الفصل الثاني

النضال من أجل مصر

وإن شئت قلت إن الناس لا نعلَم من ديوان الأسقف المصري أنه قد كان ثَمة بعض قتال في إقليم البنطابوليس نفسه؛ فقد جمع هرقل هناك جيشًا من ثلاثة آلاف جندي مُنفقًا في سبيل ذلك أموالًا عظيمة، واجتمع لديه فوق ذلك جيش ممَّا يسمِّيه ذلك المؤرِّخ «الهمج»، وكانوا بلا شك من البربر، وقد جعل هؤلاء تحت قيادة «بوناكيس»، وهو تحريف في اللغة الأثيوبية لاسمٍ يوناني؛ فانتصر بفضل هذا الجيش نصرًا لم يُكلِّفه كبيرَ عناء على قُواد الدولة، وهم «مارديوس» و«إكليزياريوس» و«إيزيدور»، واستطاع بوقعةٍ واحدةٍ أن يقضي على قوة فوكاس في ذلك الجزء من أفريقيا، وفي الوقت نفسه أرسل «كيسيل» حاكم طرابلس كتيبةً لعلها ذهبت إلى جنوب بنطابوليس. وعلى كل حال فإن نيقتاس بدأ السير عند ذلك نحو الإسكندرية مساحلًا، ثم لحِقَ به في بعض المواضع «كيسيل» و«بوناكيس»، ولم يكن ثمةَ ريب في أنه سينزل على الرحب في كل مكان حتى يبلغ أكناف القُطر المصري؛ ذلك بأن «ليونتيوس» حاكم مريوط — وهو الإقليم المصري في غرب الإسكندرية — كان قد استماله القوم، فوعدهم بجندٍ كثير.

ويظنُّ الناس أن مِثل هذا السير إذا حدث اليوم حدث في صحراء مُجدِبة لا يكاد الماء يوجد بها، ولكن قامت أدلةٌ كثيرة على أنه قد كان في القرن السابع في ذلك الإقليم كثير من المدن العامرة، وبساتين من النخيل، وأرضٌ واسعة ذات خصوبة، وهو إقليم لا يُعرَف فيه الآن، وإن شئت قلت إن الناس لا يتصوَّرون منه إلا أنه فيافٍ من صخور ومن رمالٍ مُحرقة. وهذا الأمر له خطر وشأنٌ كبير عند الرُّواد، وعند من يهمُّهم الدرس والعلم؛ ولهذا نستميح القارئ عذرًا إذا نحن قلنا فيه كلماتٍ قليلة.

ذكر بطليموس أن إقليم «قيرين» ينتهي عند الجانب الشرقي لمدينة «دارنيس»، ومن ثَم يبدأ إقليم «مرمريكا»، ومنذ قلنا إن «نيقتاس» قد سار إلى الشرق فإنه لا بد قد مر ببلادٍ كثيرة، منها مدينة «أكسيلس» و«بالوفيوس» و«بطراقس» و«أنتيبرجوس» ورأس «قطينيوم»، وكل هذه كانت في إقليم «مارماريكا». وكان أول إقليم «لوبيا» عند مدينة «بانورموس»، وكانت به مدائن كثيرة منها «قطابتموس» و«سيلنوس» و«بريطونيوم»،١ وهي «أمونيا» بحسب تسمية «سترابو» لها. وكانت «بريطونيوم» قصبة الإقليم، وفيها مَقر الحاكم، ويلوح أن ذلك الاسم ما زال باقيًا في الاسم العربي «البرطون». وكان ما يلي ذلك من الشرق في الإقليم ذاته مدينة «هرميا»، ويليها «لوكاسبيس»، وكان أول إقليم «مريوط» في منتصف المسافة بين «لوكابيس» و«كيموفيكوس»، وكانت أكبر مدائن هذا الإقليم مدينة «بلينطين» في «تينيا»، ومدينة «تابوسيريس الكبرى»، وحصن «الكرسونيسوس»، ومدينة «مارية»، وهي مريوط.

