المنقذون١

(حجرة بسريرَين يرقد عليهما رجلان عجوزان في حالة احتضار. تمرُّ فترة سكونٍ تام.)

العجوز الأول : أخي، أسمعت؟
العجوز الثاني : الموت.
العجوز الأول : لا شيء سواه؟
العجوز الثاني : لا شيء.
العجوز الأول : ضوضاء؟

(لا يسمع المتفرجون في هذه الأثناء شيئًا.)

العجوز الأول : برد وظلام.
العجوز الثاني : لا أخشى شيئًا.
العجوز الأول : مرحى بالموت.
العجوز الثاني : وأنا أيضًا.

(فترة صمت.)

العجوز الأول : قد تم الأمر.
العجوز الثاني : وعلى خير.
العجوز الأول : كان حقًّا وصوابًا ما اعتقدناه كذلك.
العجوز الثاني : لم يكد يخفى علينا أي شيء.
العجوز الأول : كل شيء كان معروفًا لنا.
العجوز الثاني : لِم عدنا للكلام؟

(فترة صمت طويلة.)

العجوز الأول : أسمعت؟
العجوز الثاني : أحسبه صوتَ غناء.
العجوز الأول : وكأنَّ خُطًى تقترب.

(العجوز الثاني لا يُجيب.)

العجوز الأول : أبدأت الرحلة؟

(العجوز الثاني لا يُجيب.)

العجوز الأول :
أُذني لا تخدعني.
إني أسمع بوضوح.

(المشاهدون لا يسمعون شيئًا حتى الآن، العجوز الثاني لا يزال صامتًا.)

العجوز الأول : أخي!
العجوز الثاني : ناديت؟
العجوز الأول :
ألم تسمع؟ ضوضاء،
صراخ،
يقتربون.
العجوز الثاني : الموت بطيءٌ ومملٌّ.

(فجأة يُسمع دوي عالٍ ويُشاهد من النافذة وهَجٌ ساطعٌ يضيء الغرفة. العجوزان يعتدلان في فراشهما.)

العجوز الثاني : ملعونون!
العجوز الأول : ما هذا؟
العجوز الثاني : لا أحد سواهم.
العجوز الأول : دبَّت فينا الروح.
العجوز الثاني : الشعلة تدفئ.

(صمت.)

العجوز الأول : الويل، الويل!
العجوز الثاني : من كان يصدق أن الميت يجلس يومًا في فرشه؟
العجوز الأول : أو أنَّا نرجع شبَّانًا؟
العجوز الثاني : الويل، الويل!

(الحق أن الحياة الجديدة قد دبَّت في الشيخين. صمت.)

العجوز الثاني : تمنحنا القوة.
العجوز الأول : الشعلة تدفئ.
العجوز الثاني : والذنب.
العجوز الأول :
شرهم هذا وأذاهم.
يجعلنا نبعث كالموتى.
العجوز الثاني : أوتذكر؟
العجوز الأول : ماذا؟
العجوز الثاني : منذ قريبٍ.
العجوز الأول : ماذا؟
العجوز الثاني : حين رأينا الحادث.
العجوز الأول : ذكرني.
العجوز الثاني : أحدهم رفع يديه
العجوز الأول : كما ترفعها؟
العجوز الثاني : لا، في هذا الوضع (يشير بيده).
العجوز الأول : وبعد؟
العجوز الثاني : والثاني أنت رأيته، سقط ضحيةً.
العجوز الأول :
لِم هذا؟
لِم تستحضر هذه الصور المفزعة المرة؟
العجوز الثاني : حين هوى …
العجوز الأول : أحمر كالمصبوغ بشمع.
العجوز الثاني : أصمته الضربة.
العجوز الأول : وانقضَّ عليه.
العجوز الثاني : لم يمنعه شيء.
العجوز الأول : وكلا الرجلين بشر وإنسان!
العجوز الثاني :
حيٌّ، وطريٌّ، من لحمٍ، شريرٍ!
وكلا الرجلين يعرف ماذا يفعل، كيف يصيب.
العجوز الأول :
كم أسعدني أن أتصور
أنَّا نخرج من هذا العالم
وإلى الأبد،
أن نحتضر الآن وننطفئ
كما ينطفئ النور.

(فترة سكون.)

العجوز الثاني : حين رأينا هذا …
العجوز الأول : الدفء، هل تشعر به؟
العجوز الثاني : أبناء العار، الدفء؟
العجوز الأول :
كم يحيي
ويرد الروح.
العجوز الثاني : قلبي يخفق.
العجوز الأول : قلبك يخفق؟
العجوز الثاني : غضبًا.
العجوز الأول : اسمع! اسمع!

(يسمع الآن لأول مرة صوت ضوضاء بعيدة.)

العجوز الثاني :
القتلة!
انهض، انهض!
العجوز الأول : ماذا تفعل؟
العجوز الثاني : ننهض ونعود.
العجوز الأول : هل تسمع؟
العجوز الثاني : ونريهم.

(فترة صمت.)

العجوز الأول : الويل، الويل، الويل!
العجوز الثاني : هذي الصرخة فجأة؟
العجوز الأول :
ماذا تبغي أن تفعل؟
ماذا تبغي؟
العجوز الثاني : ماذا قلت؟
العجوز الأول : ننهض؟
العجوز الثاني :
يحملني أن أفعلَ هذا
عصبةُ أشرارٍ في الخارج.
العجوز الأول : كم نشهدهم؟
العجوز الثاني :
ما شاهدنا وعرفنا
طول العمر.
العجوز الأول : الآن؟
العجوز الثاني : أجل.
العجوز الأول : دعني أتفكر.

(فترة صمت.)

العجوز الثاني :
انهض، انهض،
يعلو الحقُّ على يدنا.
ينتصر الخير.

(يعتدل في فراشه.)

العجوز الثاني : إنَّا نعلم!

(فترة صمت.)

العجوز الثاني : هيا، إن الخير لا بد وأن يتحقق!

(يُنزل رجليه من على السرير الذي كان يرقد عليه — كزميله — مرتديًا ثيابه كاملة.)

العجوز الثاني :
هيا، هيا،
أولا تفهم معنى هذا؟

(فترة سكون.)

العجوز الأول : النسمة تنعش.
العجوز الثاني : والبيت مريح.
العجوز الأول : ويل الأشرار، ويل، ويل!
العجوز الثاني : هيا! هيا!

(ينهضان من الفراش ويقفان لحظة حائرين.)

