بعل

كورال بعل العظيم

في حجر الأم الأبيض عندما شبَّ بال١
كانت السماء هائلةً وساكنةً وشاحبة
شابَّةً كانت السماء وعاريةً وعجيبة،
كما أحبَّها عندئذٍ بال، عندما جاء بال
والسماء بقيَت على حالها في الأفراح والأحزان
حتى عندما كان بال ينام ناعم البال ولا يراها؛
بالليل تكون بنفسجية ويكون هو سكران
وفي الصباح تقيًّا وهي شاحبة الألوان.
وفي الخمارات، والكنيسة، والمستشفى
يتخبط بال معتدل المزاج ويعتاد الأشياء.
ليكن بال متعبًا يا صغار، أبدًا لا يسقط بال؛
فهو يأخذ سماءه كلما انحدر إلى الحضيض.
في زحام الخُطاة الذي يفيض بالخجل والعار
رقد بال عاريًا وتمرَّغ بكل هدوءٍ:
السماء وحدها، لكنها هي دائمًا السماء
دثرت عريه بقوةٍ، وسحبت عليه الغطاء.
والعالم، هذه الأنثى العظيمة التي تسلم نفسها ضاحكةً
لكل من يقبل أن تسحقه بين ساقيها،
أعطته بعضًا من النشوة التي يهواها،
لكن بال لم يمُتْ، وإنما راح يتطلَّع إليها.
وحين كان بال لا يرى سوى الجثث حوالَيه،
كانت شهوته تتضاعف على الدوام.
هناك مكانٌ لي، كما يقول بال فليس عددها كبيرًا.
هناك مكانٌ في حجر هذه الأنثى، كما يقول بال.
وسواء أكان الله موجودًا، أم لم يكن هناك إله،
فما دام بال موجودًا، فالأمر سواء عند بال.
أما الذي لا يقبل فيه بال المزاح
فهو هل هناك خمرٌ أم لا خمر هناك.
إن أعطتكم امرأة كل شيء على حد قول بال،
فدعوها تذهب، إذ لم يبقَ عندها ما تعطيه.
لا تخافوا الرجال وهم في أحضان النساء، فكلهم سواء.
أما الأطفال، فحتى الأطفال يخشاهم بال.
كل الرذائل لا تخلو من خيرٍ في نهاية المطاف
إلا الرجل الذي يقدم عليها، كما يقول بال.
والرذائل لها شأنها، إن عرف الإنسان ما يريد
فاختاروا منها اثنتين، لأن واحدة تفيض عن حاجتكم.
لا تكونوا كسالى، وإلا حُرمتم من الاستمتاع!
إن ما يريده المرء كما يقول بال، هو بعينه ما ينبغي عليه.
وإذا أفرزتم البراز فذلك — وانتبهوا لما يقوله بال —
خيرٌ من ألا تفعلوا شيئًا على الإطلاق!
المهم ألا يكونوا بهذه الطراوة وهذا الخمول
فليس الاستمتاع، بحق السماء، بالأمر اليسير.
يحتاج الإنسان لأعضاء قوية كما يحتاج للتجربة.
وقد يزعجه كرشٌ منتفخ وسمين.
يجب على المرء أن يكون قويًّا، لأن المتعة تضعف.
فإن سارت الأمور على غير ما يشتهي، فعليه أن يفرح ولو بالضوضاء!
ومن يخص نفسه بنفسه عند كل مساء
يحتفظ دائمًا بشبابه، وليكن فعله ما يكون.
وعندما يحطم بال شيئًا من الأشياء
لكي يرى ما قد يكون بداخله
فتلك خسارةٌ حقًّا، ولكنه مزاح
وإنه لكوكب بال، وما أعظم ما كانت حريته.
وحتى لو كان هذا الكوكب قذرًا
فهو بكل ما فيه ملك لبال.
أجل، إن كوكبه يعجبه، وقد تُيِّم به بال،
إذ ليس هناك من كوكبٍ آخر سواه.
وبال يتطلع للصقور السمينة
التي تنتظر في السماء المزدهية بالنجوم جثة بال.
أحيانًا يتظاهر بال بأنه قد مات
فإذا ما حطَّ عليه صقر أكله صامتًا في وجبة العشاء!
تحت النجوم الخابية في وادي الأحزان
يرعى بال الحقول الفسيحة مُتلمِّظًا.
إن كانت خاوية، راح بال يركض وهو يترنم بالغناء
منحدرًا إلى الغابة الأزلية لينام.
وإذا الحجر المعتم جذب إليه بال،
فما قيمة العالم في نظر بال؟ إنه شبعان.
ما أكثر ما يحمل بال تحت جفنيه من سماوات
بحيث لو مات لكان عنده منها ما يكفيه.
لما تعفن في حِجر الأرض المعتم بال
كانت السماء لا تزال هائلةً وساكنةً وشاحبة
شابةً كانت السماء وعارية وعجيبة
كمثل ما أحبها ذات يومٍ بال، عندما كان بال …

غرفة الطعام

(مش، إميليامش، بشيرر، يوهانس شميت، الدكتور بيلر، بعل يدخل من الباب مع بعض الضيوف.)

مش (لبعل) : هل لك في جرعة من النبيذ يا سيد بعل؟ (الجميع يجلسون، بعل هو ضيف الشرف).
هل تأكل الكابوريا؟٢ هذه جثة قرموط.٣
بيلر (لمش) : يسعدني أن قصائد السيد بعل الخالدة التي تشرفت بإلقائها عليكم قد حازت إعجابكم. (لبعل) يجب أن تنشر شِعرك. إن السيد مش يدفع كما يدفع رعاة الفنون.٤ هذا هو الذي سيُخرجك من غرفتك المنزوية في السطوح.
مش : إنني أشتري أخشاب القرفة. غابات بأكملها من هذه الأخشاب تسبح لحسابي فوق أنهار البرازيل. ولكني سأنشر شِعرك أيضًا.
إميليا : هل تسكن في غرفة على السطوح؟
بعل (يأكل ويشرب) : ٦٥ شارع كلوكه.
مش : إن سِمنتى لا تسمح لي بتذوق الشِّعر. ولكن لك جمجمة تذكرني بجمجمة رجلٍ من جزر الملايو كان من عادته ألا يعمل إلا إذا جلد. وكلما أقبل على العمل كشف عن أسنانه.
بشيرر : سيداتي وسادتي، أعترف لكم صراحةً بأن العثور على رجل كهذا في مثل هذه الظروف البائسة قد هزَّني تمامًا. تعلمون أنني اكتشفت معلمنا العزيز عندما بدأ مستخدمًا بسيطًا في مكتبي، وإني لأعلن بلا أدنى خوف أن من العار على مدينتنا أن تترك مثل هذه الشخصيات تعمل باليومية. وإني أهنئك يا سيد مش بأن صالونك سيصبح مهد الشهرة العالمية لهذا العبقري، أجل هذا العبقري، في صحتك، يا سيد بعل.

(بعل يُشيح بيده ويواصل الأكل.)

بيلر : سأكتب مقالًا عنك، هل معك نسخة مخطوطة من شعرك؟ إن الصحف تحت تصرُّفي.
شاب : أيها المعلم العزيز، كيف توصلت إلى هذه السذاجة اللعينة؟٥ إن هذا من وحي هوميروس. أنا شخصيًّا أعتبر هوميروس واحدًا أو مجموعة من ذوي الثقافة العالية الذين أعدوا الملاحم الشعبية الأصلية ووجدوا في بساطتها وسذاجتها متعة خارقة.
سيدة شابة : بل إنك تذكرني بوالت ويتمان. ولكنك أعظم منه. هذا هو رأيي.
بيلر : فيرلين … فيرلين … حتى تقاطيع الوجه … لا تنس لومبروزو.٦
بعل : من فضلك، ناولني قطعةً من القرموط.
السيدة الشابة : ولكنك تمتاز عليهم بالغلظة الشديدة.
يوهانيس : السيد بعل يلقي أشعاره على أسماع السائقين في حانة تقع على شاطئ النهر.
الشاب : رباه، إنك تتفوق على كل هذه الأسماء. والشعراء المعاصرون عاجزون عن اللحاق بك.
الرجل الآخر : هو أمل كبير على كل حال.
بعل : شيئًا من النبيذ، من فضلك.
الشاب : في رأيي أنك تمهد للمخلص العظيم الذي نتوقع ظهوره في وقت قريب جدًّا لإنقاذ الأدب الأوروبي.
السيدة الشابة : أيها المعلم الجليل، سيداتي سادتي، اسمحوا لي أن أقرأ عليكم من مجلة الثورة قصيدة أعتقد أنها ستثير اهتمامكم (تنهض وتلقي القصيدة):
الشاعر يجتنب الأنغام المرحة.
ينفخ في الأبواق، يجلد ظهور الطبول.
يثير الشعب بعباراته المتقطعة.
العالم الجديد
يطمس عالم العذاب والشقاء،
هو جزيرة البشرية السعيدة.
خُطب، بيانات،
أناشيد تُلقى
من فوق المنصات.
طوبى للدولة الجديدة المقدسة
التي يجري فيها دم الشعوب،
وهو من دمكم.
الفردوس ابتدأ.
هيا بنا نمهد للثورة العارمة.
تعلموا، أعدوا، تدربوا!٧

(تصفيق.)

السيدة الشابة (في لهفة) : اسمحوا لي، لقد وجدت قصيدة أخرى في هذا العدد (تقرأ):
الشمس أحرقته،
والريح جففته.
ما من شجرة رحبت به.
سقط في كل مكان
إلا شجرة أجاص٨ واحدة
غنية بثمار حمراء،
أشبه بألسنة من نار
آوته تحت ظلها.
وهناك تعلق بأغصانها
وقدماه على العشب.
شمس الأصيل الدامية
رطبت ضلوعه،

•••

هبت على غابات الزيتون
التي تغمر الحقول،
الرب تجلى بين السحب
في ثيابه البيضاء.

•••

في الأغوار المفروشة بالورد
تصفر صغار الأفاعي،
في الرقاب الفضية
تتردد أصداء الهمس.

•••

وارتجفوا جميعًا
في مملكة النبات
عندما سمعوا يد الخالق
ترف في العروق الشفيفة.

(تصفيق.)

أصوات (تهتف) : رائع، عبقري، قصيدة مخيفة، ومع ذلك فهي تدل على ذوقٍ رفيع، معجزة إلهية!
السيدة الشابة : أعتقد أنها قريبة جدًّا من بعل وعالمه الشعوري.
مش : يجب أن تسافر، جبال الحبشة مثلًا. هذا شيء يناسبك.
بعل : ولكنها لن تأتيَ إليَّ.
بيلر : وما الداعي؟ مع إحساسك هذا كله بالحياة. لقد أثرت قصائدك تأثيرًا قويًّا على نفسي.
بعل : كلما أعجبت السائقين دفعوا لي شيئًا.
مش (وهو يشرب) : سأقوم بنشر أشعارك. وسأترك أخشاب القرفة تسبح كما تشاء أو أجمع بين الأمرين.
إميليا : لا تسرف في الشرب.
بعل : ليس لدي قمصان. ربما احتجت لقمصان بيض.
مش : ألا يهمك أن تنشر أشعارك؟
بعل : ولكن يجب أن تكون طرية.
بيلر (ساخرًا) : ما هي الخدمة التي يمكنني أن أؤديَها لك؟
إميليا : إن قصائدك رائعة يا سيد بعل. وهي تدل على رقتك الشديدة.
بعل (لإميليا) : ألا تعزفين على الأرغن (إميليا تعزف).
مش : أنا أحب الأكل على أنغام الأرغن.
إميليا (لبعل) : أرجوك يا سيد بعل، لا تسرف في الشرب.
بعل (ينظر لإميليا) : هل تسبح أخشاب القرفة لحسابك يا مش؟ غابات بأكملها؟
إميليا : يمكنك أن تشرب كما تشاء. كان مجرد رجاء مني.
بيلر : حتى طريقتك في الشرب تنبئ بمستقبلك الزاهر.
بعل (لإميليا) : استمري في العزف. إن ذراعيك جميلتان.

(تتوقف إميليا عن العزف وتقترب من المائدة.)

بيلر : لعلك لا تحب الموسيقى!
بعل : إني لا أستطيع أن أسمعها. أنت تثرثر كثيرًا.
بيلر : أنت قنفذ مضحك يا بعل. يظهر أنك لا تريد نشر شعرك.
بعل : مش، هل تتاجر أيضًا في الحيوانات؟
مش : وهل لديك اعتراض؟
بعل (يمر بيده على ذراع إميليا) : وماذا تهمك أشعاري؟
مش : أردت أن أقدم لك خدمة. إميليا، هي تسمحين بتقشير شيء من التفاح؟
بيلر : إنه يخاف من استغلال الناشرين. ألم تخطر على بالك خدمة يمكن أن أؤديها لك؟
بعل : إميليا، هل تسيرين دائمًا بأكمام مفتوحة؟
إميليا : يجب أن تكفَّ عن الشرب.
بشيرر : يصح أن تكون أكثر حرصًا مع الكحول. إن بعض العباقرة …
مش : ألا تحب أن تستحم؟ هل آمرهم بإعداد فراشك؟ ألم تنسَ شيئًا؟
بيلر : الآن تغوص القمصان إلى القاع يا بعل. والشعر غاص بالفعل.
بعل (وهو يشرب) : ما الداعي للاحتكارات؟ اذهب أنت للفراش يا مش.
مش (ينهض واقفًا) : كل الحيوانات التي خلقها الله تعجبني. أما هذا الحيوان فلا يمكن التعامل معه.
تعالي يا إميليا، تعالوا أيها السادة.

(الجميع ينهضون ساخطين.)

نداءات : وقاحة … إن هذا …
بشيرر : يا سيد مش، أنا آسف أشد الأسف.
بيلر : إن شعرك ينطوي أيضًا على نزعة الشر.
بعل (ليوهانيس) : ما اسم السيد؟
يوهانيس : بيلر.
بعل : بيلر، يمكنك أن ترسل إلى الصحف القديمة.
بيلر (وهو ينصرف) : أنت بالنسبة لي هواء، وبالنسبة للأدب هواء.

(الجميع ينصرفون. يدخل أحد الخدم ويقول لبعل: مِعطَفك يا سيدي …)

غرفة بعل على السطوح

(ليل تلمع فيه النجوم. بعل يقف أمام النافذة مع الفتى يوهانيس، يتطلعان للسماء.)

بعل : عندما يتمدد الإنسان ليلًا على العشب، يدرك بعظامه أن الأرض كروية، وأننا نطير، وأن على هذا الكوكب حيوانات تفترس نباتاته. إنه من أصغر الكواكب.
يوهانيس : هل تفهم في الفلك؟
بعل : لا (صمت).
يوهانيس : لي حبيبة، هي أطهر النساء جميعًا. لكنني رأيت مرةً في المنام شجرة عرعر٩ تضاجعها؛ أقصد أن جسدها الأبيض كان ممددًا على الشجرة وكانت الفروع الغليظة تُطوِّقها. من تلك الليلة وأنا لا أعرف النوم.
بعل : هل رأيت جسدها الأبيض؟
يوهانيس : لا، إنها طاهرةٌ حتى ركبتَيها — هناك درجات مختلفة من الطهر، أليس كذلك؟ — ومع هذا فكلما طوقتها بذراعي وأنا أسير معها بضع خطوات في الليل ارتعشت كورقة الشجر، ولكن لا يحدث هذا إلا في الليل. إنني أضعف من أن أفعلها، فهي لا تزال في السابعة عشرة.
بعل : هل أعجبها الحب في المنام؟
يوهانيس : نعم.
بعل : أترتدي ثيابًا بيضاء تلتف حول جسدها، وقميصها أبيض كالثلج ينسدل حتى ركبتيها؟ لو ضاجعتها لأصبحت كومة من اللحم بلا وجه ولا ملامح.
يوهانيس : أنت دائمًا تعبر عما أشعر به. لقد تصورت أنني جبان. أراك تتفق معي في أن اتحاد الرجل بالمرأة شيء قذر.
بعل : هذه هي الصرخة التي تطلقها الخنازير العاجزة. لو طوقت الجسد العذري لخُيِّل إليك من فرط الخوف والسعادة أنك أصبحت إلهًا، ولصرتما في الفراش الواحد كشجرة العرعر التي تمد جذورها العديدة المتشابكة في باطن الأرض، ولأحسستما بأعضائكما الكثيرة التي تخفق فيها القلوب ويجري فيها الدم.
يوهانيس : ولكن القانون يعاقب على هذا، والأبوان.
بعل : أبواك (يتناول القيثارة) مخلوقان محكوم عليهما بالزوال. كيف يجرؤان على فتح أفواههما التي تبدو منها الأسنان المتخوية ليحتجَّا على الحب الذي يمكن أن يستشهد في سبيله كل إنسان؟ إن كنتم لا تقوون على الحب ولا تحتملونه فأولى بكم أن تتقيئوا أنفسكم.١٠

(يضبط أوتار القيثارة.)