وترِد في كتب «بطليموس» و«سترابو» أسماء مدائن أخرى. ومن المحقَّق أن إقليم مصر في القرن الأول كان ينتهي حيث يبدأ إقليم «قيرين»، وأنه لم يكن يفصل بين الإقليمين مَفازة من أرض لا يمكن السير فيها. وقد طرأ على إقليم «لوبيا» فيما بعدُ شيء من الفساد والخراب حتى أتى القرن السادس، فأصبح «جستنيان» يُعوض الحاكم عن فقر إقليمه بأن ضم إقليم «مريوط» إلى حكمه. على أن الطريق بين بنطابوليس والإسكندرية بقي مع ذلك محفوظًا، مراحله محَّددة، وليس به من قطوع تُذكَر، ولا من عائق يعُوق السير به، بل وما زال الطريق متصلًا قائمًا إلى اليوم الذي نصِفه في هذا الكتاب. وهذا أمرٌ ثابت قام عليه الدليل القاطع؛ ذلك لأنَّا نعلَم أن الجيش الفارسي سار في أوائل القرن السابع بعد فتح مصر ليفتح بنطابوليس وكان سيره في البر، ثم عاد بعد أن فاز فوزًا مُبِينًا في غزوته تلك. ويقول «جبون» إن تلك الغزوة قضت قضاءً تامًّا على المحلات اليونانية في مدينة «قيرين»، ولنذكر أن ذلك لم يكن إلا بعد سنواتٍ تسع من غزوة «نيقتاس»، ولكن «جبون» قد أخطأ الصواب كل الخطأ؛ إذ زعم أن جيوش «كسرى» جرَّت على ذلك الإقليم ذيل الخراب والعفاء؛ فالحقُّ أن تلك الجيوش أحدثت بالإقليم ضررًا عظيمًا، ولكنه لم يكن تخريبًا قضى عليه، ولا تدميرًا لا قيام بعده، بل إن الأمر كان على خلاف ذلك؛ فإن عمرو بن العاص العربي عندما فتح الإسكندرية بعد نحو ثلاثين سنة من ذلك الحادث اتَّجه نظره بالطبع إلى إقليم بنطابوليس، وسار نحوه فاتحًا «برقة» و«قيرين»، وليس في وصف تلك الفتوح ما يدل على أن ذلك المَسير كان عملًا حربيًّا خطيرًا، ولا أن العرب تغلَّبوا فيه على صِعابٍ طبيعية.

إنه ليس شيءٌ أبعد عن الحق من أن يقول قائلٌ إن الطريق إلى غرب مصر كان يشقُّ فيافي قاحلة؛ فلدينا من الأدلة ما يذكُر صريحًا أن كل أرض الساحل الواقعة إلى غرب مصر بقيت آهلةً يزكو بها الزرع حتى مضت قرونٌ ثلاثة بعد الفتح العربي. ويذكُر المؤرِّخ العربي «المقريزي» أن مدينة «لوبيا» قاعدة لإقليمٍ يقع بين الإسكندرية و«مراقية». وذِكره لهذين الاسمين على هذه الصورة يدل على أن الاسمين القديمين «لوبيا» و«مرمريقا» قد بقيا في اللغة العربية لم يكَد يعتريهما تغيير. وقال المقريزي في موضعٍ آخر إن إقليم بنطابوليس يبدأ بعد مدينتَي «لوبية» و«مراقية». وجاء في كتابَي «القضاعي» و«المسعودي» ما يتَّفق مع هذا الدليل. وكان في إقليم «لوبيا» أربع وعشرون مدينة ما عدا القرى الصغيرة. وقال المقريزي في وصف «مراقية» نقلًا عن ترجمة «كاترمير»:٢
«مدينة مراقية كورةٌ من كُوَر مصر، وهي آخر حد أراضي مصر، وفي آخر أرض مراقية تلقى أرض أنطابلس (بنطابوليس)، وهي برقة، وبُعدها عن مدينة سنترية نحو من بريدين (وقدر ذلك أربعة وعشرون ميلًا)، وكانت قُطرًا كبيرًا به نخلٌ كثير ومَزارع، وبه عيونٌ جارية، وبها إلى اليوم بقية، وثمرها جيد إلى الغاية، وزرعها إذا بُذِر يُنبت من الحبة الواحدة من القمح مائة سنبلة، وأقل ما تُنبت تسعون سنبلة، وكذلك الأرز بها جيدٌ زاكٍ، وبها إلى اليوم بساتين متعددة. وكانت مراقية في القديم من الزمان يسكنها البربر الذين نفاهم داود — عليه السلام — من أرض فلسطين، فنزلها منهم خلائق، ومنها تفرَّقت البربر؛ فنزلت زناتة ومغلية وصريسة الجبال، ونزلت لواتة أرض برقة … إلخ. فلما كان في شوال سنة أربع وثلاثمائة من سِنِي الهجرة المحمَّدية (٩١٦ ميلادية)، جلا أهل لوبيا ومراقية إلى الإسكندرية خوفًا من صاحب برقة، ولم تزَل في اختلال إلى أن تلاشت في زمننا، وبها بعد ذلك بقيةٌ جيدة.»٣

