الفصل العشرون

على الرغم من أن جيني بروستر وصلَت لندن وهي غاضبة من العالم بوجهٍ عام، ومن العديد من سكانه بوجهٍ خاص، فسرعان ما بدأت تستمتع بالمباهج الموجودة في تلك المدينة العظيمة. لقد كانت المدينة عتيقةً للغاية؛ لذا كانت جديدة عليها، وقد زارت كنيسة وستمنستر وغيرها من المعالم القديمة على نحوٍ متتابع. وقد أعجبها رخصُ أجرة العربات التي تجرُّها الخيول، وقضَت معظم وقتها في التنقُّل في أنحاء المدينة باستخدام تلك العربات. ولقد أقامت في أحد الفنادق الكبرى، وطلبَت العديد من الفساتين الجديدة من أحد الأماكن في شارع ريجنت. ولقد اشترت معظم الصحف، الصباحية والمسائية منها، وقالت إنها لم تستطِع إيجاد مقال ممتع في أيٍّ منها. ورأت، من وجهة نظرها، أنها كانت غبيةً وتنقصها الجُرأة، وقررت أن تنقد محرِّرَ إحدى الصحف اليومية الكبيرة عندما يكون لديها وقت، وتُجري معه حوارًا، وتعرف كيف سمح له ضميرُه بنشر صحيفة غبية بشدة كصحيفته كلَّ يوم.

كتبت لمدير تحريرها في نيويورك بأن لندن، رغم أنها مدينة بطيئة الإيقاع، كانت مليئةً بالموادِّ الجيدة الصالحة للنشر، وأن أحدًا لم يقترب منها بالكتابة منذ عصرِ ديكنز؛ لذا، عرَضَت أن تكتب سلسلةً من المقالات عن المدينة الكبيرة التي ستجعل هؤلاء المحرِّرين ينشطون قليلًا. وقد أرسل مدير التحرير برقيةً لها يطلب منها المضيَّ قدمًا في مشروعها، وقد فعلَت.

لقد استعانت جيني بخدمات مرافقة، وكانت سعيدةً للغاية بتلك الرفاهية غيرِ المعتادة. وقد أُوعِزَ إليها بأن الليدي ويلو كانت بمنزلة القديس بيتر لكن من الناحية الاجتماعية؛ فقد كانت تحمل المفاتيح التي ستفتح بوابات جنة الحياة الاجتماعية الإنجليزية، إن حصلت على مقابل مُجْزٍ بالقدر الكافي. ومن بين كل المعالم القديمة في إنجلترا، لم يجذب انتباهَ جيني شيءٌ أكثر من الطبقة الأرستقراطية، وعلى الرغم من أنها كتبت إلى نيويورك تطلب خطاباتٍ تقديميةً لتساعدها في عملها في لندن، فلم يكن لديها من الصبر ما يجعلها تنتظر وصولَها. ولذلك، استعانت بخدمات الليدي ويلو، أرملة السير دبنهام ويلو، الذي مات بالخارج، مفلسًا، قبل بضع سنوات، وقد حزن عليه الدائنون الذين تركَهم خلفه.

كانت جيني تشكُّ في اللقب الذي تحمله الليدي ويلو، وطلبت منها أدلةً أكيدة على صحته قبل أن تستعين بخدماتها. واندهشت كيف يُمكن أن تبيع أيُّ سيدة نبيلة حقًّا، كما كان الحال، تأثيرَها الاجتماعي مقابل مبلغٍ ما في الأسبوع؛ لكن، نظرًا إلى أن الليدي ويلو تعجَّبَت هي الأخرى من كَسْبِ الفتاة الأمريكية لعيشها بكتابة مقالاتٍ للصحف، وجد اندهاشُ الأولى نظيرَه في تعجُّب الأخرى.