العجوز الأول : نموت هناك.
العجوز الثاني : ماذا تعني؟
العجوز الأول : لا أعني شيئًا.
العجوز الثاني : أتمنى أن أقفز قفزة!
العجوز الأول : وأنا أيضًا …
العجوز الثاني : لا، ليس الآن!
العجوز الأول : من أيام شبابي …
العجوز الثاني :
لا، لا،
لا تذكرها اللحظة!
العجوز الأول : حين ذهبت إليها، أحمل باقة زهرٍ …
العجوز الثاني : ما زالت تحرقني الذكرى.
العجوز الأول :
وأرى نفسي فجأة
أتحول زهرة.
آه من تلك النار!
العجوز الثاني : آه! آه!
العجوز الأول : وأود لو أني أقفز للأنجم.
العجوز الثاني : يكفي، يكفي.
العجوز الأول : من أجل المرأة.
العجوز الثاني : آه! آه!
العجوز الأول :
وتروح السكرة،
وتجيء الفكرة.
العجوز الثاني :
من أجل الفقراء هناك،
تعال! تعال!
العجوز الثاني : أسمع وقع خُطًى!

(يظهر رجل مبتور الذراعين.)

الرجل المبتور الذراعين : أنتم أحياء؟!
العجوز الأول : أترى؟
العجوز الثاني : دبَّت فينا الروح!
العجوز الأول : عدنا أحياء!
الرجل المبتور الذراعين :
مَبلغ علمي أنكما
من يومين
تُحتضَران.
العجوز الأول : وبُعثنا الآن.
الرجل المبتور الذراعين :
ما دامت عندكما القدرة
هيا لوذا بالهرب!
(العجوزان لا يتكلمان.)
هيا! هيا!
قبل فوات الوقت.
(العجوزان صامتان.)
ما معنى هذه الوقفة؟
إنكما تريان وتستمعان
وفي إمكانكما الهرب.
(العجوزان لا يتحركان.)
أتظنان
بهم الرحمة؟
أو أنهم يبقون على إنسان؟
أتريدان
أن يصلا بكما
بالإذلال وبالطغيان
فتصيرا مثلهم قتَلة؟!
الرجل المبتور الذراعين :
صناع الموت
في الشارع أو في البيت
في كل مكان، كل مكان؟
أوَلا تدرون
ماذا يجري في هذا الحي؟
هيا! هيا!
قبل ضياع الوقت!
(فترة صمت.)
طالت هذي الوقفة.
تمتنعان؟
سيكون الحرق جزاءكما
أحياءً إن لم تشتركا
في سفك الدم.
هو حقد،
غضب،
يأس.
ويكاد المرء يظنُّ
أن الشر قديمٌ قِدَم الدهر.
تمتنعان؟
عبثًا أتكلم وأحذر،
فلأمضِ لحالي … ووداعًا!
إني صاحب عاهة،
شلتني هدت أيامي،
ملأتها سخطًا ومرارة
لكن ما أعجبَ ما نلقى!
ها هي ذي ترفع أعلامي،
تُنقذني تبقيني حيًّا،
تنجيني من أيدي القتلة.

(ينصرف الرجل المبتور الذراعين.)

العجوز الأول : أفهمت؟
العجوز الثاني : أظن.
العجوز الأول : ماذا؟
العجوز الثاني : الآن علينا أن نعمل.
العجوز الأول : ملعونون!
العجوز الثاني : إن كان صحيحًا ما قاله.
العجوز الأول : ولماذا يكذب؟
العجوز الثاني :
كم أتمنى
لو كانت لهم كلهم
رقبة،
كل القتَلة،
الجلادون السفاحون الفجَرة،
رقبة،
واحدة لا غيرُ؛
حتى أخنقَهم
بجماع يدي
وأخلِّص منهم هذا العالم.
العجوز الأول : فلنتوسل بالرفق.
العجوز الثاني : الرفق؟ ما جدوى هذا؟
العجوز الأول : ألا نسأل عن جدواه.
العجوز الثاني : إن المسألة هي الخير.

(يبتعد العجوز الأول ناحية الجدار وهناك يعقد يديه يائسًا.)

العجوز الأول : أعلينا أن نفعل هذا؟
العجوز الثاني : من يفعله
إن لم نفعله نحن؟
العجوز الأول : جُهَّال نحن ولا ندري.
العجوز الثاني : لا ندري؟
العجوز الأول : لا شيء أكيد.
العجوز الثاني :
لا شيء؟
حقًّا لا شيء.
العجوز الأول : قد نُضطر …
العجوز الثاني : أن ننقذ أنفسنا؟
العجوز الأول : لا أقصد هذا.
العجوز الثاني : ما تقصد؟
العجوز الأول :
في أيام شبابي،
كم جاهدت وثرت!
كيف أفتح عيني
فرأيت
أني أعمى كنت
كل العمر.
العجوز الثاني :
أهذا شيءٌ
تذكره في هذه اللحظة؟
العجوز الأول :
بل هذا شيءٌ أدركته
طول حياتي،
طول حياتي،
ولقد قلته.
لكن عن غير طريق الكلمات.
العجوز الثاني :
أتظن الآن
أنك تملك أن تختار،
لا تعجل، سوف ترى
أنك لا تملك شيئًا.
اسمع، اسمع،
ها هم يأتون.

(فترة سكون.)

العجوز الثاني : حسن، هذا خير.

(فترة سكون.)

العجوز الأول : أخي!
العجوز الثاني : أسرع، ماذا تبغي؟
العجوز الأول :
فليرقد كلٌّ منا
فوق سريره،
وليتعجل موته،
ويساعد نفسه
إن لم يسعفه الموت.
العجوز الثاني :
بل نبذل ما في طاقتنا
لنساعد من يأتي الآن.

(يدخل رجلان مسلحان، لا تظهر عليهما أية علامة أخرى من علامات الحرب.)

العجوز الثاني : ماذا أقدر أن أفعل؟
الرجل الأول : هيا.
العجوز الثاني : فورًا.
الرجل الأول : لِم لا تتبع يا شيخ؟
العجوز الأول : وإلى أين؟
الرجل الثاني : هل يسكن أحد غيركما في هذا البيت؟
العجوز الأول : لا، نحن الاثنان فقط.
الرجل الأول :
هذا البيت
معزول وحده
عن كل بيوت الحي.
العجوز الثاني : هذا حق.
الرجل الأول : إذن فتعالا.
العجوز الأول : ما تصنع؟
الرجل الأول : سوف ترى.
العجوز الثاني :
أخي،
تعالَ معي،
ولا تجزع.

(ينصرفون جميعًا. بعد قليل يرجع العجوز الأول مع الرجلين.)

العجوز الأول : العسف! العسف!
الرجل الأول : اهدأ يا شيخ!
الرجل الثاني : لن يسرق أحد شيئًا منك.
العجوز الأول : العنف! العنف!
الرجل الأول : من ذا يتكلم عنه؟
العجوز الأول : لا، لن أدخل بالإكراه أو القهر.
الرجل الأول : أنت سمعت بأذنيك.
العجوز الأول :
أبدًا! أبدًا!
ليس هنا في هذا البيت.
الرجل الأول :
سمعت بنفسك
أن لا بد!

(سكون.)

