ثانيًا: مدى ما يمكن أن يستلهمه المجتمع العربي في قيمه المستقبلية ونظمه وتشريعاته من مبادئ الإسلام وروحه

في حقيقة الأمر، يصعب التمييز بين الأمثلة الثلاثة المطروحة؛ إذ إنها متداخلة فيما بينها؛ فمبادئ الإسلام وروحه التي يمكن للمجتمع العربي استلهامُها، لا تُعرَض إلا في إطار التحديات المعاصرة ولا تنفصل عن قضايا العصر ومشكلاته وتحدياته (السؤال الثاني). وكلاهما لا ينفصلان عن قدرة الفكر الإسلامي على استشراف المستقبل (السؤال الثالث)، فالمستقبل هو مصير مشكلات الأمة وطرق حلها. ومع ذلك فإن السؤال الأول يغلب عليه التساؤل عن القيم النظرية التي يُمكن أخذها كأساس للمجتمع العربي في لحظته التاريخية الراهنة، في حين أن السؤال الثانيَ يُعطي الإجابات العملية على قدرة هذه القيم على قَبول الدخول في تحديات العصر. أما السؤال الثالث فإنه يتوجه نحو المنجزات العملية لتحقيق رؤية مستقبلية لتاريخ الأمة طالما أن هذه التحديات ما زالت قائمة منذ فجر النهضة العربية الحديثة حتى الآن.

ويُمكن تحديد هذه المبادئ والروح العامة التي يُمكن أن يستلهمها المجتمع العربي في قيمه المستقبلية ونظمه وتشريعاته على النحو الآتي:
  • (١)
    العقل: الإسلام دين العقل، وذلك بنص القرآن الكريم والحديث وبإجماع الأمة ورأي العقلاء.١ وقد قامت الحضارة الإسلامية كلها على العقل. وظهر كأساس في العلوم العقلية وفي العلوم النقلية العقلية؛ فالعقل أساس النقل عند المعتزلة. وإن كل الحجج النقلية حتى لو تضافرت لإثبات شيء على أنه يقيني لما أصبح كذلك وظل ظنيًّا لا يتحول إلى يقين إلا بحُجة عقلية ولو واحدة بإجماع الأشاعرة. والعقل الصريح موافق للنقل الصحيح عند جمهور الفقهاء، والقياس أصل من أصول الشريعة عند الأصوليين، وإن إيمان المقلد لا يجوز. والحكمة والشريعة أو الفلسفة والدين متَّحِدتان بالطبع، متحابَّتان بالغريزة عند الحكماء، والعقل هو الله عند الفلاسفة، والعقل الفعال موطن العلوم والمعارف، وغاية الإنسان الاتصال به والاتحاد معه. بل إن العقل لا يُعارض الذوق بل يفهمه ويعقله كما هو الحال في حكمة الإشراق. وعندما تُرجِمَت الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط المسيحي ساعدت على إنماء التيار العقلاني في الفكر المسيحي وفي بدايات العصور الحديثة حتى أصبح الفيلسوف مرادفًا للمسلم، والإسلام مرادفًا للفلسفة. وقد ظهر ذلك أيضًا في معظم كتاباتنا الإصلاحية وأدبياتنا الحديثة التي بها نُدافع عن الإسلام ونُميزه بها عن غيره من الديانات.

    والغريب أن مجتمعاتنا الحاليَّة تشكو من اللاعقلانية، وتئنُّ تحت وطأة الأسطورة، وتجعل الحركةُ الإسلامية النقلَ أساسَ العقل، وتُحول علم أصول الدين إلى علم نقلي خالص «على المؤمن أن يؤمن بخمسين عقيدة!» كما يُدرَّس حاليًّا في معاهدنا وجامعاتنا الدينية، كما تحوَّل علم أصول الفقه إلى علم نصي خالص. ولم يعد الاجتهاد ممكنًا إلا في حدود إجماع القدماء واتفاق المذاهب الأربعة. وتحولت الحكمة إلى إشراق، وضاع منها جانبها العقلي، وعم التصوف، وانتشرت الطرق الصوفية. وظهرت مكانة القدِّيسين والأولياء في ممارساتنا الشعبية. يُحارِب الملائكة مع المسلمين، ويعبرون القناة معهم، ويزداد المحصول معجزة من عند الله، ويظهر النفط توفيقًا من الله، وينطوي النبات على نفسه إذا ما نبت في الفضاء خشية من الله، ونُكفر كل من يُحاول ربط الأسباب بالمسببات. ويتحدث الدعاة أمام أجهزة الإعلام عن قصور العقل عن إدراك الحقائق العليا أو عن عجائب الكون الذي يقف الإنسان أمامه فاقد الوعي والاتزان. وما زلنا ندعو إلى العقلانية منذ فجر النهضة العربية الحديثة ولكنها عقلانية الغرب، عقلانية ديكارت وكانط وهيجل، ونقرأ من خلالها حركة الإصلاح الديني دون أن نُحاول تأسيس العقلانية المعاصرة ابتداءً من التراث العقلاني الاعتزالي الفلسفي القديم الذي كان وراء عقلانية الغرب.

