الفصل الثالث والعشرون

ليس من الحكمة أبدًا أن تُقلِّل من شأن عدوِّك، مهما بلغ مقدارُ ضعفه. لقد حرَّر الفأرُ الأسدَ الواقعَ في الشِّباك. كان يجب أن تكون جيني بروستر ممتنَّةً أن الظروف، التي كانت تعمل لصالحها، قد جعلَت إرسالها للمعلومات التي توصَّلَت إليها عن المناجم غيرَ ضروري. لقد أُنقِذَت من مَرارة الاعتراف بالهزيمة من خلال برقية كانت بانتظارها في كوينزتاون، أخبرَتها ألا تبعث المعلومات التي توصلَت إليها. والرسالة التي استقبلتها من مدير تحرير صحيفة «آرجوس» لاحقًا أوضحَت معنى البرقية. لقد حصلت الصحيفةُ من مصدرٍ آخرَ على ما زُعم أنه مُلخَّص لما ورد في التقريرين الخاصَّين بالمناجم، الذي نُشِر. إنْ أكَّدَت المعلوماتُ التي لدى جيني ما جاء في هذا المقال، فإنها ستكون غيرَ مهمة؛ أما إذا عارضَت ما نُشِر بالفعل، فإنها، بالطبع، ستكون غيرَ مهمة على نحوٍ مماثل؛ إذ إن الصحيفة كانت من نوعية الصحف التي لا تُقلل أبدًا من قدْرِ نفسها بالاعتراف بوقوعها في خطأ. لذا، أرسل مديرُ التحرير لمراسِلتِه رسالةً تلغرافية قصيرة ليُوفِّر تكلفة إرسال رسالة تلغرافية طويلة ومكلفة كانت ستكون غيرَ مجدية عندما تصل إلى مقر الصحيفة.

لكن، بدلًا من أن تكون جيني ممتنةً للأقدار التي حاربت بشدةٍ من أجلها، كانت غاضبةً بشدة من فليمنج، وكانت غاضبةً بالقَدْر نفسِه تقريبًا من الآنسة لونجوورث. فلولا تدخلُ السياسي المتطفِّل، ما كان ونتوورث سيكتشف أبدًا هُويتها، وما كانت سلسلةُ الأحداث المهينة التي تلَت ذلك ستحدث. وحينها كانت ستفترق عن ونتوورث على نحوٍ ودِّي، على الأقل. كانت مضطرَّة، رغمًا عنها، إلى الاعتراف في قرارةِ نفسها بأنها كانت تُحب ونتوورث أكثرَ من أيِّ شاب آخر قد قابلَته من قبل؛ والآن وفي ظل تضاؤلِ فرصةِ رؤيته ثانيةً، كان أسفُها يَزيد أكثر وأكثر مع مرور الوقت. لقد أخبرها بكلِّ آماله بشأن منجم الميكا قبل حدوث تلك الحادثة المؤسفة، وائتمَنها على سرِّه على نحوٍ هي متأكدةٌ أنه لم يفعله قطُّ مع أيِّ امرأة أخرى. لقد كانت ترى النظرة المخلصة في عينَيه الصادقتين كلما أغمضَت عينيها، وتلك النظرة كانت تُطاردها طَوال اليوم، على نحوٍ تبادلي مع تذكُّرِ نظرةِ العتابِ غيرِ المصدِّقة التي نظَر بها إليها عندما اكتشف مهمَّتها، الذي كان حتى أصعب في تحمُّلِه من تذكُّرِ ثقته في نفسه وتقديره لذاته.

وما جعل الأمرَ أكثرَ مرارةً حقيقةُ أن هذا كلَّه كان بلا طائلٍ أو فائدة. لقد جرَحت صديقها وأذلَّت نفسها، وكل هذا من أجل لا شيء! إن التغييرات السريعة التي حدَثَت في مقر الصحيفة منذ أن سافرت قد جعلت تضحياتِها بلا جدوى، ورغم أنها كانت تشدُّ من أزر نفسِها على متن السفينة بقول إنها كانت فقط تقوم بواجبها تجاه رؤسائها، فإن تلك التعزيةَ حتى قد أصبحت بلا معنًى بسبب رسالة مدير التحرير.

