الفصل الأربعون

المجلس

ومشى سعيد بجانب ياسر وعيناه على ذلك الحوض، وما يتألق حوله من المصابيح أو الشموع بألوانها المختلفة، فتنعكس أشعتها على رشاش الماء المتساقط فتبهر النظر بجمالها. شغل ذلك المنظر ذهن سعيد حينًا ثم عاد إلى هواجسه، وخاصة حين وصل إلى باب المجلس، والخصيان وقوف عنده بالحراب، وعلى العتبة هذه الأبيات:

صِلْ مَن هويتَ ودع مقالةَ حاسدِ
ليس الحسود على الهوى بمساعدِ
لم يخلق الرحمن أحسن منظرًا
من عاشقَينِ على فِرَاشٍ واحدِ
متعانقينِ عليهما أُزُرُ الهوى
متوسِّدينِ بمعصمٍ وبساعدِ
يا من يلوم على الهوى أهلَ الهوى
هل تستطيع صلاح قلبٍ فاسدِ
فتذكَّر أنه قرأ هذه الأبيات وهو في بغداد في صدر مجلس المأمون،١ وتقدم فوسَّعوا لياسر فأزاح الستارة ودعا سعيدًا للدخول.

فأطل سعيد على مجلس مرتفع لا جدار له من جهة الحوض، بحيث يقع نظر الجلوس هناك على ذلك المنظر البديع، ورأى الناصر في صدر المجلس جالسًا على وسادة من الخز، وعلى رأسه عمامة وشي صغيرة يتخفَّف بها في المساء، وعليه جبة وشي خفيفة تشبُّهًا ببني أمية في الشام. وأول شيء لفت انتباه سعيد رائحة الطيب؛ فقد كانت تفعم المكان، ورأى بين يدي الناصر عابدة جالسة مطرقة وبصرها يتجه خلسة إلى ذلك الباب حينًا بعد آخر، وهي تتوقع مجيء حبيبها سعيد، وقد مدت مائدة الشراب والفاكهة، ووقف بعض الجواري في أجمل ما يكون من الوجوه والقامات. كلهن فتيات تمنطقن بالمناطق الحريرية الملونة، وقد طرزت عليها أبيات من الشعر. هذا مثال منها يُقرأ على إحدى تلك المناطق:

زنَّارُها في خصرها يُطربْ
وريحها من طيبها أطيبْ
ووجهها أحسنُ من حلْيها
ولونها من لونها أعجبْ

وقد أرسلن أطراف المناطق من الخصور تتدلى فوق جلابيب تبرق ألوانها الزاهية، وعلى ذيل بعضها هذان البيتان تطريزًا بالفضة:

أغيب عنك بودٍّ لا يغيِّره
نأيُ المحلِّ ولا صرفٌ من الزمنِ
تعتلُّ بالشغل عنَّا ما تُكلِّمنا
الشغل للقلب ليس الشغل للبدن

وعلى رءوسهن أكاليل من زهر مضفور، وقد أُرسلت شعورهن إلى الظهور، ووقفن متأدبات ينتظرن الأمر لصب الشراب أو تقديم الفاكهة، ومنظر المجلس على الإجمال يُبهر النظر، لما في أرضه من الطنافس المزركشة بأبيات الشعر على نحو ما تقدم، وعلى جدرانه من الستائر الموشَّاة بأبيات من الشعر هذا بعضها:

هجرتِني كي أجاريكم بفعلكمُ
لا تهجريني فإني لا أجاريكِ
قلبي محبٌّ لكم راضٍ بفعلكمُ
أسترزق الله قلبًا لا يجانيكِ
أصبحت عبدًا لأدنى أهل داركم
وكنت فيما مضى مولى مواليكِ

وكان أسلافهم في دمشق يفضلون الوشي على سائر الأنسجة، فقلدهم الناصر بذلك في فرش هذه الحجرة وفي ملبسه الليلي.

والظاهر أنه قلَّد العباسيين بتطريز الأشعار على الرياش والأثاث، فقد كانت الطنافس والستائر مزينة بأبيات جميلة فضلًا عن ملابس الجواري.

وحين أطل سعيد على المجلس، وقف بعيدًا ونظر في جوانب الغرفة بخفة لعله يرى مكانًا لجلوس الزهراء إذا حضرت، فتذكر أنها تجلس وراء الستارة، فرأى إلى اليسار ستارًا من الديباج الثمين يقطع الحجرة في عرضها، وعليه طراز الذهب المزدان بالأشعار على نحو ما تقدَّم، وسمع حفيفًا وتمتمة فعلم أن الزهراء هناك فتجلَّد، وفي أثناء ذلك تقدَّمه ياسر، فأخبر الناصر بقدومه، فقال الناصر: «يدخل سعيد الوراق معلِّم جاريتنا عابدة.»

فدخل وتنحى ياسر، فأشار الخليفة إلى سعيد أن يجلس، فبادرت إحدى الجواري إلى وسادة قدمتها له بجانب عابدة، فجلس فقال له الناصر: «لم نسمع شيئًا من عابدة بعد!»

قال سعيد: «إنها جارية مطيعة، ما الذي يأمر به أمير المؤمنين؟ هل يلذ له الحديث أو الغناء؟»

قال الناصر: «إن الحديث يلذ لنا، هل تحدثنا بشيء لا نعرفه؟»

قال سعيد: «إنها تحفظ الشعر والأدب والأخبار من كل نوع، فما على أمير المؤمنين إلا أن يعيِّن الموضوع الذي يختاره.»

فأطرق الناصر هنيهة ثم قال: «أخبرتني أنها من مولَّدات بغداد؟»

قال سعيد: «نعم.»

قال الناصر: «إن لبغداد نوادر غريبة. نحن نحب أن نسمع عن أصحابنا البغداديين، وإن كانوا لا يحبون أن يسمعوا عنا.» وضحك.

فأدرك سعيد تعريضه وقال: «طبعًا هم لا يحبون سماع ما يسوءهم؛ لأن أخبار مولانا أمير المؤمنين، وما بلغ من سلطان وسطوة وما أتاه من الفتح والنصر؛ كل ذلك يسوء أهل بغداد سماعه لأنه يثير غضبهم وحسدهم، وهم الآن في منتهى الاضطراب، وقد ذهبت هيبة الخلافة منهم واستولى الأتراك على الدولة ووضعوا أيديهم على الحكومة، وأصبح الخليفة عندهم اسمًا بلا مسمًّى. أين هم من أمير المؤمنين صاحب السيادة، جامع كلمة المسلمين والمنكِّل بالكافرين! لم يمر بالمسلمين أيام كأيامه، ولا رأى الإسلام عزًّا مثل عزِّه.»

وكان الناصر يسمع إطراء سعيد وهو مسرور، فلما أكثر من الإطراء قطع حديثه قائلًا: «نعم، ولكن للبغداديين عصرًا لا مثيل له؛ عصر الرشيد والمأمون، ولا يسعنا إنكار ما لهذين من الفضل في نقل كتب العلم، ونحن الآن إنما نجني ثمار ما غرساه، وإني أحب أن أسمع أخبارهما، وكثيرًا ما أطلب إلى المحدِّثين أن يقصوا عليَّ حديثهما.»

فقال سعيد: «فأمير المؤمنين إذن في غنًى عن سماع شيء من أخبار تلك الدولة؟»

قال الناصر: «بل أنا أحب ذلك، ويعجبني منه ما كان يُعقد من مجالس الأدب والشعر، وما كان يدور من الأبحاث الجميلة.»

١  الموشَّى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