  • (٢)
    الطبيعة: والطبيعة قيمة ثابتة في الوحي منذ البداية عن طريق تسخير كل ما في الكون لصالح الإنسان.٢ الشمس للدفء، والقمر للنور، والكواكب والنجوم هداية، والأرض للسعي والرزق، والماء والهواء والزرع للحياة، والجبال للسكن، والحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، والسمك والطير للطعام، والأنعام للانتقال. قوانينها ثابتة ودائمة يعرفها الإنسان بالملاحظة والتجرِبة والعقل والاستدلال، ويُسيطر عليها، ومن خلالها يُسيطر على الكون، فالإنسان سيد الكون. مظاهرها آيات، والآية ظاهرة طبيعية ونفسية، وكلاهما موضوع تأمل واستبصار.
    وقد ظهرت الطبيعة في تراثنا القديم في العلوم العقلية الرياضية والطبيعية خاصة. وأصبح «تاريخ العلوم عند العرب» نموذجًا يُحتذَى به في العصر الوسيط الأوروبي، وكان وراء النهضة العلمية الأوروبية الحديثة، وأصبح من أهم موضوعات معاهدِ «تاريخ العلوم»؛ فقد أقرَّ الفلاسفة حتمية قوانين الطبيعة.٣ وأصبح الوحي والطبيعة يقودان إلى حقيقة واحدة (حي بن يقظان). وقالت المعتزلة بالكُمون والطَّفرة والتولُّد. وكانت الطبيعة عند علماء أصول الدين طريقًا إلى إثبات الصانع، وموضوعًا للعلم سابقًا عليه، وأصبحت الطبيعة عند الصوفية إلهًا تتوحد معه في وحدة الحق والخلق، أو على أقل تقدير مرآة تعكس ذات الله. فالآية ليست فقط الوحي القرآني بل حادثة طبيعية ودليل لإثبات وجود الله. وأقر علماء أصول الفقه بوجود الطبيعة الإنسانية، فكل ما هو طبيعي شرعي، وكل ما هو شرعي طبيعي. الحلال طبيعي، والمباح طبيعي، والإنسان على الفطرة والبراءة الأصلية. الضرورات تُبيح المحظورات، ولا ضرر ولا ضِرار، والمصلحة أساس الشرع. وكان العمران الإسلامي القديم سكنًا في الطبيعة بما فيها من هواء وشمس وزرع وماء وريح وريحان.
    ولكننا أسقطنا الطبيعة من الحساب، وحولناها إلى سلب مطلق، موجود حادث، شرٍّ محرَّم، لا قِوام له ولا كيان، إيثارًا لما وراء الطبيعة، وتمييزًا لله بالبقاء وحده. هدمنا الطبيعة بأيدينا، وقضينا على استقلالها وثبات قوانينها. وتحولت الطبيعة من آيات، أي دلالات وعلامات وظواهر طبيعية إلى آيات بمعنى معجزات، أي الخرق المستمر لقوانين الطبيعة. فانتظرنا المعجزات، وطلبنا المدد من السماء، وشحذنا النصر من عنده تعالى. النصر في الحرب معجزة، واكتشاف النفط معجزة، ووفرة المحصول معجزة، وإصلاح الصرف الصحي معجزة. مع أنه لا معجزات في الإسلام.٤ فقد تحولت المعجزة إلى إعجاز أي إلى تحدٍّ للقدرة البشرية. كانت المعجزة موجودة في مراحل الوحي السابقة وأدت دورها المحدود في إيمان البعض ولكنها انتهت في آخر مرحلة من مراحل الوحي إعلانًا لاستقلال العقل والإرادة وقوانين الطبيعة. كما تحولت الطبيعة في وجداننا القومي إلى محرمات في معظمها حتى أصبح الإنسان يدين نفسه، وجوده وغرائزه، عواطفه وانفعالاته، إحساساته ومطالبه. بل قد تربى لديه إحساس بالذنب في كل لحظة عما يقول ويفعل وعما يُحِس ويشعر. وأصبح سلوكه سلبيًّا خالصًا بِناءً على مجموعة من النواهي يلتزم بها، فتولد لديه إحساسٌ بالكبت والحرمان، فينتهي إما إلى المرض أو الغضب. وتحولَت براءة الإسلام إلى خطيئة المسيحية. وبدل أن تكون الطبيعة طاهرة ألقينا عليها الأوساخ فغابت النظافة. لم تَعُد الطبيعة دليلًا على وجود الله؛ فالله في القلب يظهر عند العجز والبلاء، عند الضر أو الحاجة.
