القاهرة الجديدة

١

مالت الشمس عن كبد السماء قليلًا، ولاح قُرصُها من بعيدٍ فوق القُبَّة الجامعية الهائلة، كأنه مُنبثِق منها إلى السماء، أو عائد إليها بعد طواف، يغمر رءوس الأشجار والأرض المخضرَّة وجُدران الأبنية الفِضية والطريق الكبير الذي يشقُّ حدائق الأورمان بأشعةٍ لطيفةٍ امتصَّت بُرودة يناير لظاها، وبثَّت في حناياها وداعة ورحمة. وقد قامت القُبَّة على رأس صفَّين من الأشجار الباسقة امتدَّت مع الطريق، فلاحت كإلهٍ يجثو بين يدَيه كهَنتُه العابدون ساعةَ العصر والسماءُ متجلِّية في صفاء، مطرَّزةٌ بعض نواحيها المُترامية بسحائب رِقاق، والهواء يتخبط بين الأشجار باردًا فترجِّع أوراقها أنينه ونحيبه.

في السماء دارت حِدآتٌ حَيارى، وعلى الأرض انطلقت جماعات الطَّلَبة. كانوا يُغادرون الفِناء الجامعيَّ إلى الطريق مُشتبِكين في أحاديث شتَّى، ثم لاحت بينهم جماعة من الطالبات لا يتجاوزن الخمس، يَسِرن في خَفَر ويَخلُصن نجيًّا. وكان ظهور الفتَيات في الجامعة لا يزال حدثًا طريفًا يستثير الاهتمام والفضول، خاصَّةً للطلبة المُبتدئين؛ فجعل هؤلاء يتبادلون النظرات ويتهامسون، وربما علَت أصواتهم فبلَغَت آذان زُملائهم. قال طالب: لا يوجد وجهٌ واحد بينهم يوحِّد الله؟

فأجاب طالبٌ آخَر بلهجة لم تخلُ من تهكُّم: إنهن سفيرات العلم لا الهوى …

فقال ثالث بحميَّةٍ انتقادية، وهو يتفحص ظهور الفتيات المهزولات: ولكن الله خلَقهن ليَكنَّ سفيرات الهوى!

فقَهقَه الأول ضاحكًا، وقال مدفوعًا بروح الاستهتار والادِّعاء: اذكُر أننا في الجامعة، وأن الجامعة مكان لا يجوز أن يُذكَر فيه لا الله ولا الهوى.

– منطقي جدًّا ألا يُذكَر الله، أما الهوى …؟

فقال أحدهم بلهجةٍ تقريرية تنمُّ عن أستاذيةٍ ليس وراءها مَطمع لعالِم: الجامعة عدوٌّ لله لا للطبيعة …

– نطقتَ بالحق، ولا يؤيِسنَّكم قُبحُ هؤلاء الفتَيات؛ فهنَّ دفعةٌ أولى للجنس اللطيف، وسيَتبَعهن أُخريات. الجامعة موضةٌ حديثة لا تلبث أن تنتشر، وإن غدًا لناظرِه قريب …

– أتحسب أن فتَياتنا يُقبِلن على الجامعة كما أقبَلنَ على السينما مثلًا؟

– وأكثر، وسترى هنا فتَيات على غير هذا المثال السيِّئ.

– وسيَزحَمن الشباب بلا رحمة.

– الرحمة هنا رذيلة.

– ولن يكلِّفن أنفُسهن مشاقَّ الحِشمة؛ فالقويُّ لا يحتشم!

– وربما استعرَت بين الجِنسَين نار!

– ما أجمل هذا …!

– وانظر إلى الأشجار والخمائل! إن الحب يتولَّد فيها من تِلْقاء نفسه كما تتولد الدِّيدان في قُدور المش.

– ربَّاه! هل نُدرك ذلك العصر السعيد؟!

– بيدك أن تنتظره إذا شئت …؟

– نحن في بدء الطريق والمستقبل باهر.

وانتهَوا من الحديث العام، وتناولوا الفتَيات — فتاةً فتاةً — بالتهكُّم المَرير والسخرية اللاذعة …

•••

وكان أربعةٌ يسيرون معًا على مَهَل، يتحادثون أيضًا، وربما أصغَوا بانتباه إلى ما يبلُغ آذانهم من هَذَر الشباب. كانوا من طلبة الليسانس، يُشارِفون الرابعة والعشرين، وتلوح في وجوههم عِزَّة النُّضوج والعلم … ولم تكن تخفى عليهم خطورة شأنهم، أو بالحريِّ كانوا يشعرون بها أكثر مما ينبغي. قال مأمون رضوان بلهجةٍ انتقادية: لا حديث للفِتيان إلا الفتَيات!

فقال علي طه معقِّبًا على انتقاد زميله: وماذا عليهم من ذلك؟ إنهما نِصفان يطلب أحدهما الآخر منذ الأزل.

وقال محجوب عبد الدايم: اعذرهم يا أستاذ مأمون؛ فاليوم الخميس، والخميس عند الطلبة يوم المرأة بلا مُنازع.

فابتسم أحمد بدير ابتسامةً خفيفة — وهو طالب وصِحافيٌّ معًا — وقال بنَبراتٍ خِطابية: أدعوكم أيها الإخوان إلى إعلان آرائكم في المرأة، على ألا يزيد البيان عن كلماتٍ معدودات. ماذا تقول يا أستاذ مأمون رضوان؟

فارتبك الشابُّ، ثم ابتسم قائلًا: أتريد أن تحملني على حديثٍ أنتقد الغير على خَوضه …؟

– لا تُحاول الهرب، هلمَّ، كلمات معدودات، أنا صِحافي والصِّحافي لا ييئَس من حديث أبدًا …

وكان مأمون رضوان يَعلم أن مُراوغة أحمد بدير أمرٌ عسير، فاستسلم قائلًا: أقول ما قال ربي؛ فإن رغِبت في معرفة أسلوبي الخاص، فالمرأة طمأنينة الدنيا، وسبيلٌ وطيء لطمأنينة الآخرة.

وتحوَّل أحمد بدير إلى علي طه، ودعاه للكلام بإيماءة من رأسه.

فقال الشاب: المرأة شريك الرجل في حياته كما يقولون، ولكنها شركةٌ دِعامتها — في نظري — ينبغي أن تكون المُساواة المُطلَقة في الحقوق والواجبات.

فالتفت أحمد بدير إلى محجوب عبد الدائم وسأله ضاحكًا: ورأيُ شيطاننا العزيز؟

فقال محجوب عبد الدائم باهتمامٍ مسرحي: المرأة … صِمام الأمن في خزَّان البُخار …

فضحِكوا كما تعوَّدوا أن يضحكوا عقِب سماع آرائه، ثم سألوا أحمد بدير: وأنت ما رأيك؟

فقال الشابُّ باستهانة: على الصِّحافي أن يسمع لا أن يتكلم، خاصَّةً في عهدنا الحاضر.

٢

وانعطفوا مع أول طريق مُقاطع لطريق الجامعة، وساروا في اتجاه المُديرية. كان مأمون رضوان أطولهم قامةً، ومحجوب عبد الدائم في مِثل طوله تقريبًا، أما علي طه فرَبعةٌ متين البُنيان، وأما أحمد بدير فقصير جدًّا، كبير الرأس جدًّا. وكان مأمون رضوان يُريد أن يختم ساعات العمل أجمل خِتام قبل أن يستقبل يوم اللَّهو، فقال بصوته المتهدِّج الصاعد من قلبه: أنسانا حديث المرأة ما نحن بصدده، فما تعليقكم النهائي على المناظرة التي شهِدناها …؟

دارت المناظرة حول «المبادئ» وهل هي ضرورية للإنسان أو الأولى أن يتحرَّر منها.

فقال علي طه مُخاطبًا مأمون رضوان: نحن متَّفِقان على ضرورة المبادئ للإنسان، هي البوصلة التي تهتدي بها السفينة وسط المُحيط …

فقال محجوب عبد الدائم بهدوء ورزانة: طُظ …

ولكن علي طه لم يُلقِ إليه بالًا، واستدرك مُخاطبًا مأمون: بيدَ أننا مُختلفان في ماهيَّة المبادئ …

فقال أحمد بدير وهو يهزُّ كتفَيه: كالعادة دائمًا …!

فقال مأمون وقد تألَّقت عيناه بنُورٍ خاطف شأنَه عند الاهتمام: حسبُنا المبادئ التي أنشأها الله عز وجل.

فقال محجوب عبد الدائم كالمتعجِّب: لشدَّ ما يَدهَشني أن يؤمن إنسانٌ مِثلك بالأساطير …

فاستطرد علي طه قائلًا: أُومن بالمجتمع، الخليَّة الحيَّة للإنسانية، فلنَرعَ مبادئه على شرط ألا نقدِّسها؛ لأنه ينبغي أن تتجدَّد جيلًا بعد جيل بالعلماء والمربِّين.

فسأله أحمد بدير: ماذا يحتاج جيلنا من مبادئ؟

فقال علي بحماس: الإيمان بالعلم بدل الغيب، والمجتمع بدل الجنة، والاشتراكية بدل المنافسة …

فعلَّق محجوب عبد الدائم على كلامه قائلًا: طظ … طظ … طظ …

فسأله أحمد بدير: وأنت يا أستاذ محجوب، ما رأيك في المناظرة؟

فأجابه بهدوء: طظ …

– هل المبادئ ضرورية؟

– طظ …

– غير ضرورية إذن؟

– طظ …

– الدين أم العلم؟

– طظ …

في أيهما؟!

– طظ …

– أليس لك رأيٌ ما؟

– طظ …

– وهل طظ هذه رأيٌ يُرى؟

فقال محجوب بهدوئه المصطنَع: هي المَثل الأعلى …

والتفت مأمون رضوان إلى علي طه وقال، وجلُّ همه أن يذكُر رأيه لا أن يجذب أحدًا إلى عقيدته: الله في السماء، والإسلام على الأرض، هاكُم مبادئي …

فابتسم علي طه وقال بدَوره كما قال محجوب عبد الدائم من قبل: لشدَّ ما يَدهشني أن يؤمن إنسانٌ مِثلك بالأساطير …

فقَهقَه محجوب قائلًا: طظ …

وألقى عليهم نظرةً سريعة وهم آخذون في مسيرهم، وقال: يا عجبًا! كيف تجمعنا دارٌ واحدة؟ … أنا رأسي هواء، والأستاذ قُمقمٌ مُغلَق على أساطير قديمة، وعلي طه مَعرِض أساطير حديثة.