والكلمات الأخيرة، كما هو ظاهر، تقصد المدينة وليس الإقليم، وهي ذات دلالة كبرى؛ لأنها تصف ما بقي من آثار المدينة حتى سنة ١٤٠٠ للميلاد. وإنا لذاكرون هنا أمرًا على سبيل الاستطراف، وذلك أن خرائط الملاحة لأهل البندقية كانت فيها حوالَي سنة ١٥٠٠ سلسلةٌ غير منقطعة من الأسماء على هذا الجزء من ساحل البحر الأبيض المتوسط، ولكن المقريزي يحدِّثنا حديثًا آخر عن مريوط، فيقول إنها كانت قديمًا تزدحم بها البيوت والحدائق، وكانت أرض الإقليم كله حدائق منثورة إلى حدود برقة غربًا. وكانت مريوط في أيامه مدينةً تابعة لإقليم الإسكندرية، وإليها كانت تُرسل ما تُثمره حدائقها من الفاكهة الكثيرة. ويقول «شمبوليون» إنها كانت عاصمة لمصر السفلى في أيام الإمبراطورية المصرية القديمة، ثم اضمحلَّ أمرها شيئًا فشيئًا. وكانت في أيام «فرجيل» و«سترابو»، كما يشهدان بذلك، معروفة بجودة خمرها على الأقل، وتقع أطلالها اليوم على اثنَي عشر ميلًا إلى غرب الإسكندرية، ولكنها لا تكاد تكون معروفة لأحد. على أن الأرض التي تحت الرمال من الغرين، وهذا يُعزز ما كان يُعرَف عنها قديمًا من الخِصب.

فمن الجليِّ إذن أنه قد كانت قبل فتح العرب لمصر سلسلةٌ متصلة من المَدائن، وأرضٌ فسيحة من مَزارع أولها عند الإسكندرية إلى أن تبلغ «قيرين»؛ وأن مسير «نيقتاس» بجيشه هناك لم يكن به من الشدة ما يستوجب مهارةً كبرى في القيادة، ولا جلَدًا عظيمًا على تحمُّل المَشاق. وأغلب الظن أن ما يُوصف به الطريق في الوقت الحاضر من الوعورة فيه كثير من المبالغة؛ فإن الحُجاج المسلمين يسلكون ذلك الطريق من مراكش وتونس وطرابلس سائرين على أقدامهم بقرب الساحل. وتكثُر آثار الإغريق والرومان في تلك البلاد، ولكن أهلها اليوم من أشد الناس تعصبًا؛ فالبدوي المُتنقل هناك يمنع تلك الأرض أن تطأها قدم الباحث المُتنقل؛ ولهذا بقيت يجهلها التاريخ وعلم الآثار القديمة أكثر مما يجهل البقاع القاصية في قلب الصحراء، مع أن سواحلها يحفُّ بها البحر الأبيض المتوسط، وتكاد تكون على مدى البصر من بلاد إيطاليا واليونان. وهذا بالطبع راجع إلى سببين معًا؛ إلى حكم التُّرك، وإلى شدة البدوي في عقيدته. وهما سببان اجتمعا فكانا كافيَين لأن يجعلا التنقل هناك مُتعذرًا يكاد يكون مستحيلًا؛٤ فلو أُتيحَ لتلك البلاد أن تكون يومًا تحت حكم دولة مُتمدينة لأصبحت ميدانًا فسيحًا للبحث والتنقيب، وقد يكون من الممكن أن تسترجع شيئًا من خِصبها القديم ورخائها الماضي إذا ما أقيمت بها الأعمال الهندسية المُلائمة لها.

