الشاعر

الشاعر : آه، ليل وتجربة، تجربة الليل، كيف أعانيها؟ كيف ترى أحياها؟ (بإشارات محمومة) إلى أين أذهب؟ لأية أرض؟ أي بحار؟ أجواء؟ ويلي من هذا الصخر. عاجز أنا أمام الصخور. وبعد؟ ماذا يأتي بعد؟ قدر على قدر فوق كتفي، نسور على كتفي، مخالب في كتفي، كيف سأهرب؟ أي بحار، أي هواء. (يتوقف مُجهَدًا ويلتقط أنفاسه) وحدي وبعيدًا عن كل الناس، لا أصحاب، لا قدرة، منكسرًا عاجزًا، بلا جواب، ولا لمسة يد. ماذا سيكون مصيري؟ كل الدروب سلكوها، كل تحدٍّ واجهوه … وما زالت العجلة تدور. (يقف الآن بجوار النافذة التي على اليمين ويفتحها) بعد قليل يشرق الصباح. استيقظوا، هيا إلى الشوارع، أريد أن أقف في الزوايا وأنظر إليكم. أريد أن أرتجف فزعًا وأحاول أن أفهمكم. ها، ها، إني جبار، وحيد، بلا أرض، بلا شاطئ، ها، إني أملك أن أقهر، أجل، إني أشعر بالقوة، القوة الأخيرة، القوة الأزلية، العواصف حولي، كل العواصف، كل الظلام، العالم أجمع. (تهب العاصفة من خلال النافذة، ينطفئ النور) هيا أيتها الكلمات، مرحى بك، انهضي بقوة، احتشدي وازدحمي، اضربي الصخور، قيِّدي البحور، وجرجري وراءك البحار، أغري كل النيران أن تدخل في دائرتي، في دائرتي. أقهر كل الأشياء. أرغم هذا الكون. (تهب العاصفة مرة أخرى عبر النافذة)، فليقبل الناس من كل لون وجنس، فلتقبل البغايا.

(يظلم المسرح تمامًا، ولكن ترى في الخلف إلى اليسار ست حِسان ذوات دلال على ضوءٍ شاحب، يغفين مستغرقات في نعاس اللذة والشهوة، والشفاه لا تزال مفتوحة على التنهيدة الأخيرة، وملامح الوجوه مُتعَبة من عذوبة القُبل الأخيرة، والأذرع مرتخية بعد العناق الأخير.)

مرحى بالحسناوات، في نعاس البغايا (يميل على الحسناء الأولى ويهمس في أذنها) استيقظي، استيقظي بنفسك، هل ارتكبت الخطيئة؟ أأنتِ إنسانة؟ (يهمس للثانية) مذنبة أنت؟ هل أنت وضيعة؟ (يهمس للثالثة) هل أنت منبوذة؟ (للرابعة) هل أنت ملعونة؟ استيقظن بأنفسكن، لا تخَفْن اليقظة، استيقظن لحياة الخلود. هل أنتن بشر؟ هل أنتن من أبناء الأرض؟ أم أنتن صدفة؟ ما الإنسان؟ ما الصدفة؟ خالدات أنتن، أنتن لذَّةٌ خالدة. (تصحو البغايا من النوم ويقمن من الفراش في بطء) اخرجن من القبور، من قبوركن الأرضية، اصعدن للسماء. (تكون البغايا قد نهضن جميعًا وكأنهن في حُلم. يتوارى الحائط الخلفي في بقية المشهد وتبدو للعين سماء الليل. في الخلف إلى اليمين وعلى ارتفاع قليل ترى شعلة نار محمرة، وإلى اليسار (في الخلفية أيضًا) ترى نجومًا أكبر وأشد سطوعًا من النجوم العادية، وبينها قمران كبيران مُتوهِّجان يدوران حول بعضهما. عاصفة.)
الشاعر (يتقدَّم الحسانَ متجهًا إلى اليمين ثم يرتقي درجات غير منظورة تؤدي إلى الشعلة. الحسان يتبعنه في خطوات راقصة على إيقاع كلماته) :
أيتها الأجسام،
هيا إلى السما،
فنغمة الكلام
تُطهِّر الخُطى،
فلتنقضي الخطايا
عن شعرك الأثيل
وأنفس الهدايا
عن صدرك الجميل،
ولترقصي عرايا
للهب القديم
ولتخطر البغايا
على ثرى النجوم.
تحلقوا ودوروا
حول اللظى الضرير،
وأطلقوا البخور
لشهوة الصدور،
ابتهلي وصلي
لأختنا الشقراء
كي تشغل الحنين
وتطلق الأهواء.