يوهانيس : هل تقصد الوحم أثناء الحمل؟
بعل (يوقع على القيثارة إيقاعات حادة) : إذا تسرب الصيف الشاحب اللطيف وتشبعن كالإسفَنج بالحب، انقلبن إلى حيواناتٍ شريرةٍ ساذَجةٍ منتفخةِ البطون مترهلة الأثداء، متشنجة الأذرع كالحيوانات المائية اللزجة المتعددة الأرجل، وتضمر أجسامهن ويصيبهن إعياء كالموت، ثم يلدن وهن يصرخن صراخًا رهيبًا، وكأن هناك عالمًا جديدًا يولد أو ثمرةً صغيرةً يبصقنها في ألم وعذاب، بعد أن التهمنها من قبل بلذة واشتهاء. (يوقع نغمات مختلفة على القيثارة) يجب أن تكون الأسنان قوية، حتى يحب الإنسان كما لو كان يقضم برتقالة فتندفع عصارتها لتنفذ بين أسنانه.
يوهانيس : إن أسنانك تشبه أنياب الوحوش: صفراء داكنة، ضخمة، مخيفة.
بعل : والحب يشبه ترك الذراع العارية تسبح في ماء البركة، بينما تتخلل الأصابع نباتات الماء، ويشبه عذاب الشجرة السكرى التي تبدأ غناءها الخشن حين تركض فوقها الريح الوحشية. وعب الخمر في يوم حارٍّ عندما ينفذ جسد الأنثى كالنبيذ الرطب المنعش في كل ثنيات الجلد، وتحس المفاصل ناعمة كالنباتات التي تداعبها نسمات الريح، والمقاومة تتهاوى كما يتطاير الذباب في وجه العاصفة، وجسدها يتمرغ فوقك كالحصى الرطب، لكن الحب يشبه كذلك جوزة الهند التي تظل طيبة ما بقيَت طازجة، والتي تجد نفسك مضطرًّا إلى بصقها بعد أن تعتصرها ولا يبقى منها إلا اللحم المر. (يطرح القيثارة بعيدًا عنه) أما الآن فقد شبعت من الغناء.
يوهانيس : من رأيك أن أفعلها، ما دامت ممتعةً إلى هذا الحد؟
بعل : رأيي أن تحترس من ذلك يا يوهانيس.

حانة

(بعل – سائقون – أكارت – صديق بعل الشاب يجلس إلى الخلف مع خادمة الحانة لويزه. تُرى سُحبٌ بيضاء من خلال النافذة، الوقت ضحى.)

بعل (وهو يحكي للسائقين) : طردني من بيته الفخم١١ لأنني بصقت الخمر التي شربتها عنده، ولكن زوجته جرت ورائي، وفي المساء كانت ليلة حمراء. إنها الآن تجثم على أنفاسي وقد شبعت منها.
سائقون : لا ينفع معها إلا الضرب.١٢ المرأة شرهةٌ كالمهرة، ولكنها أغبى. يجب أن تذيقها المرَّ.١٢ إنني أضرب امرأتي دائمًا حتى يزرقَّ جلدها.١٢
يوهانيس (يدخل مع صديقته يوهانا) : هذه هي يوهانا.
بعل (للسائقين الذين يتحركون إلى الخلف) : سأحضر إليكم وأغني. صباح الخير يا يوهانا.
يوهانا : يوهانيس قرأ عليَّ بعض أغانيك.
بعل : صحيح؟ كم تبلغين من العمر إذن؟
يوهانيس : أتممت في شهر يونيو الماضي سبع عشرة سنة.
يوهانا : إنني أغار منك. فهو متحمس لك دائمًا.
بعل : وأنت مغرمة به. نحن الآن في الربيع. إني أنتظر إميليا. الحب أفضل من المتعة.
يوهانيس : أفهم أن تميل إليك قلوب الرجال، ولكن ما سر نجاحك مع النساء؟

(إميليا تدخل مسرعة.)

بعل : ها هي ذي، صباح الخير يا إميليا، يوهانيس أحضر عروسه معه، اجلسي.
إميليا : كيف تعطيني موعدًا هنا في هذه الحانة الرخيصة، وسط هؤلاء الرعاع؟! ولكن هذا هو ذوقك.
بعل : لويزه، ويسكي للمدام.
إميليا : أتريد أن تضحك الناس عليَّ؟
بعل : لا، بل ستشربين. الإنسان دائمًا هو الإنسان.
إميليا : ولكنك لست إنسانًا.
بعل : هذا ما تعرفينه. (يمد يده بالكأس للويزه) لا تكوني بخيلة يا عذراء، (يطوقها بذراعه) أنت طرية اليوم كالبرقوقة.
إميليا : وأنت اليوم معدوم الذوق.
بعل : ارفعي صوتك قليلًا يا حبيبتي.
يوهانيس : ومع هذا فالجو هنا لطيف. الشعب البسيط. انظر إليه كيف يشرب ويمزح، ثم السحب التي تبدو من النافذة.
إميليا : هل شدك أنت أيضًا لأول مرة إلى هنا؟ إلى السحب البيضاء؟
يوهانا : أليس الأفضل أن نتمشى على ضفاف النهر يا يوهانيس؟
بعل : النهر؟ ليس هناك شيء. لا تتحركوا. (يشرب) السماء تبدو بنفسجية، خصوصًا حين يسكر الإنسان. السرير على العكس أبيض. في البداية، الحب يجمع بين السماء والأرض. (يشرب) ما هذا الجبن؟! إن السماء مفتوحة الأبواب، أنتم أيها الأشباح الصغار، مزدحمة بالأجساد، شاحبة من الحب.
إميليا : ها أنت ذا قد أسرفت في الشرب من جديد، والآن تهذي بكلام فارغ. وبهذا الهذيان البديع يشد الضحايا إلى طُوالته.١٣
بعل : والسماء (يشرب) تكون أحيانًا صفراء تحوم فيها طيور جارحة. يجب أن تسكروا، (ينظر تحت المائدة) من الذي يحك رجله في بطن ساقي؟ أنتِ يا لويزه؟ آه، أنت يا إميليا، لا بأس، اشربي.
إميليا (وهي تحاول النهوض) : لا أدري ماذا جرى لك اليوم، ربما أخطأت بالحضور إلى هنا.
بعل : ألم تدركي هذا إلا الآن؟ يمكنك أن تبقي في هدوء.
يوهانا : حرام عليك يا سيد بعل.
بعل : قلبك طيب يا يوهانا، إنك لا تخونين زوجك، أليس كذلك؟
سائق (بصوت مجلجل) : يا خنزير، كسبت اللعبة.
سائقٌ ثانٍ : استمر، هكذا قالت البغي، نحن في القمة، (ضحك) عليك بالضرب.
سائق ثالث : أخجل من خيانتك. هكذا قالت المرأة للخادم الذي رأته راقدًا مع الخادمة (ضحك).
يوهانيس (لبعل) : لأجل يوهانا فقط، فهي لا تزال طفلة.
يوهانا (لإميليا) : هل تحبين أن تأتيَ معي؟ سننصرف سويًّا.
إميليا (تنشج ورأسها على المائدة) : إنني أخجل الآن من نفسي.
يوهانا (تطوقها بذراعها) : أنا أفهم حالتك تمامًا، لا تحزني.
إميليا : لا تنظري إليَّ هكذا، لا زلت صغيرة، أنت لا تفهمين شيئًا.
بعل (يقف متجهمًا) : مهزلة، الأختان في هاديس.١٤

(يتجه إلى السائقين، يتناول القيثارة من على الحائط ويضبط أوتارها.)

يوهانا : لقد سكر يا سيدتي … وغدًا سيندم على ما فعل.
إميليا : ليتك تعلمين أنه لا يتغير، وأنا أحبه.
بعل (يغني) :
قال لي أورجه:
أحب مكان في الأرض إلى نفسه
ليس بمتكأ العشب على قبر أبويه.
ليس بكرسي اعتراف، ولا فراش عاهرة
ولا هو حجر ناعم، أبيض ودافئ وسمين.
قال لي أورجه: أحب مكان إلى نفسي
كان دائمًا هو المرحاض.
فهو مكان يغتبط فيه الإنسان؛
لأن النجوم من فوقه، ومن تحته الأقذار.
إنه مكان رائع وكفى؛ ففيه يستطيع الإنسان
أن ينفرد بنفسه حتى في ليلة الزفاف.
مكان يتواضع فيه المرء، فهناك تعرف على اليقين
أنك مجرد إنسان، لا يحق له أن يحتفظ بشيء حقير ولا ثمين.
مكان تسكنه الحكمة … فهناك يمكنك بغير قيود
أن تهيئ كرشك للمتع واللذات من جديد.
وهناك تريح جسمك في سرور ونعيم،
وتجاهد لتخدم نفسك بعزيمة وتصميم.
بيد أنك ستعرف نفسك هناك وتقول:
أنا في المرحاض ولد نهمٌ وأكول!
السائقون (يصفقون) : برافو، أغنية ظريفة، كأس براندي للسيد بعل، إذا تفضل بقَبوله. وهو الذي ألَّفها بنفسه، تحياتي واحترامي.
لويزه (في وسط الحجرة) : أنت رجل بحقٍّ، يا سيد بعل.
سائق : في إمكانك أن تخدم نفسك وتعيش في نعيم، يمكنك أن تعمل شيَّالًا.١٥
السائق الثاني : الواحد يتمنى هذا الدماغ.
بعل : أرح نفسك ولا تسرح في الخيال، ليس الدماغ هو كل شيء … في صحتك يا لويزه … (يعود إلى مائدته) في صحتك يا إميليا … اشربي على الأقل، ما دمتِ لا تُحسنين شيئًا آخر. قلت لك اشربي.

(إميليا تشرب والدموع في عينيها.)

بعل : عظيم، ليدخل على الأقل شيء من النار في جوفك.
أكارت (ينهض ويسير ببطء متجهًا إلى بعل، وهو فتًى نحيل قوي البنية) : بعل، دعك من هذا، تعالَ معي يا أخي إلى الشوارع المفروشة بالحصى.
في المساء يصبح الهواء بنفسجيًّا. إلى الحانات المزدحمة بالسكارى في الأنهار السوداء تسقط نساء حملن منك، إلى الكنائس العامرة بالنساء البيض الصغيرات، تقول: هل يستطيع الإنسان أن يتنفس هنا؟ فلنذهب إلى حظائر البقر حيث ننام وسط البهائم، إنها مظلمةٌ لا تسمع فيها غير خوار الأبقار، ولنمضِ إلى الغابات حيث يتردد الدوي في الأفق وينسى الإنسان نور السماء. نسي الله الإنسان. ألا زلت تذكر منظر السماء؟ لقد أصبحت مغنيًا.١٦ (يفتح ذراعيه) تعالَ معي يا أخي للرقص والشرب والموسيقى، المطر يسقط على جلدنا، الظلام والنور، النساء والكلاب، هل فسدت إلى هذا الحد؟
بعل : لويزه، لويزه، أين كأسي؟ لا تتركيني مع هذا … أغيثوني يا أولاد.
يوهانيس : قاوم الإغراء.
بعل : يا بجعتي الحُلوة.
يوهانيس : فكر في أمك وفنِّك، كن قويًّا. (لأكارت) اخجل من نفسك، أنت الشيطان نفسه.
أكارت : بعل، تعالَ يا أخي، سنرفرف كحمامتين بيضاوين تحت السماء الزرقاء، الأنهار في نور الفجر، المروج الإلهية في الريح، وعطر الحقول الفسيحة اللامتناهية قبل أن يخربها الإنسان.
يوهانا : لا تضعف يا سيد بعل.
إميليا (تلتصق به) : حذارِ أن تذهب معه، أتسمعني؟ خَسارة أن تفعل هذا بنفسك؟
بعل : لا يزال الوقت مبكرًا يا أكارت، هناك طريق آخر، لن ترافقني يا أخي.
أكارت : فلتذهب للجحيم، أيها الأبله ذو القلب السمين.

(ينصرف.)

السائقون : ارم بياضك،١٧ عليك اللعنة، ادفع الحساب، كفى.
يوهانا : انتصرت في هذه المرة يا سيد بعل.
بعل : غرقت الآن في عرقي، هل أنت حرة اليوم يا لويزه؟
إميليا : لا يصح أن تتحدث بهذه الطريقة يا بعل، أنت لا تدري كم تؤذيني بهذا الكلام.
لويزه : اترك المدام يا سيد بعل، حتى الطفل الصغير يرى أنها ليست على ما يرام …
بعل : اسكتي يا لويزه، هورجاور.
سائق : ماذا تريد مني؟
بعل : هنا سيدة أسيئت معاملتها وتطلب الحب، أعطها قبلة يا هورجاور.
يوهانيس : بعل (يوهانا تضم إميليا إلى صدرها).
سائقون (يضربون بأيديهم على المائدة وهم يضحكون) : أعد يا أندرياس، أمسكها، صنف ممتاز، تمخَّط أولًا يا أندرياس، أنت بهيم يا سيد بعل.
بعل : هل أنتِ باردة يا إميليا؟ أتحبينني؟ إنه خجول يا «إمي»، قبِّليه أنت، إذا لم تشرِّفيني أمام الناس فسيكون ماتياس آخر واحد، واحد … اثنان.

(السائق يميل عليها.)

(إميليا ترفع إليه وجهها الغارق في الدموع. هورجاور يُقبِّلها قبلةً مدوية. ضحكات عالية).

يوهانيس : هذا ظلم يا بعل، إن الشرب يجعله يسيء للناس، ولكنه يسترد نفسه إذا أفاق، إنه قويٌّ جدًّا.
السائقون : برافو، ما لها هي والحانات! هكذا الرجولة، إنها خائنة، هذا جزاؤها، (يتهيئون للانصراف) الضرب هو علاجها.
يوهانا : أف، اخجل من نفسك.
بعل (ملتصقًا بها) : ما الذي يجعل ركبتيك ترتعشان يا يوهانا؟
يوهانيس : ماذا تريد؟
بعل (يضع يده على كتفه) : عليك أنت أيضًا أن تنظم الشِّعر، عندما تكون الحياة مواتية، وينزلق المرء على سطح تيار جارف وهو مُلقًى على ظهره وتبدو السماء لعينيه بنفسجيةً ثم سوداء أشبه بجحر، أو عندما يسحق الإنسان عدوه، أو يحول أحزانه إلى أنغام، أو يلتهم تفاحة وهو ينشج باكيًا من خيبته في الحب، أو يلوي جسد امرأة على الفراش.

(يوهانيس يدفع يوهانا أمامه ويخرج في صمت.)