ولم يُلقيا بالًا إلى قوله؛ لأنه طالما أعيَتهما معرفة الحد بين جِده وهزله، ولأن مناقشته مُتعِبة؛ فهو يَرُوغ من التطويق بالتهريج.

وكانوا شارَفوا دار الطلبة على ناصية شارع رشاد باشا، فودَّعهم أحمد بدير وذهب إلى الجريدة التي يعمل بها مساءً، ومضَوا ثلاثتهم إلى الدار ليأخذوا أُهبتَهم لسهرة الخميس.

٣

تقع دار الطلبة على ناصية شارع رشاد باشا. هي قلعةٌ هائلة ذات فِناء مُستدير واسع، يقوم بُنيانها على مُحيطه في شكل دائرة، مكوَّنة من طِباقٍ ثلاثة، يتركب كل واحد منها من سلسلةٍ دائرية، من الغُرَف المُتلاصقة تفتح أبوابها على رَدهةٍ ضيِّقة تُطلُّ على الفِناء. كان الأصدقاء الثلاثة يسكُنون ثلاث حُجرات مُتجاورة في الطابق الثاني، وقد صعِد مأمون رضوان إلى حُجرته الصغيرة، وأخذ في تغيير ملابسه، وكانت الحجرة مؤثَّثة بفِراشٍ صغير، يُقابله صوان، يتوسَّطهما وراء النافذة الصغيرة مكتبٌ متوسط وُضعت عليه الكُتب والمَراجع. وكان الشابُّ ممن يُحبُّون الكتب حبًّا بالغًا؛ فما إن وقعت عيناه على معجم «لالاند» حتى لاحت على شفتَيه ابتسامةٌ خفيفة وشَت بحُبِّه وولعه، بيدَ أنه لم يُضِع وقتًا، فتوضَّأ وصلَّى العصر، ثم ارتدى «ملابس العُطلة» وغادَر الحُجرة إلى الطريق، ومضى يرسم جسمه الرشيق هيئةً عسكرية جذَّابة في مسيره، وكان ذا قَوامٍ ممشوق، نحيفًا في غير هُزال، أبيض الوجه مُشرَبًا بحُمرة، أجمل ما فيه عينان سوداوان نَجلاوان، تلوح فيهما نظرةٌ لامعة، تُذكي ضياءً وجمالًا وذكاءً، وكان يتقدم في مسيره لا يلوي على شيء، لقَدمَيه وقعٌ شديد، ولعينَيه هدف لا تَحيدان عنه، كان هدفه ذلك اليوم بيت خطيبته بمصر الجديدة. وكان مأمون يُعالج أمور قلبه بنفس النزاهة والاستقامة اللتين يُعالج بهما جميع أمور حياته … خطب الفتاة — وهي كريمةُ قريب له من ضُباط الجيش العِظام — بعد مشورة أبيه، وتم الاتفاق على أن يعقد عليها عقِب الانتهاء من دراسته، وصار يتردد على بيتها كل خميس، فيُجالس الأسِرَّة مُجتمعةً، ويمضي بضع ساعات في سمرٍ لذيذ، ولم يخطُر له على بالٍ قطُّ أن يدعوَ فتاته إلى السينما، أو أن يدبِّر حيلة للانفراد بها؛ ذلك أنه كان من الكافرين بالبِدَع الحديثة — على حدِّ تعبيره — الثائرين عليها، فلقِيَ سلوكه من أُسرة الفتاة — أسرة حافظت على تمسُّكها بالتقاليد القديمة — كل إعجاب وتقدير، بيدَ أن ذلك لم يمنع قلبه من الخفَقان وهو آخذٌ في طريقه المعهود، فبلَغ طريق الجيزة بعد دقائق واستقلَّ التِّرام. وبدا في جلسته المُعتادة، ونظرته الصافية، وقامته العالية، شخصيةً غنيَّة بعناصر الجمال والجلال؛ فلو أراد أن يكون عمر بن أبي ربيعة لكان، ولكنه كان ذا عِفَّة واستقامة وطُهْر لم يجتمع مِثلها لشاب. كان ضميرًا نقيًّا، وسريرةً صافية، كان قلبًا مُخلِصًا ينشُد الدين الحق والإيمان الراسخ والخُلق القويم، وقد نشأ في طنطا، وكان والده مُدرسًا بالمعاهد الدينية — رجل ذو دين وخُلق — فشبَّ في بيئةٍ أقرب إلى البداوة بساطةً ودينًا وخُلقًا وقوة، وعرض له في صِباه عارضٌ ترك في حياته أثرًا قويًّا؛ ذلك أنه أُصيبَ بمرضٍ أقعده عن اللحاق بالمدارس حتى الرابعة عشرة، فذاق مرارة العُزلة، وعرف الألم، وانصهر في أتُّون تجرِبة قاسية، ولكنه استطاع أن يدرُس الدين على والده فتفقَّه فيه غلامًا يافعًا. ولما دخل المدرسة الابتدائية دخلها فتًى مُراهقًا، وقلبًا كبيرًا، وروحًا حيًّا، وذكاءً وقَّادًا. على أنه لم يخلُ من تعصُّب وحِدَّة، بل كانت تعتريه لحظاتُ قسوةٍ جنونية، تنضب فيها خصوبة نفسه، فينطلق كلسانٍ من لهبٍ يلقف ما يلقاه، ويلتهم ما يتصدَّى له، فيُضاعف العمل إن كان يعمل، أو يستغرق في العبادة إن كان يعبد، أو يحتدُّ في النِّقاش إن كان يُناقش، أو تعلوه الكآبة والانقباض إن كان يعتزل. وفي تلك الحياة البسيطة لم يجِد الفتى سبيلًا إلى تحقيق ذاته إلا في العمل، فبزَّ الأقران جميعًا، وكان في قدرته أن يتعبَّد ساعاتٍ مُتتابعات لا يسكت لسانه عن ذِكر الله، وكان يُذاكر في الأيام الأخيرة من العام الدراسي عشرين ساعةً في اليوم، فكان أول الناجحين في البكالوريا، كما يُنتظر أن يكون أولهم في الليسانس، فصار التفوق من أحلامه العُليا كالإسلام والعُروبة والفضيلة، ولم يسمح لمخلوقٍ أن يُدانيَه في تفوُّقه، ولكن لم ترسب للمنافسة في صدره أبخرة خبيثة، بفضل قوَّته الخارقة، وثِقته الكبيرة بنفسه، وإيمانه الراسخ بالله، فسما بإنسانيته إلى أعلى المراتب؛ ولذلك لم يجعل من إيمانه سبيلًا إلى الزُّهد العاجز أو الفناء في الغير، فكان يقول: إن الإيمان امتلاء بالقوة الربَّانية لتحقيق مُثُل الله العُليا على الأرض. فكان شابًّا عظيمًا، وإن أخفق أن يكون محبوبًا؛ لأن تفوُّقه مثار لحسد الحاسدين، وسلوكه احتقارٌ صامت لحياة الآخَرين، ثم إنه لم ينجُ من ميل للوحدة تأصَّل في طبعه منذ عهد مرضه العصبي الطويل، هذا إلى جهل بأصول اللباقة الاجتماعية، ونُكران لروح الفُكاهة، وولع بالصراحة جعلت من حديثه أحيانًا سوط عذاب؛ فسمَّاه مُنتقِدوه تارةً بالجامعي الرِّيفي، وتارةً بالمهدي غير المُنتظَر. وقال عنه طالبٌ مرةً: «الأستاذ مأمون رضوان إمام الإسلام في عصرنا هذا، وقديمًا أدخل عمرو بن العاص الإسلام في مصر بدهائه، وغدًا يُخرِجه منها مأمون رضوان بثقل دمه.» وظلَّ الشابُّ على ولائه للتفوُّق وإن خافه ومقَته في أحايين كثيرة. أجل، كان يخاف ذلك الشعور بالتعالي والتفوق، ويستعيذ بالله من شره، ولكنه عجز عن قهره؛ ولذلك لم يرمق عظيمًا بعين الإعجاب الحق، وأعلن في صراحته يوم افتتح الملك الجامعة استهانته برجال الدولة الذين حضروا الاحتفال؛ ولذلك أيضًا جعل يهزُّ منكبَيه استهانةً كلما رأى الطلبة يتحمَّسون لمن يدعونهم بالزُّعماء، وكان يُنكر الأحزاب جميعًا، ويأبى الاعتراف ﺑ «القضية المصرية»، ويقول بحماسه المعهود: إن هناك قضيةً واحدة هي قضية الإسلام عامَّةً، والعروبة خاصَّةً. ومن عَجب حقًّا أنه لم يتأثر بموضة الإلحاد التي كانت ذائعة بين طلبة الجامعة على عهده بها، وإنما مَردُّ ذلك إلى أنه التَحق بالجامعة، في الثالثة والعشرين، وقد آمَن إيمانًا راسخًا بثلاثة أشياء لم يُنكرها بعد ذلك طول حياته؛ الله، الفضيلة، قضية الإسلام. فلم يزِغ بصره حِيال نور الجامعة الجديد، ولبِثت صخرة إيمانه القائمة تتكسَّر عليها أمواج السيكولوجي والسسيولوجي والميتافيزيقا. تحدَّى بإيمانه العلم والفلسفة جميعًا، وجعلهما من ذرائعه ومقوِّماته، وسرَّه أيَّما سرورٍ أن يجد أعلام الفلاسفة في ظل الله دائمًا؛ أفلاطون وديكارت وبسكال وبرجسون. كما رحَّب قلبه المُخلِص بالوفاق الذي بشَّر به القرن العشرون بين العلم والدين والفلسفة؛ فاليوم تنحلُّ المادة إلى شُحناتٍ كهربية أشبه بالروح منها بالمادة، واليوم تستردُّ الروحيَّة عرشها المسلوب، واليوم يُشغل العلماء بالتفكير الديني، ويرد رجال الدين شرائع العلم والفلسفة؛ فطُوبى للشابِّ الفيلسوف المؤمن! غير أن شابَّ الجيزة تغيَّر عما كان عليه فتًى في طنطا المُصاب، صار أوسع صدرًا وأرحب فهمًا، أمكنه أن يُصغيَ إلى مُجون محجوب عبد الدائم مُبتسمًا، وأن يُناقش علي طه في قيمة الدين والإلحاد، وأن يتلقَّى صابرًا سِهام الناقدين والساخرين، إلا إذا احتدَّ واتَّقدت عيناه وعرَته تلك اللحظة الرهيبة؛ فهناك يرتدُّ عنه البصر وهو حسير! وكان الشابُّ يجِد بين زملائه مؤمنين صادقين، فلم يشعر في إيمانه بعُزلة، ولكنه لم يظفر بواحدٍ يُشاركه حماسه في الدعوة إلى الإسلام والعروبة؛ فقد استغرقت الأذهانَ أمورٌ أُخرى في ذلك الوقت كالقضية المصرية، ودستور سنة ١٩٢٣، ومقاطعة البضائع الأجنبية، ولكن الفتى لم ييئَس في وَحدته، ولا كان من الممكن أن يُخالط اليأس قلبًا كقلبه.