هكذا الحال دائمًا في عالم اليانصيب الدائم التغيُّرِ والهائل والمدهش هذا، عالم الصِّحافة الحديثة. إن الشيء الذي سيبيع مديرُ التحرير نفسَه من أجله اليومَ يكون لا قيمة له غدًا. إن أغبى شخصٍ في الصحيفة قد يقع تحت يدَيه أحيانًا أهمُّ خبر في اليوم، في حين أن أبرع صحفي قد ينهزم في صراعِه المستمرِّ مع الوقت؛ لأن الصحيفة تظهر في وقتٍ معين، وبعد ذلك، يكون الجهد بلا فائدة. إن القائم على إدارة أيِّ صحيفة كبيرة يُشبه سائقَ عربة رومانية؛ إنه يحتاج إلى رِباطة جأشٍ وذراعَين قويتين، وعين بصيرة تنظر للمستقبل ولا تأبهُ كثيرًا لضحايا الشفرات المنجلية الدائرة في المنتصف. إنه قد يُطيح بإحدى الحكومات، أو قد يُلقى هو نفسُه، بحركة غير متوقعة، تحت العجلات. إن الجيادَ المندفعة لا تقف أبدًا، وعندما يترك أحدٌ اللجام، يلتقطُه آخرُ، لِيَضيع هو الآخرُ ويُنسى في السباق المجنون، الذي لا يُنظَر فيه أبدًا إلى الخلف. إن أفضل العقول في البلاد يُستولى عليها وتُعصر وتُنحَّى جانبًا. وبيدٍ سخية ولكن عشوائية يتم توزيعُ السمعة الطيبة والسمعة السيئة، والغنى والفقر. إن الصِّحافة، على نحوٍ غيرِ قابل للرِّشوة بالمعنى العادي للأمر، من أجل حفنة نقود، تُبالغ في التخويف من الكوليرا وتُصيب حالَ أمةٍ ما بالشلل، ثم تهاجم حكومةً فاسدة وتُسقطها، على الرغم من أنه يُمكن جنيُ الملايين باتخاذ مسارٍ آخر. إنها مصدر رعب الأوغاد وسببُ يأس الشرفاء.

كانت جيني بروستر، في وسط أسفها الذي بلا جدوى، تُحكِم قبضتها الصغيرة غيظًا عندما تتذكَّر فليمنج. من المعتاد ومن المُعزِّي أيضًا أن يُلقي الفردُ باللائمة على الآخرين وليس على نفسِه. إن الطبيعة البشرية فاسدةٌ بحيث عادةً ما يكون باستطاعتنا إيجادُ كبشِ فداءٍ من رِفاقنا البشر، يمكن اعتبارُه مسئولًا عن أيِّ أخطاء أو حالاتِ فشل هي جزءٌ منا بشدةٍ لدرجةٍ يصعب الإقرارُ بمسئوليتنا عنها. إن اهتمَّ فليمنج فقط بشئونه، كما هو مفترض من أيِّ شخص، فما كان ونتوورث سيعرف أن جيني تعمل لصالح صحيفة «آرجوس»، ولأَصبح لجيني صديقٌ في لندن، الأمر الذي كان سيُضفي طابعَ الإثارة على زيارتها، الذي عادةً ما يرتبط بالصداقة بين شابٍّ لطيف وفتاة جميلة وساحرة للغاية.

أقام فليمنج في الفندق الذي أقامت فيه جيني في البداية، وكانت من آنٍ لآخرَ تُقابله في القاعات الكبيرة لمبنى الفندق الضخم؛ لكنها كانت دائمًا ما تمرُّ عليه بأنَفةِ ملِكةٍ مستاءة، على الرغم من أن هذا الرجل المسكين كان دائمًا ما يخلع لها قبعته احترامًا لها؛ ومرة أو مرتين، توقَّف وبدا كما لو كان على وشك أن يتحدَّث إليها.

وفي آخرِ أيام بقائها في الفندق، رأت فليمنج على نحوٍ أكبر من ذي قبل؛ لكن لم يخطر ببالها أن السياسيَّ الحزين كان يترصَّدُها، دون أن يمتلك أبدًا الشجاعة الكافية للحديث إليها عندما كانت تحينُ له الفرصة. وفي النهاية، وصلت رسالةٌ إلى الغرفة التي تقيم فيها، من فليمنج، قال لها فيها إنه يودُّ الحديث إليها لبضع لحظات، وإنه ينتظر الرد.