العجوز الأول صارخًا : ماذا يحدث لصديقي؟
الرجل الأول : اسمع.
العجوز الأول : ماذا؟
الرجل الأول : أنت.
العجوز الأول : شيءٌ مفزع. ها! ها! ها!
الرجل الأول : كذا تنقُّ الضفدعة.
الرجل الثاني :
ويشهق السمك،
حين يمسُّ اليابسة.
العجوز الأول : أجل.
الرجل الثاني : وتنعق البومة.
العجوز الأول : حقًّا.
الرجل الثاني : وتنقر الغربان عينيها.
الرجل الأول : حقًّا، حقًّا.
العجوز الأول :
أما أنتم …
يا أبناء البشر …
الرجل الثاني : نعرف هذا.
الرجل الأول : من أيام طفولتنا.
الرجل الثاني : لكن لا نشق أو نزفر …
الرجل الأول :
بل يشغلنا شيءٌ واحد؛
أن ننتزع القلب
من بين الأعظم واللحم.
الرجل الثاني : من أيام طفولتنا …
العجوز الأول :
وأنا …
ماذا تبغون؟
الرجل الأول : سمعت بنفسك.
العجوز الأول :
أقتل غدرًا …
هل أقتل؟
الرجل الأول :
أية بلجيكي
يدخل هذا البيت.
الرجل الثاني :
مطرودٌ يبحث عن مأوًى
يحميه،
مجروحٌ يلتمس دواءً
يشفيه، يبتهل إليكم
أن تخفوه.
العجوز الأول : شيءٌ مفزع.
الرجل الثاني : لن يتغير.
العجوز الأول :
بشعٌ ومروع.
لكمو أنتم
لكمو أنتم أنفسكم.
الرجل الأول :
هذا ما فعلوه بنا،
واليوم
جاء الدَّور علينا
لنرُدَّ الدَّين.
الرجل الأول :
يا شيخ،
إنا نقتصُّ من القتَلة.
هل تسمعني؟
إن لم نفعل …
العجوز الأول : قاتل!
الرجل الأول : اهدأ! اهدأ!
العجوز الأول : قاتل!
الرجل الأول : قلت اهدأ! اهدأ!
الرجل الثاني : إن لم تفعل …
الرجل الأول :
وتركت البيت.
إن خفت،
جبنت.
أفهمت؟
الرجل الثاني :
ها هو ذا
يصبح أبكم وأصم!
الرجل الأول :
إن لم تفعلها.
أسمعت؟
الرجل الثاني : ما رأيك في وقفته تلك؟
الرجل الأول :
قد عرف الآن
ما هو مطلوب منه.
لا عذرَ لديه.
الرجل الثاني :
تعساء!
تعساء!
الرجل الأول : هل أنت مصرٌّ؟

(العجوز الأول يُطرِق برأسه موافقًا.)

الرجل الأول :
يمكننا الآن
أن نقضيَ بالحكم عليك
بالإعدام.

(العجوز يطرق برأسه موافقًا.)

الرجل الثاني :
تعالَ، تعالَ،
هيا! لا تتأخر!
هو يدري
ماذا يجب عليه.

(ينصرف الرجلان. العجوز الأول واقفٌ في مكانه، وبينما يتكلم ترتفع قامته شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى عُلوٍّ شاهق.)

العجوز الأول :
ليتكمو تدرون!
ليتكمو تدرون!
رباه!
سامحهم،
ساعدهم،
لا تتركهم،
لا يدري أحدٌ منهم
ماذا يفعل.

(يرجع الرجل الثاني.)

الرجل الثاني :
يا شيخ!
أنا لا أقصد إلا الخير
نحن كذلك
تفعل ما لا نرضى عنه.
العجوز الأول : قتلة!

(الرجل الثاني يهز كتفيه وينصرف. تسمع ضجة.)

لو بات العالم في أيديكم،
لو لم تمتدَّ يدٌ أخرى
تمسك بالمجداف.
(يلتقط أنفاسه لحظةً ثم يستطرد.)
ما أبشع هذا،
ما أبشع!
بالتهديد وبالقوة
بالطغيان وبالقوة
بالطغيان وبالشدة
تنتظرون
أن تبقوا، أن تنتصروا،
أن يزدهر الخلق.
لكن أية خلق؟
أية خلق؟
(سكون.)
أخي!
أين تُراك الآن؟
ماذا يجري لك؟
لِم لم تصمد وتقاوم؟
ماذا فعلوا بك؟
لم تتغير فجأة؟
هل غلب اليأس عليك؟
هل غلب اليأس؟
(تُسمَع الضوضاء مرة أخرى.)
اسمع! اسمع!
(فترة سكون.)
حتى هذا
جربته
في أيام صباي.
مرة؟ لا بل ألف:
أن لا شيء يعين
إلا الموت.
يا موت،
لِم لم تدركني قبل اليوم؟

(في هذه اللحظة يظهر العجوز الثاني بالباب، بعد أن تغير وأصبح أشبه بالشبح منه بالإنسان.)

العجوز الثاني : الغوثَ! الغوثَ!
العجوز الأول : أخي!

(العجوز الثاني يشير إلى فراشه.)

العجوز الثاني : هناك! هناك!
العجوز الأول :
حاذر!
لا تدخل هذا البيت،
لا تدخل.
العجوز الأول :
بل هو غرضي،
لا أتحول عنه.
العجوز الأول :
اللعنة ترزح فوق البيت.
فوق بيوت الحي.
العجوز الثاني :
دعني أرقد
فوق فراش الموت.
العجوز الأول :
في هذا البيت
يتهددك الويل.
ما بالك …
ما هذا الوجه؟
وماذا غيَّر منك؟
العجوز الثاني : لا تقرب مني!
العجوز الأول :
إن أصررت على هذا،
متنا شركاء في الذنب.
العجوز الثاني :
أغرب عني!
اذهب عند الحائط.
العجوز الأول : ما هذه السَّحنة؟
العجوز الثاني :
قلت اذهب،
أوَلم تسمعني؟

(العجوز الأول يصدع للأمر.)

العجوز الثاني : ابقَ مكانك! لا تدنُ!

(يرقد العجوز الثاني على سريره ويظل ينظر أمامه بعينين مفتوحتين دون أن يتكلم.)

العجوز الأول : أفلا تتكلم؟!

(العجوز الثاني لا يتحرك.)

العجوز الأول : هل تنوي حقًّا أن تبقى؟

(لا يتحرك.)

العجوز الأول : هل تعرف حقًّا ما يجري في هذا البيت؟

(لا يتحرك.)

العجوز الأول :
لا تنوي أن تفتح فاك.
أبدًا، أبدًا؟

(لا يتحرك.)

العجوز الأول : أتظل تُحدِّق في صمت؟

(لا يتحرك.)

العجوز الأول :
ماذا قد طرأ عليك؟
قل لي، ماذا تم؟
لا زلت أراهم
حين التفُّوا حولك.
ونظرت إليهم،
وسكت،
ثم مضيت.
أين ذهبتم؟
ماذا فعلوا بك؟
أخي! لنغادر هذا البيت.
تعالَ معي
ولنرحل عنه.
لا تتحرك؟
إني لا أقدر وحدي
أن أفعل هذا.
يا أخلص أحباب القلب!
تعالَ معي.