بعل (مستندًا إلى المائدة) : فهمتم اللعبة؟ هل نفذت في جلدكم؟ هذا هو السيرك، يجب أن يتعلم الإنسان كيف يُغري الحيوان بالخروج من جحره، إلى الشمس مع الحيوان … الحساب … إلى ضوء النهار مع الحب … عراة … في الشمس تحت قبة السماء.
سائقون (يصافحونه ويهزون يده مهنئين) : تحياتي يا سيد بعل، خادمكم المطيع يا سيد بعل، اسمع يا سيد بعل، أنا من ناحيتي حسبت المسألة: قلت لا بد أن دماغ السيد بعل فيها عفاريت، أقصد الأغاني وخلافه، المهم أن قلبك في مكانه الصحيح، يجب أن يعامل الإنسان صنف النساء المعاملة التي يستحقها، تصبح على خير يا بهلوان.١٨
بعل : تصبحون على خير يا أحبابي (في هذه الأثناء تكون إميليا قد ألقت بنفسها على الأريكة وراحت تنشج باكية. يمسح بعل بظهر يده على جبهتها)، إمي، يمكنك الآن أن تهدئي. انتهت الحكاية. (يرفع وجهها، ويُزيح شعرها المنسدل على وجهها المبتل بالدموع)، انسي ما حدث (يلقي بنفسه عليها ويقبلها).

غرفة بعل على السطوح

١

(في الفجر، بعل ويوهانا جالسان على حافة الفراش.)

يوهانا : آه، ماذا فعلت؟ إني سيئة.
بعل : الأفضل أن تغتسلي.
يوهانا : لا أتصور كيف حدث هذا.
بعل : يوهانيس هو المسئول، يجرك إلى هنا ثم يهرب كالصفيق حين يلاحظ أن ساقيك ترتعشان.
يوهانا (تقف، بصوتٍ خافت) : وإذا رجع …
بعل : رجعنا للكلام في الأدب، (يميل للوراء) مطلع الفجر على جبل أرارات.١٩
يوهانا : هل أقوم؟
بعل : بعد الطوفان.
يوهانا : ألا تحب أن نفتح النافذة؟
بعل : بل أحب الرائحة.
يوهانا : كيف تصل بك الحقارة إلى هذا الحد؟
بعل (في كسل) : بعل يطلق أفكاره لترفرف كالحمام فوق المياه السوداء، بعد أن طهَّره الطوفان ونقَّاه.
يوهانا : لن أستطيع وأنا في هذه الحالة …
بعل : ما الذي لا تستطيعينه يا حبيبتي؟
يوهانا : أن أعود للبيت … (بعل يرتدي ملابسه).
بعل (يصفر) : أنت متوحشة، أشعر أن عظامي كلها مفككة، أعطني قبلة.
يوهانا (في وسط الحجرة، مستندة للمائدة) : قل كلمة (بعل يسكت) هل ما زلت تحبني؟ تكلم. (بعل يصفر) ألا يمكنك أن تنطق بها؟
بعل (ينظر لغطاء السرير) : لقد شبعت وسئمت.
يوهانا : وما فعلناه الليلة؟ والليالي التي قبلها؟
بعل : يوهانيس غبي ويمكن أن يثير الدنيا ويقلبها، إميليا تلف وتدور حول البيت كالمركب الشراعي الواقف في الميناء، وأنا من الممكن أن أموت هنا من الجوع فلا تُحرِّك إحداكن إصبعها من أجلي، شيء واحد هو الذي تطلبنه دائمًا.
يوهانا (تنظف المائدة وترتبها وهي مضطربة) : وأنت، ألم تحسَّ نحوي بشيء آخر أبدًا؟
بعل : هل اغتسلت؟ لا داعي للصراحة، ألم تتمتعي أنت أيضًا؟ هيا أسرعي لتعودي للبيت، يمكنك أن تقولي ليوهانيس إنني أوصلتك أمس للبيت وإنني ساخط ومغتاظ منه، لقد سقط المطر (يلف نفسه في الأغطية).
يوهانا : يوهانيس؟ (تتجه إلى الباب بخُطًى ثقيلة. تنصرف.)
بعل (يستدير فجأة ثم ينهض من الفراش) : يوهانا، (يسرع إلى الباب) يوهانا، (يطل من النافذة) ها هي ذي تجري، ها هي ذي تسرع (يحاول أن يعود للفراش ولكنه يتناول مخدةً ويقذف بها على الأرض، ثم يطرح نفسه فوقها وهو يتأوَّه وينشِج … ينتشر الظلام … يسمع صوت غناء شحَّاذ على الأرغن آتيًا من الفناء).

مساء، بعل جالس إلى المائدة

٢
بعل (يضم زجاجة الخمر. يقول على فترات متقطعة) : منذ أربعة أيام وأنا ألطخ الورق بالصيف الأحمر، وحشي أنا، شاحب، نهم، وأصارع زجاجة الخمر. هنا جربت الهزائم، لكن الأجساد أخذت تفرُّ هاربةً للجدران في جنح الظلام، في العتَمة المصرية.٢٠ إنني أجعلها تلتصق بالجدران الخشبية، ولكن يجب أن أمتنع عن الشراب. (يهذي ويثرثر) الخمر البيضاء عصاي وعكازي، منذ أن بدأ الثلج يذوب وهي تعكس أوراقي وقد ظلَّت عذراء لم تُمسَّ، أما الآن فإن يديَّ ترتعشان وكأنما الأجساد مختبئة فيها. (ينصت) قلبي يخفق مثل حافر جواد راكض. (يحلم) آه يا يوهانا، ليلة أخرى في حوض مياهك كانت كفيلة بأن تجعلني أتعفن بين الأسماك.٢١ لكن رائحة ليالي الربيع العذبة ما زالت تنبعث مني. إني عاشق بلا معشوقة، أنحدر وأسقط … (يشرب، يقوم من مكانه) لا بد أن أخلع ملابسي، ولكن فلأبحث أولًا عن امرأة. من المحزن أن يخلع الإنسان ملابسه وحده. (يُطل من النافذة) أية امرأة لها وجهٌ يشبه وجوه النساء.

(ينصرف وهو يدندن بأغنية. في الشارع يسمع لحن ترستان لفاجنر.)

(يوهانس يدخل من الباب شاحبًا منهارًا، يقلب في الأوراق الموضوعة على المائدة، يرفع الزجاجة، يتجه للباب في خجَل وينتظر هناك. ضجة على السلم، صفير.)

بعل (يجرُّ صوفي بارجر إلى داخل الحجرة) : كوني لطيفةً يا حبيبتي، هذه هي حجرتي (يُجلسها، يلمح يوهانيس) ماذا تفعل هنا؟
يوهانيس : كنت أريد …
بعل : تريد؟ ماذا تريد؟ لماذا تلفُّ هنا وتدور؟ شاهد قبر على يوهانا الراحلة؟ أم جثة يوهانيس القادم من عالمٍ آخر؟ سأطردك من هنا، اخرج في الحال. (يلف حوله) هذه وقاحةٌ! سأكسر دماغك على الحائط. هوب!

(يوهانيس ينظر إليه ثم ينصرف.)

(بعل يصفر.)

صوفي : ماذا صنع لك الفتى؟ دعني أذهب.
بعل (يفتح الباب على مِصراعيه) : إذا وصلتِ الدَّور الأول فاتجهي لليمين.
صوفي : كانوا يسيرون وراءنا عندما التقطتني من أمام الباب. سيجدونني هنا.
بعل : لن يجدك أحد.
صوفي : أنا لا أعرفك على الإطلاق. ماذا تريد مني؟
بعل : ما دمت تسألين هذا السؤال فيمكنك أن تذهبي.
صوفي : لقد هجمت عليَّ في الطريق العام. حسبتك من نوع الأورانج، أوتان.٢٢
بعل : لا تنسي أننا الآن في الربيع. كان لا بد من دخول شيءٍ أبيض إلى هذه الحجرة الملعونة؛ سحابة. (يفتح الباب ويتسمَّع) البُلهاء ضلوا الطريق.
صوفي : سيطردونني من البيت إذا رجعت متأخرةً.
بعل : خصوصًا بهذا المنظر.
صوفي : كيف؟
بعل : منظر الذين أحبهم.
صوفي : لا أدري لماذا بقيت عندك حتى الآن.
بعل : يمكنني أن أخبرك.
صوفي : أرجوك، لا تسئ الظن بي.
بعل : ولِم لا؟ أنت امرأة ككل النساء. قد تختلف الرءوس أما السيقان فكلها ضعيفة.
صوفي (تستعد للخروج، وعندما تصل للباب تلتفت وراءها وتقول لبعل الذي ينظر إليها وهو جالس على كرسيه) : الوداع!
بعل (بغير اكتراث) : نفسك مضطرب؟
صوفي : لا أدري، أشعر بإعياءٍ شديد (تستند للحائط).
بعل : أما أنا فأعرف، أبريل هو السبب. سيسود الظلام وتشمين رائحتي. هكذا تفعل الحيوانات. (يقف) والآن طرت في الهواء، أيتها السحابة البيضاء.

(يندفع نحوها، يغلق الباب بعنف، يأخذها بين ذراعيه.)

صوفي (متقطعة الأنفاس) : دعني.
بعل : اسمي بعل.
صوفي : دعني.
بعل : يجب أن تواسيني. الشتاء أضعفني، وأنتِ تشبهين امرأة.
صوفي (تتطلع إلى وجهه) : اسمك بعل؟
بعل : ألا تحبين أن تعودي لبيتك؟
صوفي (تتطلع إليه) : إنك قبيح، قبيح إلى حدٍّ مخيف، ولكن …
بعل : ولكن …
صوفي : لا يهم.
بعل (يقبلها) : هل ساقاك قويتان؟
صوفي : هل تعرف اسمي إذن؟ إنني صوفي بارجر.
بعل : انسي هذا (يقبلها).
صوفي : لا، لا، أتعلم أنه لم يسبق لأحد …
بعل : هل ما زلتِ عذراء؟ تعالي (يسوقها للفراش، في الخلف يجلسان) أرأيتِ؟ في هذه الحجرة الخشبية تفجَّرت شلالات من الأجساد، أما الآن فإني في حاجةٍ إلى وجه. سنخرج بالليل، سنرقد تحت الأشجار، أنت امرأة، وأنا تلوثت. يجب أن تحبيني، لفترةٍ محدودة.
صوفي : أهذا أنت؟ أحبك.
بعل (يضع رأسه على صدرها) : السماء فوقنا، ونحن وحدنا.
صوفي : ولكن يجب أن تظل هادئًا.
بعل : كالطفل.
صوفي (تنهض واقفةً) : لا بد أن أرجع؛ أمي في البيت.
بعل : عجوز؟
صوفي : في السبعين.
بعل : إذَن فهي متعودة على الأخبار السيئة.
صوفي : ليت الأرض تبتلعني، ليتهم ألقَوا بي عند المساء في مغارةٍ لا أخرج منها أبدًا!
بعل : أبدًا؟ (صمت) هل لك إخوة وأخوات؟
صوفي : نعم، وهم محتاجون إليَّ.
بعل : الهواء في الحجرة كاللبن. (ينهض ويقف بجوار النافذة) العشب على ضفاف النهر مبتلٌّ، وأعواده تنفث من المطر. لا بد أن فخذَيك شاحبتان (يضع يده عليها، يعود الظلام، من الفناء يسمع غناء شحاذ على أرغن).
(بيوت مطلية بالجير،٢٣ تراكمت أمامها جذوع أشجار بُنيَّة.)

(دقات أجراس كئيبة، بعل، متشرد سكير شاحب الوجه.)

بعل (يدور في نصف دائرة بخُطًى واسعة حول المتشرد الذي يجلس على حجر ويرفع وجهه للسماء) : من الذي قذف بجثث الأشجار على الجدران؟
المتشرد : الهواء الشاحب كالعاج حول جثث الأشجار: موكب جسد يسوع المقدس.
بعل : ولهذا تدق الأجراس عندما تموت الأشجار.
المتشرد : رنين الأجراس يرفع روحي المعنوية.
بعل : ألا تحزنك الأشجار؟
المتشرد : جثث الأشجار … (يشرب من زجاجة في يده).
بعل : ليست أجساد النساء أفضل منها.
المتشرد : وما الصلة بين أجساد النساء والمواكب الجنائزية؟
بعل : هذا كلام خنازير. أنت لا تعرف الحب.
المتشرد : جسد يسوع الأبيض: إنني أحبه (يناوله الزجاجة).
بعل (أكثر هدوءًا) : كتبت بعض الأغاني على الورق، ولكنني سأعلقها الآن في المرحاض.
المتشرد (في تجلٍّ وصفاء) : العبادة والصلاة، لسيدي يسوع المسيح، إني أرى جسد يسوع الأبيض، أرى جسد يسوع الأبيض. يسوع أحب الشر.
بعل (يشرب) : مثلي.
المتشرد : أتعرف قصته مع الكلب الميت؟ قال الناس: إنه أصبح جثةً عفِنةً، نادوا الشرطة والحراس، إن رائحته لا تُحتمل، لكنه قال: إن أسنانه جميلة بيضاء.
بعل : ربما دخلت الكنيسة الكاثوليكية.
المتشرد : لكنه لم يدخلها (يأخذ الزجاجة منه).
بعل : وما كنت لأقذف بأجساد النساء عُرض الحائط كما فعَل.
المتشرد : ضرب بها عُرض الحائط، ولكنها لم تسبح مع الأنهار. لقد ذبحت من أجله، من أجل جسد يسوع الأبيض.
بعل (يأخذ منه الزجاجة، يدير له ظهره) : لقد أتخمت جسدك بالتقوى أو بالخمرة (ينصرف ومعه الزجاجة).
المتشرد (يصيح في جنون) : ألا تريد أن تجاهد في سبيل مُثُلك، يا سيد؟ ألا تريد أن تنضم للموكب المقدس؟ أتحب النباتات ولا تفعل شيئًا في سبيلها؟
بعل :
سأهبط إلى النهر وأغتسل.
أنا لا أكترث أبدًا بالجثث (ينصرف).
المتشرد : أما أنا فالخمر في جوفي. إني لا أحتمل هذا. لا أحتمل هذه النباتات اللعينة الميتة. لو كان في جوفي المزيد من الخمر، فربما استطعت أن أحتملها.

إحدى ليالي الربيع تحت الأشجار

(بعل – صوفي)
بعل (في كسل) : الآن انقطع المطر. لا بد أن يكون العشب رطبًا. لم يجرِ الماء في أوراقنا. الزرع الأخضر بلله القطر، أما هذه الجذور فجافة. (بغضب) لِم لا يستطيع الإنسان أن يضاجع النباتات؟
صوفي : اسمع …
بعل : رفيف الريح الوحشية في الأشجار السوداء الرطبة، أتسمعين قطرات المطر فوق الأوراق؟
صوفي : أحسُّ قطرة على رقبتي. آه، دعني.
بعل : الحب كالدوامة، ينزع ثياب الإنسان عن جسده ويدفنه عاريًا مع جثث الأوراق، بعد أن يرى السماء.
صوفي : ليتني أختبئ فيك لأستر عريي يا بعل.
بعل : نشوان أنا، وأنتِ تترنحين. السماء سوداء ونحن نهتزُّ معًا فوق الأرجوحة، بالحب في أجسادنا والسماء السوداء فوق رءوسنا. أحبك.
صوفي : آه يا بعل، أمي تبكي الآن على جثتي، تحسب أنني غرقت في الماء. كم أسبوعًا مضت الآن؟ لم يكن الربيع قد جاء. لعلها ثلاثة أسابيع.
بعل : مرت الآن ثلاثة أسابيع. هكذا قالت الحبيبة المدفونة بين جذور الأشجار، وكانت قد مرت ثلاثون سنةً، وكانت هي أيضًا قد أوشكت على التحلُّل والفساد.
صوفي : ما أجمل أن نرقد هكذا كالفريسة، والسماء من فوقنا، فنحسُّ أننا لم نعُدْ وحدنا.
بعل : الآن أنزع عنك ثيابك.

في المقهى الليلي «سحابة في الليل»

(مقهى صغير قذر «كاباريه» أشبه بحظيرة الخنازير، حجرة ملابس جدرانها بيضاء، إلى الخلف على اليسار ستارة بنية غامقة، إلى اليمين باب خشبي أبيض يؤدي إلى المراحيض، باب للخلف على اليمين كلما فتح ظهر الليل الأزرق من ورائه، يسمع صوت مغنيةٍ من الكومبارس من المقهى في الخلف.)