قالت الفتاة للشخص الذي حمل الرسالة: «أخبِره أنه لا يوجد رد.»

قد يكون من الجيد أحيانًا أن تعرف وجهةَ نظر حتى العدو، لكن كانت جيني غاضبةً منه بشدة بحيث لم تُفكر في هذا. لكن السياسي، حتى يكون ناجحًا، يجب ألا يُهزَم بسهولة، وهذا بوجهٍ عام ما يحدث.

عندما حصل فليمنج على الرد الفظِّ على رسالته، ألقى بسيجاره وارتدى قبعته وركب المصعد وسار عبر الممر الطويل وطرَق باب غرفة جيني.

إن دهشة الفتاة لدى رؤيةِ عدوِّها هناك كانت كبيرةً للغاية لدرجة أن ردَّ الفعل المتوقعَ المتمثِّل في غلق الباب في وجهه لم يخطر ببالها حتى فات أوانُ تنفيذه، وقد وضع فليمنج قدمه الكبيرة بلا مبالاةٍ ليمنع إغلاقَه.

صرخَت، والشررُ يتطاير من عينيها: «كيف تجرؤ على المجيء إلى هنا، بعد أن رفضتُ رؤيتك؟»

رد السياسي الكاذب: «أوه، فهمت من الشخص الذي حمل الرسالة إليكِ أن بإمكاني المجيءَ إلى هنا.» ثم أضاف: «كما تعرفين، إنه ليس أمرًا شخصيًّا، بل أكبر شعور يمكن أن يتكون في عُرْض المحيط، وظننتُ … حسنًا، كما تعلمين، شعرتُ أنني — دون قصد تمامًا — قد أسأتُ إليكِ على متن سفينة «كالوريك»، وكانت هذه محاولةً مني للاعتذار لكِ عن ذلك.»

«لن يُمكنَك أبدًا إصلاحُ ما فعلتَه.»

«لا، بل يُمكنني ذلك، يا جيني.»

«أرجو أن تتذكَّر أن اسمي هو الآنسة بروستر.» هكذا قالت الفتاة، وقد اعتدلت في وقفتها؛ لكن فليمنج لاحظ، بنوعٍ من الارتياح، أنه منذ أن ذكر مسألة الشعور، لم تصدر عنها أيُّ محاولةٍ لإغلاق الباب، وكان تَحفُّز الصحفية يحلُّ تدريجيًّا محلَّ الغضب الذي قابلَته به في البداية.

«حسنًا، آنسة بروستر. أنا لا أقصد أيَّ إساءة، كما تعرفين؛ وبصدقٍ، فضَّلتُ إعطاءك معلومةً مهمة على إعطائها لأي شخص آخر.»

«أوه، إنك صادقٌ للغاية … أعلم هذا.»

«في الواقع، أنا كذلك، كما تعلمين، يا جين … أقصد يا آنسة بروستر؛ على الرغم من أنني أرى أن هذه ليست مَيزةً في السياسة تمامًا كما هو الحال في مجال الصِّحافة.»

«إن كنتَ قد جئت فقط لتتحدث على هذا النحو عن الصحافة، فأنا لا أهتمُّ بالاستماع لما تقوله.»

«انتظري دقيقة. أنا لا ألومك على شعورك بالغضب …»

«شكرًا لك.»

«لكن، مع ذلك، إن تركتِ تلك المعلومةَ تضيع منكِ، فستندمين. إنني أعطيك معلومةً موثوقًا فيها. يمكنني الحصول على أموالٍ أكثرَ من كل الأموال التي رأيتِها في حياتك من الكشف عن هذه المعلومة، ومع ذلك، أنتِ تُعاملينني كما لو كنت …»

«سياسيًّا من نيويورك. لماذا جئتَ إليَّ بتلك المعلومة القيمة؟ فقط لأنك تُكِنُّ تقديرًا كبيرًا لي، على ما أعتقد؟»

«هذا صحيح. هذا هو الوضع بالضبط.»