(فترة صمت.)

العجوز الأول :
كنت أظن
أني أعرف،
والآن أُسائل نفسي
هل أخطأ ظنِّي؟
من ذا دبَّر هذا،
من مسئول عنه
أمس وقبل الأمس؟
هل تخطئ عيني؟
أبسمت؟
إني أتمنى أن أعطي
لا أبخل عنك،
أتمنى أن أجد الموت،
أتمنى،
أن أفعل ما ترضى عنه
كي تخرج كلمة
من شفتيك.
(العجوز الثاني لا يتحرك.)
أخي!
ما لك لا تحنو
لا ترحم؟
أنا لا أفهم.
أأصابك منهم
ما أخشى
ولذلك تأبى أن تتكلم؟

(يسمع في هذه اللحظة صوت إنسانٍ قريبٍ من الباب.)

الصوت : النجدة! النجدة!
العجوز الأول : صوت يهتف.
الصوت : الغوثَ! الغوثَ!
العجوز الأول :
أنا آتٍ،
فاهدأ وتريث.

(ينصرف العجوز الأول ويرجع بعد قليل وهو يسند رجلًا مجروحًا جُرحًا بالغًا.)

الرجل : ربي! ربي!
العجوز الأول : أوَلا تدخل؟
الرجل :
آه!
كنت ضعيفًا وصرخت!
العجوز الأول :
وعلى الفور جريت
لأعينك.
الرجل : أعرف ما تعني بالعون!
العجوز الأول :
افعل! افعل!
ضع حدًّا لعذاب شقيٍّ
خلصني من خوفي، رعشاتي.
كتب الموت عليَّ
اقتلني!
العجوز : ألهذا ترفض أن تدخل؟
الرجل :
لا تقتلني
آه! ولماذا صحت؟
ندَّت عني الصيحة فجأة
وبلا قصد.
العجوز الأول : هيا كي أضعَك في الفرش.
الرجل : بل دعني أخرج.
العجوز الأول :
لو طاوعتك في هذا
لانهرت، سقطت على الأرض.
الرجل :
هناك ستخنقني حتمًا
وتقول لنفسك
إن لم تقتله قتلك
هذا فعلكم الآن
وهذا ما كنا نفعل.
آه! آه! آه!
العجوز الأول :
الويل! الويل!
هذا ما نجني منكم!

(يقف الرجلان فترة في مواجهة بعضهما البعض، وفجأة يلقي الجريح نفسه بين ذراعي العجوز.)

الرجل : أنقذني!
العجوز الأول :
ما دمت أعيش،
وما دامت في جسدي قوة
لن يؤذيك أحد.
الرجل :
امنعه أن يدخل.
لا تسمح له.
العجوز الأول :
لن يؤذيك أحد
وأنا أقسم.
الرجل :
وسيزحف
كالثعبان المتسلل،
أعرف، أعرف!
من نظرته أدركت
ما يطلب مني،
لن يهدأ حتى يخنقني
ونموت معًا.
لا تتركه يدخل.
العجوز الأول : من؟
الرجل الأول :
الآخر،
يجري في أعقابي.
العجوز الأول :
لا تتكلم!
إنك تهذي
اقبل.
الرجل :
كنت هناك
ورأيت بعيني الدم
ينزف منه، يتدفق
ينساب برفقٍ
كالموت.
دعني! دعني!
لست أريد الموت!
العجوز الأول : انظر كيف أقودك في عطف.
الرجل :
ارحم ضعفي،
أتوسل لك!
إني أعرف.
العجوز :
أوَلم تدرك حتى الآن
أنك في خير
مع أخيار؟

(فترة صمت. الرجل يلمح العجوز الثاني.)

الرجل : هذا!
العجوز الأول :
هو لي أخ.
هيا أقبل!
الرجل :
لِم ينظر لي؟
ما معنى هذا؟
العجوز الأول : أتظل تسيء الظن؟
الرجل :
دعني أروي القصة له،
قد يرحمني!
هم دفعونا بالإكراه،
أقسم لك.
عميانًا كنا،
صدقنا ما قالوه.
أوَلا يسمع؟
أنا ما أذنبت.
أرجوك اسمعني
غُرِّرَ بي وخُدعْت.
(يشير إلى قلبه.)
هنا في قلبي لا زالت
من أولها تحيا القصة.
ولذلك أرجو أتوسل
أبقوني حيًّا!
العجوز الأول :
ما أتعس
إنسان العصر!

(فترة صمت.)

الرجل :
ويلي!
ما أفظع ما قدمت!
العجوز الأول :
ما هذا؟
ماذا يتحكم فيك؟
وأية روح تعصف بك؟
الرجل :
روح شرير.
حقًّا، حقًّا،
أنا نفسي!
العجوز الأول : تعترف بهذا، وتسلم؟
الرجل :
ويلي، ويلي!
ما أشقاني!
من ينقذني؟
من يقبل أن يمنحني العون؟
العجوز الأول : أجادٌّ أنت؟
الرجل :
أنا نفسي
أقدمت على هذا الجرم.
العجوز الأول :
أخي،
أسمعت؟
الرجل : إني أجعل ثقتي فيك وأعتمد عليك.
العجوز الأول :
يا للحظ!
هذا يوم يسعد فيه القلب.
أخي، أسمعت؟
الرجل : ضعني في الفرش.
العجوز الأول :
أعرف.
سوف تعيش الآن.
الرجل :
لأني مجروحٌ أنزف
ولأني طيب،
شيء واحد.
أتوسل لك
ألا تخلف فيه الوعد:
أغلق هذا الباب
لا تُدخل أحدًا،
إن يصرخ صوت
لا تسمع،
خبئني في ركنٍ مظلم
لا يلمحني أحدٌ منهم
هو أبصرني
سوف يجيء
حين تواتيه الفرصة.
العجوز الأول :
ما دمت أعيش …
ما دامت في جسدي قوة …
فستحيا أيضًا …
أقبل،
إنك أضعف
مما تتصور.

(ينصرفان إلى الناحية اليمنى. العجوز الثاني يرفع رأسه، ثم يعتدل قليلًا في الفراش ويُنصت باهتمام. يتمدد في فراشه من جديد عندما يسمع ضجة بالباب. بعد قليل يرجع العجوز الأول.)

العجوز الأول :
أنصت هناك،
أطللت من الشباك،
مرت خيل الغضب المر،
والآن يسود الصمت.
أخي!
ما أروع هذا
ما أروع!
نحن نجونا
أنقذنا.
والآن سأرعى هذا البائس
وسُأعنى به.
وستأتي أيامٌ أهدأ.
سيعم الخير،
وسيسكن هذا الغضب المحموم،
وتحلو كل الأشياء.
أخي!
هيا انهض! انهض!
لما أحسست بأن العمر
يُكتب لي،
وبأن حياةً تولد في،
أجفلت،
وتولاني الذعر.
قلت لنفسي،
ما هي إلا شبكة
أو فخ.
فحياة المرء
مظلمة تصبح ومخيفة
ورهيبة
حين نشك
في معنى الخير.
انتهت الآن
متاعبنا،
وانهزم الشر.
قتَلة،
أن نصبح قتَلة،
هذا ما يبغون
منك ومني.