كانت الليدي ويلو تظن أن كل الفتيات الأمريكيات قد وُلِدن بناتٍ لميلونيرات؛ وذلك بِناءً على قانونٍ طبيعيٍّ غربيٍّ ما غيرِ مفهوم، وتخيلَت أن هدفهن الوحيد من رغبتهن في دخول المجتمع اللندني هو أن يشترينَ لأنفسهن سليلَ أسرة أرستقراطية بأي ثمن؛ لذا، كانت ميالةً لرفض لقاءِ شابة حريصةٍ عازمة على ما يبدو على الحصول على مقابل لما تدفعه من مال.

قالت الليدي ويلو بتكبُّر شديد: «ليس من عادتي الحديثُ عن شروط العمل.»

ردت جيني بلا مبالاة: «إنه من عادتي؛ فأنا أحب دائمًا معرفة ما أشتريه، والثمن الذي سأدفعه مقابلًا له.»

قالت السيدة، وهي تقوم من مكانها بسخط: «إنكِ تتعاملين معي، كما لو كنتِ تستأجرين طباخًا. أنا متأكدة أننا لن نتوافق معًا على الإطلاق.»

«رجاءً اجلسي، يا ليدي ويلو، ولا تغضبي. دعينا نتحدث عن الأمر بصورةٍ ودية، حتى لو لم نصل إلى اتفاق. أعتقد أن الطباخ شخص مهم للغاية، وأؤكد لكِ أنني كنتُ سأعامله بأكثرِ الطرق احترامًا؛ بينما معكِ، على الجانب الآخر، فأنا أتحدث بطريقة صريحة ووُدية، كما هو الحال بين الأصدقاء. أعتقد أنني وأنتِ وضعُنا مماثل بعض الشيء. لا أحد منَّا غنيٌّ؛ لذا، على كلٍّ منا أن يَكسِبَ المال الذي يحتاج إليه بطريقته الخاصة. ولن يكون من الأمانة أن أدَّعيَ أمامكِ بأنني غنية، ثم لا أستطيع أن أدفع لكِ ما تتوقعين الحصولَ عليه بعد أن فعَلتِ كلَّ ما يُمكنكِ من أجلي، أليس كذلك؟ رائع جدًّا، إن كان لديك شخصٌ آخر يمكن أن تعملي كمُرافقة له ويستطيع أن يدفعَ لكِ أكثرَ مما سأفعل، فلا يجب أن تهتمِّي بشأني على الإطلاق، وعليك الحصولُ على العميلِ الأكثرِ ثراءً.»

تذكَّرَت الليدي ويلو أن هذا ليس الموسمَ الذي يكثر فيه العُملاء الأثرياء؛ لذا كبَحَت جِماح سخطها، وجلسَت ثانيةً.

قالت جيني: «هذا جيد، ودَعينا نَخُض حديثًا هادئًا ولطيفًا، بغضِّ النظر عما سيُسفِر عنه. والآن، إن أردتِ، يُمكنني كتابةُ مقالٍ لطيفٍ عنكِ في صحيفة «صنداي آرجوس»، وهو ما سيجعل كلَّ الفتيات الثريات اللائي يَقْدَمْن إلى هنا يأتين إليكِ مباشرة.»

صرخَت الليدي ويلو، وقد صُعِقَت على ما يبدو على نحوٍ لا يُوصَف من الفكرة: «يا إلهي! يا إلهي! أنتِ بالطبع لن تفعلي شيئًا فظيعًا كهذا. إن عرَفَت صديقاتي أنني أُصاحب الفتيات الصغيرات وآخذ مالًا منهن، فلن يسمَحْن لي بدخول بيوتهن ثانيةً.»

«آه، أنا لم أُفكر في ذلك. بالطبع، لن يكون ذلك مقبولًا. يا له من شيء غريب أن أولئك الذين يُريدون أن يظهروا في الصحف بوجهٍ عام لا يرَون أبدًا أسماءهم هناك؛ في حين أن أولئك الذين لا يريدون أن يُذكَر أيُّ شيء عنهم هم الذين يسعى الصحفيون دائمًا لنشر أخبارهم!»