«ظننت ذلك. رائعٌ للغاية. هناك غرفة استقبال في هذا الطابق حيث يُمكننا أن نتحدث دون مقاطعة. تعالَ معي.»

أغلقَت جيني الباب وسارت عبر الممر، وتبعها فليمنج، الذي ابتسم تعبيرًا عن رضاه عن لَباقته وبراعته، حيث كان، بالفعل، له كلُّ الحق في ذلك.

في غرفة الجلوس التي لا يوجد بها أحد، كانت توجد طاولةٌ للكتابة، وجلسَت جيني بجانبها، وأشارت لفليمنج بالجلوس على كرسي قبالتَها.

قالت، مقرِّبةً بعضَ الورق إليها، وملتقطة قلمًا: «والآن، ما تلك المعلومة المهمة؟»

رد فليمنج: «حسنًا، قبل أن نبدأ، أودُّ إخبارَكِ بسبب تدخلي على متن السفينة وجعْلِ الرجل الإنجليزي يعرف من أنتِ.»

«لا عليك من هذا. من الأفضل ألا نُثيره.» وظهرت لمحةٌ من الغضب في عينَي الفتاة، لكن، وبالرغم منها، استمرَّ فليمنج في حديثه. لقد كان رجلًا مثابرًا.

«لكن هذا له علاقة بما سأخبرك به. عندما رأيتُكِ على متن سفينة «كالوريك»، خفَق قلبي بشدة. ظننتُ أن سري قد انكشف وأنكِ كنتِ تُلاحقينني. وكان عليَّ أن أعرف ما إذا كانت صحيفة «آرجوس» قد علمت أيَّ شيء عن رحلتي أم لا، وما إذا كانت قد أرسلَتْكِ لتَعَقُّبي. فقط خمسة أشخاص في نيويورك كانوا على علمٍ بأمر رحلتي، وحيث إن الكثير كان يعتمد على عاملِ السرية، فقد كان عليَّ أن أعرف على نحوٍ ما إن كنتِ هناك من أجل … حسنًا، أنت تعرفين بالطبع. لذا، تحدثتُ إلى الرجل الإنجليزي، وأخذتُ أُنصِت جيدًا لما كان يدور حولي؛ لكن سرعان ما اتضح لي أنكِ ليس لديكِ أيُّ علم بما كنتُ أنا طرَفًا فيه، وإلا لكنتُ أرسلتُ حينها برقيةً لبعض الأشخاص في لندن، وأمرتُهم بإنهاء الأمر.»

«يا إلهي! وما الفعل الشرير الذي كنتَ تُدبِّره؟ تزوير؟»

«لا؛ أمر متعلق بالسياسة. إنه شيء بنفس السوء، أعتقد أنك ستظنين هذا. والآن، هل تعرفين أين كرابر؟»

«حاكم نيويورك؟ لقد سمعتُ قبل أن أغادر أنه كان في كارلزباد للاستشفاء.»

قال فليمنج على نحوٍ غامض: «لقد كان هناك، لكنه الآن …»

أشار السياسي بجدِّية لأسفل بسبابته.

«ماذا! مات؟» هكذا قالت جيني؛ إذ كانت الحركة المشئومة لإصبع فليمنج تُشير على نحوٍ طبيعي إلى ما يعتقده كل الناس الشرفاء بأنها النهاية الحتمية لكل زعيمِ عصابة.

قال فليمنج، وهو يضحك: «لا؛ إنه في هذا الفندق.»

«أوه!»

«نعم، والسيناتور سموليت، رئيس حزب الصلاح، هنا أيضًا، على الرغم من أنكِ لن تُقابليهما كثيرًا في قاعات الفندق كما تفعلين معي. إن هذين الرجلين المحترمين اللذين من المفترض أنهما خَصْمان سياسيان، لا يُحاولان لفت الأنظار إليهما ولا يُدلِيان بأي تصريحات.»

«فهمت. وقد عقَدا اجتماعًا معًا.»