  • (٣)
    الإنسان: الإنسان قيمة بنص القرآن، خُلِق في أحسن تقويم، خليفة الله في الأرض، كُرِّم في البر والبحر، وُهِب العلم والحواسَّ والقلب والفؤاد. خُلِق على صورة الله ومثاله، سيد الكون، تسجد له الملائكة، ويُعاقَب من يعصي السجود. أُعطِي له الوحي، وأصبح كليمًا لله، طرَفًا معه في الحوار، حرًّا مسئولًا، ساعيًا في الدنيا، كادحًا فيها، بصيرًا على نفسه.٥
    وقد ظهر «الإنسان» في الفكر الإسلامي القديم متخفيًا مرة، وظاهرًا مرة أخرى، متخفيًا في علم أصول الدين كإنسان كامل، موجود، قديم، باقٍ، ليس في محل، لا يُشبه الحوادث، واحد؛ أي وعي خالص منزه، عالم، قادر، حيٌّ، سميع، بصير، متكلِّم، مُريد؛ أي وعي مدرك فعَّال، وكأن الله وصف نفسه بصفات الإنسان تأنيسًا له، أو أن الإنسان وصف الله بصفات نفسه تأليهًا لها. كما ظهر الإنسان في علوم التصوف أيضًا في نظرية «الإنسان الكامل» تأكيدًا لما وصل إليه علماء أصول الدين؛ حيث لم يَعُد هناك فرقٌ بين الإنسان والله. وظهر أيضًا في علوم الحكمة، الإنسان محورٌ للكون، عالَمٌ أصغر في مقابل عالم أكبر، وهي الطبيعة. وبرز في علم أصول الفقه على أنه الإنسان الموجود بلحمه وعظمه، يُحافظ على مصالحه وضرورياته: الحياة، والعقل، والدين، والعِرض، والمال.٦ وقد كان الإنسان أحدَ مشاكل نهضتنا المعاصرة كلِّها؛ فما زال الإنسان لا يعيش كقيمة في وجداننا المعاصر، الأولوية باستمرار لغيره، لله أو للحاكم، للماضي أو للنص. ليس له أوصافٌ ذاتية خالصة، لا يُؤمن نظام واحد بوجوده، يُمكن أن يُعتقَل أو يُفصَل أو تختفيَ به الأرض فلا يعلم أحد عنه شيئًا. ما زال الله محور الكون وليس الإنسان. لم يستردَّ الإنسان صفاته بعد، وظل وعيه خارجًا عنه.٧ هناك إنسان أوحد وهو الزعيم أقربُ إلى الإله منه إلى الإنسان، لا يستطيع أحد الحديث عنه أو نقده أو الخروج عليه، وهو وحده الإنسان الكامل، وما دونه يتعلم منه ويتتلمذ عليه، يُطيع أوامره ونواهيَه.
    لقد حاولَت الثورات العربية المعاصرة تغيير الهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولكن ظلت قضية الإنسان معلقة، بل كثيرًا ما كانت تُنتهَك كرامة الإنسان وحريته وحقوقه الطبيعية باسم الثورة. وظل الغرب يزهو علينا بأنه الوحيد صاحب حضارة الإنسان، ففيه نشأ المذهب الإنساني Humanism منذ فجر النهضة الحديثة حتى إعلان حقوق الإنسان، وتأتي اللجان عندنا لتكتب تقارير عن حقوق الإنسان في مجتمعاتنا العربية فتجدها منتهكة ضائعة بالرغم من توقيع النظم القائمة على وثيقة إعلان حقوق الإنسان!