عاش مشغولًا بالآمال الكِبار، إلا أن قلبه استطاع أيضًا أن يتنسَّم الحياة، وأن يخفَّ مسرورًا إلى استقبالها … بل جعل ينظر من نافذة الترام إلى الخارج في شِبه جزع، يودُّ لو يطوي الترام في غمضة عين الطُّرقَ إلى مصر الجديدة …

٤

ولبِث علي طه في حُجرته حتى مالت الشمس إلى المَغيب، وكان يجلس إلى النافذة وعيناه إلى شُرفة دار صغيرة قديمة، تقع عند مدخلها دكان سجائر، تقوم على ناصية شارع العزبة — امتداد شارع رشاد باشا من ناحية عزبة الدقي — فيما يُواجه دار الطلبة. كان مُرتديًا ملابسه إلا طربوشه، مُتأنقًا كعادته، يحسب الناظر إلى منكبَيه العريضين أنه من هُواة الرياضة البدنية، وكان فتًى جميلًا ذا عينَين خضراوين، وشعرٍ ضارب لصُفرةٍ ذهبية، ودلالةٍ واضحة على النُّبل. لبِث ينظر إلى شُرفة الدار الصغيرة القديمة بعينَين تتحيَّر فيهما نظرة انتظار ولهفة حتى دبَّت فيهما حياة ويقظة بدخول فتاة إلى الشُّرفة، فنهض ملوِّحًا بيدَيه، فابتسمت إليه وأومأت إلى الطريق، فلبس طربوشه وغادَر الحُجرة ثم الدار، وانطلق إلى شارع رشاد باشا، ومضى يتمشَّى مُتمهلًا في الشارع الكبير، قامت على جنبَيه الأشجار الباسقة تقبع وراءها القصور والفيلَّات، وجعل يُرسل الطرف فيما وراءه بين لحظة وأخرى، حتى رأى — على ضوء الغروب الهادئ — صاحبة الشُّرفة قادمةً تَخطِر، فدار على عقبَيه خافِقَ الفؤاد من السرور، واتَّجه نحوها مورَّد الوجه، حتى التقت أيديهما، فاشتبكت اليمنى في اليسرى، واليسرى في اليمنى، وغَمغَم الفتى: أهلًا …

فغمغمت ووجهُها يُشرِف بابتسامةٍ لطيفة: مساء الخير …

واستخلصت يدَيها برفق، وتأبَّطت ذراعه، واستأنفا السير إلى شارع الجيزة يمشيان مِشيةَ المتمهِّل الذي ليس له وراء المشي من غاية. هي فتاة في الثامنة عشرة، تُضيء محيَّاها بشرةٌ عاجية، وعينان سوداوان يجري السحر في حورهما والأهداب، أما شعرها الفاحم وما يُحدِثه تجاوُب سواده مع بياض البشرة فيخطف الأبصار، وقد حوى مَعطفها الرمادي جسمًا لدنًا ناضجًا ينتشر سحرًا ووهجًا. سارا متمهِّلَين يبهج مَنظرهما الشباب والحياة. وجعل علي طه يرقُب أنحاء الطريق بطرفٍ حذرٍ كأنما يطلب غِرَّة، والفتاة تلحظه بطرفٍ خفيٍّ منتظرةً على شوق وسرور، حتى اطمأنَّ الفتى إلى غفلة العيون، فضمَّ أصابعه تحت ذقنها، وأدار وجهها إليه، وألصق شفتَيه بشفتَيها حتى رُطِّبتا برُضابها، ثم رفع وجهه مُتنهدًا من الأعماق، وتتابَع خطوهما صامتَين، ورأته يُلقي نظراتٍ فاحصة، فذكَرت — على سحر الموقف وفتنته — معطفها الذي كاد يَبلى، ففتر سرورها، وقالت بالرغم عنها: أيَسوءُك أن ترى دائمًا هذا المعطف العتيق؟

فلاحَ الإنكار في وجه الشاب، وقال مؤنِّبًا: كيف تُلقِين بالًا إلى هذه الصغائر؟ إن في المعطف كنزًا جعله الحظ السعيد من نصيبي.

ولم تُوافقه على أن المعطف من «الصغائر»، بل كانت تقول لنفسها مرَّاتٍ متأسِّفة: إن العيش السعيد شباب وثياب! ولحظت بذلته الصوفية الأنيقة فرغبت في لومه، وقالت: يا لك من مُراءٍ! أتعدُّ اللباس من الصغائر وأنت تتأنَّق مزهوًّا …؟ فتورَّد وجهه حياءً، وبدا كالطفل المُرتبِك، ثم قال كالمُعتذِر: البدلة جديدة … وليس من الممكن ابتياع بدلة قديمة، ولكن الملابس أعراضٌ تافهة، أليس كذلك يا حبيبتي؟

بيدَ أنها خافت مناقشته؛ لأنه كان يتوثَّب للمناقشة باهتمام، ويقف منها موقف المعلِّم، ولم تكُن ترتاح إلى ذلك، والواقع أنه لم يكُن يخلو من تناقُض. كان كثيرًا ما يستهين بالملابس والمآكل ونظام الطبقات، ولكنه كان يلبس فيتأنَّق، ويأكل لذيذ الطعام حتى يشبع، ويُنفِق عن سعة. أما إحسان شحاتة فكان لديها ما تقوله، وما تَعلَم أنه يُنتظر رأيها فيه، فقالت بصوته الرخيم الذي يُعابث الغرائز: كِدت أُتمَّ الكتاب الذي أعرتَنيه.

فبدا الاهتمام على وجهه؛ لأنه كان يرغب أن يُحب عقلها كما يُحب شخصها، وسألها: ورأيك؟

فقالت بصراحة: فهمت أقلَّه، ولم أفُز من هذا القليل بطائل.

فشعر بخيبة وسألها: ولِمه؟

فابتسمت إليه لتخفِّف من وقع كلامها واستدركت: مِحور الكتاب — الذي تُسميه قصة — أفكار وآراء، وأنا أرتاد في الكتب الحياة والعاطفة!

– ولكن الحياة فِكر وعاطفة!

فلمَّت أطراف شجاعتها وقالت: لا تطوِّقني بمنطقك؛ فربَّما لا أستطيع دفعه، ولكنه لن يغيِّر من ذوقي، الموسيقى مِقياس الفن الحقيقي في نظري، فما تجاوَز مادة الموسيقى في الكتاب لا ينبغي أن يُعَد من الفن في شيء.

فهالَه رأيُها، وابتسم ابتسامةً باهتة، وقال بأسف: إنك تحرِّمين على نفسك أشهى ثمار الفن الحقيقي …

فقالت ضاحكةً: مجدولين، آلام فرتر، آلام رفائيل؛ تلك آيات الفن الذي أُحبُّه.

قالت ذلك بلهجة من يقول: «لكم دينكم ولي دين.» فأمسك الشابُّ عن الكلام، وتساءل: هل ييئَس حقًّا من تغيير رأيها؟ إنه يريد صادقًا أن يتحابَّا بقلبَيهما وعقلَيهما، وأن تكون شركة حياتهما تامَّةً منسَّقة، وأن يجد فيها الحبيبة والزميلة والنِّد المُحترم. إنه يُحبُّها حبًّا يملك عليه قلبه ونفسه، ولكنه يرجو أن يجعل منها في المستقبل زوجًا غير الزوج التي تعرفها البيوت الشرقية. وانتهى بهما المسير إلى شارع الجيزة، فانعطفا إلى يسارها، وتنهَّد الشابُّ بارتياح؛ فالشارع كالمُقفِر، وجوُّه كالمُظلِم، ورفع راحتها إلى فمه، ولثمها بشغف، ثم مال نحوها فأخذ قُبلةً مطمئنَّةً لذيذة الطعم، من شفتَين ممتلئتَين طريَّتَين، ولمحها تُسبِل جَفنَيها لوَقعِ القُبلة، فانتفض جسمه القوي، وشاعت في روحه شرارة سرور مُكهربة، وقال وهو يزدرد ريقه: ما ألطفَك … ما أجملَك!

ومضت فترة سكون لذيذة ساحرة، ثم تنهَّد وقال في شِبه حسرة: بيني وبين الامتحان النهائي أشهُرٌ معدودات، أما أنت؟

فقالت: امتحان البكالوريا في يونيو. ماذا تختار لي؟

فقال الشاب بحماس: كُلِّيتي …

وهي وإن كانت الضرورة تحتِّم عليها أن تُتمَّ دراستها، إلا أنها ودَّت لو قال لها مثلًا: «حسبُك دراسة وهلمِّي إلى عُشِّنا!» فشعرت بشيء من الاستياء وسألته: لماذا أختار كليتك؟

– لنكون عقلًا واحدًا، وفنًّا واحدًا، ومهنةً واحدة …

– مهنةً واحدة؟

فقال بحماسه الذي لا ينضب: أجل يا حبيبتي، وظيفة المرأة أخطر شأنًا من عمل الجارية. مُحالٌ أن أخون مبادئي، أو أن أرضى بحِرمان المجتمع عضوًا جميلًا نافعًا مِثلك!

وكانت مُقتنعة برأيه على وجهٍ آخَر؛ لأن الضرورة تُملي عليها أن تختار مهنةً يومًا ما، بيدَ أنه ضايَقها — وإن لم تدرِ لماذا — حماسه لرأيه، وودَّت لو كانت هي التي حملته على قَبوله على تمنُّع وتردُّد منه.

ومضَيا في الطريق المُقفِر، يستلهمان آمالهما الحديث، ويفصلان حديثهما بالقُبل.