(بعل يتجول في المكان وهو يشرب ويدندن بأغنية ونصفه الأعلى عارٍ.)

لوبو (فتًى سمين شاحب الوجه شعره أسود لامع مفروق من الوسَط، ينسدل على وجهه الشاحب المبتل بالعرَق، يقف موليًا ظهره للجمهور عند الباب الأيمن.) : خفت ضوء المصباح من جديد.
بعل : الزبائن هنا كلهم خنازير. أين الكونياك؟
لوبو : شربته كله.
بعل : كن حذرًا في كلامك.
لوبو : السيد ميورك يشبهك بالأسفنجة.
بعل : أفهم من هذا أنني لن أحصل على كأسي؟
لوبو : لا شرب قبل العرض. هكذا قال السيد ميورك، أنا آسف.
ميورك (من خلال الستارة) : أسرع يا لوبو.
بعل : ميورك، لا بد من الكونياك، وإلا فلن أغني.
ميورك : يجب عليك ألا تُسرِف في الشرب، حتى لا تجد نفسك عاجزًا تمامًا عن الغناء.
بعل : ولماذا أغني إذن؟
ميورك : أنت بجانب المغنية سافيتكا ألمع نمرة في «سحابة الليل». أنا الذي اكتشفتك بنفسي. متى وجدت مثل هذه الروح اللطيفة في مثل هذا البرميل من الشحم واللحم؟ الشحم واللحم هو سر نجاحك، لا الشعر. إن سكرك يخرب بيتي.
بعل : سئمت من الشجار المستمر كل ليلة على الكونياك المتفق عليه في العقد. سأذهب لحالي.
ميورك : البوليس في صفي. ارحم نفسك ونم ليلةً واحدة؛ إنك تجر رجليك جرًّا. اهرب بنفسك من هذه المرأة٢٤(تصفيق في المقهى) جاءت نمرتك.
بعل : سئمت وملِلت.
المغنية (تخرج من وراء الستارة مع عازف البيان، وهو رجل شاحب الوجه ثقيل الظل) : انصراف.
ميورك (يضع سترة سوداء على كتفَي بعل، على الرغم من مقاومته) : لا أحد عندنا يدخل المسرح نصف عارٍ.
بعل : معتوه (يقذف السترة بعيدًا ويتجه إلى المسرح وهو يجرجر القيثارة الصغيرة وراءه).
المغنية (تجلس وتشرب) : إنه لا يعمل إلا لأجل حبيبته التي يعيش معها. إنه عبقري. لوبو يقلده بلا حياء. إنه يسطو على أنغامه ويتخذ له صديقة مثله.
عازف البيان (مستندًا بظهره إلى باب المرحاض) : إن أغانيه سماوية ومع هذا فهو يتشاجر مع لوبو منذ إحدى عشرة ليلة على كأس كونياك واحدة.
المغنية (تشرب) : حياتنا كلها نكد.
بعل (خلف الستارة) :
إني صغير،
قلبي غرير،
وأود أحيا
في سرور.
(تصفيق. يستمر في الغناء على إيقاع القيثارة.)
في الحجرة تسري الريح،
والطفل النهم الجائع
قد افترس البرقوق،
واللحم العذب الرائع
أبقاه كي يتسلى
بحلاوته ويذوق
في وقت جدِّ مريح.

(تصفيق وهُتافات استحسان في المقهى. يستمر بعل في الغناء ويزداد الاضطراب كلما ازدادت الأغنية وقاحةً. وأخيرًا تصل الضوضاء إلى حدٍّ مخيف.)

عازف البيان : اللعنة، إنه يغادر المسرح. رجال الإسعاف، ها هو ذا ميورك يحاول تهدئتهم، ولكنهم ينقضُّون عليه. لقد عرَّى التاريخ وقدَّمه لهم.

(بعل يخرج من وراء الستار وهو يجرجر قيثارته.)

ميورك (وهو يتبعه) : سأقطعك كالبصل أيها البهيم. ستغني نمرتك حسب العقد، وإلا أبلغت البوليس.

(يرجع إلى الصالة.)

عازف البيان : أنت تخرب بيوتنا يا بعل.

(بعل واضعًا يده على رقبته، يتجه لباب المرحاض على اليمين.)

عازف البيان (الذي لم يوسع له) : إلى أين؟

(بعل يزيحه بعيدًا. يدخل من الباب ومعه القيثارة.)

المغنية : أتأخذ القيثارة معك إلى المرحاض؟ أنت رائع!
زبائن من المقهى (يُطلُّون برءوسهم) : أين الخنزير الكلب؟ لا بد أن يغني. الاستراحة ممنوعة. هذا الخنزير الملعون (يرجعون للصالة).
ميورك (يدخل) : خطبت فيهم كضباط جيش الخلاص. البوليس معنا ولكن الأولاد يطبلون ويهتفون. أين الوغد؟ لا بد أن يظهر.
عازف البيان : العرض انتقل للمراحيض. (تسمع صيحاتٍ آتيةً من الصالة) بعل.
ميورك (يدقُّ الباب بعنف) : أنت يا بعل، لا تمثل عليَّ، إنني أمنعك أن تُغلق الباب على نفسك، في الوقت الذي أدفع لك فيه من جيبي. العقد موجود، أنت يا نصاب (يدقُّ بعنف أشد).
لوبو (يظهر واقفًا عند الباب الأيمن. يرى الليل الأزرق) : شباك المرحاض مفتوح. الصقر طار. لا شعر بلا شرب.
ميورك : مفتوح؟ طار؟ من المراحيض؟ المجرم المحتال، سأبلغ البوليس (يندفع خارجًا. هُتافات من الصالة؛ بعل، بعل، بعل).

حقول خضراء، أشجار برقوق زرقاء

(بعل – أكارت)
بعل (يقطع الحقول في بطء) : منذ اخضرَّت السماء وحملت، ومنذ هبَّت الريح وأنسام يوليو وأنا أمشي بالقميص على اللحم. (عائدًا إلى أكارت) جمجمتي نفختها الريح. الشعر الغزير تحت إبطي يفوح برائحة الحقول. الهواء يرتعش كأنه سكران.
أكارت (وهو يتبعه) : لماذا تجري كالفيل بعيدًا عن أشجار البرقوق؟
بعل : ضع يدك على جمجمتي، إنها تنتفخ مع كل نبضة عرق ثم تتكور كالفقاعة. ألا تحسُّ هذا بيدك؟
أكارت : لا.
بعل : أنت لا تفهم سر روحي.
أكارت : أليس الأفضل أن نستلقيَ في الماء؟
بعل : روحي يا أخي هي نحيب حقول القمح عندما تترنح في مهب الريح، وهي الشرارة التي تنطلق من عيون حشرتَين تريد كلٌّ منهما أن تفترس الأخرى.
أكارت : أنت ولد شهم ومعدتك تهضم الحديد.٢٥
كتلة من الشحم واللحم، ستترك آثارها على صفحة السماء.
بعل : كلام جرائد، ولكن لا بأس.
أكارت : جسدي خفيف كالبرقوقة الصغيرة على جناح الرياح.
بعل : نسمات الصيف الشاحبة يا أخي هي السبب في هذا. ألا تحبُّ أن ننزلق على صفحة الماء الفاتر في بركة زرقاء؟ حتى لا تشدنا الشوارع الريفية البيضاء كالجبال التي تجذبها الملائكة إلى السماء؟

حانة في قرية … الوقت مساء

(بعل وحوله جماعة من الفلاحين، أكارت جالس وحده في الركن.)

بعل : جميل أن أراكم جميعًا أمامي. غدًا مساء يحضر أخي إلى هنا. يجب أن تكون الثيران موجودة.
فلاح (بفم مفتوح) : ما نوع الثور الذي يعجب أخاك؟
بعل : أخي وحده هو الذي سيُقرِّر هذا. لا بد أن تكون ثيرانًا جميلةً، وإلا فلا فائدة. واحد كونياك.
الفلاح الثاني : هل ستشترونه على الفور؟
بعل : ستشتري أقواها.
الفلاح الثالث : سنحضر الثيران من إحدى عشرة قرية، بالسعر الذي تدفعه.
الفلاح الأول : ألقِ نظرة على ثوري.
بعل : واحد كونياك.
الفلاحون : ثوري هو أحسنها جميعًا. مساء غد، اتفقتم على هذا؟ (يتهيَّئون للانصراف) هل تبيتون الليلة هنا؟
بعل : أجل (ينصرف الفلاحون).
أكارت : ما غرضك من هذا؟ أجُننت؟
بعل : ألم يكن منظرهم بديعًا وهم يطرفون بعيونهم ويحملقون في دهشة ثم يفهمون اللعبة ويبدءون في الحساب؟
أكارت : أقلُّ ما فيها أننا أفرغنا بعض الكئوس في جوفنا، أما الآن فيجب أن نهرب.
بعل : نهرب؟ هل جننت؟
أكارت : أجل، وهل أنت مخبول؟ ماذا سنفعل بالثيران؟
بعل : ولماذا احتلت عليهم إذن؟
أكارت : طبعًا لنشرب كأسَين؟
بعل : لا تخرف. سأقيم لك حفلًا يا أكارت (يفتح النافذة التي وراءه، يحل الظلام، يعود للجلوس).
أكارت : سكرت من ست كئوس. اخجل من نفسك.
بعل : ستكون فرصةً عظيمةً. إنني أحب هؤلاء البسطاء وسأقيم لك حفلةً رائعةً يا أخي. في صحتك.
أكارت : إنك تتسلى بالضحك على ذقون السُّذَّج. سيكسر هؤلاء المساكين دماغي ودماغك.
بعل : وسيأخذون من هذا درسًا لهم. إنني أتخيَّلهم الآن في هذا المساء الدافئ وأفكر فيهم بشيءٍ من الحب والحنان. أتصوَّرهم قادمين للنصب والاحتيال بطريقتهم الساذَجة، وهذه الصورة تعجبني.
أكارت (يقف) : اسمع، أنا أو الثيران، سأذهب قبل أن يشمَّ صاحب الحانة الرائحة.
بعل (مُتجهِّمًا) : المساء دافئ جدًّا. ابقَ معي ساعة أخرى، وسنذهب بعد ذلك معًا. أنت تعلم أنني أحبك. رائحة الروث تصل من الحقول إلى هنا. هل يمنحنا صاحب الحانة كأسًا أخرى بعد أن عقَدنا صفقة الثيران؟
أكارت : أسمع وقْع أقدام.
القسيس (يدخل) : هل أنت المسئول عن حكاية الثيران؟
بعل : نعم أنا.
القسيس : وما غرضك من هذا النصب والاحتيال؟
بعل : نحن لا نملك في هذا العالم شيئًا. ما أقوى رائحة التبن والعلف! هل تشمونها كل ليلة؟
القسيس : يظهر يا صاحبي أن عالمك بائس جدًّا.
بعل : سمائي مملوءة بالأشجار والأجساد.
القسيس : لا تتكلم عن السماء، ليس العالم سيركًا تلعب فيه.
بعل : وما هو العالم إذن؟
القسيس : وفِّر هذا على نفسك. ليكن في عِلمك أنني رجل حسَن النية جدًّا، ولست أريد أيضًا أن أسيء الظنَّ بك. لقد صفَّيت المسألة.
بعل : أكارت، العادل لا يعرف المزاح.
القسيس : ألا ترى أن خُطتك كانت في غاية السذاجة؟ (لأكارت) ماذا يريد الرجل؟
بعل (مستندًا إلى الخلف) : مساء، في ساعة الشفق، لا بد بطبيعة الحال أن يكون ذلك مساء، ولا بد أن تكون السماء مُغطَّاة بالسحب، وعندما يفتر الهواء وتسري أنفاس الريح، تأتي الثيران. إن منظرها رائع وهي تتقدم من كل ناحية. هناك يقف المساكين ولا يدرون ماذا يصنعون بالثيران ويشعرون أنهم أخطَئوا الحساب، ولكنهم يرون منظرًا عجيبًا. إنني أحب المخطئين في الحساب. وأين يتاح للإنسان أن يرى كل هذا العدد من الحيوانات؟
القسيس : ولهذا أردت أن تزعج سبع قرى كاملة؟
بعل : وماذا تساوي سبع قرى بجانب هذا المنظر؟
القسيس : الآن فهمت، أنت إنسان مسكين، ولهذا تحب الثيران بوجه خاص؟
بعل : تعالَ يا أكارت، لقد أفسد التاريخ، لم يعُدِ المسيحي يحب الحيوانات.
القسيس (يضحك ثم يقول بصوتٍ جادٍّ) : إذن فقد خسرت هذا أيضًا. اذهب ولا تلفت الأنظار إليك. أعتقد أنني قدمت لك خدمةً كبيرة.
بعل : تعالَ يا أكارت، حرمت من الحفل يا أخي.

(ينصرف في خطوات بطيئة مع أكارت.)

القسيس (لصاحب الحانة) : مساء الخير، سأدفع حساب السادة.
صاحب الحانة (من وراء المائدة) : إحدى عشرة كأسًا يا صاحب النيافة.

أشجار في المساء

(ستة أو سبعة من قاطعي الأشجار يجلسون مستندين بظهورهم إلى جذوع الأشجار – بعل – على العشب جثةٌ ممددة.)

قاطع أخشاب : كانت شجرة بلوط، لم يمُتْ على الفور، بل ظل يتعذب.
قاطع الأخشاب الثاني : سمعته صباح اليوم يقول: يبدو أن الجو سيتحسن، أراد فكان له ما أراد؛ الخضرة مع قليل من المطر، والخشب ليس شديد الخشونة.
قاطع الأخشاب الثالث : تيدي كان ولدًا طيبًا، كان له في الماضي دكانٌ صغيرٌ في مكان ما. هناك عاش أسعدَ أيام حياته، فكان سمينًا كالقسيس، ولكن تجارته أفلست بسبب النساء، فجاء إلى هنا وفقدَ كرشه مع الزمن.
قاطع أخشاب آخر : ألم يروِ شيئًا عن مسألة النساء هذه؟
قاطع الأخشاب الثالث : لا، ولا أعلم شيئًا عن عزمه على الرجوع إلى هناك. لقد ادخرت كثيرًا، ولكن ربما كان مَيْله إلى الاعتدال هو السبب في هذا. ليس ما نحكيه الآن سوى مجموعة من الأكاذيب. لعل حاله الآن أفضل بكثير.
قاطع أخشاب : منذ أسبوع سمعته يقول إنه سيسافر في الشتاء إلى الشمال، يظهر أنه يملك كوخًا هناك، ألم يقل لك أين يقع هذا الكوخ؟ أنت يا فيل؟ (لبعل) لقد تكلَّمتما عن هذا الموضوع.
بعل : اتركني في حالي، لا أعلم شيئًا.
قاطع الأخشاب السابق : تريد أن تحتله، أليس كذلك؟
قاطع الأخشاب الثاني : الفيل لا يعتمد عليه، أتذكرون كيف تعمَّد في إحدى الليالي أن يضع أحذيتنا في الماء فلم نستطع الذَّهاب للغابة، لأنه كان كسلان كعادته؟
قاطع أخشاب آخر : إنه لا يفعل شيئًا من أجل المال.
بعل : كفُّوا عن هذا الشجار، ألا يمكنكم أن تفكروا قليلًا في تيدي المسكين؟
قاطع أخشاب : أين كنت إذن عندما كان يُحتضَر؟

(ينهض بعل من مكانه ويتخبط في سيره على العشب حتى يصل إلى جثة تيدي ويقعد بجانبه.)

