقتها العبرات، وعاودتها النوبة.

وكأن أستير شعرت حينئذ أنها شرعت في الدخول في دار الأبدية فاستجمعت قواها كلها، ومدت يدها إلى قميصها فأخرجت منها دفترًا مطويًّا ثم دفعته نحو إيليا قائلة بصوت ضعيف متقطع لا يفهم كلامه إلا بصعوبة: هدية إلى إيليا من عزيزته. فتناول إيليا الدفتر بيمناه بينما كان يمسح دموعه بيسراه، ويظهر أن الفتاة المسكينة قد رأت وهي في حشرجة النزع دموع إيليا، فابتسمت سرورًا بأن إيليا يبكي من أجلها. ثم أشارت إليه إشارة أن يتقدم منها. فتقدم إيليا. فاستجمعت أستير قواها وهي على أبواب الموت فقدرت أن تنطق بهذا الكلام: صلِّ من أجلي بدل البكاء … ادفنوني في المزرعة … قرب القبر … لكي أبقى قريبة منك أبدًا …

وهنا أطبقت الفتاة جفنيها، وأعادت روحها إلى باريها.

فيا أيها القارئ الكريم، نرجو منك أن تعفينا من وصف حالة إيليا وأرميا والشيخ والعجوز لما رأوا أمامهم أستير المسكينة جثة هامدة. فإن هذا الوصف يزيد أشجانك وأشجاننا، ويجفف ينابيع الدموع في عيوننا.

ولقد أنفذ الشيخ والعجوز وصية ابنتهما. فأذنا في دفنها في مزرعة الشيخ سليمان بجانب قبر الراهب ميخائيل، وقد صلى عليها أبوها، واشترك أهل المزرعة جميعًا في جنازتها، والبكاء عليها؛ لأنهم عرفوها كما تقدم.

أما إيليا فسار في الجنازة كموجود غير حاضر، وقد نفد الدمع من جفنيه، وبقي طول ذلك النهار كمن مسه خبل في عقله، ولما غيب التراب في المساء جسم عزيزته أستير عاد إلى غرفته فأقفل الباب ثم انطرح على وجهه يتذكر ماضي أستير وتقلبات حياته، وبينما هو يتأمل في ذلك تذكر الهدية. فارتعد وجلس ليراها. فلما فتح الدفتر وتصفحه وجد أنه عبارة عن «يومية» كانت أستير تسطر فيه عواطفها كل يوم. فوضع إيليا شفتيه على الدفتر حيث كان خط أستير وعواطفها، وقبَّله مرارًا وهو يبكي بكاء الأطفال. ثم ترك البكاء، وشرع في القراءة، فقرأ أولًا ما يلي:

يوم الأربعاء

خرجت اليوم معه إلى الحديقة. فرأيته في النور أجمل منه في الظل، وشعرت بلذة الحياة في هذا العالم … ولكن أواه إننى لم أولد لأعيش فيه … وهذا شأن البشر الذين يعطيهم الله نفوسًا حساسة أكثر مما يجب … يا إلهي لا أعارض في أحكامك وحمدًا لك … لما تأملت اليوم في جمال الكون ولذة الحياة أسفت لأنني سأفارق الدنيا … خصوصًا بالطريقة الشنيعة التي عزمتُ عليها … آه عفوك يا إلهي مقدمًا … وإذا صدق الحلم الذي رأيته في هذا الليل اعتبرته نعمة منك … فإنني رأيت رسولك جبرائيل هبط إلي وقال: أيها الفتاة إن الله تحنن عليكِ ورأف بك، ولذلك سيغنيك عن جناية الانتحار، وقد أرسلنى أستدعيكِ إليه في زمن قصير … فانتبهتُ من النوم مذعورة، ولكنني سررت؛ لأنني سأموت موتًا لا انتحارًا، ولكن أصحيح هذا …

•••

يا لله يظهر أن الحلم سيصدق. فماذا حدث لي يا إلهي. نعم، كنت أشعر في الأيام الماضية بضعف وصداع وارتخاء في كل جسمي، ولكنني كنت أقدر على الجلوس والوقوف. أما الآن بعد عودتي من الحديقة فقد صرت عاجزة عن امتلاك حواسي. فهل هذا بدء الرحيل … هل اقترب الملاك جبرائيل؟

إيليا إيليا. لقد شعرتُ الآن أنني منحدرة إلى هوة الموت … آه، إنني أخافه وأتمناه. أخافه لأنه سيبعدني عنك، وأتمناه لأنني لم أعد أقدر أن أعيش بدونك … ولا تقل احيي لأكون لكِ فإنني ذكرت لك في مقدمة هذا الدفتر الأسباب التي تحول دون ذلك. فأشفق عليَّ وصلِّ من أجلي.