«بالضبط. والآن، الأمر يُشبه هذا.» سحب فليمنج ورقةً تجاهه، ورسم عليها شكلًا بيضاويًّا. ثم أردف: «هذه هي نيويورك. سنُسميها فطيرة اليَقْطين، إن أرَدتِ، التي تُشبه المادةُ المصنوعةُ منها رءوسَ مواطنيها أصحابِ الضمير الحي. أو ربما، فطيرة الحمام؛ لأن المواطن النيويوركيَّ يُستغَل بسهولة. والآن، انظري هنا.» رسم فليمنج من نقطة في المنتصف عدةَ خطوط متشعبة. ثم أردف: «هذا ما يفعله كرابر وسموليت في لندن. إنهما يقسمان الفطيرةَ بين الحزبَين.»

«هذا مثيرٌ جدًّا للاهتمام، لكن كيف ستُوزَّع الأجزاء؟»

«الأمر بسيطٌ للغاية. كما تعرفين، إن رِهاننا الكبير على المواطن الصالح؛ الناخب الذي يريد أن ينتخبَ على نحوٍ صحيح وينتخب رجلًا شريفًا. ولو لم يكن المرشحون شرفاءَ والناخبون أيضًا شرفاء، لكان عالمُ السياسة في نيويورك لعبةً غير مضمونة إلى حدٍّ كبير. كما تعرفين، ما يُسمى بالعنصر المحترم في كلِّ الحزبَين هو أمَلُنا الوحيد. إن كلًّا منهما يثق في حزبه، ويرى أن أتباعه أفضلُ من أتباع الآخر؛ لذا، كل ما يجب فعلُه هو ترشيحُ شخصٍ أمين لتمثيل كل حزب، ثم سيُقسم هذا ما يُسمُّونه بالانتخاب النزيه، ونحن السياسيِّين الحقيقيِّين نحصل على رَجُلِنا من بين الاثنين. هذا هو ما يحدث في عالم السياسة في نيويورك. والآن، السيناتور سموليت هدَّد بألا يضعَ رَجُلًا شريفًا في قائمة مرشَّحي حزبه، وكان هذا سيقلب علينا بالكامل الانتخابَ النزيه للحزبين؛ لذا كان علينا أن نعقد صفقةً معه، ونُضيفَ إليها مسألة انتخابات الرئاسة القادمة. إن كرابر ليس طماعًا؛ إنه يعرف متى يكون لديه الكثير، ونيويورك كافية بالنسبة إليه. وهو لا يهتمُّ بمن سيحصل على مقعد الرئاسة.»

«وهذا الاجتماع قد عُقد؟»

«هذا صحيح. لقد تم في هذا الفندق.»

«لقد عُقِدت الصفقة، على ما أظن؟»

«نعم. وقُسِمت الغنيمة.»

«ألم تحصل على قطعة منها؟»

«أوه، معذرةً، لقد فعلت!»

«إذن، لماذا جئتَ إليَّ وأخبرتني بكل هذا؛ إن كان هذا صحيحًا؟»

ظهر استياءٌ مستحقٌّ على وجه فليمنج.

««إن» كان هذا صحيحًا؟ بالطبع، إنه صحيح. لماذا جئتُ إليكِ؟ لأنني أريد أن أصبح صديقًا لكِ؛ هذا هو السبب.»

نظرَت جيني إليه بتأمُّلٍ لبضع لحظات، وهي تقضم طرَف قلمها، ثم هزت رأسها ببطء.

«إن استطعتَ أن تجعلني أُصدِّق هذا، يا سيد فليمنج، فلن أنشر كلمة. لا، لا بد أن يكون لديَّ دافعٌ مناسب؛ لأنني لن أنشر أي شيء لا أعتقد أنه صحيحٌ مائةً بالمائة.»