وبعد، فإنا قد خرجنا عما كنَّا بصدده من القول، وطال بنا القول في سواه، على أن ذلك يُساعدنا على أن نُدرك حقيقة سير «نيقتاس» بجيشه في تلك الأراضي، ومنه نستطيع أن نعرف أنه لم يلقَ في طريقه إلا قليلًا من المَشاق، على أنه لا شك قضى في سيره زمنًا طويلًا، وكانت المؤامرات أثناء هذا يتلو بعضها بعضًا بين أحزاب يكيد بعضها لبعض في عاصمة القُطر المصري؛ فقد اشترك رجلان في مؤامرة ليقتلا «فوكاس» ويجعلا التاج بعده لهرقل، وكان أحد هذين الرجلين «تيودور» بن «ميناس» الذي كان حاكم الإسكندرية تحت حكم الإمبراطور «موريق»، وكان الثاني «تنكرا»، ويظن زوتنبرج خطأً أنه قد يكون «كريسبوس»، وكان بطريق الإسكندرية الملكاني الذي أقامه «فوكاس» لا علم له بهذه المؤامرة، ولكن «حنا» حاكم الإقليم وقائد الحامية، ورجلًا آخر اسمه «تيودور» كان مُراقب الأموال العامة، نقلا إلى البطريق نبأها، ثم اشتركوا ثلاثتهم في إرسال خطاب يُنذرون به «فوكاس» بالخطر.

وكان الإمبراطور يعرف حق العلم ما كان عليه المصريون من تقلُّب الأحوال وقلة الثبات؛٥ ولهذا كان يريد أن يستميلهم؛ فأرسل إليهم منذ حين عددًا كبيرًا من الأُسود والفهود لتُعرَض على الناس، ثم أرسل مع ذلك عددًا من القيود وآلات التعذيب تصحبها خِلعٌ سنيَّة وأموال لكي تُوزَّع على أصحابه وأعدائه لكلٍّ ما يستحقه؛ فلما جاءه كتاب البطريق تظاهر بأنه لا يعبأ بما كان يتهدَّده من خطر، ولكنه لم يتردد في عزمه، ولم يهُن في عمله؛ فقد كان عالمًا بالحاجة الشديدة لأن تبقى مصر في يده مهما تكلَّف في سبيل ذلك؛ فدعا حاكم «بيزنطة»، واستوثق منه بيمينٍ مُحرجة على أن يبقى على ولائه، ثم أرسله مع إمدادٍ عظيم إلى الإسكندرية، وإلى المصالح الكبرى مثل «منوف» و«أثريب» في مصر السفلى، وأرسل في الوقت عينه أوامر مُستعجلة إلى «بنوسوس» في سوريا يدعوه أن يأتي بكل ما يستطيع حشده من الجنود إلى مصر؛ لأن «بنوسوس» كان عند ذلك في «أنطاكية»، وقد أُرسلَ إليها ولُقِّب «أمير الشرق» لكي يقضي على ثورة لليهود إذ وثبوا على المسيحيين، وكانت ثورتهم أقرب إلى أن تكون دينية من أن تكون سياسية، على أننا لا نستطيع في أكثر الأحوال أن نميز بين خيوط الدين وخيوط السياسة في نسيج حوادث ذلك العصر. وقد قام «بنوسوس» بعمله ذلك قيامًا لك أن تصفه بما شئت، فإما قلت خير قيام وإما قلت شره؛ فقد أنفذ عمله بأن قتل الناس جملة بين من شُنق أو أُغرق أو أُحرق، وبين من عُذب أو رُمي للوحوش الكاشرة، واستحق بذلك أن يقترن اسمه باللعن والخوف. وفي الحق أنه كان رجلًا ممن يُثلج قلب «فوكاس» ويُقرَّ عينه، كان «ضبعًا مُفترسًا» يعرِّس في القتل؛ فلما أن جاءته رسالة «فوكاس» تلقَّاها بقلبٍ مِلؤه السرور.