كانت إحسان شحاتة عظيمة الشعور بأمرَين؛ جمالها وفقرها. كان جمالها فائقًا، وقد استأسر سُكان دار الطلبة، وجعل سكان الحُجرات يُرسِلون شُواظ أنفُسهم فتلتقي جميعًا في شُرفة الدار الصغيرة البالية، وترتمي عند قدم الفتاة الحسناء الفخور، ولكن لم توجد بالدار مرآةٌ حقيقة بأن تعكس ذلك الجمال الصبيح؛ فالفقر حقيقةٌ ماثلة كذلك، وقوَّى شعورَها به إخوتُها السبعة الصغار، وأن لا مَورد لهم إلا دكان سجائر مساحتها مترٌ مربع، وجلُّ زبائنها من الطلبة! وطالما خافت على جمالها عوادي الفقر، وسوء التغذية. والواقع أنه لولا وصفات أمها — كانت الأم من قِيان شارع محمد علي قبل أن يتزوجها المعلم شحاتة تركي — لهزل جسمها، ولذبل رِدفاها اللذان مدحهما أحد شعراء كلية الطب بمعلَّقةٍ رنَّانة. وقد عرفت علي طه، اختاره قلبها من دار الطلبة جميعًا، وحظِيَ بإعجابها شبابه وجماله ونُبله ومستقبله، بيدَ أن أمرَين هامَّين جعلا يتنازعان قلبها من أول لحظة؛ حياة قلبها وحياة أسرتها، أو بمعنًى آخر علي طه والإخوة السبعة الصغار. وكانت عرفت — قبل علي طه — شابًّا مُوسرًا من طُلاب القانون، وقد أدركت من سلوكه أنه يطمع فيها مُتعةً لقلبه ولهوًا لشبابه، فأخذت حذرها، وكان والداها يطَّلعان على أسرار حياتها، فما راعها إلا إغراء أمها وطمع أبيها في مال الشاب! وتنبَّهت إلى حقائق حياتها المُرَّة، وخوافيها المُحزِنة. والواقع أن والدَيها لم يُضمِرا للأخلاق احترامًا قط، وكانت شركتهما عشقًا قبل أن تصير زواجًا، وظلَّ أبوها يرتزق في سوق الجمال بجماله وصفاقته حتى تزوَّجته أمها ووهبته ما ادَّخرت من مال ليُتاجر به، فبدَّد ما بدَّد على المخدِّرات والقِمار، وبقِيَت له دكان السجائر الصغيرة، ولكنه كان يقول لنفسه مُتعزيًا: «ضاعت حياتي حقًّا، ولكن البركة في إحسان.» فوجدت فيه الفتاة كما وجدت في أمها عونًا للشيطان والسقوط، ولكنها لم تُسارع إلى السقوط؛ فقد تلقَّت إهانة عن غير قصد، فثار كبرياؤها وأنقذها؛ إذ رأت الشاب صديقها يُجالس أباها يومًا في الدكان، فأدركت أنه يُساومه على عِرضها، وثار غضبها، وشعرت بالخِزي والعار، ثم قطعت الشاب بقسوة لم تدَع له أملًا! خرجت من التجرِبة ظافرةً، ولكن بعد أن علِمت أنها تعيش في بؤرة، ثم إنها شعرت في قرارة نفسها بأنها تخلَّصت فجأةً من الرقابة والقيود، وأنها صارت حُرةً تفعل ما تشاء بغير حساب. وأحدث شعورها بتلك الحرية المُطلِقة في نفسها ثورة، لبِثت حينًا بغير هدف ولا وازع أيضًا، ولكن يقظةً جنونية دبَّت في عواطفها فتمطَّت ترتاد متنفَّسًا، وإن عقَلها الحياء والتردد. كان الجو خانقًا، والرئتان سليمتَين، فدلَّت الظواهر على أن النهاية محتومةٌ ما منها مَناص، وجعل أبوها الفاجر يقول لها مُتأسفًا على ضياع الشاب المُوسِر: «إنك مسئولة عنا جميعًا، وخصوصًا إخوتك السبعة.» ربَّاه، هل تستطيع أن تعتصم بإرادتها حِيال تلك الدوافع الفاجرة؟ ألا يمكن أن يتواصَوا بالصبر حتى تُتمَّ تعلُّمها بمعهد التربية وتجد مهنةً شريفةً ترتزق منها؟! واستسلمت للمقادير في غير ثقة ولا إيمان شأنَ ضِعاف الإرادة … حتى جاء علي طه. وجدت في علي ودًّا صادقًا، وإخلاصًا قويًّا، ومَقصدًا نبيلًا، فدعم إرادتها المُزعزَعة، وأنقذها من غَمرة الحَيرة والخوف، وأعاد إليها شعور الاحترام والكبرياء؛ فأحبَّته وناطت به آمالها، ورمق عم شحاتة تركي الشاب الجديد باستياء، وقال عنه: «إنه شابٌّ فقير، حتى السجائر لا يدخِّنها!» وقال للفتاة مرةً ساخرًا: «مُبارَك عليك الشاب الجميل الذي بعثه الله ليجوِّعنا!» ولكنها أعرضت عنه، ووضعت أملها في المستقبل؛ فهو كفيل بأن يهيِّئ لها مهنةً محترمة، وأن يحقِّق لها أحلام قلبها …

أما علي طه فكان شابًّا ذا مزايا حسنة كثيرة، كان مثالًا طيبًا للروح الاجتماعية الحقَّة؛ ففي عهد دراسته الأول كان عُضوًا بارزًا في القسم المخصوص، وجمعية الرِّحلات المدرسية، وجماعة الخَطابة والصِّحافة، يُجيد الحديث والخطابة وطهيَ الطعام والغِناء، مع ميل محمود للاطلاع والثقافة، واستمساك مُخلِص بالفضيلة. وبانتقاله إلى الجامعة ضاق ميدان نشاطه، ولكنه عُمِّق وارتفع، فصار «الأستاذ» علي رئيسًا لجماعة المُناظَرات، وتميَّز على الأقران بقوته الخطابية وثقافته العامة وحضور بديهته، وكان يهتمُّ بالمُثل العليا، ويتحدث بحماس وإيمان عن المدينة الفاضلة، فصدَّقه عارفوه، ولكن بعض المُغرَمين بالنقد أشاعوا عنه أنه داهية لا يُشقُّ له غُبار، وأنه يغزو الأوساط جميعًا ملثَّمًا بالفضيلة، فيصيد الحِسان باسم العلم والفضيلة، وأنه يتحدث عن الأخلاق كما تتحدث الخاطبة عن عروس لم ترَها، ولكنهم غالَوا وكذبوا. والحقيقة أن الشاب كان صادقًا مُخلِصًا، وأنه إذا كان يُحب الجمال فقد أحبَّه بنزاهة وإخلاص. بيدَ أن حياته لم تخلُ من أزماتٍ عنيفة؛ فقد تزعزعت عقيدته منذ مُستهل حياته الجامعية، وتعرَّض لآلام التحوُّل الفتَّاكة، ولكنه كان شجاعًا صادقًا، فاستقبل الحياة الجديدة بإرادةٍ متوثِّبة، وعقلٍ شغوف بالحق، ولم يكُن من الهازئين الماجنين، ولم يكتم إعجابه بمأمون رضوان لصِدقه وشجاعته، ولكنه ارتمى بين أحضان الفلسفة المادية؛ هيجل وستولد وماخ، وآمَن بالتفسير المادي للحياة، وارتاح أيَّما ارتياح للقول بأن الوجود مادة، وأن الحياة والروح تفاعلاتٌ مادية معقَّدة، وأن الشعور صفةٌ مُلازمة عديمة الأثر كصوت العجلة الذي يُلازم دورانها دون أن يكون له فيه أي أثر. وطالما قال له مأمون رضوان: إن الفلسفة المادية فلسفةٌ سهلة، ولكنها لا تحلُّ مسألةً واحدة حلًّا مقبولًا. ولكن علي طه كان شابًّا اجتماعيًّا، لا يصبر على التأمل طويلًا، ويُذاكر في أسبوعٍ ما ربما ذاكَره مأمون في يومَين؛ فإلى جانب وقت القراءة هناك وقت للرياضة، وآخَر للمناظرة، وثالث للرحلة، ورابع للحب … إلخ. فحسبُه من الفلسفة هذا التفسير الجامع، وليستأنف سيره في الحياة، ولكن هنالك عقبةٌ كَأْداء تُنذِر بأن تصير هاويةً جارفة: الأخلاق؟ … نهضت أخلاقه فيما مضى على دعامة من الدين، فعلامَ تنهض اليوم؟! … ما الذي يُمسِك على الفضائل قيمتها بعد الله؟! أم تُراه يزدريها كما ازدرى عقيدته من قبل، ثم يُلقي بنفسه في تيَّار الحياة الجارف بلا وازع ولا ضمير؟! إن المنطق واضح، والنهاية محتومة، ولكنه تردَّد وتماسك، واتَّقى بقوة القصور الذاتي، وتساءل: ألا يمكن أن يحيا كما حيِيَ أبو العلاء؟ ولكن أبا العلاء كان ضريرًا مجدورًا سوداويًّا، أما هو فشابٌّ جميلٌ مفتول العضلات، اجتماعيُّ المزاج، فأنَّى يكون له الزُّهد والتقشف؟! ووجد نفسه في مِثل الحيرة التي وُجدت فيها إحسان شحاتة عقب تحرُّرها من ظل والدَيها. وأخيرًا ظفِر بمُنقِذه كما ظفِرت بمُنقِذها، التَقى بأوجست كونت رجل المجتمع، وبشَّره الفيلسوف بإلهٍ جديد هو المجتمع، ودينٍ جديد هو العلم. آمَن بالمجتمع البشري والعلم الإنساني، واعتقد أن للمُلحِد — كما للمؤمِن — مبادئ ومُثلًا إذا شاء وشاءت له إرادته، وأن الخير أعمق أصولًا في الطبيعة البشرية من الدين؛ فهو الذي خلق الدين قديمًا، وليس الدين الذي أوجده كما كان يتوهَّم، وجعل يقول عن نفسه: «كنت فاضلًا بدين وبغير عقل، وأنا اليوم فاضل بعقل وبلا خُرافة!» وثاب إلى مُثُله العُليا آمنًا مطمئنًّا، مُمتلئًا حماسًا وقوة، وشُغِف بالإصلاح الاجتماعي، وحلُم بالجنَّة الأرضية، فدرس المذاهب الاجتماعية، حتى طاب له أن يدعوَ نفسه اشتراكيًّا … وانتهى المَطاف بروحه — التي بدأت رحلتها إلى مكة — إلى موسكو! وطمِع يومًا أن يجذب أصدقاءه المقرَّبين إلى الاشتراكية، ولكنه لم يُفلِح. قال له أحمد بدير مُعتذرًا: «إني صِحافيٌّ وفدي، والوفد حزبٌ رأسمالي.» وقاله له مأمون رضوان بإيمانه المعروف: «للإسلام اشتراكيته المعقولة، فيه الزكاة التي تَضمَن لو طُبقت بدقةٍ العدالة الاجتماعية دون جَور على الغرائز التي يستمدُّ الإنسان منها العَون في كفاحه؛ فإذا أردت للدنيا نظامًا يهيِّئ لها الأخوَّة الحقَّة والسعادة والعدالة، فدُونك والإسلام.» أما محجوب عبد الدائم فهزَّ منكبَيه استهانةً وقال باقتضاب: «طظ.» ومهما يكُن من أمر فقد عرف لحياته هدفًا أنقذه من الحيرة والفوضى والفساد، وحُقَّ له أن يقول على نفسه مسرورًا: «هاكم بطاقتي الشخصية وهي تُغْني عن كل تعريف؛ فقير واشتراكي، مُلحِد وشريف، عاشقٌ عُذري!»