  • (٤)
    الحرية: والحرية أيضًا منصوص عليها في الوحي وفي سير الخلفاء!٨ لا يملك إنسان لإنسان أمرًا. وكل إنسان مسئول، أُلزِمَ طائرَه في عنقه، لا يحمل وزر أحد، ولا يُخلصه أحد. والحرية نتيجة للعقل والتمييز. فالعقل استدلال حرٌّ والحرية اختيار للإرادة طبقًا لاستدلال العقل. الضمير حر، وشعور الإنسان حر حتى من قبضة فرعون، ومستقل عن الشعور الجماعي العام.٩ والتوحيد تحرُّر للوجدان البشري بفعل الشهادة، والشهادة نفيُ كل ما يقهر الشعور ويُكبِّله في فعل النفي «لا إله» ثم إثبات الفعل الحر في فعل الإثبات «إلا الله». وهذا هو المعنى الذي أعطته الثورة الإسلامية في إيران لشعارها «الله أكبر قاصم الجبَّارين»؛ فالتوحيد تحرُّر للوجدان الإنساني من العبودية في شتى صورها.١٠

    وقد أكد الفكر الإسلامي على ذلك، خاصة عند المعتزلة في إثبات حرية الاختيار وإثبات الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل، وإثبات قانون الاستحقاق، والمسئولية عن الأعمال، وإلا استحال الحساب والعقاب. كما أكده علماء أصول الفقه الذين أثبتوا للمكلَّف قدرته على الفعل، ومنعوا تكليف ما لا يُطاق، وأن العقل شرط التكليف لأنه مناط الحرية، وأن الصِّبْية والمجانين غيرُ مكلفين. العلم والعبودية لا يجتمعان، فالعبد الذي يتعلم يتحرر، والذنب الذي يُقترَف يتم التكفير عنه بتحرير عبد، والأمَة التي تلد تُصبح حرة بفعل الأمومة، والحرية شرط الإمامة حتى لا يكون الإمام تابعًا لسيد آخر. كما أنها شرط الشهادة، فبدون حرية لا يُعلَن عن حق، ولا يُقال صدق.

    ولكن يبدو أننا ما زلنا نُحاول أن نتحرر، ولم ننتهِ بعدُ من ذلك منذ بدأ فجر النهضة العربية الحديثة حتى الآن. نعرض لنظريات الحرية وثورات الشعوب، ونُكافح الاستعمار من أجل الحرية والاستقلال، ونكتب رواياتٍ وأشعارًا عن الحرية، ويُستشهَد المناضلون من أجل الحرية، ولكن تظل قضية الحريات في مجتمعاتنا مطروحة وكأن الحرية ليست نظرية بل ممارسة، وكأن العدو ليس فقط المحتلَّ الخارجي، بل أيضًا أو بالأساس القهر الداخلي. ويبدو أن الأمر أعمق بكثير من القوانين المقيِّدة للحريات ونظم القهر والتسلط والقوانين الاستثنائية، بل تمتد جذور الأزمة في التاريخ إلى التسلطية كتصور، والجبرية كعقيدة، والإمامية كسياسة، والحرفية كتفسير، والتبريرية كوظيفة للعقل.١١

    يمكن إذن إعادة الاختيار، تَرْك الجبرية والكَسب الأشعري والنقل والتفسير الحرفي، وإبراز حرية الفكر وحرية الإرادة كاختيار في تراثنا القديم وكحاجة في وجداننا المعاصر؛ حتى يُمكن حلُّ مأساة الحريات في عالمنا هذا مرة واحدة وإلى الأبد، فهي حق الإنسان الطبيعي أكده الوحي، بمنعه الإكراه، وشهادة المكره لا تجوز، وذنبه مغفور.