«أؤكد لكِ، يا جيني …»

«انتظر دقيقة. إنك تقول إنك قد وُعِدت بنصيبك في الصفقة الجديدة، لكنه ليس بالنصيب الكبير الذي لديك الآن. من المنطقيِّ أن اقتسام كرابر الغنيمةَ مع أوغاد سموليت سيؤدي إلى حصول كلٍّ من أوغاد كرابر على جزءٍ أصغرَ منها. وكلما زاد عدد اللصوص، قلَّ نصيبهم من الغنيمة. إنك لم تدرك هذا عندما غادرتَ نيويورك، ولذلك، كنت تخاف من أن يُعلَن أمرُ سفرك. ولقد أدركتَ هذا الأمر الآن، وأنت تريد أن يُنشَر مقالٌ مثير، حتى يُضطَرَّ السيناتور سموليت إلى إنكار الأمر أو إثارة المزيد من الشكوك في نفوس الرجال الشرفاء في حزبه. وفي كلتا الحالتين، نشرُ الأمر سيُؤدي إلى إلغاء بنود الصفقة، وستحتفظ بنصيبك الحالي. وحيث إنك لا تعرف أيًّا من مُمثِّلي صحف نيويورك الدائمين في لندن، فلا يمكن أن تثقَ في ألَّا يَشُوا بك، ولذلك، جئتَ إليَّ. والآن، بعد أن تبيَّن الدافعُ الأنانيُّ بشدةٍ لفعلك، أنا على استعدادٍ لتصديقك.»

ظهر بعضُ الارتباك في البداية على وجه السياسي، لكنَّ هذا أفسحَ الطريق لنظرةٍ تَشِي بالإعجاب غيرِ المخفي بينما كانت الفتاة تتكلم.

ثم قال، ضاربًا بقبضة يده على الطاولة عندما انتهت من كلامها: «يا إلهي، يا جيني! إنكِ خَسارةٌ في مجال الصِّحافة؛ حريٌّ بكِ أن تكوني سياسيَّة. لو تزوَّجتِني، يا فتاة، فسأصبح يومًا رئيسَ الولايات المتحدة.»

قالت جيني، دون أن تشعر بالإحراج على الإطلاق من عرضه المهذَّب، رغم كونه مثيرًا: «أوه لا، إنك لن تُصبح كذلك.» وأضافَت: «لن يصبح أبدًا سياسيٌّ نيويوركيٌّ فاسدٌ رئيسًا للولايات المتحدة. سيكون عليك التعاملُ مع الناس الصالحين الذين يُمثلون الغالبية العظمى هناك، وأنا ديمقراطيةٌ بالقدر الكافي بحيث أومِنُ بهم عندما يتعلق الأمرُ بالمسائل الكبيرة، مهما حاولتَ أن تُهمِّشَهم؛ فإنك لن تستطيع خداعَ كلِّ الناس طَوال الوقت، يا سيد فليمنج، كما قال أحد السياسيِّين الكبار ذات مرة. إن الناس سيستفيقون من آنٍ لآخر ويُحطمونك.»

ضحك فليمنج بصخب.

وقال: «هذا هو الوضع.» ثم أضاف: «إن هذا يحدث من آنٍ لآخَر. لو فعَلوا هذا كلَّ عام، لكان عليَّ تركُ السياسة. لكن هل ستُرسلين تفاصيلَ هذا الاجتماع لصحيفة «آرجوس» دون أن تكشفي عن هُويتي؟»

«نعم، أنا أُدرك أهمية الموضوع. والآن، أريد منك أن تُعطيَني كلَّ التفاصيل؛ رقم الغرفة التي التقَوا فيها، وميعاد الاجتماع بالتحديد وكل هذا. إن ما يُهمني في أي تقرير عن اجتماعٍ سريٍّ هو معرفةُ كلِّ التفاصيل الصغيرة، بحيث يعرف كلُّ مَن حضَروه أن ما أكتبُه ليس من قَبيل التخمين. وهذا دائمًا ما يُقوِّض أيَّ محاولات مستقبلية للإنكار. سأذكر اسمك …»

«يا إلهي، لا تفعلي ذلك!»

«يجب أن أذكر أنك كنتَ حاضرًا.»

«لماذا؟»

«لماذا؟ يا إلهي! لا يمكن أن تكون غبيًّا بشدةٍ بحيث لا ترى أنه، في حالة عدم ذكرِ اسمك، ستحوم الشكوكُ على الفور حولَك باعتبارِك مَن قام بإفشاء سرِّ الاجتماع، أليس كذلك؟»

«بلى، أعتقد أنَّ هذا صحيح.»