«إذن، هل تكتبين مقالاتٍ في الصحف؟»

«في إحداها.»

قالت الليدي ويلو، وقد قامت ثانيةً، ويبدو عليها أنها كانت عازمةً على الرحيل: «يا له من أمر مريع!» وكان من الواضح أن أيَّ تعامل مع تلك الفتاة الأمريكية كان مستحيلًا.

«اجلسي ثانيةً، ليدي ويلو. سنفترض أنني غيرُ جديرة على الإطلاق بمرافقتك؛ لذا، دعينا لا نَقُلِ المزيد عن هذا الأمر؛ لكنني أريد التحدثَ إليكِ.»

«لكنكِ ستكتبين شيئًا …»

«أنا لن أكتب كلمةً عنكِ ولا عن أي شيء تقولينه لي. كما ترين، إن مِهْنتكِ غريبةٌ بالنسبة إليَّ كما تبدو مهنتي بالنسبة إليكِ.»

«مهنتي؟ أنا ليس لديَّ مهنة.»

«حسنًا، أيًّا كان ما تُسمين الأمر. أقصد الطريقة التي تَكسِبين بها المال.»

تنهَّدت الليدي ويلو، وترقرقت الدموع في عينيها.

«أنت لا تعرفين، يا صغيرتي، المصاعبَ التي قد يُصادفها الشخص الذي أصبح فجأةً بلا عائل، وعليه أن يفعل كلَّ ما في وُسعِه للحفاظ على المظاهر.»

قامت جيني على الفور، وأمسكت بيد السيدة العجوز التي لم تُبدِ أيَّ مقاومة، وأخذت تُمسِّدها بيدها بلطف.

ردَّت، بارتعاش قليل في صوتها: «كيف هذا؟ أنا بالطبع أعرف هذا، ولا يوجد شيءٌ أفظع في هذه الدنيا من الفقر. إن كان هناك بلدٌ متحضِّر بحقٍّ في هذا الوجود، لكان سيوفر كلَّ ما تحتاج إليه نساؤه. يجب أن تضمن كلُّ امرأة ما يكفل لها مواصلةَ العيش؛ فقط لأنها امرأة. إن خصَّصت إنجلترا لنسائها الأموالَ التي أنفَقَتها في الأعوام المائة الأخيرة على الحروب البغيضة، أو إن أنشأت أمريكا صندوقًا لدعم النساء من الأموال التي سُمح لسياسيِّيها بسرقتها، فربما كانت ستحصل نساءُ هذين البلدين الهمجيَّين على دخلٍ لن يجعلَهن، على الأقل، يخشين الحاجة والعَوَز.»

بدا أن حماس الآنسة بروستر لم يُهدئ من رَوْع الليدي ويلو، بل زادها انزعاجًا. وقالت في تردد:

«أخشى، يا عزيزتي، أنكِ تعتنقين بعضَ الأفكار الغريبة للغاية.»

«ربما؛ لكنني لديَّ فكرة واحدة ليست غريبة؛ وهي أنك ستكونين مسئولةً عن فتاةٍ وحيدة لا صديق لها لبضعة أسابيع على الأقل … حتى تأتيَ ابنةُ صاحب شركة تعبئة لحم خنزير غني من شيكاجو، التي لن تصل إلى هنا قبل شهرٍ أو اثنين. إننا لن نتحدث عن شروط العمل؛ سأدفع لكِ كلَّ ما سيتبقى معي بعد دفع مقابلِ تنقُّلاتي بعربات الأجرة ذات الخيول.»

«سأكون مسرورةً للغاية لفعل ما يُمكنني فعلُه من أجلك، يا عزيزتي.»