قاطع أخشاب : بعل لا يمشي في خط مستقيم يا أولاد.
قاطع أخشاب آخر : اتركوه، الفيل في غاية التأثُّر.
قاطع الأخشاب الثالث : يمكنكم أن تهدءوا اليوم حقًّا ما دام هذا راقدًا هناك.
الآخر : أنت يا فيل، ماذا تفعل مع تيدي؟
بعل (يخاطب الجثة) : هو في هدوء، ونحن في اضطراب، وكلاهما خير. السماء سوداء، الأشجار ترتعش، السحب تنتفخ في مكان ما، هذا هو المنظر. يمكننا أن نأكل، وبعد النوم نستيقظ، أما هو فلا يستطيع. نحن … وكلا الأمرين خير.
الآخر : ماذا تقول عن السماء؟
بعل : السماء سوداء.
الآخر : ليست قوتك في عقلك، والموت يُصيب دائمًا من لا يستحقونه.
بعل : أجل، هذه حكمة عالية، معك الحق يا عزيزي.
قاطع أخشاب : بعل يُصيبه الموت؛ لأنه لا يذهب أبدًا إلى حيث يعمل الناس.
بعل : أما تيدي فكان نشيطًا، تيدي كان كريمًا، تيدي كان ودودًا وأنيسًا. من هذا كله لم يبقَ سوى شيءٍ واحدٍ: تيدي كان …
الثاني : أين هو الآن يا ترى؟
بعل (مشيرًا إلى الميت) : ها هو ذا يرقد هناك.
الثالث : أقول لنفسي دائمًا: الأرواح المسكينة، تلك هي الريح، خصوصًا في أمسيات الربيع، وكذلك في الشتاء، هذا ما أقوله لنفسي.
بعل : وفي الصيف، في وهج الشمس، فوق حقول القمح.
الثالث : ليس هذا مناسبًا لها، لا بد أن يسود الظلام.
بعل : لا بد أن يسود الظلام، يا تيدي.

(صمت.)

قاطع أخشاب : لمن نسلمه يا أولاد؟
الثالث : ليس له أحد.
الآخر : كان يعيش لنفسه في هذا العالم.
قاطع أخشاب : وأشياؤه؟
الثالث : ليست كثيرةً، المال وضعه في البنك، سيبقى هناك مهما طالت غَيبته. أتدري يا بعل؟
بعل : إنه لم يتعفَّن بعد.
قاطع أخشاب : خطرت لي فكرة رائعة يا أولاد.
الآخر : هاتها.
قاطع الأخشاب (الذي خطرت له الفكرة) : ليس الفيل وحده هو الذي تخطر الأفكار على باله يا أولاد. ما رأيكم في أن نشرب كأسًا في صحة تيدي؟
بعل : هذا شيء يُنافي الأخلاق.
الآخرون : كلام فارغ، ولكن ماذا نشرب؟ ماء؟
اخجل من نفسك يا بني.
الرجل (الذي خطرت له الفكرة) : كونياك.
بعل : أنا موافق على الفكرة، الكونياك لا يُنافي الأخلاق. أي صنف؟
الرجل (الذي خطرت له الفكرة) : كونياك تيدي.
الآخرون : كونياك تيدي؟ فكرة … الكوانت … تيدي كان مدبرًا وحريصًا. هذه فكرة موفقة من أحمق.
الرجل : رائعة، بديعة، فلتة من أدمغتكم الغليظة، كونياك تيدي في جنازة تيدي، فكرة سليمة ومشرفة. ألم يُلقِ أحدكم خطبةً في تأبين تيدي؟ أليس هذا هو الواجب؟
بعل : أنا ألقيتها.
أصوات : متى؟
بعل : من لحظات، قبل أن تبدءوا كلامكم الفارغ. كان مطلعها: هو الآن يرقد في هدوء، إنكم لا تنتبهون لشيء إلا بعد فواته.
الآخرون : يا أبله، لنحضر الكونياك.
بعل : هذا عار.
الآخرون : ولماذا أيها الفيل الضخم؟
بعل : إنه ملك تيدي، لا يجوز فَتْح البرميل الصغير؛ لتيدي زوجة وخمسة أطفال وأيتام.
قاطع أخشاب : أربعة، إنهم أربعة فحسب.
قاطع أخشاب آخر : الحقيقة تظهر الآن فجأة.
بعل : أتريدون أن تحرموا أبناء تيدي الأيتام المساكين من كونياك أبيهم المسكين؟ أهذا من الدين؟
الرجل السابق : أربعة، أربعة أيتام.
بعل : تنهبون الكونياك من أفواه الأيتام الأربعة؟
قاطع أخشاب : تيدي لم تكُنْ له أسرة على الإطلاق.
بعل : ولكن عنده أيتام يا إخواني، عنده أيتام.
قاطع أخشاب آخر : هل تعتقدون بعد مضايقات هذا الفيل المعتوه أن أبناء تيدي الأيتام سيشربون كونياك تيدي؟ حسَن، إنه ملك تيدي.
بعل (يقاطعه) : كان ملكه.
الآخر : ماذا تقصد؟
قاطع أخشاب : إنه يخرف، ليس له عقل على الإطلاق.
الآخر : اسمعوا، لقد كان ملك تيدي، ولذلك سندفع ثمنه، سندفعه بالمال، المال الحلال يا أولاد، بهذا يستفيد الأيتام.
الجميع : فكرة وجيهة، أفحمت الفيل، إن كان لا يريد أن يشرب فلا بد أنه مجنون، فلنتركه ونذهب لكونياك تيدي.
بعل (يناديهم) : ارجعوا يا لصوص الجثث. (لتيدي) يا تيدي المسكين، والأشجار اليوم قوية، والهواء طيب ورقيق، وأنا أشعر أني منتعشٌ من الأعماق، يا تيدي البائس، ألا تحسُّ بشيء يدغدغك؟ لقد انتهيت تمامًا. اسمع هذا مني، ستفوح رائحتك بعد قليل، وستواصل الريح هبوبها، ويسير كل شيء في طريقه، وكوخك — لست أدري أين هو — وكل ما تملكه سيسطو عليه الأحياء، وقد تركتَ كل شيء وتريد الآن أن تستريح. لم يكن جسدك قد فسد يا تيدي، وهو الآن لم يفسد بعد، إنما أصابه بعض الأذى، من جانب واحد، ثم الساقان، ما كنت لتستطيع أن تفعل شيئًا مع النساء. (يرفع ساق الميت) والخلاصة أن جسدك كان في إمكانه أن يواصل الحياة، بشيء من العزيمة يا بني، أما روحك فكانت روحًا نبيلةً إلى أبعد حدٍّ، المسكن كان متداعيًا، والجرذان تفرُّ من السفينة الغارقة، لقد استسلمت لعادتك فحسب، يا تيدي.
الآخرون (يرجعون) : ضبطناك يا فيل، أين برميل البراندي الصغير الذي كان تحت سرير تيدي القديم؟ أين كنت يا محترم؟ عندما انشغلنا بتيدي لم يكن قد مات تمامًا يا حضرة. أين كنت يا كلب يا خنزير؟ أين كنت يا من تدنس حرمة الجثث وتزعم أنك تحمي أبناء تيدي الأيتام؟ هه؟
بعل : لم يثبت شيء يا أعزائي.
الآخرون : أين الكونياك إذن؟ هل يتصور عقلك النجيب أن البرميل هو الذي شربه؟ المسألة جدٌّ يا بني، قِف على رجلَيك، قم، امشِ أربع خطواتٍ ثم أنكر أنك في غاية التأثير، وأنك مخرَّب من الداخل والخارج، أنت أيها الخنزير العجوز، عليه يا أولاد، ودغدغوه قليلًا يا أولاد، من لوَّث شرَف تيدي المسكين.

(يوقفون بعل بالقوة.)

بعل : يا عصابة الخنازير، ابتعدوا عن تيدي ولا تدوسوا عليه (يجلس ويتناول ذراع الميت تحت ذراعه). سيقع تيدي على وجهه إذا أسأتم معاملتي. أهذه هي الرحمة؟ أهذه هي التقوى؟ إنني أدافع عن نفسي. أنتم سبعة، سبعة، ولم تشربوا، وأنا بمفردي وقد شربت، أهذا عدل؟ أهذه معاملة؟ سبعة ضد واحد؟ هدِّئوا أنفسكم، تيدي قد هدأ أيضًا.
بعض قاطعي الأخشاب (في حزن وغضب) : الوغد لا يُقدِّس شيئًا — ليرحم الله روحه السكيرة — إنه أعتى المذنبين بين يدَي الرحمن.
بعل : اجلسوا، إنني لا أطيق ألاعيب القساوسة، لا بد من وجود أذكياء وضعاف العقول، وهؤلاء هم أحسن العمال، لقد رأيتم أنني أعمل بعقلي (يدخن). إنكم يا أعزائي لم تشعروا أبدًا بالخشوع الحقيقي، وما الذي سيتحرك فيكم، حتى ولو غيَّبتم الكونياك الجيد في بطونكم؟ أما أنا فأبدع وأكتشف، افهموا هذا، لقد قلت لتيدي أشياءَ في غاية الأهمية. (يجذب من جيبه أوراقًا يتأملها) ولكنكم هُرعتم إلى الكونياك الحقير، اجلسوا، انظروا للسماء التي تظلم الآن بين الأشجار، ألا يؤثر هذا عليكم؟ هل نُزعَت التقوى من أجسادكم؟!

كوخ

(يسمع صوت المطر – بعل، أكارت.)

بعل : هذا هو نوم الشتاء في الوحل الأسود الذي تغوص فيه أجسامنا البيضاء.
أكارت : ألم تحضر اللحم إلى الآن؟
بعل : أما زلت مشغولًا بقُدَّاسك؟
أكارت : ما الذي يدعوك للتفكير في قداسي؟ أولى بك أن تفكر في زوجتك. أين رميتها؟ في المطر؟
بعل : إنها تلاحقنا كالمجنونة، وتتعلق برقبتي.
أكارت : أنت تسقط كل يوم.
بعل : ولكن جسمي ثقيل جدًّا.
أكارت : ألم يخطر ببالك أنك يمكن أن تجوع وتعض في العشب؟
بعل : إذا لزم الأمر فسأقاتل ولو بالسكاكين. يمكنني أن أستغنيَ عن جلدي وأنكمش في أصابع قدمي. إنني أسقط كما يسقط الثور على هذا العشبِ الطريِّ. أستطيع أن أزدرد الموت ولا أكترث بشيء.
أكارت : منذ جئنا إلى هنا وأنت تزداد سمنة.
بعل (يمد يده إلى ما تحت إبطه الأيسر) : ولكن قميصي اتسع. كلما سمنت زاد اتساعًا. بل إنه ليتسع لشخص آخر، بشرط ألا يكون سمينًا. ولكن لماذا ترقد على جلدك الكسول وأنت بهذا الهزال؟
أكارت : في دماغي سماء شديدة الخضرة وشاهقة العلو، تعبر بها الأفكار كما تعبر السحب الخفيفة في الريح. ولكننا لا تُعرف لها وجهة، كل هذا أحسُّه في كياني.
بعل : هذا هو الهذيان. إنك مدمن على شرب الخمر. أرأيت النتيجة؟ إن الطبيعة تنتقم لنفسها.
أكارت : كلما انتابني الهذيان لاحظت أثره على وجهي.
بعل : لك وجه تسرح فيه الرياح على هواها. محدب (ينظر إليه) ليس لك وجه على الإطلاق. لست شيئًا على الإطلاق، أنت شفاف.
أكارت : إن شغفي بالرياضات يزداد كل يوم.
بعل : لا أحد يعلم شيئًا عن أسرار حياتك. لماذا لا تتكلم أبدًا عن نفسك؟
أكارت : لن تكون لي أسرار. خطوات مَن هذه؟
بعل : سمعك قوي. في أعماقك شيء تتعمد أن تخفيَه. أنت شرير مثلي، شيطان، ولكنك سترى الجرذان ذات يوم، وستصبح عندئذٍ إنسانًا طيبًا.

(صوفي بالباب.)

أكارت : أنت يا صوفي؟
بعل : ما الذي جاء بك الآن؟
صوفي : هل تسمح لي بالدخول يا بعل؟

سهل، سماء، مساء

(بعل – أكارت – صوفي)
صوفي : رُكبي سقطت مني. لماذا تجري كالمجنون؟
بعل : لأنكِ تتعلقين برقبتي كحجر الطاحونة.
أكارت : كيف تعاملها هذه المعاملة وهي حامل منك.
صوفي : أنا التي أردت هذا يا أكارت.
بعل : هي نفسها التي أرادت هذا، وهي الآن تجثم على نفسي.
أكارت : هذه عيشة بهائم. اجلسي يا صوفي.
صوفي (تجلس بصعوبة) : دعه ينصرف.
أكارت (لبعل) : لو طردتها في الشارع فسأبقى معها.
أكارت : طردتني مرتين من فراش الحب. لم تترك صديقاتي أيَّ أثر عليك. وفي كل مرة كنت تقتنصهن مني دون أن تكترث بحبي لهن.
بعل : بل بسبب حبك لهن. لقد انتهكت حرمة الجثث مرتين؛ لأنك أردت أن تظل طاهرًا. إنني لا أستغني عن هذا وما وجدت فيه لذة، علِمَ الله.
أكارت (لصوفي) : هل ما زلتِ تحبين هذا البهيم؟
صوفي : ليس لي حيلة في هذا يا أكارت. ما زلت أحبُّ جثته، ما زلت أحب قبضة يده. ليس لي حيلة في هذا يا أكارت.
بعل : لا أريد أن أعرف ماذا فعلتما عندما كنت في السجن.
صوفي : وقفنا معًا أمام السجن الأبيض وتطلَّعنا للزنزانة التي كنت فيها.
بعل : كنتما معًا.
صوفي : اضربني إن شئت.
أكارت (صائحًا) : ألم ترمها عليَّ؟
بعل : لكيلا أحرم منك.
أكارت : ليس لي جلدك، جلد الفيل.
بعل : وهذا ما يعجبني فيك.
أكارت : حاول أن تسدَّ فمك القذر، في أثناء وجودها على الأقل.
بعل : يجب عليك أن تغور من وجهي؛ لقد بدأت تتعلم اللؤم (يضع يده على رقبته). إنها تغسل ملابسها القذرة بدموعك. ألا ترى أنها تسير عاريةً بيننا؟ إنني صبور كالجمل، ولكنني لا أستطيع الخروج من جلدي.
أكارت (يقترب من صوفي ويكلمها) : ارجعي لأمك.
صوفي : لا أستطيع.
بعل : لا تستطيع يا أكارت.
صوفي : اضربني إن شئت يا بعل. لن أطلب منك أن تمشيَ ببطء. أنا لم أقصد هذا. اسمح لي أن أسير معك، ما دمت أستطيع السير على قدمي، وسوف أرقد بين الأشجار ولن تُضطر للالتفات إليَّ. لا تطردني يا بعل.
بعل : ألقي كرشك السمين هذا في الماء. أنت السبب.
صوفي : أتريد أن تتركني هنا؟ لن يرضيَك أن تتركني هنا. لا زلت تجهل كلَّ شيء يا بعل. إن كنت تقصد هذا فأنت طفل صغير.
بعل : شبعت منك، شبعت.
صوفي : ولكن لا تتركني بالليل، لا تتركني بالليل يا بعل؛ إنني أخاف الوحدة، أخاف الظلام.
بعل : وأنت في هذه الحالة؟ لن يلمسك أحد.
صوفي : والليل؟ ألا تقضيان الليلة هنا؟
بعل : اذهبي لقاطعي الأخشاب عند النهر. اليوم هو عيد القديس يوحنا. سيكونون سكارى.
صوفي : ربع ساعة.
بعل : تعالَ يا أكارت.
صوفي : وأين أذهب؟
بعل : إلى السماء يا حبيبتي.
صوفي : وطفلي معي؟
بعل : ادفنيه.
صوفي : أتمنى ألا تضطرك الأيام إلى تذكُّر ما تقوله لي الآن، تحت السماء الجميلة التي تعجبك، هذا ما أتمناه وأصلي من أجله.
أكارت : سأبقى معك، ثم أذهب بك إلى أمك، بشرط أن تقولي إنك لن تحبي هذا البهيم بعد اليوم.
بعل : إنها تحبني.
صوفي : أحبه.٢٦
أكارت : ألا زلت واقفًا أيها البهيم؟ أليس لك رُكبتان تركع عليهما؟ هل غرقت في الخمرة أم في الشِّعر؟ أيها الحيوان المنحل، أيها الحيوان المنحل.
بعل : يا أبله (أكارت يهجم عليه. يتصارعان).
صوفي : يا يسوع المسيح، الوحوش.
أكارت (وهو يصارعه) : أتسمع ما تقوله في الغابة بينما يظلم الليل الآن؟ أيها الحيوان المنحل، أيها الحيوان الفاجر.
بعل (يتمكن منه، يشده إليه) : أنت الآن على صدري. أتشم رائحتي؟ الآن أمسك بك (يتوقف عن مصارعته) الآن ترى النجوم فوق الأشجار.
أكارت (يحملق في بعل الذي يتطلع للسماء) : إنني عاجز عن ضربه.
بعل (يضع يده على كتفه) : حل الظلام، يجب أن نبحث عن مكان نقضي فيه الليل. في الغابة شقوق لا تنفذ إليها الريح. تعالَ، سأحكي لك عن الحيوانات (يجره معه إلى الخارج).
صوفي (وحدها في الظلام، تصرخ) : بعل!