  • (٥)
    المساواة: بالرغم من حرية الإنسان وإثبات وجوده الفردي إلا أنه أيضًا ينتسب إلى جماعة ويعيش فيها. لذلك ظهر موضوع المساواة والعدالة الاجتماعية كشرط للسلام الاجتماعي. يظهر أحيانًا في تعبيرات اقتصادية وأخرى أخلاقية وثالثة سياسية. فبنص القرآن نجد أن المالك هو الله وحده والإنسان مُستخلَف فيما أودعه الله بين يدَيه، له حق التصرف والانتفاع والاستثمار، وليس له حق الاستغلال والاحتكار والاكتناز. الملكية وظيفة اجتماعية وليست شيئًا للاستحواذ عليه. المال مجرد علاقة بين الأنا والشيء، يُشير إليها باسم الصلة «ما» وبحرف الجر «ﻟ». ومن هنا كان على الإمام حقُّ مصادرة أموال السفهاء والتأميم للصالح العام. وما تعم به البلوى لا يجوز ملكه كالماء والكلأ والنار قديمًا أي الزراعة والصناعة حديثًا. والرِّكاز — أي ما في باطن الأرض — مِلكٌ للأمة وليس للأفراد عند الفقهاء. عرَف القدماء الحديد والنُّحاس والذهب والفِضة، وعرَفنا نحن النفط. وبنص القرآن لا يكون المال دُولةً بين الأغنياء، وللفقراء حقٌّ في أموال الأغنياء، غير الزكاة. ويعني تحريم الربا أن العمل وحده مصدر القيمة وأنه لا يجوز الإثراء بالاستفادة من حاجات الناس انتهازًا للفرص. وأن المجتمع الذي فيه إنسان جائع واحد تبرأ ذمة الله منه، وأنه لا عجب أن يخرج رجل لا يجد قوت يومه شاهرًا على الناس سيفه. وقد استمر هذا المثل الأعلى في سيرة الخلفاء،١٢ وعند بعض اتجاهات المعارضة وجماعات الرفض حتى أتت المذاهب الاشتراكية الحديثة ينتسب إليها المثقفون والعمال فيسهل حصارهم واتهامهم بالكفر والإلحاد، والخيانة والعمالة.

    إن إحدى قضايانا الأساسية هي بلا شك قضية توزيع الثروة. فلدينا يُضرَب المثل بأقصى المجتمعات غِنًى وبأشدِّها فقرًا، مجتمع البِطْنة والترهُّل، ومجتمع الجوع والقحط، مجتمع البذخ والترف ومجتمع البؤس والحرمان، وبالتالي نشأت الحاجة لدينا إلى الأفكار الاجتماعية والمذاهب الاشتراكية، فلا نجد إلا العلمانية منها التي يسهل حصارها وعزلها فيضيع أثرها. هذا هو التحدِّي الحقيقي. وطالما قامت النظم التي تقبل بهذا التفاوت على الإسلام، تستمدُّ شرعيتها منه وتحكي باسمه. مع أن الحاكم في الإسلام آخرُ مَن يأكل وآخر من يشرب وآخر من يسكن، وسيرة الخلفاء فينا ما زالت حاضرة.

  • (٦)
    التقدم: وقد أصبح التقدم هدفًا وطنيًّا عامًّا تصبو إليه الأمة بجميع فِرَقها. وفي الحقيقة إن التقدم مسار الوحي، وبسببه تتوالى النبوات منذ أولى مراتبها حتى آخرِ مراحلها فتُحقق هدفها وهو استقلال الوعي الإنساني عقلًا وإرادة.١٣ والتقدم موجود داخل آخر مرحلة من مراحل الوحي في «الناسخ والمنسوخ»، تقدُّم في الشريعة، وإعادة صياغتها طبقًا للقدرات الإنسانية. ومصادر الشرع أربعة تدل على تقدم كل مصدر على الآخر: السُّنة تَقدُّم على القرآن في الزمان، والإجماع تَقدُّمٌ على السُّنة، والقياس تَقدُّم على الإجماع. كل عصر يُمثل تقدمًا بالنسبة للعصر السابق. لذلك أمكن لكل عصر أن يُؤسِّس إجماعه. كما تحتوي المبادئ اللغوية في علم الأصول مثل الحقيقة والمجاز، والمحكَم والمتشابِه، المجمَل والمبيَّن، المطلَق والمقيَّد، على حركةٍ في التشريع من أجل التقدم، تقدُّم جيلٍ على جيل، وإثبات للزمان، ودور الأجيال في الاجتهاد. وفي أصول الدين ظهر التقدم في الصلاح والأصلح عند المعتزلة، وفي النبوة أي تاريخ الإنسانية في الماضي، وفي أمور المعاد أي تاريخ الإنسانية في المستقبل.