٥

انتظر محجوب عبد الدائم في حُجرته كذلك، ولكن دون أن يغيِّر ملابسه؛ لأنه لم يكُن كصاحبَيه يَملِك بدلةً خاصة ليوم الخميس، وكان يرقُب الطريق من نافذته، فرأى مأمون رضوان وهو يُغادر الدار في مِشيته العسكرية، ولاحظ إيماءة الهوى بشُرفة الدار الصغيرة القديمة، ثم رأى العاشقَين الشابَّين يُوافي أحدهما الآخَر إلى شارع رشاد باشا، وشيَّع كلَّ واحد منهم جميعًا ﺑ «طظ» مُفعَمةً سخرية وحقدًا؛ فسُخريته تُضمِر دائمًا حِقدًا. وكان ينتظر ميعاده، إلا أنه يؤثِر الظُّلمة ويُحبُّ الستر، فخلت الدار تقريبًا إلا منه. كان محجوب عبد الدائم كمأمون رضوان طولًا ونحافة، إلا أنه شاحبٌ مُفلفل الشعر، يميِّز وجهَه جحوظُ عينَيه العسليتين وصعود شُعَيرات حاجبَيه إلى أعلى، هذا إلى نظرةٍ قلِقة متقلِّبة يُوحي بَريقها بالتحدِّي والسُّخرية، ولم يكُن به كصاحبَيه — جمالًا، ولكن لم يكُن بقسماته كذلك قبحٌ منفِّر. ولا يُخطئ الناظر إليه ما يدلُّ عليه مَنظره من التحدي؛ فما ينفكُّ في خوف من أن يقذفه بنُكتة أو دُعابة أو ملاحظةٍ لاذعة. وكان يرى حياته مليئة بالمُشكِلات، ويضع على رأسها جميعًا مشكلته الجنسية، ويصفها بأنها مشكلةٌ عسيرة الحل كالقضية المصرية سواءً بسواء! وقد رأى إحسان شحاتة، وطالما أثارت بركان شهوته، رآها — كما يرى أي امرأة أخرى — صدرًا وعجُزًا وساقَين، وكانت إحدى مَفاتنها هذه كافية لإطلاق شرارة كهربائية في صدره، ولكن الفتاة — على حد قوله — أحسنت الاختيار، وآثَرَت الفتى الأشقر ذا العينَين الخضراوين، ولبثت حياته مُقفِرة مُوحِشة؛ فقلبُه في ظلام، وعقله في ثورةٍ دائمة. كان صاحب فلسفة استعارَها من عقولٍ مختلفة كما شاء هواه، وفلسفته الحرية كما يفهمها هو، وطظ أصدَقُ شعار لها، هي التحرُّر من كل شيء، من القيم والمُثل والعقائد والمبادئ، من التراث الاجتماعي عامَّةً! وهو القائل لنفسه ساخرًا: «إن أسرتي لن تورِّثني شيئًا أسعد به؛ فلا يجوز أن أرث عنها ما أشقى به!» وكان يقول أيضًا: إن أصدق معادلة في الدنيا هي: الدين + العلم + الفلسفة + الأخلاق = طظ. وكان يُفسر الفلسفات بمنطقٍ ساخر يتَّسق مع هواه؛ فهو يُعجَب بقول ديكارت: «أنا أفكِّر فأنا موجود.» ويتَّفق معه على أن النفس أساس الوجود، ثم يقول بعد ذلك إن نفسه أهم ما في الوجود! وسعادتها هي كل ما يعنيه. ويُعجَب كذلك بما يقوله الاجتماعيون من أن المجتمع خالق القيم الأخلاقية والدينية جميعًا؛ ولذلك يرى من الجهالة والحُمق أن يقف مبدأ أو قيمة حَجرَ عثرةٍ في سبيل نفسه وسعادتها! وإذا كان العلم هو الذي هيَّأ له التحرُّر من الأوهام، فليس يعني هذا أن يؤمن به أو أن يهَبه حياته، ولكن حسبُه أن يستغلَّه وأن يُفيد منه؛ فلم تكُن سخريته من رجال العلم دون سخريته من رجال الدين، وإنما غايته في دنياه اللذة والقوة، بأيسر السُّبل والوسائل، ودون مُراعاة لخُلق أو دين أو فضيلة. لقد استعار هذه الفلسفة بإرشاد هواه، ولكن تهيُّؤه لها نما معه منذ أمدٍ بعيد؛ فهو مَدِين بنشأته للشارع والفِطرة. كان والداه طيِّبَين جاهلين، ولظروفهما الخاصة أتمَّ تكوينه في طُرُق بلدة القناطر، وكان لِداتُه صِبيةً شُطارًا ينطلقون على فطرتهم بلا وازع ولا تهذيب، فسبَّ وقذف، واعتدى واعتُدي عليه، وتردَّى إلى الهاوية. ولما انتقل إلى جوٍّ جديد — المدرسة — أخذ يُدرك أنه كان يحيا حياةً قذِرة، وعانت نفسه مرارة العار والخوف والقلق والتمرُّد، ثم وجد نفسه في بيئةٍ جديدة، طالبًا من طلاب العلم بالجامعة، ورأى حوله شُبانًا مهذَّبين يطمحون إلى الآمال البعيدة والمُثل العالية، ولكنه عثَر كذلك على نزعاتٍ غريبة وآراء لم تدُر له بخَلَد. عثر على موضة الإلحاد والتفسيرات التي يبشِّر بها علماء النفس والاجتماع والأخلاق والظاهرات الاجتماعية الأخرى، وسُرَّ بها سرورًا شيطانيًّا، وجمع من نُخالتها فلسفةً خاصَّة اطمأنَّ بها قلبه الذي نهكه الشعور بالضعة. لقد كان وغدًا ساقطًا مُضمحلًّا، فصار في غمضة عين فيلسوفًا! المجتمع ساحرٌ قديم، جعل من أشياء فضائل، وجعل من أشياء رذائل، وقد وقف على سرِّه وبرع في سحره، وسيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل! وفرك يدَيه سرورًا، وذكر ماضيَه أطيَب الذِّكر، ورمق مستقبله بعين الاستبشار، وألقى عن عاتقه شعور الضعة. بيدَ أنه أدرك منذ اللحظة الأولى أن فلسفته سِرِّية، يجوز أن يدعوَ مأمون رضوان إلى الإسلام جِهارًا، ويجوز أن يُعلِن علي طه اعتناقه لحرية الفكر والاشتراكية، أما فلسفته فينبغي أن تظلَّ سِرية — لا احترامًا للرأي العام؛ فإن من مبادئها احتقار كل شيء — ولكن لأنها لا تؤتي أُكُلها إلا إذا كفر الناس بها، وآمَن بها وحده! ألا ترى أنه إذا آمَن الناس جميعًا بالرذيلة لم يتميز بينهم بما يُتيح له التفوق عليهم؟ لذلك احتفظ بها لنفسه، ولم يُعلِن منها ما هو في حكم الموضة كالإلحاد وحرية الفكر، إلا إذا ضاق صدره أو غلبه شعور الوحشة، فإنه ينفس عن قلبه بالمزاح والسُّخرية، فبدا للقوم ماجنًا لا شيطانًا مُجرمًا، ومضى في سبيله فقيرًا بلا خُلقٍ يرصد الفرص، ويتوثب للانقضاض عليها بجرأة لا تعرف الحدود.

•••

لبِث في حجرته ينتظر الظلام، فلقلبه أيضًا مغامرات، ولكن حبه كفلسفته لا يحيا في النور، وما فتاته في الواقع إلا جامعة أعقاب سجائر. ولشدَّ ما أغضبه حظُّه في الحب، ولكن ما الحيلة ونقودُه لا تكاد تفي بضرورات الحياة؟ وكثيرًا ما يهزأ بنفسه فيقول: «لست خيرًا منها؛ فهي جامعة أعقاب سجائر، وأنا جامع أعقاب فلسفة، ثم إني في نظر المجتمع شرٌّ منها!» وقد رمَت بها المصادفات بين يدَيه، فلم يدع الفرصة تفلت، وقال مُتعزيًا: من تواضَع لله رفعه. رآها ذات مساء — وكان يتمشَّى في طريق العزبة المُقفِر — وراء شجرة تين مع أحد بوَّابي شارع رشاد باشا، فتربَّص بها حتى رآها تسير بمفردها بعد أن عاد النوبي إلى الشارع الآخر، واقترب منها بجرأته، ولمس منكبها وهو يقول مُبتسمًا: رأيت كل شيء.

فتوقَّفت الفتاة عن المسير، ورمقته بعينٍ داهشة، وتبيَّنها على ضوء الطريق فوجدها شديدة السُّمرة، كاعب الثديَين، فاضطربت أنفاسه، وحدجها بعين نَمِر مُفترس … وأفاقت الفتاة من دهشتها، فسألته باستهانة: ماذا رأيت؟

فأجاب محجوب وعيناه تقولان لها «بَرَح الخفاء»: شجرة التين … البواب …

فسألته بنفس اللهجة الدالَّة على الاستهانة: وماذا تريد؟

فقال بصوتٍ مُضطرب: مِثلَه.

– أين؟

– ليكُن نفس المكان.

فدارت على عقبَيها، ولكنها قالت قبل أن تهمَّ بالمسير، وبصوتٍ يدل على الإنذار: ثلاثة قروش!

فغَمغَم بارتياح: جميل.