قاعة من ألواح خشبية بنية اللون في حانة رخيصة … ليل … ريح

(جوجو وبوليبول يجلسان إلى المائدة، الشحاذ العجوز والشحاذة مايا ومعها الطفل الراقد في الصندوق.)

بوليبول (يلعب الورق مع جوجو) : فلوسي كلها راحت، فلنلعب على أرواحنا.
الشحاذ : أختنا الريح تريد الدخول، لكنا لا نعرف أختنا الباردة، هاهاها.

(الطفل يبكي.)

مايا (الشحاذة) : اسمعوا، شيء يطوف حول البيت، المهم ألا يكون وحشًا.
بوليبول : لماذا؟ هل تحركت فيك الشهوة من جديد؟ (طرق على الباب.)
مايا : اسمعوا، لن أفتح الباب.
الشحاذ : ستفتحينه.
مايا : لا، لا، أيتها العذراء المحبوبة، لا.
الشحاذ : افتحي.
مايا (تزحف إلى الباب) : من؟

(الطفل يبكي.)

(مايا تفتح الباب.)

بعل (يدخل مع أكارت وقد بللهما المطر) : أهذه حانة المرضى؟
مايا : نعم، ولكن ليس عندنا سريرٌ خالٍ، (بلهجة أشد وقاحة) وأنا مريضة.
بعل : معنا شمبانيا (أكارت يتجه إلى الموقد).
بوليبول : تعالَ، من يعرف قيمة الشمبانيا يستحق أن يجلس معنا.
الشحاذ : يا بجعتي العزيزة، الزبائن اليوم من الصنف الراقي.
بعل (يتجه نحو المائدة، يُخرج من جيوبه زجاجتَين) : هه؟
الشحاذ : الأشباح.
بوليبول : أنا أعرف من أين حصلت على الشمبانيا، ولكني لن أفضحك.
بعل : تعالَ يا أكارت، هل عندكم أكواب؟
مايا : كئوس، يا سيدي، كئوس (تحضر بعض الكئوس).
جوجو : يلزمني كأس خاص.
بعل (مرتابًا) : هل يسمحون لك بالشمبانيا؟
جوجو : أرجوك (بعل يصب له كأسه).
بعل : ما المرض الذي عندك؟
جوجو : التهاب رئوي، شيء بسيط، بلغم عادي، مسألة تافهة.
بعل (لبوليبول) : وأنت؟
بوليبول : قرحة في المعدة، لا ضرر منها.
بعل (للشحاذ) : عسى أن تكون مريضًا بشيء!
الشحاذ : أنا مجنون.
بعل : في صحتك، نحن معارف، وأنا سليم.
الشحاذ : عرفت رجلًا كان يزعم أيضًا أنه سليم، مجرد زعم، كان يعيش أصلًا في الغابة ثم رجع إليها عندما احتاج أن يخلوَ إلى نفسه. وجد الغابة غريبة جدًّا ولا تكاد تربطه بها صلة، وظلَّ لعدة أيام يصعد إلى القمم الموحشة فقد أراد أن يعرف إلى أي حدٍّ يمكنه أن يعتمد على غيره أو يستقل بنفسه، وهل ما زالت لديه القوة التي تُعينه على التحمُّل. ولكن لم يكن قد بقيَ منها إلا القليل (يشرب).
بعل (قلِقًا) : هذه الريح، ولا بد أن نرحل الليلة يا أكارت.
الشحاذ : أجل، الريح. وذات مساء، ساعة الشفق، عندما شعر أنه لم يعُدْ وحيدًا، أخذ يسير وسْط السكون الشامل بين الأشجار، ثم وقف تحت شجرة منها كانت ضخمة جدًّا (يشرب).
بوليبول : لا بد أن القرد الأصلي الموجود فيه هو الذي فعل هذا.
الشحاذ : نعم، لعله القرد. استند إليها، والتصق بها، وأحس بالحياة التي تجري فيها، أو تصور ذلك وقال: أنت أعلى مني، تقفين ثابتةً في مكانك وتعرفين الأرض لأنك تمتدين إلى أعماقها، وهي تحميك وترعاكِ. إني أستطيع أن أسير وأتحرك أفضل منك، ولكني لا أقف ثابتًا في مكاني، ولا أقدر أن أبلغ الأعماق، ولا شيء يحميني ويرعاني، ثم إنني أجهل كل شيء عن الهدوء العميق الذي يُخيِّم على ذراك الساكنة الممتدة في السماء غير المتناهية (يشرب).
جوجو : وماذا قالت الشجرة؟
الشحاذ : أجل، هبت الريح، سرَت فيها رعشة أحسَّها الرجل. هناك ألقى بنفسه على الأرض وطوَّق الجذور الوحشية الخشنة، وبكى بكاءً مرًّا. ولكنه فعَل ذلك مع أشجار عديدة.
أكارت : هل شفي من مرضه؟
الشحاذ : لا، ولكنه مات مِيتةً أخف.
مايا : لم أفهم شيئًا.
الشحاذ : ما من شيء يفهمه الإنسان، ولكنه قد يشعر بأشياءَ قليلة. القصص التي نفهمها هي دائمًا القصص الرديئة.
بوليبول : هل تؤمنون بالله؟
بعل (بعد جهد مضنٍ) : لقد آمنت دائمًا بنفسي، ولكن التجديف ممكن.
بوليبول (يضحك ضحكة مدوية) : بدأ مزاجي ينشرح. شامبانيا، حب، ريح ومطر (يحاول أن يشد مايا).
مايا : ابتعد عني؛ فمك كله عفن.
بوليبول : وهل أنت سليمة؟ (يضمها.)
الشحاذ : احترسي، (لبوليبول) دماغي يلفُّ من الشرب، وإذا سكرت تمامًا فلن تستطيع أن تخرج اليوم في المطر.
جوجو (لأكارت) : كان أجمل مني، ولذلك فاز بها.
أكارت :
وأين تفوُّقك العقلي؟
أين شخصيتك الرفيعة؟
جوجو : لم تكن كما تراها الآن … كانت طاهرة.
أكارت : وماذا فعلت؟
جوجو : خجلت من نفسي.
بوليبول : أنصتوا، الريح تلتمس الهدوء من الله.
مايا (تغني) :
في الخارج تعوي الريح،
نم يا ولدي.
وهنا نلعب ونصيح،
نم يا ولدي.
نسكر والدفء مريح،
نم يا ولدي.
بعل : لمن هذا الطفل؟
مايا : ابنتي، يا سيدي.
الشحاذ : عذراء الآلام.٢٧
بعل (يشرب) : كان هذا في الماضي يا أكارت … نعم وكان جميلًا …
أكارت : ماذا؟
بوليبول : لقد نسي.
بعل : الماضي، ما أغربها من كلمة!
جوجو (لأكارت) : أجمل شيءٍ هو العدم.
بوليبول :
هش، سنسمع الآن نشيد جوجو،
كيس الديدان يغني.
جوجو : أشبه برعشات النسيم في أمسيات الصيف، شمس، ولكنه لا يرتعش، لا شيء، لا شيء أبدًا، كل شيء يتوقف فحسب. تهب الريح فلا نشعر بالبرد، يسقط المطر فلا نبتل. تتردد النِّكات فلا نضحك، نتعفن، لا نحتاج للانتظار. إضراب عام.
الشحاذ : وهذه هي جنة الجحيم.
جوجو : أجل، هذه هي الجنة. ما من رغبة لم تتحقق. لا يحس الإنسان أنه يرغب في شيء … يتخلص من كل عاداته، حتى الرغبات، وهكذا يُصبح حرًّا.
مايا : وفي النهاية، ماذا يحدث؟
جوجو (يضحك في شماتة) : لا شيء، لا شيء على الإطلاق، ليست هناك نهاية، العدم مستمر إلى الأبد.
بوليبول : آمين.
بعل (ينهض فجأة ويقول لأكارت) : أكارت، قم؛ لقد وقعنا في أيدي قتلة. (يضع ذراعيه على كتفَي أكارت ويتشبَّث به)
الدودة تنتفخ، العفن يزحف علينا، الديدان تغني وتتباهى بنفسها.
أكارت : ما العمل معك؟ هذه هي المرة الثانية. هل الشرب وحده هو السبب؟
بعل : إنهم يستعرضون أحشائي ويتفرَّجون عليها. ليس هذا حمَّام الطين.٢٨
أكارت : اقعد، اشرب واملأ بطنك، أدفئ نفسك.
مايا (تغني وقد لعبَت الخمر برأسها قليلًا) :
في الصيف والشتاء
والثلج والمطر،
وكلما شربنا لم نعرف الكدر.
بوليبول (يطوِّق مايا ويدغدغها) : نشيدك يدغدغني دائمًا هكذا، يا جوجو الصغير، أليس كذلك يا مايا؟
الطفل : يبكي.
بعل (يشرب) : من أنت؟ (ثم في غضب لجوجو) أنت دودة، كيس ديدان، هل تنبَّأ الأطباء بموتك؟
في صحتك (يجلس).
الشحاذ : خذ بالك يا بوليبول، أنا لا أحتمل الشمبانيا كثيرًا.
مايا (لبوليبول، تغني) :
أغمِضْ عينيك،
لا تُفسِد حُلمك،
الرؤية تؤذي،
وتضاعف ألمك،
فتعالَ ونمْ؛
كي تنسى همَّك.
بعل (في وحشية) :
إن غصتَ في النهر يومًا
والفأر يقضِمُ شعرك
تبقى السما في بهاها
والنجمُ يلمع فوقك

(يقف والكأس في يده.)

سوداء هي السماء، ما الذي يفزعك؟ (يدق على المائدة) لا بد من الدوران مع الأرجوحة إلى النهاية. ما أروع هذا! (يترنح) أريد أن أكون فيلًا، يبول في السيرك إن لم يعجبه شيء (يبدأ في الرقص ويغني).
ارقص مع الريح
يا ساكن الأكفان
وضاجعي السُّحبا
أيتها الأوثان.٢٩

(يتجه للمائدة وهو يترنَّح.)

أكارت (ينهض وهو سكران) : لن أمشيَ معك بعد اليوم، أنا أيضًا لي روح، وأنت أفسدت روحي. إنك تفسد كل شيء، وسأبدأ أيضًا في تلحين قُدَّاسي.
بعل : أحبك، في صحتك.
أكارت : ولكني لن أمشيَ معك (يجلس).
الشحاذ (لبلوليبول) : أيها الخنزير، ارفع يديك.
مايا : وما شأنك أنت؟
الشحاذ : اسكتي يا منحوسة.
مايا : يا مجنون، أنت تُخرِّف.
بوليبول (بغِلٍّ) : غشاش، ليس مريضًا على الإطلاق. الحكاية كلها غش في غش.
الشحاذ : وأنت عندك سرطان.
بوليبول (في هدوء مخيف) : أنا عندي سرطان؟
الشحاذ (في جبن) : أنا لم أقصِد شيئًا، اترك البنت في حالها.

(مايا تضحك.)

بعل : لِم يبكي الطفل؟ (يتعثَّر في خطواته نحو الصندوق في الخلف)
الشحاذ (بحقدٍ) : ماذا تريد منه؟
بعل (ينحني على الصندوق) : لِم تبكي؟ ألم ترَ هذا أبدًا؟ أم تبكي في كل مرة؟
الشحاذ : قلت لك ابتعد عنه (يقذفه بالكأس).
مايا (تقفز من مكانها) : يا خنزير!
بوليبول : إنما أراد أن يرى عورته.
بعل (ينهض في بطء) : آه يا خنازير، تجرَّدت قلوبكم من الإنسانية. أكارت، هيا بنا نغتسل في النهر.

(ينصرفان.)

أيكة خضراء كثيفة الشجر … وراءها نهر

(بعل – أكارت)
بعل (يجلس على الأرض المغطاة بأوراق الشجر) : الماء دافئ ونحن نرقد على الرمال كالكابوريا، ثم هذا الدَّغَل وأغصانه الكثيفة، وهذه السحب البيضاء في السماء، أكارت.
أكارت (الذي يختفي وراء الشجر) : ماذا تريد؟
بعل : أحبك.
أكارت : أشعر هنا بالراحة.
بعل : هل لاحظت السحب التي عبرت الآن؟
أكارت : نعم، إنها وقحة. (صمت) من لحظات مرت من هناك امرأة.
بعل : لم أعُدْ أحبُّ النساء.

طريق ريفي … مراعٍ

(ريح، ليل، أكارت نائم فوق العشب.)

بعل (يضرب في الحقول بثيابٍ مفتوحةٍ كأنه سكران أو كمن يسير في نومه) : أكارت، أكارت، لقد وجدتها، استيقظ.
أكارت : ماذا بك؟ أعدت إليَّ الكلام أثناء النوم؟
بعل (يجلس تجاهه) : ها هي ذي.٣٠
لماذا غرقت وسبح جسدها
من الجداول إلى الأنهار الكبيرة؟
بدت زرقة السماء رائعة الجمال،
كأنها تبارك جثمانها.
تشبَّثت بها الطحالب والأعشاب،
فزادت ثقلها شيئًا فشيئًا.
الأسماك الرطبة سبحت حول ساقها،
والنباتات والحيوانات أبطأت رحلتها الأخيرة.
وبالليل كانت السماء مظلمة كالدخان
والنور يرفُّ بين النجوم،
ولكن عندما طلع النهار أشرقت صفحتها
حتى يكون لها صباح ومساء.
عندما فسد جسدها الشاحب في الماء
حدث — ولكن على مهل — أن نسيَها الله:
نسيَ في البداية وجهها، ثم يديها، وأخيرًا شعرها.
هناك أصبحت جثة في الأنهار بين جثثٍ كثيرة.
أكارت : هل عاد الشبح يطاردك؟ إنه ليس بأسوأ منك. كل ما هناك أن النوم طار. والريح تعزف من جديد على أعواد المراعي الجافة، لم يبقَ إذَن إلا ثدي الفلسفة الأبيض، والظلام، والرطوبة التي تصحبنا إلى نهايتنا المباركة، بل لن يبقى من عجائز النساء إلا نظرة ثانية.
بعل : هذه الريح تسكر فلا يحسُّ الإنسان حاجةً للخمر. إني أرى العالم في نور وديع٣١ (يرقد على العشب). كل هذا جميل (ريح).
أكارت : المراعي أشبه بالأسنان المتسوسة في فم السماء الأسود. سأبدأ العمل بعد قليل في تلحين القداس.
بعل : هل فرغت من الرباعية.
أكارت : ومن أين لي الوقت الكافي؟ (ريح.)
بعل : ها هي ذي الفتاة الشاحبة ذات الشعر الأحمر، إنك تجرها وراءك أينما سِرت.
أكارت : جسدها طري أبيض، وهي تأتي به في ساعة الظهر إلى المراعي. والمراعي تتدلَّى فروعها كخصلات الشعر. وهناك نتعانق كزوجين من السنجاب.
بعل : أهي أجمل مني؟

(ظلام. الريح تواصل عزفها وصفيرها.)