(العجوز الثاني يتحرك في الفراش.)

العجوز الأول :
الآن ينام
من أنقذته.
ولدي! ما أبدعه!
طيب،
هو في أعماقه
إنسان طيب.
أوحت لي هذا
كلماته،
واليأس الخانق من نفسه
حين تمكن منه.
أرأيت
كيف تعرف فجأة
وجه الحق؟
فجأة!
وكذلك يسطع نوره
للأخيار
مثل البرق
أو مثل الفجر،
وكذلك
في آخر كل مطاف
يأتي الخير.
آه!
ما أسعدني!
إني حي!

(يتحرك العجوز الثاني من جديدٍ في سريره.)

العجوز الأول :
أنت على حقٍّ؟
(ينتفض العجوز الأول انتفاضة النصر.)
قدر الإنسان.
أنت مخيف.
وتضل الناس كما شئت!
لكنك بمرور الوقت
تعجز أن تنفع وتضر.
وتظل صغيرًا وضئيلًا
في وجه الخير.

(يحاول العجوز الأول أن يقترب من العجوز الثاني فيمنعه موقفه السلبي التام.)

العجوز الأول (يتحول عنه بعد قليل) :
أشعر أني وحدي
في هذا الكون
وكأني أسكر فأُجن.
(يتحرك العجوز الثاني في فراشه من جديد.)
ساد الصمت.
هذا ما قالوا عنه،
ليقبل كل قدره …
أيًّا كان،
طيبة كل الأشياء
في قلب طيب.
أخي،
ها نحن ضربنا مثلًا
يجري في كل مكان
ويعم الأرض،
فإذا أنكره الناس
وأشاحت عنه الآذان،
فيكفي أنَّا أوجدناه
حتى ينجو هذا العالم.
أخي!
حرِّك شفتيك، تحرَّك!
ماذا تنظر؟
ماذا يحدث في عينيك؟
أوَلا تتخلى عن صمتك
فلأمضِ أنا
لأؤدي الواجب
نحو الرجل الراقد في الحجرة.

(ينصرف العجوز الأول، تظل الحجرة للحظة خاليةً تمامًا، ثم يفتح الباب الأيسر وينسل منه رجلٌ نحيفُ الهيئة.)

الرجل : أين؟

(يتلفت حوله.)

الرجل :
أهو هناك؟
أمات؟

(يتلفت حوله.)

الرجل :
أرجوكم
أبتهل إليكم
لا تغتالوه
فلي شأنٌ معه.

(يعتدل قليلًا في وقفته.)

الرجل :
العين بعين،
والسن بسن.

(يلمح العجوز الثاني راقدًا على سريره.)

الرجل :
ها هو ذا
يرقد في فراشه
(يسقط مرةً أخرى على الأرض.)
حق عليك الموت؟
سنموت سويًّا!
يقول بهذا العدل،
ونظام الكون الأزلي.
لهذا جئت،
أتسلل خلفك.
ولهذا أدخر القوة.
هل تسمعني؟
تفهم عني؟
وإنك تفهم لا شك
إنسان أنت
مثلي
وعلى ما أسلفت إلي
لا يوجد إلا ردٌّ واحد
يعرفه كلٌّ منا.
هل تسمعني؟
بالضربات انهلت عليَّ
من قدام، من خلف،
من أسفل، من أعلى،
وهجمت عليَّ
ماذا كان الدفاع لك؟
لِم لا تتكلم،
لِم تكذب؟
لِم تستخفي الآن؟
هل كنت تؤمِّل أن يدركني الموت
قبل وصولي لك؟
لا، لا، لن يحدث هذا
لن يلمسني الموت
قبل الثأر.
فهناك العدل
والعدل أحق.
(فترة سكون.)
أعرف
لِم أقدمت على هذا
يا مسكين
يا صاحب أصغر نفس،
أضأل نفس.
لن ينقذك الآن
مني شيء …
فلقد جئت؛
كي أخنقك بنفسي
(يبذل الرجل أقصى جهده لينهض على قدميه، يلمح العجوز الثاني فيطلق صرخةً عاليةً ويسقط مرةً أخرى.)
هذا رجلٌ زائف!
رجلٌ آخر!
ليس المجرم!
(سكون.)
خدعت سرقت،
مكر ودهاء.
ما أقذر هذا!
أأموت أموت
والقاتل حي؟!
(سكون.)
أنت!
يا من ترقد في هذا الفرش
إني أعرف من أنت.
ولقد أبصرتك حين مضيت أمامهم
وانهلت عليهم بيديك.
ثم زحفت على الأرض
وتصارعت صراع الذئب مع الكلب
إنك تعلم بمكانه
فتكلم، أسرع
قبل فوات الوقت.
حتى لا أصرخ فيجيئوا.
أسمع صوتًا بالداخل.
هل يجري الآن
ما أعنيه؟
أفصِح عما في نفسك
ولتصحُ الرحمة في قلبك!
(سكون.)
سوف أصيح
حتى يأتوا.

(في هذه اللحظة يرجع العجوز الأول ويتكلم في البداية دون أن يلحظ الرجل الملقى على الأرض.)

العجوز الأول :
يبكي …
يبكي …
لا يبغي أن يتكلم،
والآن تمكن منه
خوفٌ مرعب.
رباه!
ماذا يضني قلبه؟
ماذا يخفي صدره؟
إن كانوا مثله،
إن كانوا في الخوف سواء،
لا جَرم يكون الموت
في أعينهم نعمة.
الرجل : هو …
العجوز الأول : ماذا؟
الرجل : من …
العجوز الأول : مسكين مثله …
الرجل : هو من شأني …
العجوز الأول : وضعيف مثله …
الرجل : أحضره …
العجوز الأول :
رباه!
يا لكم من بؤساء!
تعالَ معي!
تعالَ تمدد
فوق سريرك.
الرجل : أحضره إليَّ.

(يقترب العجوز الأول من الرجل الذي يبعده عنه بإشارةٍ مخيفة.)

العجوز الأول :
يا أبأس خلق الله،
ستموت
وأنت على بؤسك.
الرجل : أحضره هنا.
العجوز الأول :
بِم ينطق،
وبماذا يهرف؟
الرجل : بم … بم … بم …
العجوز الأول :
رباه! أية رعب!
أية رعب يملككم!

(الرجل الملقى على الأرض يشير إشاراتٍ مخيفةً مضحكة.)

العجوز الأول :
تعالَ،
إن شئت أعنتك
ومددتك في هذا الفرش.