ثمنٌ زهيد لا تنوء به ميزانيته والفتاة لا تخلو من ثديٍ كاعب. بيدَ أنه يرجو أن تكون سُمرتها القاتمة لونًا طبيعيًّا لا تُرابًا مُتلبدًا، وما عليه بعد ذلك إلا أن يتحمَّل الرائحة الكريهة المُنبعثة من جسدها. لا بأس؛ فشيءٌ خير من لا شيء. وهل ينسى أنه نفسه لم يكُن يستحم — في القناطر — إلا في المَواسم؟ بل إنه ليتساءل: ألا يسوِّي الظلام بين النساء جميعًا؟ وسألها وهما عائدان: ألك عهدٌ طويل بالبواب؟

– كلَّا. هذه أول ليلة.

– ألم تتواعدا مرةً أخرى؟

– كلَّا.

فقال محجوب بارتياح: ولكن لن تكون الليلة آخر ليالينا.

فتَمتَمت وهي تُثبِت الخِمار على رأسها: وجب.

•••

وكان الظلام يَبتلع الكون، وما زال بموقفه من النافذة ينتظر موعد صاحبته، ثم سمع نقرًا على الباب، فدلف منه وفتحه، فرأى بواب الدار يلوِّح له بخطاب، وأخذ الخطاب وردَّ الباب، وألقى على الظرف نظرةً سريعة فرأى ختم القناطر، ثم لاحظ بسهولةٍ أن الخط غير خط أبيه، فمن عسى أن يكون كاتبه؟ إنه يرى ذلك الخط أول مرة …

٦

وفضَّ الغِلاف مُتعجبًا وقرأ ما يأتي:

حضرة الشاب الفاضل محجوب أفندي عبد الدايم:

السلام عليكم ورحمة الله، وبعد، فإنه يؤسِفنا أن نُخبِركم بأن والدكم العزيز مريض ومُلازم الفِراش، ونسأل الله أن يجعل العواقب سالمة، ولكن لا بد من حضورك في أقرب وقت لتطمئنَّ عليه بنفسك، وقد طلبوا إليَّ أن أكتب هذا إليك فلا تتأخر، والسلام.

شلبي العفش (صاحب بقالة القناطر الخيرية)

هذا يعني أن أباه في حالة عجز تمنعه من أن يُمسِك بالقلم، فماذا أصابه؟ وقرأ الكتاب للمرة الثانية وقد لاحَ الوُجوم في وجهه الشاحب، وجعل يشدُّ حاجبه الأيسر بأنامله، ومن عَجبٍ أنه لا يذكُر أن أباه شكا المرض يومًا ما. كان دائمًا متين البُنيان ثقيل الخطوات؛ فلا شكَّ أن مرضًا خطيرًا غدر به وأعجزه. تُرى ما الذي يُخبئه الغَيب؟ … وماذا يدَّخر له ولوالدته؟

ولكن لا يجوز أن يُضيع الوقت سدًى، أو أن يؤخِّر سفره دقيقة، وكتب كلمة لمأمون رضوان يشرح سبب سفره المُفاجئ، ولفَّ جلبابه في جريدةٍ قديمة، ثم غادَر الدار. لم يمضِ إلى الشارع العزبة كما كان يرجو منذ دقائق، ولكنه أخذ في شارع رشاد باشا أو شارع علي وإحسان كما يدعوه ساخرًا، ومضى يحدِّث نفسه قائلًا: «لو انتهى أجل الرجل لوئدت آمالي جميعًا … ربَّاه! أيمكن أن يحدُث هذا وما عاد بيني وبين الامتحان النهائي سوى أربعة أشهُر؟!» وجد في الطريق المُقفِرة الغارقة قصورُه في جلال الصمت لا يسمع إلا وقْعَ قدمَيه، حتى بلَغ الجيزة، واستقلَّ الترام، تظلِّل الكآبة وجهه وعينَيه، وفي جلسته المحزونة سرح به فِكره إلى صاحبَيه المقرَّبَين، مأمون رضوان وعلي طه، فنفَس عليهما ما يتمتَّعان به من طمأنينة وثقة. مأمون رضوان أبوه مدرس بالمعاهد، ذو مرتِّب حسن؛ فلا تعيش أسرته في ظل الخوف، وهو يُعطي الشابَّ ما يكفيه وأكثر، ولولا حمق مأمون الذي جعله يوقف حياته على العلم والعبادة لكانت له لذَّات الحياة، ولكنه أحمق، والحَمقى دائمًا مجدودون. أما علي طه فأبُوه مُترجم ببلدية الإسكندرية ذو مرتِّب ضخم، والشابُّ يُقبِل على التمتُّع بالحياة في حدود مُثُله؛ فهو شابٌّ سعيد، وحسبُه إحسان كي يكون سعيدًا، ولعل إنسانًا ما لم يُثِر حسده كما يُثيره هذا الشابُّ الجميل الموفَّق، هو هو البائس! … أبوه — تُرى ألا يزال أباه؟ — كاتبٌ بشركة الألبان اليونانية بالقناطر، خدمة خمسة وعشرين عامًا ومرتَّب ثمانية جُنيهات، وإذا انقطع عن العمل فمُكافأة أشهُر معدودات، وكان الرجل يبذل له من مرتِّبه ثلاثة جُنيهات شهريًّا أثناء السنة الدراسية، فنهضت بالضرورات من مَسكن ومأكل ومَلبس، ورضِيَ بها الشاب رضاءَ المتمرِّد المغلوب على أمره، وجعل يرمق مَلاذَّ القاهرة من بعيد، ويسترق السمع إلى أخبارها بنَهم وألم. كان ينطوي على شهوةٍ جامحة بقدر ما يضيق بطموح جشع. توارَدت عليه هذه الخواطر، فساءته تلك الساعة أكثر من أي وقت مضى، ثم فكَّر في العلاقة التي تربطه بهما، وفيما يُسمونه بالصداقة، غافلًا عن مَشاهد الحقول والمياه التي يطويها الترام في جريه السريع. أله صديق حقًّا؟ كلَّا، وما الصداقة إلا إحدى الفضائل التي كفر بها؟! حقًّا إنه يميل إليهما كثيرًا؛ فنِقاش مأمون يستهويه، وروح علي تجذبه إليه، ويلذُّه أن يجتمع بهما يتحادثون ويتحاورون، ولكن ما شأن ذلك كله بما هو معروف عن الصداقة؟! إنه مع ذلك يحسدهما ويمقُتهما؟ ولا يتردد عن إبادتهما لو وجد في ذلك نفعًا. ومضى يقول لنفسه بلهجة التحريض: «الحرية المُطلَقة … طظ المُطلَقة … ليكُن لي أسوةٌ حسنة في إبليس … الرمز الكامل للكمال المُطلَق … هو التمرُّد الحق، والكبرياء الحق، والطموح الحق، والثورة على جميع المبادئ! وانتهى الترام إلى محطة الإسعاف، فتركه واستقلَّ ترامًا آخر إلى ميدان المحطة، ومن ثَم إلى المحطة نفسها، ثم انطلق إلى شُبَّاك تذاكر الدرجة الثالثة، وابتاع تذكرة. ولما تحوَّل عن الشباك وجد نفسه أمام شاب في الثلاثين، مُتوسط القامة مع ميل إلى القِصر والبدانة، مثلَّث الوجه كبيره، كثيف الحاجبَين، حادِّ البصر، مُستدير العينَين، يُلقي على ما حوله نظرةً مُتعالية كلُّها ثقة وزهو، فعرفه، ودنا منه مادًّا إليه يده باحترام هاتفًا: الأستاذ سالم الإخشيدي! … السلام عليكم …

فالتفت إليه دون أن تتغيَّر ملامح وجهه، ونادرًا ما يتغير وجهه؛ فهو لا يندهش ولا ينزعج، ولا يبدو عليه سرور ولا حزن؛ فإذا أراد أن يُعلِن غضبه — وكثيرًا ما يفعل — استعان بنبرات صوته الغليظ. التفت نحو محجوب وقال بهدوء ورزانة: كيف أنت يا محجوب؟

– شكرًا لك والحمد لله … ولكن ما الذي جاء بالأستاذ إلى المحطة؟

فقال الإخشيدي بصوته الرزين: مُسافر إلى بلدتنا القناطر لزيارة والدي، ولكن ما الذي جاء بك أنت وليس الوقت بمَوسم إجازات؟

فقال محجوب بأسفٍ ظاهر: إلى القناطر أيضًا لعيادة والدي المريض.

– عبد الدايم أفندي مريض؟ … كتب الله له السلامة. بلِّغه تحيَّاتي.

ثم سارا جنبًا لجنب في اتجاه موقف القطار، وكانت أخبار الإخشيدي انقطعت عن محجوب فترةً يسيرة، فسأله: ألا تزال يا أستاذ سكرتيرًا لقاسم بك فهمي؟

فلاحت شِبه ابتسامة في عينَي الإخشيدي، وقال: أنا مرشَّحٌ الآن لوظيفة مُدير مكتبه. المذكِّرة في المستخدمين.

فقال بسرورٍ ظاهر لا ظل له في نفسه: مُبارَك … مُبارَك يا أستاذ!

فرفع الرجل حاجبَيه بزهو، وقال باقتضاب: درجة خامسة.

فهتف محجوب: مُبارَك … مُبارَك، العُقبى للرابعة.

فقال الإخشيدي مُتفلسفًا: بلدنا منهوبٌ مسلوب، مسئوليَّاته بيد الضعفاء الأغبياء، ومهما نرتقِ فلن نزال دون ما نستحق!

فأمَّن محجوب على قوله قائلًا: صدقت يا أستاذ.