(تغوص الحسان ويختفين.)

الشاعر (ناظرًا إلى الأعماق) :
القلوب تئز والنهم يفور،
والصرخات المجنونة تغلي في لهب العناق.
يا لمسة الوحي والقدرة الشاملة.
صار رمادًا ما جمعته الصدفة،
وها هي ذي أعضاء جديدة يَصهَرها اللهيب
وإرادة الخلق التي تنشلكم من الأعماق.
(أشباح وظلال ضخمة تصعد من الأعماق في شكل دائرة.)
أنتم رسل اللذة الرائعة التي تعبر العوالم،
أنتم الخالدون القريبون من روح الله.
أنتم تزينون جبين الله بالتاج الرائع المخيف.

(قصف الرعد – ظلام – تهدأ العاصفة، ثم يُضاء المسرح قليلًا وتظهر غرفة السطوح من جديد. يقف الشاعر في الوسَط وجذعه مائل للوراء وعيناه مغمضتان، وذراعاه مضمومتان بشدة حول بطنه. تباشير الفجر.)

الشاعر (يصحو شيئًا فشيئًا من نُعاسه) :
أيتها الحياة العظيمة، يا نبع الطهر والصفاء!
(يتجه سارح الفكر في خطوات بطيئة إلى النافذة التي على اليسار.)
(وهو يُطل من النافذة.)
الشفق يعلن عن النهار. أنتم، إن خيالي المتوهج قد حلَّق فوق سطوح بيوتكم، انثنى حول الأبراج، غاص بظله العملاق في البخار المنبعث منكم، رفعه بقوة وصعد به إلى العرش.
أنتم لم ترَوه، ولا ترونني.
أنا لا أجد جوابًا، لا أجد جوابًا، كلماتي ينبغي أن تفور.
وتطلق اللهب في الفضاء، ثم تسقط فوقكم، ترقص ألسنتها المشتعلة
على رءوسكم، حتى تنتبهوا لوجودي.
أنتم، أنتم، افسحوا لي الطريق،
انظروا كيف أندفع بينكم، والشعلة الحمراء تهتز في يدي.
افتحوا لي أبواب المصحات العقلية
حتى أحول شباك الضحك الأجوف التي تشبه شباك العنكبوت
إلى فروع وغصون متألقة بالنضارة والحياة
انهضي أيتها الجثث المنبوذة وقفي أمامي
سأنتشلك من الفساد العفن لتتلألئي كالنجوم
وتتهشمي على الأرض من روعة الضياء والبهاء،
لينتثر دم شعلتي المقدس
فوق القاعات الموحشة تحت قبة السماء السوداء،
وعلى سحب الدخان الكثيفة التي تتصاعد
من أجسام الآلات المعولة الباكية.
افتحوا الأبواب! افتحوا الأبواب!
اجمعوا حولي صفوف النهمين الشهوانيين،
انظموا حبات الرذائل والشهوات السود،
سأزين لكم الأصنام حتى تصلصل اللذات بالنظم الجميل.
افتحوا، افتحوا، فإني أشتهي أن أقيم الأوثان
وأشيد نصب الآلهة للجنس الأزلي الخالد.

(ينهار ويسقط … ويسود الصمت.)

(النهاية)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