(يحمله إلى السرير.)

العجوز الأول :
رؤية هذا
تسلبني كل قواي
تحبب في نفسي الموت.
رباه!
ارحم هذا اللحم
أنقذ هذي الأرواح.
الرجل (من الفراش) :
دعني يا شيخي الطيب،
دعني.
لا بل شدد قبضتك علي؛
أنا لا أتحمل هذا الحب.
العجوز :
يا ولدي، دعني أمنحك الحب
أترفق بك
أبذل من نفسي لك.
الرجل : يا شيخي الطيب، من أنت؟
العجوز الأول :
شيخ منهوك مُستضعَف
لكن الخير يقويه.
الرجل :
الخير؟
لا لست أريد،
دعني، دعني.

(ينتزع الرجل نفسه من السرير.)

الرجل :
أحضره الآن،
أحضره الآن،
أو أصرخ.
العجوز الأول :
ما هذا؟
ماذا يجري لك؟
الرجل :
هو حي؟
كان عليك
أن تقتله،
لكن لم تفعل؛
ولذا تدفعني الآن إلى القتل.
العجوز الأول :
ما هذا؟
ماذا يخرج من شفتيك؟
الرجل :
إني أسمعهم في الشارع
وقع خُطاهم أعرفه وسيأتون
لكي ينتقموا لي
إن أصرخ هبوا للثأر.
أحضره حتى لا أصرخ!
آه! آه! آه!
العجوز الأول :
ويلي! ويلي!
أشعر أنك تخنقني.
الرجل :
هناك، هناك.
ألقونا في جحرٍ مظلم،
جحرٍ مهجورٍ معتم.
ودخلنا فيه،
تخبطنا وتعثرنا.
فجأة،
أحسست بوجهٍ في وجهي
بشع ممرور يعصره
يأسٌ ويثير بيَ الشفقة.
وجهي، وجهه
امتزجا، صارا اثنين
في واحد،
نفس الوجه،
وجه القاتل والمقتول.
مرت لحظة،
وأشحتُ بوجهي فأشاح بوجهه.
مرت لحظة،
وأتت ضربة
تتبعها ركلة
تتلوها لكمة
وانهال الضرب عليَّ
يمينًا وشمالًا
من قدام، من خلف،
من أسفل، من فوق.
وبكى وجهي،
وبكى وجهه
سلمه لي،
سلمه.
لا بد وأن أقتله
لا بد
فبهذا وحده
أُنقذ نفسي.
(سكون.)
قد أبصرته
يتسلل من هذا الباب،
فتسللت وراءه
وهو الآن هنا.
لا تنكر
حان الوقت لأثأر.
دعني معه وحدي،
دعنا واذهب!

(العجوز يرفع ذراعيه مفزوعًا.)

العجوز الأول : سيصيح ويجأر.
الرجل :
لا تهذر!
لا تتردد وتفكر،
لا تتحسر،
حاول أن تفهم أن تعذر.
العجوز الأول :
سيجيء القتلة.
لن تنجو منهم،
لن ينجو.

(فترة صمت.)

الرجل :
افهم قولي
هذا أمرٌ حتمي.
(فترة سكون.)
ارفق بي
احنُ عليه وعليَّ!
العجوز الأول : سيصيح ويصرخ.

(سكون.)

الرجل :
ارحم ضعفي!
(صمت.)
سأموت.
(صمت.)
أسرع!
العجوز الأول : إني لأريد الخير.

(صمت.)

الرجل :
العبء ثقيلٌ والذنب
قد جاوز حده.
نحن جميعًا نتحمل وزره.
أما الآن فقد فات الوقت.
أسرع
فأنا أنتظر الموت.
(صمت وسكون.)
لا تتدخل في شيء
لا يعنيك!
إن لم نفعل فسأصرخ.

(ينهض قليلًا، يحاول أن يصرخ فلا تخرج منه إلا حشرجة ضعيفة.)

الرجل :
ها!
أوَتبغي أن تمكر بي؟
أوَتبغي أن أُسلِم روحي
قبل الأخذ بثأري،
قبل نفاذ العدل؟
ها أنا ذا أمضي، أتسلل
حتى أصل إليه
لن يمنعني شيء.

(يزحف الرجل حتى يصل إلى الباب. وعندما يرى العجوز هذا يسقط على الأرض بجانبه.)

الرجل : ماذا تفعل؟

(العجوز يُصدر إشاراتٍ مخيفةً ومضحكة.)

الرجل : عن هذا الباب تنحَّ!

(العجوز يواصل إشاراته.)

الرجل :
أتحاول أن تُفزِعني
بإشاراتك؟
أنت؟

(يستمر العجوز في إصدار إشاراته.)

الرجل : هل تعجز أن تخرج كلمة؟

(فترة صمت طويلة. العجوز الثاني يعتدل جالسًا في سريره. العجوز الأول يُطرق برأسه.)

العجوز الأول :
اهدأ
أرجوك
واترك هذا الأمر.
الرجل :
بل تهدأ أنت.
هل صليت؟
العجوز الأول : ما عادت تُسعفني القدرة.
الرجل : وأنا أيضًا.
العجوز الأول :
هذا العبء ثقيل.
أثقل مما يحمل قلب!
الرجل : هو، هو، هو!

(يحرك يده اليمنى في أثناء هذا حركة دائرية.)

العجوز الأول : ما أبغي إلا الخير.
الرجل : أحقًّا تبغي هذا؟
العجوز الأول :
أن أنقذ كل الناس،
وأنقذك وأنقذ نفسي.
الرجل : تنقذني أيضًا؟
العجوز الأول :
نحن جميعًا.
نحن جميعًا.
الرجل : هل بقيَ سبيل؟
العجوز الأول :
في هذي الحجرة
كنا نرقد
أنا وأخي
داخل هذي الحجرة
فوق فراش الموت
حتى جئتم
فبعثتم فينا الروح،
حركتم فينا النبض.
الرجل : نحن؟
العجوز الأول : جنونكم.
الرجل : أي جنون؟
العجوز الأول :
وهناك بُعثنا
لنكون شهودًا بالخير
ونخلص هذا الكون!

(الرجل يُصدر برأسه وذراعيه حركاتٍ تدل على الرفض والاستنكار.)

العجوز الأول : إن شئت …
الرجل : ماذا؟
العجوز الأول : إن صدقت
الرجل : ماذا؟
العجوز الأول : إن صدقت
الرجل : ماذا تعني؟
العجوز الأول : إن الخير …
الرجل :
الخير؟
أوَلا تدرك …
العجوز الأول : ماذا؟
الرجل : أني أُحتضر الآن؟

(فترة صمت أطول.)

العجوز الأول :
سأضمك بين ذراعي
فتعود إليك حياة أخرى
وسأرعاك.
الرجل : طول العمر؟
العجوز الأول : سأعلمك.
الرجل : الرقة؟
العجوز الأول :
لا داعيَ أبدًا
صدقني،
لا داعيَ أن ينتشر الرعب
وتبدو كل الأشياء مخيفة
أتحب؟

(ينظر الرجل العجوز نظرة طويلة.)