ثم استأذن الإخشيدي واتَّجه نحو عربة الدرجة الأولى، وأتبعه الشابُّ عينَيه حتى اختفى، ثم سار إلى الدرجة الثالثة تعلو وجهَه الكآبةُ والأحلام، واتَّخذ مجلسه من العربة ورأسه لا يَنِي عن التفكير، والإخشيدي لا يَبرَح خياله. منذ عامَين كان الإخشيدي طالب ليسانس مِثله — محجوب — الآن، ولعله كان مِثله أيضًا يكفر بالمبادئ، ولكن دون جلَبة أو ضوضاء، وربما كانا لا يختلفان اختلافًا جوهريًّا في شيء فهمًا في الذكاء سواءً، وهما في الأخلاق— أو عدم الأخلاق — سواء. ولكنهما جِدُّ مُختلفَين في الأعصاب: فسالمٌ الإخشيدي يَزِن كلامه وزنًا دقيقًا، ولم يُعرَف عنه أنه مسَّ مبدأً من المبادئ أو خُلقًا من الأخلاق بكلمة سوء، أما محجوب فعلى حذره سخِر من كل شيء. ومما يذكُره محجوب ولا ينساه أن صاحبه عُرِف آخر عهده بالكلية كزعيمٍ خطير من زُعماء الطلبة، وكان من أبطال لجان المقاطعة وموزِّعي المنشورات ضد الدستور الجديد. ومما يذكُره ولا ينساه كذلك أن الإخشيدي دُعي يومًا لمقابلة الوزير، فذاعت عن المقابلة الأقاويل، وتوقَّع كثيرون أن يقع اضطهاد أو بغي، ولكن الفتى انقلب فجأةً وبغير تدرُّج، انسحب من ميدان السياسة كله، وتوقَّف نشاطه الذي لم يكُن يعرف الحدود، ولم يعُد يُرى إلا في حجرات المحاضرات، ولكن إذا واجهه أحد بسؤال عن سر انقلابه أجابه ببروده المعهود: «ميدان الجهاد الحقيقي للطلبة: العلم!» ثم حصل على الليسانس، وعُيِّن — قبل أوائل الطلبة — سكرتيرًا لقاسم بك فهمي، وكان واسطته الوزير نفسه، بل وُضع في السادسة — وهي وقتذاك فردوسٌ مفقود — وها هو يُرشَّح للخامسة قبل أن يمضيَ على تعيينه سنتان، وبعد أن استقال بمدةٍ كبيرةٍ الوزير الذي عيَّنه؛ مما يدل على أنه حاز ثقة قاسم بك نفسه، وأنه يسير قُدمًا. يا له من مثالٍ يُحتذى! يا له من رجلٍ يستحقُّ من الإعجاب قدر ما يستوجب من الحسد! … لكَم يبدو عليه جاه المَنصب وإقبال الحياة! … ماذا يَضيره إذا احتقره مأمون رضوان أو علي طه؟! … طظ …

وكان القطار يطوي الأرض طيًّا، والبرودة تنفُذ إلى الداخل على الرغم من إحكام غلق النوافذ، ولكنه لم يشعر بالبرودة تمامًا إلا حين كفَّ عن التفكير، فزرَّر الجاكتة واعتدل في جلسته. سُرعان ما عاد إلى تذكُّر أبيه المريض، فأدرك أنه يغرق في الأحلام مُتغافلًا عن الهاوية تحت قدمَيه. وعاد إلى وُجومه مُرسِلًا نظرةً حزينةً كئيبة، حتى وقف القطار في القناطر، فأخذ لِفافتَه وغادَره، ثم ترك المحطة إلى الطريق العام، وألقى على المدينة نظرةً شاملة، وهتف: «يا قناطر يا بلدنا … وزَّعي الحظ بين أبنائك بالعدل!»

٧

ولم تمضِ سوى دقائق معدودات حتى وجد نفسه أمام البيت الصغير الذي وُلد فيه؛ بيت من طابقٍ واحد، يتقدمه فِناءٌ تُرابي مسوَّر بدرابزين خشبي، يدلُّ مظهره على البساطة والتقشُّف.

وكان يُواجه المحطَّة في الجانب الآخر من الطريق، ويُطلُّ سطحه على الحقول فيما وراء السكة الحديدية، وبدا البيت مُظلِمًا غيرَ بصيصِ نور يلوح من خَصاص نافذة أبيه، فخفق قلبه خفقانًا مُتداركًا، وصرخ به الخوف والرجاء، واجتاز الفِناء إلى المدخل وطرَقه بخفَّة، فسمع وقع قَبقاب، وعرف صاحبته وفتح الباب، وبدا شبحها وراءه، فأقبل نحوها قائلًا: مساء الخير يا أمَّاه.

فسمع صوتًا مُتنهدًا: «أنت!» ثم أخذت يده بين يدَيها، وقالت بنفس الصوت المُتعَب: كيف أنت يا بُنَي؟ حدَّثني قلبي بأنك الطارق.

وكان الدهليز مُظلِمًا فلم يتبين ملامح وجهها، فردَّ الباب وهو يتساءل بلهفة: أمَّاه … ماذا حدث؟ … كيف حال أبي؟

فقالت المرأة بصوتٍ محزون: ربنا يأخذ بيده.

ووضع لِفافة الجلباب على خِوان، ودخل الحجرة بقدمَين مُحاذرتين، وسبقته عيناه إلى الراقد على الفِراش، واقترب منه، وكان رأس الرجل مائلًا نحو الجدار، غَمغَم بصوتٍ خافت: مساء الخير يا أبي … كيف حالك؟

ولم يبدُ على الأب أنه سمع حسًّا أو أدرك شيئًا، فانحنت الأم على رأسه وقالت: محجوب يمسِّي عليك …

واعتدل رأس الرجل ببطء، وتحرَّك جَفناه، ثم أبرز يُسراه، فأخذها محجوب بين يدَيه وقبَّلها، وبدا الرجل مريضًا جدًّا، وبدت عيناه مُظلِمتَين كأنهما تقطُران من ماءٍ آسن، وفمه مُعوجًّا. قال محجوب: أبي … كيف أنت؟ … لا حول ولا قوة إلا بالله …

وثبَّت الرجل عينَيه عليه، وتكلَّم بصوتٍ مُتحشرج، مُتقطع المَخارج، قائلًا: لم يُعاوِدني النطق إلا ظُهْر اليوم!

فارتاع محجوب وسأل أمه: هل عجز وقتًا عن النطق؟

فقالت المرأة المتعَبة: أجل يا بُنَي، كان في عمله عصر الثلاثاء الماضي كالعادة، فسقط فجأةً فاقد النطق، وجاءوا به محمولًا، ودعَوا بالطبيب، وأتى الطبيب فحجمه وحقنه، ولا يزال يعوده كل صباح، ولكن لم يُعاوده النطق إلا قبل ظهر اليوم.

– ماذا قال الطبيب؟

فلاحت في عينَيها نظرةٌ حَيرى، وتحرَّكت شفتاها دون أن يُسمَع لها صوت، فقال أبوه: قال إنه شلل … شلل … جزئي …

وارتاع الشاب لفظاعة الاسم، وإن كان يجهل حقيقته كل الجهل.

وأرادت أمه أن تُفرِخ روعه فقالت: ولكنه أكَّد صباح اليوم زوال الخطر …

فاستطرد الأب بصوته المتقطِّع الغامض: إني … أفهم … ما يُقال … لن أعود كما كنت أبدًا …

فعضَّ محجوب على شفتَيه وسأل والدته: هل وقع الأمر بغتةً؟

– كلَّا يا بُنَي، كان أبوك كعهدنا به صحةً وعافية، بيدَ أن ثقلًا اعتوَر ساقه اليمنى، وصُداعًا شقَّ عليه مساء الإثنين …

وساد الصمت، فأغمض المريض جَفنَيه، ولبث بلا حراك، كأنما راح في سُباتٍ عميق، وعطف الشاب رأسه إلى أمه، فأيقن أول وهلة أنها لم تذُق للنوم طعمًا منذ مساء الثلاثاء، عيناها محمرَّتان ذابلتان، تطوقهما هالتان زرقاوان، وبشرتها شديدة الصُّفرة، وامتلأ حزنًا وكمدًا، ولاح والداه لعينَيه مخلوقين بائسين مِثله تمامًا، وجلس على كرسي قريبًا من الفِراش ثم أطرق مُتفكرًا: هذه أسرةٌ يتعلق مصيرها بحياة رجل مهدَّم، فماذا تحت الجَفنَين المُطبِقَين؟ … أحياة أم موت؟ … أنجاح أم تشرُّد؟ لماذا لم يتأخر الشلل عامًا آخر؟! وذكر شارع رشاد باشا الصامت الجليل، والقصور القائمة على جانبَيه، والباشوات والبكوات تحملهم السيَّارات منه وإليه، والنساء اللاتي يلُحنَ وراء ستائره وبين خمائله، فأين من أولئك والداه البائسان؟! وهذا البيت المُتداعي! وجعل يقول لنفسه: إنه لو كان وريث أحد تلك القصور وأشفى أبوه — الباشا — على الموت، لانتظر موته بفارغ الصبر، وتنهَّد من قلبٍ مكلوم وقد احتدم الغيظ في قلبه، ثم تساءل وهو لا يتحوَّل عن إطراقه: تُرى كيف تنتهي هذه المأساة؟!

•••

واسترق النظر إلى أمه، وكانت تجلس مُطرِقةً عند قدمَيه، فرآها غارقةً في السواد الذي حلفت ألا تخلعه مدى الحياة منذ ماتت له أختان بالتيفود، ذابلة الوجه، تبدو أكبر من سنِّها الذي جاوَز الخمسين بقليل، تنوء بأثقالِ عمرٍ أنفقَته أمام لهب الكانون ووهج الفرن، تعجن وتخبز وتغسل وتكنس، فتحجَّرت أصابع يدَيها، وبرَزَت عروق ظاهر كفَّيها، لم تجِد في حياتها وقتًا للثرثرة، كانت كالبترول الذي يحرِّك آلةً كبيرة دون أن تُدركه الحواس، وكانت تحب ابنها حب عبادة، وقد تضاعَف هذا الحب بعد وفاة شقيقتَيه في ميعة الصِّبا، ولكنها لم تترك أثرًا يُذكَر في تكوينه وتربيته، وكانت لا تجد في حياتها مَن تكلِّمه، فعاشت كالبُكم في صمت وجهالة. وقد أقسرت الظروف أباه على الاختفاء من حياته كذلك، فكان يُواصل العمل في الشركة من الصباح حتى ما بعد العشاء، ثم يهرع بعد ذلك إلى حلقات الأذكار حتى منتصف الليل، فكان لا يكاد يرى ابنه. وكان رجلًا مُجدًّا دءوبًا، مُخلِصًا لبيئته، وصورة منها، لا يشذُّ عنها في شيء، يُفاخر كثيرًا بقرابته لأحد كبار الموظَّفين — قريب زوجته — وكان كزوجه لا يعرف الراحة، فلم يَهنأ بحياته الزوجية، واقتصرت رعايته لابنه على إلزامه بالقيام ببعض فروض دينه مُستعينًا بالعصا في أحايين كثيرة؛ لذلك جميعِه نشأ محجوب على خوف من أبيه، وانطلق إلى الشارع الذي أتمَّ تربيته وتكوينه؛ ولذلك كانت صلته بوالدَيه واهيةً باهتة. كان يُحب أمه أكثر من أبيه، ولكنه بات على استعداد دائمًا لأن يُخضع صلته بهما لفلسفته المدمِّرة التي لا تُبقي على شيء؛ فلم يكُن حزنه حزنًا على والده بقدر ما كان إشفاقًا على الرجل الذي يُنفِق عليه ثلاثة جُنَيهات كل شهر.