كان «نيقتاس» في هذه الأثناء يقترب من الإسكندرية من الجانب الغربي، وسلَّمت له مدينة «كبسين» — وربما كانت هي حصن «كرسونيسوس» — فأعتق حاميتها، وأخرج من كان في السجون من الحزب الثائر، ثم استمر بهم في سيره، وأرسل دعاةً يسبقونه داعين إلى الثورة فيما حول «تُرعة الثعبان» — وسُميت بذلك لتعرُّج سيرها — وكانت على مسافةٍ قريبة من المدينة، ولكنه رأى أن الجيوش الإمبراطورية راصدة له تسدُّ عليه الطريق، وكانت مَنيعة في العدد والعُدة، فدعا «نيقتاس» قائدها أن يسلِّم قائلًا: «تنحَّ عن طريقنا، ثم اصبر على حيادك حتى تضع الحرب أوزارها؛ فإن كانت الدائرة علينا لم يضرك ذلك، وإذا كانت الدبرة لنا فإنَّا جاعلوك حاكم مصر، ولكن على كل حال قد انتهى حكم فوكاس.» فأجابه القائد جوابًا قصيرًا إذ قال: «سنُقاتلكم حتى نُقتَل في سبيل فوكاس.» ثم ابتدأت الواقعة. وأكبر الظن أن ذلك القائد هو الذي أقسم أن يحمي الإمبراطور، وكان أصدق في حربه من سائر جنوده، وأثبت جَنانًا، فانتصر «نيقتاس» نصرًا مُبينًا، وقتل القائد الإمبراطوري، وجعل رأسه على سنان رمح ورُفع مع الأعلام المُنتصرة، ودخل الجيش الظافر من «باب القمر» إلى المدينة فلم يلقَ فيها بعد ذلك كيدًا. وهرب «حنا» حاكم البلد و«تيودور» مُراقب الأموال العامة، فاحتميا بكنيسة «القديس تيودور» في الجانب الشرقي من المدينة، في حين هرب البطريق الملكاني إلى كنيسة «القديس أثناسيوس»، وكانت على مقربة من شاطئ البحر. ولا يذكُر لنا «حنا» أسقف «نقيوس» شيئًا عمَّا آل إليه أمر البطريق، ولكنَّا نعرف من غيره من الرواة أنه هلك.

اجتمع القسوس والعامة عند ذلك، وأجمعوا رأيهم على مَقْت «بنوسوس» ومن كان معه من الوحوش المُفترسة، ورحَّبوا جميعًا بقائد «هرقل»، ثم رفعوا رأس القائد المقتول على باب المدينة، ووضعوا أيديَهم على قصر الحاكم وأبنية الحكومة، كما استولَوا على خزائن القمح والأموال العامة، ثم أخذوا كنوز «فوكاس»، وملكوا جزيرة «فاروس» وحصنها وكل ما هنالك من السفن. ولم يكن العمل الأخير بأقل أعمالهم خطرًا؛ فإن جزيرة «فاروس» — كما قال «قيصر» من قبل ذلك بزمنٍ طويل حين رآها وعرف خطرها — كانت مِفتاحًا من مفتاحَي مصر، وكانت «الفرما» هي المفتاح الآخر. ولما ملَك «نيقتاس» عاصمة القُطر أرسل «بوناكيس» لينشر علَم الثورة في مصر السفلى. وقد كان عمله هينًا؛ فإن المصريين في كل مكان كانوا يكرهون حكم «بيزنطة». فدخلت المَدائن واحدة بعد أخرى تحت لواء جيش الخلاص، وفتحت «نقيوس» أبوابها وفيها مطرانها «تيودور»، وقام حزب الثورة في «منوف» فنهب دار الحاكم «أرستوماكوس»، ودُور من كان هناك من كبار الرومانيين، وأصبح جُل المَدائن وجل حكام الأقاليم مع أعداء «فوكاس»، ثم عاد «بوناكيس» إلى العاصمة بعد حملة موفَّقة منصورة. «سبنيتس» أو سمنود؛ إذ ثبت «بول» عمدة المدينة إلى جنب لوائه، وكان صديقه «كسماس» مريضًا أقعده الشلل، ولكنه كان يتَّقد شجاعة وأنَفة، فكان يُحمَل في المدينة ليبثَّ حماسته في قلوب الحامية. وكذلك كان الحال في «أثريب»؛٦ إذ رفض الحاكم «مرقيان» أن يدخل في زمرة الثائرين، وكان صديقًا آخر من أصدقاء «بول»؛ فكأن الحرب كانت لا تزال جذعة.