الرجل : أنت؟
العجوز الأول : أجل!
الرجل : كذَّاب!
العجوز الأول : رباه! ربي في عليائك!
الرجل : لست أريد.
العجوز الأول : لست تريد؟
الرجل :
لا أقدر.
دعني أفتح هذا الباب.
العجوز الأول : رباه! ربي في عليائك!

(يتلفَّت الرجل حوله.)

العجوز الأول : قد يمكن …

(الرجل يحملق في نقطةٍ معينة.)

العجوز الأول : لو تخلو الدنيا …

(الرجل يحدق خلفه.)

العجوز الأول :
لو أمكننا ببساطة
أن نفهم بعضًا … نتفاهم.

(الرجل يلمح العجوز الثاني ويطلق صرخةً عالية.)

الرجل :
هذا يعرف.
لا يخفى عنه شيء.
دعني أذهب.

(يبدأ الرجل في التحرك نحو الباب. يتحرك العجوز الأول أيضًا.)

العجوز الأول : للخلف.
الرجل : يمينًا.
العجوز الأول : ويسارًا.
الرجل : أسرع.
العجوز الأول : أبطئ.
الرجل : ملعون أنت!
العجوز الأول : وعليك اللعنة!

(يبدآن في صراعٍ وحشيٍّ حتى يصرخ الرجل فجأة.)

الرجل :
إني أُحتضر، أموت!
إني أحتضر، أموت!

(العجوز يتركه وينهض واقفًا ويبتعد تجاه الحائط، يقف صامتًا لا يتكلم، ثم يسير في بطءٍ إلى سريره ويرقد عليه. تمر فترة سكونٍ طويلة. ثم يسمع صراخ الرجل الآخر في الحجرة المجاورة. يلتفت العجوز الثاني فجأةً للعجوز الأول.)

العجوز الثاني :
وهناك على أرض الشارع،
كانت خطواتي تسبقهم
ويداي إلى أعلى رأسي،
وأقول لنفسي:
فلأضرب مثلًا
وتلفت
فرأيت اثنين
يصطرعان
كالأحباب أو العشاق.
وتملَّكني السخط.
حاولت أفرِّق بينهما،
ومددت يدي،
فخنقتهما.
قلت لنفسي
قُضي الأمر.
قُضي الأمر.
هناك فهمت.
قُضي الأمر.
قُضي الأمر.
هناك فهمت.
من يصمت
من لا يفعل
يعرف عنه الناس
أن قد فهما.

(العجوزان يرقدان الآن رقدتهما التي بدأت بها المسرحية، وفجأة يدخل شابٌّ وفتاةٌ من الباب وكلاهما يبدو في هذا المكان وكأنه هبط من عالم آخر. لا يلتفتان لشيءٍ في الحجرة فهما مشغولان بنفسهما تمامًا، وكأنه لا وجود إلا للعالم الذي يعيشان فيه وحدهما.)

الشاب : حين مضينا …
الفتاة : أعرف، يا حبي أعرف.
الشاب :
دعيني
أُكمل قولي.
الفتاة :
أكمل.
أكمل.
الشاب : حين أتينا للأشجار …
الفتاة : أعرف، أعرف.
الشاب :
حين وقفت هناك
فجأة
بدأت أعضاؤك تتحرك.
رحتِ تحاكين
رقصة تلك الأشجار.
الفتاة : كانت في عينيك النظرة.
الشاب :
حين رقصت …
والأشجار …
الفتاة : كم كانت نظرتك غريبة!
الشاب : كيف؟
الفتاة : كما نتمنى ونحب!
الشاب :
وهناك رأيتك
وأنا أرقد في حِضنك.
الفتاة : أنت!
الشاب :
حين رقصت هناك
رقصة تلك الأشجار
خُيِّل لي فجأة
أن الأشجار
تولد، تخلق، تحدث فجأة.
الفتاة :
دعنا نرقص
وليحدث أبدًا ما يحدث.
الشاب : كما تهوين.

(يقفان لحظةً وكأنهما يحاولان أن ينصتا لما يجري في نفسهما ويستغرقان فيه تمامًا، ثم يبدآن حركاتهما الراقصة التي لا تتصل بالرقص المألوف في شيء.)

الشاب :
هنا
هناك،
فوقي،
تحتي،
في كل مكان،
كل مكان.
الفتاة :
هنا
وهناك،
فوقي،
تحتي،
في كل مكان،
كل مكان.

(يكفان عن الرقص.)

الشاب :
لمَّا أن هبَّت في الغابة
عاصفةٌ ورياحٌ حمر …
الفتاة : واصطدمت بجبينك …
الشاب :
لما مات الجدول
غنَّى الطير
في دوامات صفر.
الشاب :
تم الأمر.
تم الأمر.
الفتاة :
فليجري الآن
ما يجري.
دعنا نرقص.

(يقتربان من بعضهما البعض ويتلامسان ثم يتباعدان.)

الشاب : حدثت أشياء كثيرة
الفتاة : فلنبقَ الآن بعيدين
الشاب : وقريبين
الفتاة : في كل طريق
الشاب : نتلاقى
الفتاة : نتشابه … دومًا نتشابه
الشاب : في كل وجود ومصير
الفتاة : أنت؟
الشاب : نعم؟
الفتاة :
يا ليت نعيد الكرة
(نبدأ في الرقص.)
أحرار أحرار
وقصار العمر
نعرف
أو لا نعرف:
ما يبقى
لا يعنينا،
لا يعنينا نفعٌ أو ضر.
نحن نحب ونحيا،
نحيا ونحب
لا يعنينا
ما يجري في أذهان الناس
أو ما يبصره الناس
لا يعنينا الخير أو الشر
قصار العمر
وأحرار.
نسمة
رقة نسمة
لا شيء سواها.
لا نسأل
هل يبقى العالم أو يفنى؟
لا يعنينا،
لا يعنينا شيء.
لا نتفكر،
لا نتدبر،
نحيا وفق طبيعتنا،
كحياة الورد،
بل أقصر من عمر الورد.
لا نشتهي،
لا نتألم،
نرقص،
نحيا،
أو نصبح عدمًا.
لا يعنينا شيء
إلا أن نحيا ونحب.
هل تصحبني يا حبي
يا حبِّي هل تصحبني؟
الشاب :
لك ما شئت،
افعل ما يرضيك.
العجوز الأول :
قف!
الخطر هناك!

(يختفي العاشقان. يجلس العجوزان في فراشهما جامدَين. تمرُّ لحظات.)