خفَّفت الليدي ويلو من حدَّة نبرتها تجاهَ عميلتها الشقراء، وتبنَّت الآن نبرةً عطوفة بعض الشيء معها، وهو ما أعجب جيني على ما يبدو.

«سأحاول ألا أكون مصدرَ إزعاج كبيرٍ لكِ، على الرغم من أنني على الأرجح سأسألُكِ العديدَ من الأسئلة. كل ما أريده في واقع الأمر هو فقط رؤية حديقة الحيوان، وسماع الحيوانات وهي تصيح، ورؤيتها وهي تأكل. وأنا لا أطمح لسرقة أيٍّ منها.»

قالت الليدي ويلو باندهاش: «أوه، هذا سيكون من السهل القيامُ به. يمكننا الحصولُ على تذكرتين من أحد العاملين في جمعية علم الحيوان، وهو ما سيُدخلنا إلى هناك يوم الأحد، حيث لا يوجد سوى عددٍ قليل من الأشخاص.»

ضحكَت جيني بابتهاج.

«أقصد حديقة الحيوان الاجتماعية، يا ليدي ويلو؛ لقد زرتُ الأخرى بالفعل. رجاءً لا تنظري إليَّ باندهاشٍ شديد، ولا تخافي؛ فأنا في واقع الأمر أتحدَّث على نحوٍ لطيف للغاية عندما أكون في أحد التجمعات، وأنا واثقةٌ أنكِ لن تخجلي من وجودي على الإطلاق. كما ترَين، أنا لم أتحدَّث إلى أي شخص منذ أن جئتُ إلى لندن؛ لذا، أعتقد أنني يجب أن يُسمَح لي بنطاقٍ محدود من المعارف في البداية.»

قلَّلت الليدي ويلو من حدة تكبرها حتى إنها ابتسمت، وإن كان ببعض الارتياب؛ وقالت جيني بابتهاج إنهما هكذا يكونان قد أنهَيا اتفاقهما، وإنها متأكدة من أنَّ أواصر الصداقة ستتوطَّد بينهما بشدة.

وأردَفَت: «يجب أن تُخبريني ماذا عليَّ فعلُه. أعتقد أن الملابس أهمُّ الأمور المبدئية عندما يُفكر المرء في الدخول لأي مجتمع. حسنًا، لقد طلبتُ الكثير منها؛ لذا، هذا الأمر لا مشكلة فيه. ما الأمر التالي؟»

«نعم، الملابس مهمة؛ لكنني أعتقد أن أول شيء عليكِ فعلُه هو الإقامة في منزل جيد في مكانٍ ما. أعتقد أنك لا يمكنك البقاءُ في هذا الفندق؛ هذا إلى جانب أن المنزل الذي ستختارينه يجب أن يكون فخمًا للغاية.»

«نعم، من الأفضل أن يكون كذلك؛ لكن هذا متاحٌ وفي المتناول بشدة.»

«إنه ليس في المتناول بالنسبة إلى كلِّ أفراد المجتمع.»

«أوه، هل هو كذلك؟ كنتُ أفكِّر في كنيسة وستمنستر وميدان ترافالجار، ومثل هذه الأماكن. بالإضافة إلى ذلك، هناك «دائمًا» عربة بخيول أنيقة متاحةٌ بالقرب من الباب عندما يريد أيُّ شخص الخروج.»

«أوه، اعلمي أنه لا يجب عليكِ أن تركبي عرباتِ الأجرة هذه!»

«لماذا؟ أظن أن أفراد الطبقة الأرستقراطية — الراقية جدًّا — تركب هذه العربات.»

«البعض لديهم عرَبات خاصةٌ بخيول؛ لكن هذا أمر مختلف للغاية.»