(فهنا مسح إيليا دموعه؛ لأنها صارت تستر سطور الدفتر عنه، وطلب المقدمة فقرأ فيها):

يوم السبت

أول ما فتحتُ عيني أمس وجدته أمامي باسمًا، ولكنه كان أشد اصفرارًا مما عهدته. فدنا مني وأخذ يدي … آه، إنني شعرت حينئذ بنار تحرق كبدي … ولقد سألني هل ذهب الألم فقلت له قد ذهب كل شيء … نعم، قد ذهب كل شيء … وعبثًا يحاول تعزيتي وتخفيف مصيبتي فإنني شعرت بأنه لم يبقَ لي صبر على الحياة … فقد أُضيف إلى الأسوار التي بيني وبينه سور جديد لا يُهدم أبدًا. هو مسيحي وأنا إسرائيلية فأمته عدوة أمتي خصوصًا في هذا العصر الذي كثرت فيه الدماء بينهما. فاقتراني به يكون عارًا عليَّ عند قومي. بل أنا نفسي لا أرضاه لنفسي؛ لأنني لا أقدر أن أنسى مصائب أمتي وأحالف أعداءها عليها، وفضلًا عن هذا فمن يعقد عقد القران؟ فلا أهله وكهنته يتركون يد كاهن يهودي ترتفع على رأسه، ولا أهلي وكهنتي يتركون يد كاهن مسيحي توضع على رأسي، وأولادنا ماذا يكونون؟ وأي عار يلحقهم حتى ذريتهم كلما قيل لهم عند اليهود إن أباكم مسيحي وعن المسيحيين إن أمكم يهودية، أف ما أشد طياشتي. لقد وصلتُ في الفكر إلى الأولاد.

ثم ماذا يحل بأمي متى علمت بفعلي. إنني أعرف غضبها ولا أقدر على احتمال سخط عجوز ضعيفة على شفا القبر، وقد سمعتها مرة تقول: خير لها أن تموت من أن ينقذها مسيحي.

ولكن كل هذا يا إيليا شيء يسير بالقياس على السر الجيد الذي فضحه أرميا على مسمع مني. أنا ابنة جاسوس؟ أنا يُتجر بي للوصول إلى أسرار الناس وخفاياهم؟ تقول: إنك لم تصدق ذلك، ولم تعبأ به، وتستشهد بأرميا على قولك هذا، ولكن أنا أنا ماذا أفعل بضميري. ماذا أفعل باعتقادي بنفسي … آه آه. إن هذه الضربة قطعت حبل آمالى في هذه الحياة، ومنذ إصابتي لم تبقَ لي قوة على النظر إليك. لما فررتُ منك من المزرعة يا إيليا فررت وأنا شامخة الرأس؛ لأنني علمت أنك تفهم قصدي هذا، وتثني عليه، ويزداد إكرامك لذكري. أما الآن فإنني صرت أشعر بكل جوانحي أنني صرت صغيرة ذليلة في نظرك وفي نظر نفسي، وإذا كنت أنت شهمًا كريمًا تتجاهل ذلك وتتناساه إكرامًا لي فأنا لا يمكن أن أنساه أبدًا، إنني كلما وقع نظري عليك أقول في نفسي: «إنه الآن يتذكر أنني كنت من بنات الجاسوسية، وقد اتجرتُ بجمال وجهي». فيا إيليا سامحني على الأمر الذي عزمتُ عليه. لقد عزمت على الفرار منك ثانية، ولكنني هذه المرة سأرحل إلى مكان لا تستطيع أن تتبعني إليه.

آه يا إيليا، إنني هذه المرة سأفارقك إلى الأبد فراقًا حقيقيًّا.