العجوز الأول : من هذان؟
العجوز الثاني : وماذا رأت العينان؟
العجوز الأول (صارخًا) : كانت تلك حياتي.
العجوز الثاني : بل كانت أي حياة!
العجوز الأول : لو كنا عشناها حقًّا.
العجوز الثاني : من يدري؟ فلعلي عشت.
العجوز الأول : لكن لم نعرف شيئًا.
العجوز الثاني : لكن لم نفهم شيئًا.
العجوز الأول : هم جعلونا عميانًا.
العجوز الثاني : كان العبء ثقيلًا.
العجوز الأول : كان …
العجوز الثاني : وكان …

(يقفزان من فراشهما ويقلدان رقص العاشقين.)

العجوزان :
نرقص، نرقص.
أحرار، أحرار.
وقصار العمر
ندري
أو لا ندري
قدر الإنسان
أواه منك!
العجوز الأول :
قدر الإنسان.
قدر الإنسان.
ضاع العمر.
احترق العمر.
العجوز الثاني : ها نحن نموت.
العجوز الأول :
يثقلنا الذنب،
يأكلنا الحقد أو الرعب.
آه! آه!
العجوز الثاني :
والآن الآن،
يا حسرة عمر قد كان،
يجري هذا كله.
العجوز الأول : ويدور أمام العين.
العجوز الثاني : ويقال تعلم!
العجوز الأول : ويقال انظر!
العجوز الثاني :
كي تتعلم،
تتألم،
تحلم.
العجوز الأول : بعد فوات العمر!
العجوز الثاني : بعد فوات العمر!

(يبكيان ويعودان كلٌّ إلى سريره.)

العجوز الأول :
والآن نعود
منكسرين ومهزومين
كي تتمدد فوق فراش الموت!
العجوز الثاني :
فوق فراش الموت
لا نبغي أن نعرف شيئًا
لا نبغي أن نسمع شيئًا
لنموت نموت أخيرًا.
العجوز الأول :
آه، من يقوى
أن يدرك سرَّه؟!
من يقوى أن يكبح شرَّه؟!
العجوز الثاني : القدر! القدر!
العجوز الأول :
شُدُّوا شعره!
أدموا ظهره!
دوسوا فوقه
بالأقدام!
العجوز الثاني :
حتى يرقد رقدتنا
ينتظر الموت.

(سكون.)

العجوز الأول : لا زلنا مع ذلك نحيا!
العجوز الثاني : لا زلنا آه! لا زلنا!

(سكون.)

العجوز الأول :
أخي …
أنا أيضًا … فجأة
أصبحتُ وديعًا.
العجوز الأول : يكفي أنَّا …
العجوز الثاني :
يكفي أنَّا
لم نُحرم منه،
بل واتتنا الفرصة.
العجوز الأول : ورأيناه رأيَ العين.
العجوز الثاني : يمكننا تصديق الحلم.

(يصمتان.)

العجوز الأول : أخي.
العجوز الثاني : أنا أيضًا جمدت أعضائي.
العجوز الأول :
أواه!
لو كان خداعًا ما نلقى،
ومجرد وهم!

(يموت الرجلان العجوزان.)

(تسمع طلقتا رصاص. يظهر العاشقان مرةً أخرى. لا يكادان يلتفتان لما حولهما إلا بقدر ما فعلا في المرة السابقة أو أقل. هناك جُرحان داميان في جنبَيهما.)

الفتاة :
ما أعجب كل الأشياء!
تنسكب، تسيل.
الشاب :
حقًّا.
كل الأشياء عجيبة.
الفتاة :
قد يوجد شيء
وإذا هو فجأة
يصبح شيئًا آخر.
كل الأشياء تزول.
الشاب : تنسكب، تسيل.
الفتاة :
تومض فجأة،
تبرق فجأة،
ترعد فجأة،
تصرخ فجأة.
الشاب : انطلق رصاص.
الفتاة :
وتعود الكرة،
ويحل ظلام،
يتبعه النور.
الشاب :
ويجيء الضعف
تتبعه القوة.
الفتاة : تعالَ.

(يرقصان. يلمحان البقع الحمراء في جنب كل منهما. ينزعجان لحظة ثم يستمران في الرقص. يتوقفان فجأة.)

الشاب : أحسُّ الخوف.
الفتاة : وأنا أيضًا.
الشاب : ولدت في نفسي رغبة.
الفتاة : وأنا أيضًا.
الشاب : أقوى رغبة.
الفتاة : كل الأشياء عجيبة.
الشاب : نامي.
الفتاة : نم.
الشاب (الذي لا يدرك حالته كما لا تدرك هي أيضًا حالتها) : فلنرقد في حِضن الرغبة!

(يلتفتان حولهما ويلمحان العجوزين يقذفان بجثتيهما من على الفراش ويرقدان في مكانهما. كلاهما صامتٌ وعيناه مفتوحتان.)

الفتاة : نفسي تشتاق لرقصة.
الشاب : وأنا أيضًا.
الفتاة : ما رأيك أنت؟
الشاب : ما رأيك؟

(يضحكان.)

الفتاة : في هذا الألم.
الشاب : ألمي؟
الفتاة :
لا أقدر أن أرفع جسدي
ولذلك سأحرك كفي.
الشاب : وأنا رأسي.

(تحرك إصبعها ويحرك رأسه. فترة صمت.)

الفتاة : خطرت لي فكرة.
الشاب : إلهام؟!
الفتاة :
ويلي! ويلي!
بل نبوءة!
الشاب : يجب علينا أن ننهض.
الفتاة : فلنفعل هذا يا حبي.

(ينهضان من الفراش. البقعة الحمراء انتشرت على جانبيهما كله، وهما يدركان ذلك الآن.)

الشاب والفتاة :
لا بأس.
يمكن مع ذلك أن نرقص!

(يرقصان.)

الشاب (فجأة) : أنت!
الفتاة : هنا بجوارك!
الشاب (وهو يواصل رقصه) : أين؟
الفتاة (وهي تواصل رقصها) :
هنا …
وقريب منك.
الشاب : حسن.
الفتاة (فجأة) : أنت؟
الشاب : ماذا؟
الفتاة : حسن.
الشاب (فجأة) :
يا طيبة القلب،
حبي أنت،
يا نبع حنانٍ لا ينضب.
الفتاة :
ما هذا؟
لا، لا.
أنسيت الرقصة؟!
الشاب : لك ما شئت.

(يتحركان الحركة الأخيرة، تبدأ الفتاة في الغناء بصوتٍ خافت.)

الشاب : أسمع صوتك.

(تبدأ الفتاة في الكلام مع نفسها بصوتٍ خافت.)

الشاب : أسمع همسك.

(تسقط الفتاة ميتةً. الشاب يغني ويكلم نفسه. يصل بصعوبة إلى الحائط. يستند إليه ويقول للمرة الأخيرة):

الشاب : أسمع؟!

(ثم يسقط ميتًا.)

١  يضع المؤلف عنوانًا فرعيًّا لعله يدل دلالة بالغة على غرضه فهو يسمي مسرحيته «لعبة تراجيدية»؛ أي إنه لا يقصد أن تكون مسرحية ولا تمثيلية بالمعنى الحديث المعروف اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