وكان «بنوسوس» قد بلغ في سيره مدينة قيصرية عندما أتاه نبأ سقوط الإسكندرية، فحفزه ذلك النبأ إلى أن يكون عمله أشد قسوة، ثم وضع جنوده في السفن من ذلك الثغر واتَّجه نحو الجنوب مُسرعًا؛ وهناك إما أن يكون قد أنزل فُرسانه على حدود مصر، وإما أن تكون فصيلة من الفُرسان لقيته آتية من فلسطين. وكانت خطته أن يذهب إلى «أثريب» ليمنع سقوطها في يد عدوه؛ فقسَّم أسطوله إلى قسمين لكي يصل إلى تحقيق غرضه؛ فأما أحدهما فإنه سار في الفرع الأكبر الشرقي للنيل، وأما الثاني فقد سار في الفرع «البلوزي»، وجاءت الفُرسان مُعقبة في أثره من البر. وكان في أثريب عدا الحاكم «مرقيان» سيدةٌ ذات بأس اسمُها «كرستدورا»، وكانت تنصر جانب الإمبراطور يدفعها دافع انتقام شخصي، وجاء إليها «بول» و«كسماس» من منوف ليشتركوا جميعًا في الرأي، ويدبِّروا أمر الحرب. وقد أرسل مطران «نقيوس» ومُراقب الأموال «ميناس» يطلبان إلى «مرقيان» و«كرستدورا» أن يرميا تماثيل «فوكاس» ويُذعنا لأمر هرقل، وكان ذلك عندما سمعا بقدوم «بنوسوس»، وبلوغه البرزخ الشرقي مع جنوده، ثم جاءت الأنباء بعد ذلك أنه أخذ مدينة «الفرما». وكان من قُواد هرقل في جيش عند «أثريب» اثنان، وهما «بلاتو» و«تيودور» — والحق أنه يُخيَّل إلينا أن لا نهاية لعدد الأشخاص الذين اسمهم «تيودور» — فكانا يرقبان زحف «بنوسوس» فزِعين خائفين، وأرسلا إلى «بوناكس» على عجل رسالةً يطلبان فيها المعونة؛ فما أبطأ «بوناكس» في أن يسير على الفرع الغربي للنيل (الفرع البولبيتي) حتى بلغ «نقيوس»، وهناك علِم أن «بنوسوس» وصل إلى «أثريب». وترك «بنوسوس» تلك المدينة وراءه، وسار على الترعة التي تخرج من النهر ذاهبةً إلى الغرب نحو منوف، وسار معه «مرقيان» و«كسماس» والمرأة التي لا يُفَل حدها، ولا تكل هِمَّتها «كرستدورا».

سار «بول» عندئذٍ بمن معه ليلحق بجيش «بنوسوس»، وما كاد الجيشان الإمبراطوريان يجتمعان حتى جاء «بوناكس» وحل تجاههم، واستحر بعد ذلك القتال واستعر، وكان فيه القضاء؛ فإن جيوش الثُّوار لم يبقَ منها فل، بل هُزمت هزيمةً تامة، فقُذف بجزء منها في الترعة، وقُتل منها من قُتل، وأُسِر من أُسِر، ووُضعوا في القيود، وأُخذ «بوناكس» نفسه أسيرًا ثم قُتل صبرًا. ولقي قائدٌ آخر اسمُه «ليونتيوس» عين ما لقيه «بوناكس». وأما «بلاتو» و«تيودور» فقد استطاعا الهرب، واعتصما بديرٍ قريب من المكان. ولم يكن في «نقيوس» قوة على مقاومة جيش «بنوسوس» المُنتصر مع أنها كانت ذات حصون؛ وعلى ذلك خرج المطران «تيودور» ومُراقب الأموال «ميناس» ومعهما الإنجيل والصُّلبان في موكبٍ مَهيب، سائرين إلى القائد المنتصر، نازلين على حكمه، راجين عفوه. وكان خيرًا لهما أن يُلقيا بأنفسهما من أعلى أسوار مدينتهما؛ فقد أُودعَ «ميناس» السجن، وغُرِّم ٣٠٠٠ قطعة من الذهب، ثم أُذيقَ العذاب بأن جُلِد جلدًا طويلًا، ثم أُطلقَ سراحه، فلم يبقَ إلا قليلًا ومات من الجهد. وأما «تيودور» فقد أخذه «بنوسوس» معه إلى «نقيوس» وقد دخلها عندئذٍ بجيشه، فرأى عند باب المدينة تماثيل فوكاس وهي محطَّمة على الأرض، وقد شهد «مرقيان» و«كرستدورا» أن ذلك إنما من فعل المطران «تيودور»، فأمر بأن تُضرَب عنق ذلك المسكين. وأعقب ذلك قتل القائدين «بلاتو» و«تيودور»، وثلاثة من أعيان منوف، وهم «إيسيدور» و«حنا» و«جوليان»، وكانوا جميعًا قد هربوا، فالْتَجأوا إلى دير، فأسلمهم رهبانه خاضعين. وأما عامة الأسرى فقد نفى «بنوسوس» منهم من كانوا في خدمة الإمبراطور «موريق»، وقتل سائرهم ممن كانوا قد دخلوا الجيش وحملوا السلاح تحت لواء «فوكاس».