«وقد سمعتُ في مكانٍ ما أن أغلب العربات التي تجرها الخيول في لندن تمتلكها الطبقة الأرستقراطية. أنا متأكدة أنني ركبتُ واحدة تنتمي لماركيز مكان؛ أنا لا أتذكر اسمه. أنا لا أفترض أن الماركيز نفسه هو الذي كان يقودها. ربما كان يقودها سائقُه؛ لكن السائق كان شابًّا لطيفًا للغاية، وأعطاني الكثير من المعلومات. لقد أخبرني بأن الماركيز يمتلك العربة؛ لأنني سألتُه عن صاحبها. ظننت أن السائق ربما يكون مالِكَها. سأترك الفندق عن طيب خاطر، لكنني لست متأكدةً بشأن العربات. أخشى أن أعِدَكِ بشيء في هذا الأمر؛ لأنني متأكدة أنني سأستأجر عربةً بخيول تلقائيًّا عندما أخرج بمفردي. لذا، سنؤجِّل مسألة العربات حتى وقتٍ لاحق. والآن، أين تقترحين أن أُقيم بينما أكون في لندن؟»

«يمكنكِ الإقامةُ معي إن أردتِ. أنا لا أملك منزلًا كبيرًا؛ لكن هناك مكان لصديقٍ أو اثنين، والمنزل في موقع جيد للغاية.»

«أوه، سيكون هذا رائعًا. أظن أن العنوان المناسب على ورق رسائل المرء هو كلُّ شيء، ويكاد يكون مهمًّا مثل شعار النبالة — إن استُخدِم شعار النبالة كرأسية؛ وهناك فرق بين دروري وبارك عندما يأتيان بعد كلمة «شارع».»

توصلَت السيدتان بسرعة إلى تفاهمٍ كان مُرضيًا للطرفين، ووجَدَت الليدي ويلو، على نحوٍ أرضى بشدة كبرياءها، أن التلهُّف المندفع للسيدة الشابة قد غيَّر الوضع بحيث غادرَت الآن السيدة العجوز، رغم أنها قد جاءت إلى الفندق بتوجُّهِ شخصٍ كان، إن جاز التعبير، يسعى من أجل الحصول على إحسان، بإحساس بهيج بالرضا عن الذات الذي يشعر به شخصٌ كريم منَّ على شخص آخر. ولم يكن تنازلها دون طائل، سواءٌ على الجانب المادي أو المعنوي؛ فقد دفعت لها جيني بقليلٍ من البذخ، كما أن النجاح الاجتماعي الفوري لجيني كان مثيرًا لفخر الليدي ويلو باعتبارها مَن قدَّمَت الأمريكية البارعة والمليئة بالحيوية جدًّا.

لقد كان الانطباع الذي ترَكَته جيني لدى الرجال الشباب السريعي التأثر عاطفيًّا الذين قابلَتهم تحت رعاية الليدي ويلو كبيرًا، حتى إن الشائعة التي انتشرَت بأنها ليس لديها مالٌ لم تُقلِّل من إعجابهم كلِّهم بها. لم يَفتُر اللورد فريدريك في تودُّده لها، وعاملها كما لو أنها أغنى وريثةٍ عبَرَت المحيط لتتخلَّى عن ذهبٍ تم الحصول عليه بطريقة مريبة في مقابل لقبٍ حصل عليه أحدُ اللصوص في العصور الوسطى، كما لو كان يصنع مقارنة بين الشر القديم والحديث.

نظرت الليدي ويلو لتفضيل اللورد فريدريك لجيني باندهاشٍ بهيج. وعلى الرغم من أنها لم تكن راضيةً تمامًا عن الفتاة التي في رعايتها، فقد كانت معجبة بها بشدة؛ لكنها لم تستطِع معرفةَ لماذا يسعى الرجال وراء جيني بشدة، في الوقت الذي يجري فيه تجاهلُ فتياتٍ أخريات، جميلاتٍ مثلها وأكثر جدارةً منها بالاهتمام بكثير. لقد ألمحت بلطفٍ إلى الفتاة في أحد الأيام أن زيارتها لإنجلترا ربما لن تكون، في النهاية، عديمةَ الجدوى.