•••

قلتُ آنفًا: إن فراقنا إلى الأبد. فعفوك يا إلهي. إنني كفرت بنعمك ولم أدرِ. ليس فراقنا إلى الأبد يا عزيزي إيليا بل إلى الملتقى. نعم، إلى الملتقى هناك فوق يا إيليا حيث لا مسيحي ولا يهودي ولا وثني، بل كلنا بشر متساوون نستريح أو نتعب تبعًا لأعمالنا الصالحة أو السيئة في هذه الحياة. اضحك معي هنا من أنني صرت فيلسوفة مثلك. آه إنني لا أنسى حتى في الدار الأخرى خطبتك بجانب قبر الراهب ميخائيل، وإن يدي لترتجف إذا رمتُ أن أسطر لك الآن رأيي فيها، ولقد تأملت كثيرًا في موضوعها بعد رحيلي من المزرعة فوجدت أنني لو بقيت فيها لما كتبت لك الكتاب الذي كتبته.

نعم، إلى الملتقى يا صديقي، وهذا هو الأمر الذي يقويني على فعلي؛ لأنني لو كنت أعتقد أنه لا ملتقى لنا بعد فراقي هذه الدنيا لارتعدت فرائصي، وأحجمت عن الأمر الذي عزمتُ عليه؛ إذ أين أجد حينئذ القوة على فراقه فراقًا لا لقاء بعده؟ أما الآن فإنني قوية على ذلك راغبة فيه؛ لأنني أعلم أن دمي سيغسلني في نظره ونظر نفسي، وإذا حال هذا الدم دون سعادتنا هنا فسيجعلني قادرة أن أكون سعيدة معه هناك، وأعيش بجانبه دون أن أخجل منه أو يستحي بي، ولا ريب أن الله يسامحني على فعلي.

يوم الأحد

بما أنني عازمة على فراقه فقد صرت أجد في نفسي قوة على محادثته ومضاحكته، ولقد دخل عليَّ اليوم ضاحكًا مسرورًا فاستقبلته ضاحكة مسرورة أيضًا. لماذا أجلب له الكآبة والحزن منذ الآن. أما يكفيه منهما ما سيصيبه بعدي … آه. إيليا إيليا، إن كل دمعة تنحدر من عينيك على قبري ستبرد بها عظمي … إيليا إيليا، إن كل مرة تراني فيها في أحلامك فإنني أرسل إليك بدلها بركة سماوية من منزلي الأبدي. فبحياة عينيك لا تنسني. إنني أعرف قلوب الرجال، فهم يقولون: إنهم يحبون إلى الأبد، ولا تمر عليهم سنة أو شهر حتى ينسوا حبهم وعهدهم. آه يا إيليا لا أطلب منك كل يوم إلا زهرة واحدة على قبري.

•••

يا إيليا، أين تدفنونني؟ آه إنني أشعر منذ الآن ببرودة وثقل التراب الذي سينهال على جسمي النحيف، أف لقد ضاق صدري، وأوشك أن يغمى عليَّ، آه يا إلهي ارحمني، لكن وا فرجاه وا فرجاه، إن صدري يتسع ونفسي ترتفع حينما أذكر في موقف كهذا الموقف كلمة «إلهي» آه ما أحلى هذه الكلمة يا إيليا في أفواهنا وقلوبنا في حال كحالتي. اسمع ها إنني بعد أن تلفظتُ بها وأحضرتها في فكري وقلبي صرت قادرة على سحق الموت بقدمي. فتعال أيها الموت، إنني لا أخشاك؛ لأن نفسي الخالدة أقوى منك. تعال أيها التراب البارد الثقيل فإنك لست بأبرد ولا أثقل من جسدي، ولكن … لكن يا إيليا أين تدفنونني؟

هل تدفنوني خارج المدينة في مكان مهمل مجهول؟ لا لا إنني أرتعد من وحشة القفر ويخيفني رقص الذئاب والضباع فوق قبري في ظلام الليالى المدلهة. هل تدفنوني في «طبريا» حيث يولد المسيح وفي «صفد» حيث يقام عرشه١ لا لا إنني لا أريد الابتعاد عن إيليا مسيحي. فادفنونني في مزرعته بجانب قبر الراهب ميخائيل. هناك يراني إيليا في كل يوم ويسلم عليَّ في كل صباح ومساء، وإنني إذا كنت قريبة منه هكذا فلا أكون وحدي؛ بل يكون لي بجانبي مؤنس إذا مر قرب قبري دفأت عظامي بحرراة أنفاسه، وهشت له حجارة قبري.
(وكان إيليا في أثناء هذه القراءة يجهش في البكاء عند كل سطر أو سطرين كأن عينيه وجدتا نبعًا جديدًا من الدمع. فلما انتهى إلى هنا عاد إلى خاتمة الدفتر؛ ليقف على آخر عواطف أستير بعد وقوفه على الأسباب التي ذكرتها، فقرأ في الصفحتين الأخيرتين ما يلي):