ارتدَّت موجة النصر عند ذلك، وأوشكت أن تذهب إلى جانب الإمبراطور الحاكم، وصار «بنوسوس» بمثابة سيد مصر السفلى، وأسرعت جيوش الثوار من كل صوب نحو الإسكندرية تسلك الترع الكثيرة التي تخترق أرض تلك الجهات؛ وذلك لأنهم كانوا يخشَون الحرب، ولا يأمنون أن يسلِّموا، وكان من أسهل الأمور على «بنوسوس» أن يسير من «نقيوس» في الفرع الغربي من النيل ثم يسير في الترعة المؤدية إلى الإسكندرية.

كان «نيقتاس» على استعدادٍ كامل للقاء عدوه، وقد حشد في المدينة جيشًا كبيرًا، بعضهم من جندٍ منظَّمة، وبعضهم من أحابيش، فيهم البحري والمدني، يُعزِّزهم الحزب الأخضر٧ في المدينة، وكانت دُور الصناعة دائبة على عمل السلاح والحديد، ووُضعت الجنود على الأسوار ومعهم آلات الدفاع القوية، ويلوح أن «بنوسوس» أرسل «بول» لكي يأتي المدينة من الجنوب بأسطول من السفن. ولعل ذلك كان عند الموضع الذي تدخل فيه الترعة إلى المدينة من بابين عظيمين من الحجر، بناهما «طاطيان»، وحصَّنهما في أيام الإمبراطور «فالنس»، ولكن لما جاء أسطول «بول» حتى صار على مدى الرمي من آلات الدفاع بالمدينة، قُذفت عليه الحجارة الضخمة قذفًا مريعًا، فوقعت بين السفن تحطم منها، فلم يستطع «بول» أن يقترب من الأسوار، وأمر سفنه بالرجوع خوف أن تغرق أو تتحطم؛ فانظر ما بلغته مجانيق الإسكندرية من القوة في ذلك الوقت.
١  كان من مدينة «بريطونيوم» أول سير الإسكندر الأكبر ضاربًا في الصحراء في رحلته المعروفة إلى معبد «آمون».
٢  آثَرْنا أن ننقل الأصل من المقريزي ولو أن به شيئًا من الزيادة عن الأصل الإنجليزي المترجَم عن ترجمة «كاترمير»؛ فإن المقصود هو الاستشهاد بالمعنى الذي في الأصل العربي. والنص في صفحة ٢٩٥-٢٩٦، الجزء الأول، طبعة النيل بمصر سنة ١٣٢٤ﻫ. (المعرِّب)
٣  انظر Mem. Geog. et Hist، الباب الأول، صفحة ٣٧٤-٥.
٤  لم نُحاول أن نُقلل من شدة لهجة المؤلف هنا حرصًا على أمانة النقل، وأنه يسرُّنا أن لهجته في كل كتابته لا تخرج عن الاعتدال العلمي إلا في مواضع معدودة لا تكاد تُذكَر. (المعرِّب)
٥  يقصد الكاتب طبعًا مصريِّي تلك الأيام التي كانت فيها أخلاق المصريين على ما يصف.
٦  لا تزال سمنود مدينةً معروفة على الفرع الشرقي للنيل في نحو نصف المسافة بين دمياط ومفترق الفرعين. وكانت أثريب على الفرع نفسه، وظلَّت مدينةً عظيمة إلى القرن الرابع، وموضعها اليوم على مقربة من المكان الذي يعبر فيه الطريق الحديدي نهر النيل عند «بنها العسل». وكانت تخرج من أثريب تُرعة تذهب إلى منوف، ومنها تسير إلى الشمال الغربي إلى «نقيوس»، وكانت على الفرع الغربي «البلبيتي». وقد أخطأ «دنفيل» في تعيين موضعَي «منوف» و«نقيوس»، ولكن «كاترمير» كتب بحثًا شائقًا عميقًا برهن فيه برهانًا ساطعًا على أن «نقيوس» هي قرية «بشاتي»؛ فقد كان لها اسمان؛ أحدهما قبطي، والآخر يوناني، ودلَّل على أنها كانت على النيل. وقد برهن ديوان «حنا النقيوسي» على صِدق ما ذهب إليه «كاترمير»، وهو كتاب لم يرَه. كما برهنت على صِدق قوله نسخةٌ خطية من كتاب «ساويرس الأشمونيني»؛ فإنه نص على أن الاسمين يُطلَقان على بلدٍ واحد، وذلك في كتابه عن حياة البطريق «أندرونيكوس». ونُضيف إلى ذلك أن الاسمين «نقيوس» و«أبشادي» موجودان في اللغة العربية.