    ولكن الذي رسب فينا هو تصوُّر آخر يرى التاريخ في سقوط مستمر، وأن السلف خيرٌ من الخلف.١٤ وهو آخِر جزءٍ من العقائد بعد الإمامة، وترتيب الخلفاء والأئمة تبعًا للأفضلية، اعتمادًا على أحاديثَ مثل «خير القرون قرني …» فتصوَّرنا التاريخ في سقوط مستمر بعد الخلفاء الأربعة، من النبي إلى الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين. وبالتالي نُحاول المساهمة في صنع التقدم والتاريخ يتساقط من بين أيدينا. وهذا هو المنبع الدائم للحركة السلفية وحركة النهوض بالعودة إلى الوراء. وعلى أفضل تقدير، نضع أنفسنا خارج التاريخ والزمان بعد أن أعطانا الله الزمان كلَّه أي الخلود، وما دونه الفناء. فضاعت الحركة عن التاريخ، ولم نُدرك التطور كسُنَّة له.١٥ وجاءت الأحزاب التقدمية فعالجت موضوع التقدم بعقلية متخلفة، فقاومت التفاوت الطبقي دون القضاء عليه من جذوره في الوجدان، وناهضت القهر دون حلِّه من جذوره التاريخية، وتصدت للتخلف وظنَّته في نقص معدل التنمية الاقتصادية دون القضاء على معوقات التقدم في الذهن وما ترسب في الوعي القومي.
    هذه القيم الأساسية والمفاهيم النظرية لا شأن لها بفلسفة التنوير في الغرب، بل حاول الغربُ الاقتراب منها فوقع في حدود العنصرية والرومانسية.١٦ بل هي أهم مقولات العلوم الإسلامية القدمة خاصة عند المعتزلة والفلاسفة. وهي في الوقت نفسِه تُعبر عن متطلبات الحاضر، وتمتدُّ جذورها عند القدماء. إن لم تتأسَّس إسلاميًّا، وإن لم تعرض نفسها عرضًا محليًّا تعبيرًا عن حاجات الأمة فإن المجتمع سيظل يستلهم حاجاته من التراث الغربي، رافضًا الفكر الإسلاميَّ باعتباره على نقيض ما يبحث عنه. هكذا فعل القدماء مع التراث اليوناني عندما حوَّلوه إلى تراث محلي خالص، فوجد المسلمون في فِكْرهم العقلَ والطبيعة، والأخلاق والسياسة، وهي القيم التي لا بديل عنها في أية نهضة معاصرة أو تخطيط مستقبلي للدور الثقافي للفكر الإسلامي.
١  ذُكِر «العقل» في القرآن ٤٩ مرة في صيغ تَعْقِلُونَ (٢٤)، يَعْقِلُونَ (٢٢)، ثم عَقَلُوهُ، نَعْقِلُ، يَعْقِلُهَا وهي صيغ فعلية كلها تدل على فعل التعقل، والصيغة الأولى تكون غالبًا استفهامية تدل على الاستنكار أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٣) أو على التمني والرجاء لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (٨) أو شرطية إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١). والصيغة الثانية أشهرها إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: ١٢] (٨) وتتراوح بين الإثبات يَعْقِلُونَ (١١) أو استنكار النفي لَا يَعْقِلُونَ (١١). وفي الحديث «أول ما خلق الله خلق العقل …» على ما يذكر الصوفية والفلاسفة الإشراقيون.
٢  تكرر فعل سَخَّرَ في القرآن ٢٦ مرة، ٢٢ منها في صيغة فعلية، فعل الله لصالح الإنسان وموضوع للتسخير الشمس والقمر (٦)، البحر (٢)، ما في السموات وما في الأرض (٢)، الجبال (٢)، الريح (٢)، البدن (٢)، ومرة واحدة لكل من الفلك، والأنهار، والليل والنهار، والشمس القمر، وما في الأرض، والسحاب، والشمس والقمر والنجوم، والطير، انظر أيضًا بحثنا: Human Subservience of Nature, an Islamic Model, Sweedish Council for planning and co-ordination of research. The committee for future oriented Research. Natural resources in a cultural perspective, Sweeden, 1982.