نعم نعم، إنني أرى الموت آتيًا. حمدًا لك يا إلهي فإنك أنقذتني من جناية الانتحار وقتل النفس، بل إنك يا إلهي أنقذتني من الحياة نفسها؛ لأنني لم أكن على ثقة من مقدرتي على الانتحار، فكنت أخشى أن أجبن حين الشروع فيه أو تعود إلي غريزة الحياة بعد تمام عافيتي فأعود إلى التمسك بها، أما الآن فلا جبن ولا ضعف ولا خوف، غدًا ستطلع الشمس ولكن تكون أستير غائبة. غدًا يناديها أمها وأبوها فتكون جثة باردة و«هو» ماذا يصنع حينئذ؟ وما يقول؟ وبمَ يفتكر؟ آه إنني لم أعد أقدر على لفظ اسمه بفمي، يا إلهي احرسه بعدي، أواه هل يكون سعيدًا أو تعيسًا في مستقبل حياته؟ وا أسفاه إنني اختبرت الحياة ورأيت ما فيها من الشناعة والقبح والدناءة، فمن الصعب فيها على محبي الجمال المطلق والنقاء وطهارة الأخلاق أن يعيشوا مسرورين مرتاحين. أفٍّ إنني لا أزال أذكر ما رأيته من أفعال الناس في حياتي. لا أزال أذكر الوحوش البشرية الشرهة المرتدية بملابس جميلة تحيط بي وتصرف أنظارها إلي كأنها تريد ابتلاعي. لا أزال أذكر تنازع هذه النفوس الصغيرة واقتتالها على الأمور الأرضية التافهة اقتتالًا يسقط فيه الخجول الظريف اللطيف العفيف، ويقوم الخشن الغليظ الوحشي الكثيف. لا لا. ما أحلاك أيها الموت فتعال وأرحني من هذه الحياة الدنيئة. إن حفرتك الهادئة الجميلة هي ملجأ أمين من كل فظائع وشرور هذه الحياة. هي مكان الراحة الأبدي الذي يرفرف عليه ملاك الجمال جمال الهدوء والسكون والسلام بعد شناعة القلق والاضطراب. فما أحلى وأطيب الرقاد في ذلك المكان، ولكن يا للذة العظمى والحلاوة الكبرى لو كان «هو» معي.

(فمسح إيليا دموعه هذه المرة أيضًا وهو يشهق شهيقًا شديدًا، وكان قد أتى على آخر الدفتر، ولم يبق في الصفحة الأخيرة غير عبارة واحدة مسطَّرة بحروف مضطربة؛ لأن اليد التي كتبتها كانت ترتجف من دبيب الحمى والموت. فقرأها إيليا فكانت كما يلي):

الوداع … صرت عاجزة عن الكتابة … فاقرأ من قبيل الوداع الفقرات الثلاث الأخيرة من كتابي إليك لما كنت في المزرعة.

فتذكر حينئذ إيليا هذا الكتاب فأخرجه من جيبه، وأخذ يتلوه ويقبله باكيًا، ولما لم يعد قادرًا على إتمام تلاوة الدفتر لشدة تأثره طواه ووضعه في جيبه وهو يبكي بكاء الأولاد، ثم خرج مسرعًا من الغرفة يقصد قبر أستير، ولكنه لم يصل إليه حتى وجد هناك فوق التراب الذي لم تكن مرت بعد ساعتان على انهياله على نعش الفتاة — رجلا ممددًا على الأرض بطول القبر وهو يبكي. فعرف إيليا أرميا لأول نظرة، ولما وقعت عين أحدهما على الآخر أجهشا كلاهما في البكاء.

فمن يعلم أن أستير لم يسرها وهي تحت التراب هذا الإخلاص من محب عاقل ومحب مجنون.

١  رنه دوسو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