والنهر أو الترعة التي تمرُّ بمنوف اسمها اليوم «بحر الفرعونية»، وهو اسم يدل على قِدم الترعة. وعند ملتقى هذه بفرع النيل الغربي توجد جزيرةٌ اسمها «تبشير»، أو هو موضعٌ اسمه «تبشير» وأمامه جزيرة. وعلى نحو ستة أميال في شمال «تبشير» توجد قرية لا تزال يُطلَق عليها الاسم القبطي «الشادي» أو «أبشادي». ويظهر أن الاسم القديم لم يبقَ علَمًا على موضعه القديم، وقد حدث مثل ذلك في كثير من الحالات، بل إنه نُقل إلى موضعٍ آخر؛ فإن القرية الحالية التي اسمها «أبشادي» ليس فيها شيء يدل على قِدمها، وقد كان الاسم القديم يُطلَق في الأصل على كل الإقليم، وهو «جزيرة نقيوس»، ثم بقي علَمًا على قريةٍ صغيرة لا أهمية لها. وقد بيَّنت «المسز بوتشر» في كتابها «قصة الكنيسة المصرية» أن موضع نقيوس هو «زاوية رزين» في الوقت الحالي؛ فإن هناك أطلالًا من البقايا، وأرضًا فدافد بها قِطعٌ عظيمة من أعمدة من الجرانيت، وغير ذلك مما يدل على قريةٍ مصريةٍ مُنقرضة. ولكن «زاوية رزين» واقعة في موقع لا يتفق وصفه الجغرافي مع الحقيقة؛ فإنها في الجنوب الشرقي من منوف على مقربة من «الطرانة»، وهي بعيدة عن الترعة القديمة التي كانت تصل منوف بالنيل. وأما الموضع الذي يُسمِّيه «كاترمير» «تبشير»، فاسمه اليوم على الخريطة «سبسير» أو «شبشير»، ولعلنا نجد في الاسم الأخير صدًى من التسمية القديمة القبطية «بشاتي». وإنه لمِمَّا يؤسَف له أن «شبشير» و«زاوية رزين» قد أهملهما علماء الآثار إهمالًا تامًّا، شأنهم في كثير من مواضع المدائن القديمة بمصر السفلى. ولست أتردد في أن أنتصر لكاترمير فيما ذهب إليه من قوله في «شبشير»، وأضيف هنا أنني استعملت اسم «نيكيو» مُتبعًا في ذلك التسمية القبطية، لا التسمية اليونانية «نيكيون»،) ولا التسمية العربية «نقيوس»؛ فقد كانت «نيكيو» محلةً رومانية، وهي مذكورة في «ثبت البلاد الأنطونيني».
ملاحظة للمعرِّب: ولكنَّا آثرنا استعمال الاسم العربي وحده دائمًا، وهو «نقيوس»، ولعل هذا أمرٌ طبيعي لكتاب يُنقل إلى اللغة العربية.
٧  كان مما يدعو إلى التفرقة في مدن الدولة الرومانية في آخر عهدها وجودُ حزبين؛ أحدهما الأزرق، والآخر الأخضر، وكان كلٌّ منهما يكيد للآخر حيث استطاع حتى في ميادين السباق. وقد وصف المؤرخون ذلك بتوسع فليُرجع إليهم، ولنذكُر منهم المؤرخ الإنجليزي «جبون». (المعرِّب)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