قالت جيني: «لا أعتقد أنني أفهمُك.»

«حسنًا، يا عزيزتي، بقليلٍ من الكِياسة من جانبك، أظن أن اللورد فريدريك بنجهام قد يعرضُ عليك الزواج.»

توقفَت جيني، التي كانت ترتدي قُفازها، ونظرت إلى الليدي ويلو، وفي عينيها تألقٌ بهيج وحول أطراف ثَغرِها ابتسامةٌ خَجولة.

«هل تتصوَّرين أنني قد جئت إلى هنا من أجل أن أوقِع بأحد النبلاء المساكين … بإبداء بعضِ الكياسة؟ يا إلهي! كما لو أن الكياسة لها أيُّ علاقة بهذا! أبدًا، أبدًا، أبدًا، يا ليدي ويلو! أنا لن أتزوج إنجليزيًّا حتى إن كان آخِرَ رجل على وجه الأرض.»

«العديد من الرجال الإنجليز لطفاء جدًّا، يا عزيزتي.» هكذا قالت الليدي ويلو معترضةً بلطف، ثم تنهَّدَت بعمق؛ إذ تذكرَت زوجها الذي، رغم كونه شخصًا مستهترًا على نحوٍ يصعب إصلاحه، قد استحوذ على كاملِ حبِّها طَوال حياته، وكان موضِعَ أسفها الشديد الآن نظرًا إلى أنه قد غادر عالَمًا لم يُقدِّر قطُّ مواهبَه؛ رغم أن ذلك، في تقدير السيدة الأرملة، كان يرجع بالكامل للعيوب التي لم يستطِع السير دبنهام إخفاءها.

أضافت جيني على نحوٍ مناقض لما سبق، بينما كانت تُزرر قفازها: «ومع ذلك، أنا أعشق الحصولَ على لقب؛ أنا لا أعرف السبب في هذا. أعتقد أنه لا توجد أبدًا امرأةٌ في صميم قلبها تُفضل النظام الجمهوري، وإذا كان للولايات المتحدة أن تنهار، فإن النساء هن مَن سيَقُمنَ بذلك، وسيُقِمْن مكانه نظامًا ملكيًّا. أنا ليس لديَّ شك في أن الرجال لن يدَعونا نُقيم إمبراطورية الآن إذا ظنوا أن هذا سيُسعدنا.»

قالت الليدي ويلو: «ظننت أنَّ جميعكن بالفعل ملِكاتٌ هناك.»

«أوه، نحن كذلك، لكن تلك هي المشكلة. هناك منافسةٌ شديدة للغاية في مسألة المَلِكة؛ هناك الكثيراتُ منا للغاية، لذا، نتخلى عن لقَبنا الملكيِّ المشترك في مقابل الألقاب الأقلِّ أهمية المتمثلة في الدوقات والكونتيسات وكل هذا.

إنه ليس بالأمر الهين، باعتقادي،
أن تُصبحي ملكةً متوَّجة ومُطْلَقة.
أنا لا أقصد أن يكون هناك مَن يُنازعك في ذلك.
ولكن أن تصبحي ملِكة مطلقة، مطلقة، مطلقة، مطلَقة وكاملةَ الصلاحيات.

أنا لا أعرف إن كانت الكلمات صحيحة أم لا، لكنَّ الفكرة العامة موجودة. أوه، يا إلهي! أخشى أنني سأُصبح إنجليزية تمامًا.»

قالت الليدي ويلو، وهي تبتسم رغمًا عنها، بينما كانت رفيقتُها الطَّليقة اللِّسان تُغني وترقص في أنحاء الغرفة: «أنا لا أرى أماراتٍ كثيرةً على هذا.»