٣  ذُكِر لفظ سُنَّة ١٦ مرة في القرآن، منها مرتان جمع وفي مقدمتها وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا [الفتح: ٢٣]، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا [فاطر: ٤٣].
٤  وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء: ٥٩].
٥  يُذكَر الإنسان في القرآن ٦٥ مرة، كما يُذكَر آدم أي الإنسان الأول ٢٥ مرة. كما يُذكَر الإنس (١٨) في مقابل الجن، أناسي (٦) بمعنى قوم، إنسي (١) بمعنى بشر. ويتحدث القرآن عن أصل الإنسان (١٢) وضعفه (٣٣) الذي يشمل حدوده مثل ذكر الله ساعة الحاجة ونسيانه له بعد الإجابة، والظلم، والكفر، والبخل، والجدل، والعجلة، والجهل، والوسوسة، والهلع، والغرور، والطغيان، والجحود، ومع ذلك فهو مُكرَّم وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الإسراء: ٧٠]، في أحسن تقويم: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: ٤]، علمه الله عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: ٥]، خليفة الله في الأرض وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: ٣٠]، يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: ٢٦].
٦  د. حسن حنفي: «لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟» المستقبل العربي، أكتوبر ١٩٧٩م، وأيضًا «دراسات إسلامية»، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٣م.
٧  انظر بحثنا: Théologie ou Anthropologie, La Renaissance du Monde Arabe, Duclos, Bruxelles, 1973.
٨  مثلًا: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: ١٣]، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: ٣٩]، بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة: ١٤]، كذلك لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: ٢٥]. وقد استُعمِل لفظ الكسب في القرآن ٦٧ مرة للدلالة على حرية الإنسان ومسئوليته عن عمله مثل: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: ٢١]، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة: ١٢٤]، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: ٢٨٦]، ومثل قول عمر المشهور: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟»
٩  وهو ما يُشير إليه القرآن بقوله: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوك [القصص: ٢٠]، وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس: ٢٠]، وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ [غافر: ٢٨].
١٠  هذا هو تفسير المفكر الإسلامي الشهيد سيد قطب للتوحيد باعتباره يقوم على ثلاثة مبادئ: التحرُّر الوجداني، المساواة الإنسانية، التكافل الاجتماعي. انظر «العدالة الاجتماعية في الإسلام».
١١  انظر بحثنا: «الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر»، المستقبل العربي، يناير ١٩٧٩م، «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، (١) في الثقافة الوطنية.
١٢  النصوص في القرآن كثيرة حول المساواة، سواءٌ في ألفاظ الملكية أو المال أو الاستخلاف أو الأغنياء والفقراء … إلخ؛ مثل وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [المائدة: ١٨]، لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد: ٥]، وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد: ٧]. كما يُحرِّم القرآن أكل أموال الناس بالباطل وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ [البقرة: ١٨٨]، وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء: ٢]، كذلك يُحرم ترك المال بين يدَيِ السفهاء وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء: ٥]، أو بين الأغنياء كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر: ٧]. كما يُحرم جمع المال واكتنازَه وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ [الهمزة: ١-٢]، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: ٣٤-٣٥]. ويُحرم القرآن تركيز الأموال في أيدي المترفين وتعطيل مصالح الناس ويُطالب بالمشاركة في الأموال: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء: ١٦]، فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: ٤٥]، وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ [الإسراء: ٦٤]، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: ١٩]. انظر أيضًا بحثنا «المال في القرآن»، قضايا عربية، أبريل ١٩٧٩م. و«الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» (٢) في اليسار الديني.
١٣  يظهر لفظ التقدُّم في القرآن في لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر: ٣٧]، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ [الحجر: ٢٤]، كما يُهاجم القرآن التخلفَ والمتخلفين والخوالف والقعود والقعَدة والقاعدين، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [التوبة: ٨٧]، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [التوبة: ٨٣]، وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: ٩٥].
١٤  فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم: ٥٩]. وهو المعنيُّ في القول المشهور «بئس الخلَف لخير السلف».
١٥  انظر دراستنا: «لماذا غاب مبحث التاريخ في تراثنا القديم؟» في «دراسات إسلامية»، بيروت، دار التنوير، ١٩٨٣م.
١٦  انظر مقالنا «نحن والتنوير» قضايا عربية، يوليو (تموز) ١٩٧٩م. «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٧١م»، (١) في الثقافة الوطنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