«وهذا الرجل هو حاكمُ إحدى كبرى المدن في العالم! استمِرَّ في سرد التفاصيل، يا سيد فليمنج؛ مَن أيضًا كان حاضرًا في الاجتماع بخلافك أنت وكرابر وسموليت؟»

كان المقال — الذي شغَل عمودين ونصف العمود — بمنزلة قنبلة تفجَّرَت في عالم السياسة في نيويورك في الصباح الذي ظهَر فيه في صحيفة «آرجوس». لقد أرسل السيناتور سموليت برقيةً من باريس قال فيها إن كل ما جاء بالمقال كذب، وإنه لم يكن بلندن في اليوم المشار إليه، وإنه لم يرَ قطُّ كرابر هناك أو في أي مكان. وأرسل كرابر برقيةً من كارلزباد قال فيها إنه كان مريضًا، وإنه لم يُغادر السرير منذ شهر. وأضاف أنه سيُقاضي الصحيفة بتهمة التشهير، وهو الأمر، بالمناسبة، الذي لم يَقُم به قط. ولقد أسرع الصحفيُّون للقاء فليمنج عندما وصلَت سفينتُه لأرض الوطن، لكنه بالطبع أعلن أنه لا يعلم شيئًا عن الأمر؛ فقد سافر عبرَ المحيط في مهمةٍ خاصة لا علاقة لها بالسياسة. إنه لم يكن يعرف شيئًا عن مكان كرابر، لكنه كان يعرف شيئًا واحدًا، وهو أن كرابر كان رجلًا أمينًا ومحترمًا جدًّا بحيث لا يمكن أن يتعاملَ مع العدو.

بغضِّ النظر عن كل حالات الإنكار هذه، فقد كان المقال يحمل في طياته أماراتِ الصدق، وقد صدَّق الجميعُ ما جاء به، رغم تظاهُرِ الكثيرين بخلافِ ذلك. إن تقسيم الغنائم أثار بشدةٍ ذُعرَ واستياءَ أتباع كرابر، وذهب وفدٌ منهم للقاءِ الرجل العجوز.

ومن جهةٍ أخرى، أوضحت صحيفة «آرجوس»، بأسلوبٍ بليغ، أنها تقفُ إلى جانب مصالح الناس، وأنها لا تخشى شيئًا عندما يتعلَّق الأمر بقضايا الشعب. وتحدَّت الجميعَ أن يرفعوا ضدَّها قضايا تشهير إن أرادوا؛ فقد كانت على استعدادٍ للنضال من أجل حقوق الشعب. وقد زاد معدَّلُ توزيعها أكثرَ فأكثر، وقد عملت طابعاتها الدوارةُ العديدةُ بكامل طاقتها لسدِّ الطلب على الصحيفة. وهكذا يُكافَأ مَن يقوم بعمل جيدٍ بحق.

إن الصحيفة الكبيرة تكون كريمةً ببذخ، شأنها شأن الحاكم المستبد، مع مَن يُؤدي لها خدماتٍ جليلة، والشيك الذي صرَفَته جيني عندما صاحَبَتها الليدي ويلو إلى حي السيتي ملأ حقيبةَ اليد الخاصة بها عن آخرِها بأوراق البنكنوت، وهو الأمر الذي لم تشهده صاحبتُها قط.

وبعد قضاء بضعة أسابيع مع الليدي ويلو، بدا أن جيني قد سئمت من تفاهاتِ الاختلاط مع الناس، وحتى من الرفقة الرزينة للسيدة الطيبة التي تعيش معها. وقد أعلنت أنها ستذهب إلى باريس لمدة أسبوعٍ أو اثنين، لكن، نظرًا إلى عدم التأكُّد من العنوان، فإن رسائلها ما كانت ستُرسَل. لقد أخذت معها فقط حقيبةَ سفرٍ صغيرة، وتركت بقية حقائبها مع الليدي ويلو التي جعلَها هذا يَحْدوها الأملُ في سرعة عودة ضيفتها التي تدفع لها.

استقلَّت جيني عربةَ أجرة تجرها الخيول إلى تشارينج كروس، لكن بدلًا من أن ترحل في قطارِ باريس السريع، أشارت إلى عربة أجرة مغلَقة ذاتِ أربع عجلات، وبعد أن أعطت سائقها عنوانًا في منطقة وست إند، دخلت إليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