قالت جيني: «هيا، يا ليدي ويلو، ارتدي ملابسك؛ أنا ذاهبة إلى مصرف حي السيتي لصرف شيك، وأنا أعلمك مسبقًا بأنني سأستقلُّ عربةَ أجرةٍ بخيول. اللورد فريدي يتفق معي في أن هذه العربات هي أبهجُ أنواع المركبات؛ رجاءً لا تتضايقي مني، يا ليدي ويلو؛ إن «أبهج» هي كلمة اللورد فريدي وليست كلمتي.»

قالت الليدي ويلو، بأكثرِ أسلوبٍ حادٍّ كان يمكن للسيدة الطيبة أن تستخدمه: «ما لا يعجبني هو مناداتك له باللورد فريدي.»

«أوه، هذه هي عبارته، أيضًا! إنه يقول إن الجميع يَدْعونه اللورد فريدي. تعالي معي، وسأناديه باللورد … فريدريك … بنجهام.» هكذا ردَّت بنبرةٍ تعلوها الاحترامُ مع وجود سكتات ملائمة بين الكلمات. ثم أردفت: «إنه يبدو دائمًا تافهًا مقارنةً باسمه؛ إنه يُشبه رجلَ مبيعاتٍ يقف أمام طاولة بيع قديمة، وأنا لا أتعجب من أن الجميع يَدْعونه اللورد فريدي. أخشى أنني قد أُصبت بخيبةِ أمل، يا ليدي ويلو. أعتقد أن الرجال قد تدهوَر حالُهم منذ أن أصبحَت البذلات الدرعية عتيقةَ الطِّراز؛ فقد كان عليهم أن يكونوا ضِخامَ الجثة وأقوياءَ حينها؛ كي يحملوا هذا الكمَّ من الأشياء المعدنية. بالطبع، يتأثَّر الرجل بما إذا كان خيَّاطه يُفصِّل له بِذْلة من قماش الجوخ أو من صفائح الحديد. نعم، بدأتُ أعتقد أنني قد جئت إلى إنجلترا متأخرةً عدة قرون.»

صُدِمَت الليدي ويلو بشدةٍ من تلك الملاحظات السخيفة بحيث لم تستطِع الرد؛ لذا، ودون أن تحاول الرد، ذهبَت إلى غرفتها لتجهز نفسها لرحلتها إلى حي السيتي.

تركَت جيني الليدي ويلو في عربة الأجرة، ودخلت إلى المصرف وخرجَت ومعها الأوراقُ النقدية البيضاء، التي يُشار إليها عامةً في عالم الأدب بأوراق البنكنوت، وأخذت تحشرها بلا مبالاة أكبرَ مما تقتضيه قيمتُها في حقيبة اليد الخاصةِ بها. وأخرجَت من الحقيبة قطعةَ ورق مكتوبًا عليها عُنوان، وأخذت تنظر فيها لبضع لحظات قبل أن تغادر المصرف. ولدى وصولها إلى عربة الأجرة، أعطت قطعة الورق للسائق.

وسألَته: «هل تعلم أين يقع هذا العنوان؟»

«نعم، يا آنستي؛ إنه على مقربة من هنا.»

«حسنًا، اذهب إلى الجانب الآخَر من الشارع، واستمر حتى تصل إلى الباب رقم ٢٣.»

«حسنًا، يا آنستي.»

عندما وصل السائقُ تقريبًا قُبالة الباب رقم ٢٣، أوقف العربة. ونظرَت جيني إلى المدخل حيث كان العديد من الرجال المسرعين يدخلون ويخرجون. كان مبنًى كبيرًا ممتلئًا على ما يبدو بالمكاتب؛ وأخذت الفتاة نفَسًا عميقًا، لكن لم تتحرك لمغادرة العربة.

