الفصل السادس والسبعون

المحاكمة

أما القصر فكان أهله في خوف لغياب الزهراء، وقد علموا بذهاب ساهر والصقالبة للتفتيش عنها، والخليفة أكثر الجميع قلقًا وغضبًا، ولو أُخذت الزهراء وهو في ريب من إخلاصها لكان وقع المصيبة عليه أخف كثيرًا. أما بعد أن ظهر له من حبها وإخلاصها في خدمته ما ظهر، فضلًا عن تعقُّلها ورويتها، فأصبح شديد التعلق بها يفديها بأعز ما لديه.

فقضى معظم ذلك النهار وهو قلق لا يرتاح له بال، وكان يرسل الوصيف إثر الوصيف كي يراقبوا الطريق عن بعد، وصعد هو على منارة من منائر جامع الزهراء ليشرف منها على الطريق المؤدي إلى قرطبة فلم يرَ شيئًا.

وفي الأصيل جاء البشير برجوع ساهر والصقالبة ومعهم سعيد والزهراء وعابدة ورجل آخر لم يعرفوه، فأمر أن يؤتى بهم إلى بيت المنام في قصر المؤنس، وجلس لهم مجلسه يوم جاءته عابدة وسعيد حيث البركة وعليها التماثيل الذهب وغيرها، فأدخلوا عليه أولًا الزهراء وهي لا تزال بملابس صاحب البريد، فلما رآها دهش، فكشفت له عن وجهها وأكبَّت على يده فقبلتها، فلما عرفها صاح بها: «ويلك! ما هذا؟»

فقالت الزهراء: «هذا هو الثوب الذي تنكَّرت به ساعة الفرار.»

فقطب حاجبيه وقال: «ساعة الفرار؟ لماذا تفرين؟ هل رأيت مني إنكارًا لحقك، وأنت أعز الناس عندي لما تأكدته من صدق مودتك وإخلاص طويتك، كيف تفرين؟»

قالت الزهراء: «فررت إلى أخ لي كنت قد فقدته، ثم بلغني أنه موجود في مكان بالأرباض فذهبت لأراه.»

قال الناصر: «وما كان أجدر أن تطلبي إحضاره فيجئك ولو كان وراء سد يأجوج.»

قالت الزهراء: «نعم أعلم ذلك، ولكني أخاف على أخي من أمير المؤمنين.»

قال الناصر: «تخافين على أخيك مني؟»

قالت الزهراء: «نعم يا سيدي، إنما الخوف منك وحدك وليس من سواك؟»

قال الناصر: «هل إلى هذا الحد تسيئين الظن بي؟ هل أكافئك على صنيعك الجميل بأذى أخيك؟»

قالت الزهراء: «أيعدني أمير المؤمنين إذا جاءه أخي وكان مذنبًا أن يعفو عنه؟»

قال الناصر: «لك ذلك.»

قالت الزهراء: «ولو كان ذنبه كبيرًا؟»

قال الناصر: «ماذا عسى أن يكون ذنبه نحوي؟»

قالت الزهراء: «قد يكون من الخارجين على الدولة.»

قال الناصر: «أعفو عنه إكرامًا لك، ولو كان صاحب النقمة.»

قالت الزهراء: «هو صاحب النقمة يا سيدي بعينه.»

فاستغرب قولها وقال: «وكيف يكون صاحب النقمة أخاك؟»

فقصت عليه حديثها عن أخيها باختصار، وما كان من أمر سعيد وكيف أحبها ولم تحبه، وما فعله إلى أن فر بها بالأمس، وكيف أنقذها ساهر وعابدة.

وكان الخليفة يسمع كلامها باستغراب ودهشة، فلما فرغت منه انجلت أشياء كثيرة لم يكن يفهمها، وتبين له أمور كثيرة تزيد ثقته بالزهراء فقال لها: «لقد عفونا عن أخيك. أين هو؟»

فأمرت أحد الغلمان أن يدعو سالمًا، فخرج وعاد به، فدخل سالم، وهو يمشي مشية الشجاع مع احترام، فأعجب الناصر بما في وجهه من دلائل البسالة والجمال، فأشارت إليه الزهراء أن يقبِّل يد الناصر ففعل ووقف، فقال له الناصر: «أنت صاحب النقمة؟ قد بلغنا خبر خروجك علينا في جملة الخارجين، فما الذي رأيتموه من الناصر حتى خرجتم عليه؟»

فخافت الزهراء أن يقول أخوها كلمة تُغضب الناصر فيعود إلى الانتقام.

فقالت الزهراء: «ألم يعفُ أمير المؤمنين عنه؟»

قال الناصر: «عفوت، ولكنني لست أفهم ما يحمل هؤلاء على الخروج، وكان الإسلام على وشك السقوط فأنهضته، وكانت الدولة مبعثرة فجمعت شتاتها وقهرت أعداءها. ألم أرفع شأن الإسلام بعد أن كادت هيبته تذهب بما أتاه أصحاب بغداد من أسباب الضعف، فأتاني ملوك النصارى يتزلفون ويتقربون، وهادنني أكبر ملوك النصرانية وخطبوا مودتي. أليس في ذلك عز للإسلام والمسلمين؟ من استطاع ذلك من الخلفاء قبلي؟ وأنتم مع ذلك تتآمرون وتتواطئون!» وكان يقول ذلك وصوته يرتجف من الغضب حتى خافت الزهراء من غضبه، ونظرت إلى أخيها مخافة أن تبدو منه كلمة تبعث على هياج الناصر فسمعت من الخارج صوتًا يقول: «لا ذنب لأحد من المتآمرين. إنما الذنب لواحد منهم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