أيكة من أشجار البندق

(تتدلى فروع طويلة حمراء، يجلس بعل وسْطها وقت الظهيرة.)

بعل : الحمامة البيضاء، سأروي عطشها، (يتأمل المكان من حوله) من هنا تبدو السحب البديعة بين أعواد الأعشاب. لو جاء فلن يجد أمامه إلا الجلد. اهدئي يا نفسي.

(امرأة شابة حمراء الشعر، ممتلئة، شاحبة، تظهر آتيةً من الدَّغَل.)

بعل (لا يلتفت إليها) : أنت؟
(بعل يلحن قداسًا من مقام إس مول).٣٢
المرأة : قل له إني كنت هنا.
بعل : لقد افتَضحَ أمرُه تمامًا. إنه يلوث نفسه٣٣ (يرجع للحالة الحيوانية) اجلسي (ينظر حوله).
المرأة : أُفضِّل أن أبقى واقفة.
بعل (يجذب إليه الفروع المتدلية وينهض واقفًا) : إنه يكثر من أكل البيض في الأيام الأخيرة.
المرأة : أنا أحبه.
بعل : وما شأني بكِ؟ (يمسك يدها.)
المرأة : لا تلمسني؛ قذارتك لا تُحتمل.
بعل (يرفع يده ببطءٍ حتى يضع يده على رقبتها) : أهذه رقبتك؟ أتدرين كيف يخنقون الحمام والبط الوحشي في الغابة؟
المرأة : يا يسوع المسيح! (تحاول التخلص منه) ابتعد عني.
بعل : وأتركك لتقعي على الأرض؟ ركبتاك ترتعشان. أنتِ في حاجةٍ للراحة. الرجال هم الرجال، أغلبهم في هذا سواء (يضمها إليه).
المرأة (مرتجفة) : أرجوك، دعني، أرجوكم.
بعل : دجاجة وقِحة، تعالَي، لن تُفلتي مني.

(يشدها من ذراعَيها ويجرُّها إلى الأيكة.)

أشجار الدلب في مهب الريح … سماء تكسوها السحب

(بعل وأكارت يجلسان على جذوع الشجر.)

بعل : العطش شديد يا أكارت، هل بقيَت معك نقود؟
أكارت : لا، انظر شجر الدلب في الريح.
بعل : إنه يرتعش.
أكارت : أين الفتاة التي جررتها وراءك في الحانات؟
بعل : كن سمكة مثلها واذهب للبحث عنها.
أكارت : أنت تفترس كثيرًا يا بعل، سوف تنفجر.
بعل : أتمنى أن أعيش حتى أسمع صوت الانفجار.
أكارت : ألا يحدث لك أحيانًا أن تظل في ماءٍ أسودَ عميقٍ لا يسبح فيه السمك؟ لا تسقط أبدًا فيه. يجب أن تكون حذرًا؛ إنك ثقيل جدًّا يا بعل.
بعل : سأحذر شخصًا آخر. لقد ألَّفت أغنية. أتحب أن تسمعها؟
أكارت : اقرأها لأتعرف عليك.
بعل : عنوانها «الموت في الغابة».
ومات رجل في الغابة الأزلية
ومن حوله تُدوِّي العاصفة والأنهار
مات كحيوان تشبَّثت مخالبه بالجذور
تطلع لقمم الأشجار، حيث كان زئير العاصفة في الغابة
يعلو منذ أيام فوق كل الأصوات،
ووقف بعض الرجال من حوله،
وقالوا له لكي يُهدِّئوا من روعه:
تعالَ يا رفيق، سنحملك الآن إلى وطنك.
غير أنه رفسهم بركبتَيه.
بصقَ وقال: وإلى أين؟
فلم يكن له وطن ولا أرض.
كم عدد الأسنان التي بقيَت في فمك؟
وما حالك الآن، دعنا نرى.
مت في هدوء ولا تكن كسولًا.
بالأمس أكلنا حصانك العجوز
لِم لا تريد أن تذهب للجحيم؟

•••

والغابة ارتفع صوتها حولهم وحوله،
ورأوه وهو يتشبَّث بالشجرة،
وسمعوه وهو يصرخ فيهم ويصيح،
وأصابهم جزعٌ لم يعهدوه،
حتى كوروا قبضاتهم وهم يرتجفون
فقد كان — مثلهم — رجلًا كبقية الرجال.

•••

قالوا له: عقيم أنت يا حيوان، أجرب ومسعور،
صديد أنت، عفن، أيها الصعلوك.
الهواء تخطفه منا بجشعك الفظيع
أما هو، هذا الورم الخبيث فقال:
أريد أن أعيش؛ أن أشمَّ شمسكم،
وأركض في النور كما تركضون.

•••

كانت كلمة لم يفهمها صديق،
فوجموا من التقزُّز وأخذوا يرتعشون.
الأرض شدَّت قبضتها على يده العارية
ومن بحر لبحر في مهبِّ الرياح تمتدُّ اليابسة،
ويكتب عليَّ أن أرقدها هنا في هدوء.

•••

أجل، إن فيض حياته البائسة
قد غلب عليه بحيث استطاع
أن يضغط في قشرة الأرض جثته،
في غبش الفجر سقط على العشب المظلم ميتًا
وبقلوب يملؤها الحقد والاشمئزاز
دفنوه تحت الشجرة، في أعمق الجذور،
وركبوا خيولهم وغادروا الدَّغَل صامتين،
ثم التفتوا للشجرة التي دفنوه تحتها،
واستولت عليهم الدهشة والذهول،
فقد أضاءت الشجرة هالة من النور،
ورسموا على وجوههم الشابة علامة الصليب،
وانطلقوا يركضون في الشمس والمروج.
أكارت : أجل، أجل، هكذا وصلَت بك الحال.
بعل : كلما انتابني الأرق ليلًا تطلَّعت للنجوم.
أكارت : حقًّا؟
بعل (مرتابًا) : ولكني لا أفعل هذا كثيرًا حتى لا أضعف.
أكارت (بعد فترة) : كتبت في الأيام الأخيرة قصائد كثيرةً. ألم تجتمع بامرأة من مدة طويلة؟
بعل : ولماذا تسأل هذا السؤال؟
أكارت : خطر لي هذا. قل لا.
(بعل يقف يمد ذراعَيه ويتمطَّى، يتطلع إلى أعالي شجرة الألب٣٤ ويضحك.)

حانة

(مساء، أكارت، الخادمة، فاتسمان، يوهانيس ممزق الثياب، عليه سترة بالية مرفوعة الياقتين، في حالة انهيارٍ تامٍّ، الخادمة تشبه «صوفي» في ملامح وجهها.)

أكارت : مرت الآن ثمانية أعوام (يشربون. صوت الريح).
يوهانيس : لا تبدأ الحياة إلا في الخامسة والعشرين. هناك يسمن الأزواج وينجبون الأطفال (صمت).
فاتسمان : ماتت أمه أمس، وهو يدور على الناس ليجمع مصاريف الدفن. سيأتي بعد ذلك إلى هنا. عندئذٍ يمكننا أن ندفع الحساب. صاحب الحانة رجلٌ طيب. إنه يُقرض في مقابل جثة كانت أمًّا (يشرب).
يوهانيس : بعل، لم تعد الريح تجري في شراعه.
فاتسمان (لأكارت) : يظهر أنك تتحمل منه الكثير.
أكارت : من المستحيل أن تبصق في وجهه. إنه يغطس دائمًا.
فاتسمان (ليوهانيس) : أيؤلمك هذا؟ هل يشغل بالك؟
يوهانيس : خسارة، هذا رأيي (يشرب).

(صمت.)

فاتسمان : إن منظره يثير التقزُّز كل يوم.
أكارت : لا تقل هذا الكلام فلا أحب أن أسمعه. إنني أحبه، ولا أغضب منه لأي سبب، لأنه أحبه، إنه طفل.
فاتسمان : إنه لا يعمل إلا عند الضرورة، لأنه في غاية الكسل.
أكارت (يدخل من الباب) : الليل لطيف جدًّا والريح دافئة كاللبن. أحب هذا كله. يجب أن يمتنع الإنسان عن الشرب، أو لا يكثر منه، (يعود إلى المائدة) الليل لطيف جدًّا. يمكننا من الآن ولمدة ثلاثة أسابيع أخرى في الخريف أن نعيش براحتنا في الشوارع (يجلس).
فاتسمان : هل تنوي أن ترحل الليلة؟ تريد أن تتخلص منه؟ يجثم على نفسك؟
يوهانيس : احترس في كلامك.

(بعل يدخل ببطء من الباب.)

فاتسمان : أهذا أنت يا بعل؟
أكارت (بقسوة) : ماذا تريد الآن؟
بعل (يدخل ويجلس) : الحانة تحولت إلى جحرٍ حقيرٍ (الخادمة تحضر الكونياك).
فاتسمان : لم يتغير هنا شيء. الظاهر أنك أنت الذي تغيَّرت، صرت من الأكابر.
بعل : أهذه أنت يا لويزه؟

(صمت.)

يوهانيس : أجل، الجو هنا مريح. أنا مضطرٌّ أن أشرب، أشرب كثيرًا، الشرب مُقوٍّ، يجعل الواحد يمشي إلى الجحيم ولو على السكاكين فعلًا. ولكن بطريقة أخرى، كما يخرُّ المرء على ركبتَيه. سمعتم؟ بحيث لا يشعر بشيء، أقصد بالسكاكين. على فكرة، في الماضي لم تكن تخطُرْ لي مثل هذه الأفكار، هذه الأفكار العجيبة عندما كنت أعيش في ظروف برجوازية طيبة، أما الآن فقد بدأَت هذه الأفكار تخطُر على بالي بعد أن أصبحت عبقريًّا.
أكارت (منفجرًا) : أريد الآن أن أعود إلى الغابات، إلى الفجر. النور بين جذوع الأشجار بلون الليمون. أريد أن أرجع للغابات الشامخة.
يوهانيس : نعم، إني لا أفهم هذا. بعل، يجب أن تسقيَني واحدًا على حسابك. الجو هنا مريح للغاية.
بعل : واحد له.
يوهانيس : لا داعي للأسماء. نحن نعرف بعضنا. صدقني، في بعض الأحيان أحلم بالليل أحلامًا فظيعة، ولكن في بعض الأحيان فقط، أما الآن فأنا مستريحٌ جدًّا (يسمع صوت الريح)(يشربون).
فاتسمان (يدندن) :
هناك أشجار
لم نحصها عدًّا
وريفة الظل
عادية جدًّا.

•••

وتسعد الإنسان
بالقلب والعقل
كالشنق في الأغصان
والنوم في الظل.
بعل : أين كان هذا؟ فقد كان ذات يوم.
يوهانيس : إنها لا تزال تسبح في الأنهار. لم يعثر عليها أحد حتى الآن. تصوروا، إنني أشعر أحيانًا كأنها تسبح مع الخمرة التي أشربها وتغوص في جوفي، جثةً صغيرةً جدًّا، شبه متعفنة. ولم تكن قد تخطَّت السابعة عشرة. الآن تتشبث الأعشاب والطحالب بشعرها الأخضر. شيء يليق بها، باهتة ومتورمة قليلًا، منتفخة بأوحال النهر العطنة، سوداء تمامًا، كانت طاهرةً على الدوام؛ لهذا غاصت في النهر وتعفَّنت.
فاتسمان : ما هو الجسد؟ إنه يتحلل كالروح. سادتي، لقد سكرت تمامًا. اثنان في اثنين يساوي أربعة، ولكنني أشعر بوجود عالَمٍ أسمى. انحنوا، واتضعوا، تحرروا من آدم القديم (يشرب بجنون وبيدين مرتعشتين).
لم أسقط بعد في الحضيض، ما دمت أملك هذا الشعور وما زال في إمكاني أن أحسب. اثنان في اثنين، ولكن ما معنى اثنين؟ يا لها من كلمة مضحكة. اثنان (يجلس).
بعل (يتناول القيثارة فينطفئ النور) : سأغني الآن. يغني:
الشمس أمرضته،
وهدَّه المطر
والغار في الجبين.٣٥
وشعره انتشر

•••

إن أنسَ الصبا
وزهرة الشباب
لم ينسَ ساعة
أحلامه العِذاب
إن ينسَ بيته
والموقد الحبيب
فروعةُ السما
تبقى ولا تغيب

(يضبط أوتار القيثار.)

بعل (مستمرًّا في الغناء) :
يا من طُردتم جميعًا
من السما والجحيمِ
يا قاتلين ويا من
شقيتمو بالهمومِ

•••

يا ليتكم ما خرجتم
من ظلمةِ الأرحام؛
قد كان فيها هدوء
وراحةٌ وسلام.
بعل : الأوتار مختلَّة
فاتسمان :
أغنية بديعة تنطبق عليَّ تمامًا،
رومانتيكية.
بعل (يواصل الغناء) :
لمَّا نسيته أمه
ودع أرض الأسلاف
ومضى ليُعد شراعه
والقارب والمجداف

•••

في بحر النشوة غاب
بحر الخمر المغشوشة،
وعلى المركب أصحاب،
والكل يعد قروشه.

•••

يضحك أو يلعن جاره
يبكي بالدمع المر
يبحث ليلًا ونهارًا
عن بلد آخر حر.٣٦

•••

عن بلدٍ آخرَ أفضل
يحيا فيه الإنسان
لا يشكو أو يتذلل
لا ظلم ولا حرمان
فاتسمان : كأسي هربت مني. المائدة تهتزُّ وتتأرجح كالبلهاء. النور … كيف نعثر على أفواهنا في هذا الظلام.
أكارت : سخف، أترى شيئًا يا بعل؟
بعل : لا، لا أريد، الظلام أجمل بالشمبانيا في جوفي والشوق بلا ذكرى. هل أنت صديقي يا أكارت؟
أكارت (بضيق) : أجل، ولكن غنِّ.
بعل (يغني) :
مطارد قديم
يرقص في الجحيم
يجلو في النعيم

•••

يُسكره شلال
فجَّره الجمال
بالنور والظلال

•••

يحلُم في الخفاء
بروضةٍ خضراء
وفوقه السماء
شاحبة زرقاء
ولا يرى سواها.
يوهانيس : قررت أن أبقى معك. يمكنك أن تأخذَني معك. إنني أكاد أصوم عن الأكل.
فاتسمان (الذي أضاء النور بصعوبة) : ليكن نورًا، هاهاها.
بعل : إنه يغشى العين. (يقف)
أكارت (ينهض متثاقلًا وهو يحاول أن يُخلِّص نفسه من ذراعَي الخادمة التي كانت تُطوِّقه) : ماذا جرى لك؟
لم يحدث شيء. ما هذا السخف؟

(بعل يتأهب للانقضاض عليه.)

أكارت : أيمكن أن تغار من هذه المخلوقة؟

(بعل يتحسس طريقه وهو يتقدَّم للأمام. تسقط كأس على الأرض.)

أكارت : هل النساء محرمة عليَّ؟

(بعل يُحدِّق فيه.)

أكارت : وهل تحسبني حبيبك؟

(بعل يهجم عليه محاولًا أن يخنقه. ينطفئ النور. يضحك فاتسمان ضحكة السكارى، وتصرخ الخادمة. يندفع الزبائن من الحجرة المجاورة وهم يحملون مصباحًا.)

فاتسمان : معه سكين.
الخادمة : إنه يقتله. يا يسوع المسيح! يا مريم!
رجلان (يُلقيان بنفسيهما على الرجلَين المتصارعَين) :
يا لَلمصيبة! ابتعد يا رجل.
ارفع يديك. طعنه بالسكين.
يا رب السموات!
بعل (ينهض واقفًا. ضوء الفجر ينساب من النوافذ فجأة. ينطفئ المصباح) : أكارت.