سألَتها الليدي ويلو، التي كان حي السيتي بالنسبة إليها مكانًا مجهولًا، وكانت العجَلة والجلَبة الموجودتان فيه مُربِكتَين لها على نحوٍ بغيض: «هل لديك مهمةُ عمل توَدِّين القيام بها هنا، أيضًا؟»

قالت جيني، بنبرة حزينة: «لا، هذه ليست مهمةَ عمل؛ إنها متعة. أريد الجلوس هنا لبضعِ دقائق والتفكير.»

قالت الليدي ويلو محتجَّة: «لكن يا صغيرتي لا يُمكنك التفكير في ظل هذه الجلَبة؛ هذا بالإضافة إلى أن الشرطة لن تسمح للعربة بالوقوف هنا إلا إذا كان أحدُنا يتسوَّق أو لديك مهمةُ عمل تودِّين القيام بها في أحد المكاتب.»

«إذن، عزيزتي الليدي ويلو، اذهبي للتسوُّق لمدة عشر دقائق؛ رأيت بعض المتاجر الرائعة على مقربة من هنا في نفس الشارع. ها هي خمسة جنيهات، وإن رأيتِ أيَّ شيء عليَّ أن أشتريَه، فاشترِيهِ من أجلي. يجب أن يُفكر المرء من آنٍ لآخَر، كما تعرفين. إن أفكارنا تُشبه الخطابات التي نستقبلها؛ نحتاج إلى فرزها دوريًّا والتخلُّص من تلك التي لا نرغب في الاحتفاظ بها. أريد أن أفحص بدقةٍ أفكاري وأرى إن كان يجب التخلصُ من بعضها أو لا.»

عندما تركَت الليدي ويلو جيني، جلست الأخيرة وذقنها على يديها ومِرفقاها على ركبتَيها وأخذت تُحدق في رقم ٢٣. لم تكن وجوهُ أيٍّ ممن كانوا يدخلون أو يخرجون مألوفةً لها. وكثيرًا ما كان المارُّون ينظرون إليها، لكنها لم تكن تأبهُ بالناس، ولا بالإعجاب العابر الذي كان يتشكَّل نتيجةً لوجهها الجميل في صدور العديد من الأشخاص القُساة العاملين في المجال المالي، إن كانت، بحقٍّ، على وعيٍ بالاهتمام الذي تلقَّته. واستيقظت من حلم اليقظة الخاص بها عندما دخلت الليدي ويلو إلى العربة.

صاحت: «كيف هذا، أعُدتِ بهذه السرعة؟»

ردَّت السيدة العجوز موبخةً إياها: «لقد كنت بالخارج لمدة ربع الساعة.» وأردفت: «لقد أنفقتُ كلَّ المال، وها هي المشتريات.»

ردَّت جيني: «المال لا يدوم طويلًا في حي السيتي، أليس ذلك؟»

سألتها السيدة العجوز: «عجبًا، ماذا بكِ، يا عزيزتي؟ يبدو صوتُك وكأنك كنتِ تبكين.»

«هراء! غباء! هذا الشارع يُذكرني كثيرًا ببرودواي مما جعلني أشعر بالحنين بشدةٍ إلى الوطن، هذا كل ما في الأمر. أعتقد أنني سأعود إلى نيويورك.»

«هل قابلتِ شخصًا من هناك؟»

«لا، لا. أنا لم أرَ أحدًا أعرفه.»

«هل تتوقعين ذلك؟»

«ربما.»

«لم أكن أعلم أن لديكِ أيَّ أصدقاء في حي السيتي.»

«ليس لدي أيُّ أصدقاء هنا. إن ما أتوقَّع رؤيته هو عدوٌّ لي.»

«حقًّا؟ هل هو عدو كان قبل ذلك صديقًا؟»

«نعم. لماذا تسألينني العديد من الأسئلة؟»

أمسكَت الليدي ويلو بيد الفتاة وقالت محاولةً تهدئتها:

«أنا آسفةٌ من حدوث سوء فهم.»

قالت جيني: «وأنا كذلك آسفة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