على خط الطول العاشر شرقيَّ جرينتش

(غابة، بعل يحمل قيثارته الصغيرة. يداه في جيوب سرواله، يبتعد في مَسيره.)

بعل : هذه الريح الشاحبة التي تسري بين الأشجار السوداء، والأشجار أشبه بشعر لوبو٣٧ المبتل. سيطلع القمر في حوالي الساعة الحادية عشرة. عندئذ ينتشر الضوء. هذه غابة صغيرة. سأتحسس طريقي إلى الغابات الكبيرة. منذ أصبحت وحيدًا وأنا لا أشعر بتعبٍ من المشي. لا بد أن أحافظ على الاتجاه نحو الشمال مهتديًا بعروق الأوراق. لا بد أن أترك هذه المسألة التافهة وراء ظهري، إلى الأمام (يغني):
ويتطلع بعل إلى الصقور السِّمان
التي تنتظر في السماء المزدهية بالنجوم جثة بعل
(يبتعد في سيره.)
أحيانًا يتظاهر بعل بأنه مات
فإذا حط عليه صقر أكله بعل صامتًا في وجبة العشاء (هبة ريح).

طريق ريفي – مساء – ريح – أمطار غزيرة

(صيَّادان يصارعان الريح.)

الصياد الأول : المطر الأسود وهذه الريح التي تنعى الأموات. هذا الصعلوك اللعين …
الصياد الثاني : يُخيَّل إليَّ أنه يتجه شمالًا إلى الغابات. هناك لن يعثر عليه بشَر.
الصياد الأول : من هذا المخلوق؟
الصياد الثاني : هو قاتل قبل كل شيء. كان في أول أمره ممثلًا في عروض المنوعات وشاعرًا، ثم أصبح صاحب أرجوحة، وقاطع أخشاب، وعاشق مليونيرة، وسجينًا في الليمان، وقوَّادًا، ولما ارتكب جريمته قبضوا عليه، ولكنه كان قويًّا كالفيل. كانت السبب خادمة، وهي بغي رسمية، من أجلها قتل صديق شبابه.
الصياد الأول : مثل هذا الإنسان بلا رُوح. إنه حيوان متوحش.
الصياد الثاني : ومع هذا فهو كالأطفال تمامًا. إنه يقطع الخشب ويعطيه للنساء العجائز، ويعرض نفسه للقبض عليه. لم يملك شيئًا في حياته. كانت الخادمة هي آخر ما تبقَّى له في الدنيا؛ لذلك قتل صديقه وهو مثله مخلوق مريب.
الصياد الأول : لو كانت معنا الآن زجاجة أو امرأة … هيا بنا؛ إن المكان مخيف، وهناك شيء يتحرك (ينصرفان).
بعل (يظهر من الدَّغَل الكثيف ومعه خُرجه وقيثارته. يصفر من بين أسنانه) : هل متُّ إذن؟ يا لي من حيوان مسكين، يعترضون طريقي؟ الحكاية أصبحت مسلية.

(يتبع الصيادين. ريح.)

كوخ من الألواح الخشبية في الغابة

(ليل … ريح … بعل يرقد على سرير قذِر … رجال يلعبون الورق ويشربون.)

رجل (يميل على فراش بعل) : ماذا تريد؟ إنك تصفر فوق الحفرة الأخيرة. هذا شيء يدركه الطفل الصغير. ومن يهتم بك؟ هل لك أحد يسأل عنك؟ صدقت كلامي؟ صدقت؟ ضُمَّ أسنانك. هل بقيت لك أسنان؟ الأولاد الشجعان في حالتك يعضون في العشب، ما دام عندهم مزاج في ألف شيء وشيء. أصحاب ملايين، أما أنت فليس معك شيء، حتى ولا الأوراق. لا تخَف! العالم مستمر في الدوران، والأرض كُروية، وفي الصباح تصفر الريح. كن بعيد النظر، تذكر أن الجرذان تَنفُق. صدقت؟ المهم لا تتحرك. أسنانك كلها راحت.
الرجال : نُفنِّط الورق؟ سنُضطر للبقاء طول الليل بجانب الجثة. اخرس، تكسب، أنت يا سمين، هل ما زلت تتنفس؟ هيا غنِّ «في حجر الأم الأبيض» دعه. سيصبح جثة باردة قبل أن يتوقف المطر. العب، ظل يشرب كأنه جحر، ولكن في هذه الكتلة البائسة من اللحم والشحم شيء يجعل الإنسان يُفكِّر في نفسه … لم يجد أحدًا يُغنِّي له في المهد. العشرة الطيبة، ما هذا اللعب يا حضرات؟ العبوا بذمة أو لا داعي …

(صمت. لا تسمع إلا أصوات السب واللعن.)

بعل : كم الساعة الآن؟
رجل : الحادية عشرة. تنوي أن تذهب؟
بعل : بعد قليل. هل تسمح حالة الشوارع؟
الرجل : مطر.
الرجال (يقفون) : انقطع المطر. حان الوقت، لا بد أن الدنيا كلها مبتلة. أصبح الولد في غنًى عن الشغل (يحملون فئوسهم).
أحدهم (يتوقف أمام بعل يبصق) : ليلة سعيدة وإلى اللقاء. هل تطلع روحك؟
رجل آخر : هل ستعض في العشب، يا حضرة المجهول؟
رجل ثالث : حاول تأجيل روائحك العفنة إلى الغد، سنعمل حتى الظهر ثم نرجع للغداء.
بعل : ألا يمكنكم أن تبقوا قليلًا؟
الجميع (ضاحكين ضحكة مُجلجِلة) :
هل نلعب تعالي لي يا ماما؟
أم تريد أن تُشنِّف أسماعنا بروائعك؟
أم تريد أن تعترف، يا لص الكونياك؟
ألا يمكنك أن تتقايأ وحدك؟
بعل : لو بقيتم نصف ساعة فقط …
الجميع (يقهقهون) : اسمع، أنفق وحدك، هيا بنا الآن. الريح هدأت تمامًا. ماذا جرى لك؟
رجل : سأتبعكم.
بعل : لن تطول المسألة يا حضرات. (ضحكات) لن يسركم أن تموتوا وحدكم يا حضرات (ضحك).
رجل : امرأة عجوز، خذ هذا للذكرى (يبصق في وجهه. يتجهون جميعًا إلى الباب).
بعل : عشرين دقيقة (ينصرف الرجال من الباب المفتوح).
الرجل (وهو واقف بالباب) : نجوم.
بعل : امسح اللعاب.
الرجل : أين؟
بعل : على جبهتي.
الرجل : ولماذا تضحك؟
بعل : طعمه لذيذ.
الرجل (غاضبًا) : راحت عليك تمامًا. الوداع!

(يحمل فأسه ويتجه للباب.)

بعل : شكرًا.
الرجل : خدمة أخرى؟ ولكن يجب أن أذهب للشغل. صليب … جئت.
بعل : أنت، اقترب مني. (يميل الرجل عليه) كان جميلًا جدًّا.
الرجل : ما الذي كان جميلًا أيتها الدجاجة البلهاء؟
أقصد أيها الديك المحمر …
بعل : كل شيء.
الرجل : ذوَّاقة (يضحك ضحكة عالية وينصرف. يظل الباب مفتوحًا بحيث يرى منه الليل الأزرق)
بعل (قلقًا) : أنت! يا رجل!
الرجل (يُطل من النافذة) : هيه؟
بعل : أتذهب؟
الرجل : للشغل.
بعل : أين؟
بعل : كم الساعة الآن؟
الرجل : الحادية عشرة والربع (ينصرف).
بعل : ركبه الشيطان (صمت). واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، لا فائدة (صمت).
يا ماما، أكارت يجب أن يذهب. السماء أيضًا قريبة جدًّا. تكاد تلمسها اليد … كل شيء يُبلِّله المطر … النور … واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، إني أختنق هنا. لا بد أن الدنيا نور. أريد أن أخرج (يرفع نفسه من على الفراش).

سأخرج، يا عزيزي بعل. (بصوتٍ حادٍّ) لست فأرًا، لا بد أن الدنيا نور. يا عزيزي بعل، تستطيع أن تصل للباب، لا زالت لك ركبتان. عند الباب أفضل من هنا. اللعنة، يا عزيزي بعل (يزحف على أربع حتى يصل لعتبة الباب)، نجوم (يزحف إلى الخارج).

صباحًا في الغابة

(قاطعو أخشاب)
قاطع أخشاب : ناولني الكونياك، أنصِت أنت للطيور.
قاطع أخشاب آخر : النهار اليوم حارٌّ.
قاطع أخشاب ثالث : أمامنا كومٌ من الجذوع، يجب أن نَفرَغ من قطعها قبل المساء.
قاطع أخشاب رابع : هل أصبح الرجل الآن جثةً باردةً؟
الثالث : نعم، نعم، هو الآن جثة باردة.
الثاني : نعم، نعم.
الثالث : لو لم يلتهم البيض لأمكننا أن نأكله الآن. وقاحة على فراش الموت وهو يسرق البيض في أول الأمر. أشفقت عليه، ثم تقززت منه بعد ذلك. من حسن الحظ أنه لم يشمَّ رائحة الكونياك لمدة ثلاثة أيام. قلة ذوق، بيض في جثة!
الأول : كانت عادته أن يتمدد وسط القذارة، ثم لا ينهض أبدًا بعد ذلك. وكان يعرف هذا. كان يرقد هناك كما لو كان فوق سرير نظيف، بكل عناية. هل كان أحدكم يعرفه؟ ما اسمه؟ ماذا كان يعمل في حياته؟
الرابع : يجب أن ندفنه على حاله. ناولني الكونياك.
الثالث : سألته وهو في الحشرجة الأخيرة: فيم تفكر؟ فأنا أحب دائمًا أن أعرف ما يفكر فيه الناس في هذه اللحظة. قال: ما زلت أصغي لصوت المطر. أحسست رعشةً تهزُّ جسمي كله. ما زلت أُصغي لصوت المطر. هذا ما قاله لي.
(تمت)
١  بعل هو عند الشعوب السامية الغربية إله يطلق اسمه على «هداد» إله الطقس، وهو كذلك كبير الآلهة عند الكنعانيين، ولعله هو الاسم الكنعاني للإلهة المصرية هاتور، والكتاب المقدس يجعله علَمًا على كل الآلهة المزيفين. وقد فضلت كلمة «بال» بهذا الاسم حرصًا مني على الإيقاع في القصيدة.
٢  هو السرطان أو السلطعون المعروف بالكابوريا.
٣  مُولَّدة وافق عليها المجمع اللغوي، وهو نوع من سمك الماء أو ثعبان الماء ويسمى كذلك الجريث أو الأنقليس.
٤  الكلمة الأصلية تدل على اسم ميسين أو ميسينيوس الذي كان فارسًا رومانيًّا (ولد في أريزو وعاش من سنة ٦٩ إلى سنة ٨ قبل المسيح) على عهد أغسطس واشتهر برعايته لفرجيل وهوراس وبروبيرس حتى أصبح اسمه علَمًا على كل رعاة الفنون والآداب في كل العصور.
٥  السذاجة هنا بمعنى البساطة والبراءة والتلقائية، وهي ميزة كل الشعراء الأصلاء. وأما وصفها باللعينة فهو نوع من المدح في صورة الذم.
٦  شيزار لومبروزو طبيب وعالم اجتماعي مشهور وُلد في فيرونا (بإيطاليا) سنة ١٨٣٥م ومات سنة ١٩٠٩م. أبحاثه في الجريمة معروفة، وقد ذهب إلى أن المجرمين مرضى في حاجة للعلاج لا للعقاب.
٧  هذه أبيات للشاعر يوهانيس بيشر (١٨٩١–١٩٥٨م) الذي بدأ حياته متأثرًا بالحركة التعبيرية وختمها وهو من أخلص دعاة الاشتراكية. ومن أبرز المسئولين في حكومة ألمانيا الديمقراطية. ولعل برشت يريد التهكم بدأ في هذا الشعر من نزعة خطابية تثير السخرية.
٨  يسميه علماء النبات غُبَيراء الحابلين أو شجر السمن، وهو نبات أحمر الثمار.
٩  شجر من الفصيلة الصنوبرية يُستخرج منه زيت يستعمل في بعض المسكرات.
١٠  هذا هو التعبير الأصلي، وقد أبقيت عليه لطرافته ولم أشأ التصرف فيه.
١١  حرفيًّا: من غرفه البيضاء، وقد تصرفت فيه خشية ألا يُفهم المعنى.
١٢  لجأت هنا وفي مواضع أخرى قليلة إلى شيء من التصرف للتخفيف من لغة الأصل النابية.
١٣  مُحدَثة وافق عليها المجمع لشيوعها في اللهجة العامية، وهي مِذْوَد البهائم.
١٤  هاديس: إله الجحيم في الأساطير اليونانية، يقابل بلوتو عند الرومان وقد يدل كذلك على الجحيم.
١٥  من شاله شيلًا أي رفَعه (مُولَّدة) وهو الحمَّال في اللهجة المصرية. والمراد هو الحمال الذي يعمل في نقل الأثاث.
١٦  حرفيًّا: من طبقة النينور وهو أعلى أصوات الرجال في الغناء الأوبرالي.
١٧  معناها في اللهجة المصرية أبرِز نقودك.
١٨  حرفيًّا: يا سيد سيرك، وقد حذفت عبارة نابية جاءت قبلها.
١٩  مجموعة جبال بركانية تقع في شرق تركيا (أرمينيا)، وقد جاء في العهد القديم أن سفينة نوح كانت موجودة بها.
٢٠  تعبير يرجع للعهد القديم ويدل على الظلام المطبق الكالح السواد.
٢١  المقصود هو الأكواريوم أي الحوض الذي تُربى فيه الأسماك والحيوانات المائية.
٢٢  تدل الكلمة في اللغة الماليزية على «إنسان الغابة» وهو من أهم أنواع القِرَدة العليا التي تُعرف بالقردة الإنسانية، يبلغ طوله ما بين ١٫٢٠ إلى ١٫٥٠ متر، ويوجد في غابات سومطرة وبورينيو.
٢٣  هو عيد تحتفل فيه الكنيسة الكاثوليكية بجسد المسيح المقدس، وذلك بتنظيم مواكب جنائزية تسير في الشوارع ويأتي في يوم الخميس بعد عيد التثليث.
٢٤  حرفيًّا: فرقع حبيبتك في الهواء.
٢٥  حرفيًّا وباللهجة العامية المصرية: أنت جدع شهم مجنون بشهر يوليو ولك أحشاء خالدة.
٢٦  الضمير هنا يدل على معنًى جنسي.
٢٧  في الأصل باللاتينية.
٢٨  إشارة إلى الخنازير التي تستمتع بالخوض في الطين.
٢٩  حرفيًّا: ارقصي مع الريح، أيتها الجثة المسكينة، ضاجع السحاب، أيها الإله الفاجر.
٣٠  تذكر هذه القصيدة في طبعة أشعار برشت تحت عنوان «الفتاة الغريقة»، كما يعرفها بعض النقاد باسم «أوفيليا» وهي الشخصية النقية البريئة في مسرحية هاملت لشكسبير. ولا شك عندي أن برشت قد تأثر فيها بقصيدة رامبو المعروفة عن أوفيليا، وحبه لرامبو أشهر من أن يُذكر، ولعله كذلك قد تأثَّر بقصيدة أخرى للشاعر جورج هايم عن هذه المجموعة البائسة.
٣١  صرفت النظر عن بعض السطور القليلة من هذا المشهد؛ لما فيها من تجديف وشذوذ.
٣٢  أو من مقام مي بي مول من الديوان الصغير.
٣٣  يريد أن يرتكب العادة السرية.
٣٤  أو شجر القيقب أو الإسفندان.
٣٥  ج: والغار المسروق في جبينه.
٣٦  تصرفت في هذه الأغنية تصرفًا قليلًا، ولكنه لا يخرجها عن معناها.
٣٧  إحدى الشخصيات التي ظهرت في المشاهد السابقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