٨

في صباح اليوم الثاني جاء الطبيب وفحص المريض وحقنه بالكافور، ثم صرَّح بارتياحه للحالة مؤكِّدًا أن الخطر زال تمامًا، وغادَر الرجل الحجرة يَتبَعه محجوب حتى أدركه في الفِناء، والتفت الطبيب إليه وقد أدرك الباعث الذي حمله على اللحاق به: الحقيقة ما قلت لأبيك، الإصابة جزئية، وإلا كانت القاضية، بيدَ أني صارَحتُه كذلك بأنه لن يعود إلى عمله، وسيُلازم الفِراش بضعةَ أشهُر، ولكنه سيُحرك جنبه المشلول، بل ربما عاوَد المشي.

ووقف انتباهه عند «لن يعود إلى عمله»؛ فلم يدرِ شيئًا مما قال بعد ذلك، وأظلمت الدنيا في عينَيه، وعاد إلى الحجرة ذاهلًا، وكان أبوه ذا طبيعةٍ عملية، لا يدع أمرًا معلَّقًا إذا أمكن أن يبتَّ فيه برأي، فدعا ابنه إلى الاقتراب من الفِراش، وقال بلسانٍ ثقيل: أصغِ إليَّ يا بُنَي، لن أعود إلى عملي بالشركة، هذه هي الحقيقة، فماذا ترى؟

فازداد صدر محجوب انقباضًا، ولازَم الصمت في انتظار النطق بالحكم، فاستدرك الرجل: ربما منحتني الشركة مكافأةً صغيرة، ستُفقَد بلا ريبٍ قبل مُضيِّ أشهُر قلائل، بل المؤكَّد أنه لن يبقى منها شيء بعد ثلاثة أو أربعة أشهر على الأكثر، ولكن لن أعدم نصيرًا يجد لك وظيفةً تنهض بنا جميعًا …

فقال محجوب بتوسُّل وقد نطقت عيناه بالألم والقُنوط: الامتحان يا أبي على الأبواب، نحن في يناير وهو في مايو، أما إذا وُظِّفت الآن فسأُعَدَّ كحامل البكالوريا، وفي ذلك ضياع لمستقبلي عظيم …

فقال الأب بحزن: أعلم ذلك، ولكن ما الحيلة؟ أخاف أن نتعرَّض للفضيحة أو نهلك جوعًا!

فقال الشابُّ بتوسُّل حارٍّ، وبصوتٍ ملأه حماسًا وقوة: أربعة أشهر، أربعة أشهر فقط بيني وبين ثمرة كد خمسة عشر عامًا … أمهِلني قليلًا يا أبتي، ستكفينا المكافأة حتى أنهض على قدميَّ، لن نجوع، ولن نتعرَّض للفضيحة بإذن الله.

– وماذا يكون من أمرنا إذا أخطأ تقديرك؟ … إذا خاب سعيك لا قدَّر الله؟ إن حياتنا بيدَيك؟

فقال محجوب وهو يعضُّ بنواجذه على أهداب الأمل: أنت لا تدري يا أبي كيف سيكون اجتهادي! لن يحول بيني وبين النجاح حائل!

وتردَّد الشاب لحظةً ثم قال: وهناك قريب والدتي أحمد بك حمديس!

ولكن والده رفع يُسراه محتجًّا، وقطَّب استياءً، فخاف الشابُّ أن يفقد عطفه، وأن يذهب ما بذل في إقناعه هباءً، فقال بسرعة: لا حاجة بنا إلى معونة أحد، وستسير الأمور بإذن الله وَفْق آمالي.

وأدرك أنه أخطأ بذِكر قريبهم العظيم الذي تناساهم واحتقر صلته بهم منذ تبوَّأ مَركزه الرفيع. أجل إن والدي يُفاخر جِهارًا — على مسمع من الغُرباء — بقرابته، ولكن طالما أنحى عليه باللائمة أمام والدته، وطالما أضمر له الاستياء واللوم. أدرك محجوب ذلك نادمًا، وعاد يقول: لا حاجة بنا إلى معونة أحد، ولكن ينبغي أن نستوصيَ بالصبر، وأن نطمئنَّ إلى رحمة الله. أربعة أشهر فحسب، وبعدها الفرج!

وكان أبوه يَعلَم أن المُكافأة تكفيهم — مع التقتير — خمسة أشهر أو ستة، فتفكَّر مليًّا ثم سأله: تستطيع أن تعيش بجنيهٍ واحد في الشهر؟

جنيه واحد! أو ما يُساوي إيجار حجرة بدار الطلبة؟ … ربَّاه، بالأمس ضاقت به الدنيا ونفقته ثلاثة جنيهات، فماذا هو صانع غدًا بجنيهٍ واحد؟ ولم يُمهِله الرجل طويلًا، فاستدرك قائلًا: لا حيلة لي، والخيار بين يدَيك!

هل يملك خيارًا حقًّا؟ كلَّا، إن أباه مُكرَه، وما عليه إلا الإذعان والتسليم. قال: لتكُن مشيئتك.

فقال الشيخ: لتكُن مشيئة الله، والله مسئولٌ أن يوفِّقك لما فيه الخير، وأن يصل بك جَناحنا المَهيض.

واقترح الرجل على ابنه أن يرحل مساءً حتى لا يضيع وقتًا هو في أشد الحاجة إليه، وعند المساء ودَّع الشاب والدَيه، فقبَّل يد والده، واستسلم لأمه تقبِّله وتُباركه، وحين همَّ بمغادرة الحجرة سمِع والده يقول له: الله معك، اجتهِد وتوكَّل على الله، ولا تنسَ أنك أملنا الوحيد …

ومضى إلى المحطة، ومهما يكُن من أمر فقد استُنقذ من الحيرة التي نهكته عند مجيئه، وعلِم الآن أن أمله لا يزال معلَّقًا بخيط لم يُقطَع بعد. أما ما يُنذِر به المستقبل من متاعب فسيعرف كيف يُعالجها مهما كلَّفه الأمر، وودَّع البلد وداعًا فاترًا، واتَّخذ مكانه بالقطار، وسُرعان ما تناسى البيت والأسرة فلم يعُد يذكُر إلا نفسه. تساءل وهو ينتف حاجبه الأيسر: لماذا قُدِّر له أن يولد في ذلك البيت؟ وماذا ورث عن والدَيه سِوى الهوان والفقر والدمامة؟ أليس من الظلم أن يرسف في هذه الأغلال قبل أن يرى النور؟ ولو كان ابن حمديس بك مثلًا لكان له جسمٌ غير هذا الجسم، ووجهٌ غير هذا الوجه، وحظٌّ غير هذا الحظ، ولذاقَ الطمأنينة والسلام، ولاقتنى سيَّارة. وتفكَّر محزونًا في الفقر الذي يتربَّص به، فرآه يبتسم إليه هازئًا كأنما يقول له: «ما استطعت دفعي بثلاثة جنيهات، فهل تدفعني غدًا بجنيه واحد؟!» أين يسكن؟ … كيف يأكل؟ … وهزَّ رأسه في كمد، ولكنه لم يشعر بخور أو تخاذُل. كان عظيم الثقة بنفسه، جريئًا إلى أقصى حد، بيدَ أنه تميَّز غيظًا وحنقًا.

٩

وشارَف شارع رشاد باشا والشمس تذوب في بُحيرة الشفق الدامية، والسُّمرة تلوِّن حواشيَ الآفاق، ولاحت منه التفاتةٌ وهو ينعطف إلى الشارع، فرأى علي طه قادمًا من ناحية الجامعة، فوقف ينتظره، وتصافَحا، ثم قال علي باهتمام: حدَّثني الأستاذ مأمون عن مرض والدك، فأسفت لذلك غاية الأسف، وإنه ليسرُّني أن أستدلَّ بسرعة عودتك على اطمئنانك!

وكرِه أن يُطلِع مخلوقًا على أحزانه، فقال باقتضاب مُبتسمًا: شكرًا لك …

– أليس هو بخير؟

– بلى … شكرًا.

وسارَا جنبًا لجنب على مهل كأنهما يتنزَّهان، وتساءل محجوب: تُرى أآتٍ صاحبه من مَوعد غرام أم ذاهب إليه؟! هذا الشابُّ الذي يجد في مَحضره من دواعي السرور قدر ما يجد من دواعي الألم. واسترق إليه النظر، فرآه يسير حالمًا يُضيء الابتسام وجهه، ويقبس جبينه من نور البِشر والبشاشة، ويهتزُّ طربًا من نشوة الحب. أليس توفيق العاشق كظَفر المُحارب لذةً وخُيلاء؟ وشعر برغبة لا تُقاوَم في استدراجه إلى هذا الحديث الجميل، فقال مُشيرًا إلى مَغارس الشجر مُبتسمًا ابتسامة لها معناها: آه لو ينطق هذا الشجر!

ففطِن علي طه إلى مَرمى إشارته، وكان وجدانه من اليقظة بحيث ألحَّت عليه الإبانة والحاجة إلى التعبير، فقال بتأثُّر: أستاذ محجوب، هو ما تظن، ولكن لا تنظر إلى الأمر بعين السخرية، كلَّا، ما هو بالهزل، إن هزة قلب خطير له من المَغزى في هذا الوجود ما لحركة الأفلاك في السموات، فلا تذكر أبدًا خزَّان البُخار وصمام الأمن.

وشعر محجوب نحو محدِّثه باحتقارٍ شديد، ضاعَفه ما نمَّت عليه نبراته من التأثر، وضاعَفه أيضًا ما يُكنُّه له من الحسد، وقال في نفسه ساخرًا: حتى وظيفة التناسل يريد الأحمق أن يجعل منها مِحرابًا مقدَّسًا. ثم قال بهدوء وبرود: يا أيها العاشقون، لا أعبد ما تعبدون!

فابتسم علي قائلًا: ولا نحن عابدون ما تعبد.

وخاف محجوب أن تُعِيد سخريته الشابَّ إلى رشاده، فندِم على ما فرَط منه وأراد أن يُداريَه، فغيَّر لهجته، وتساءل باهتمامٍ ظاهري: غريبٌ أمر هذا الحب! … بيدَ أن فتاتك مُتفوقة حقًّا!

فقال علي بحماس: ليس الجمال فضيلتها الوحيدة؛ روحها لطيف، وفؤادها ذكي، ويُعجزني وايم الحق أن أعبِّر لك عن امتزاج روحَينا، هذه إحسان! …

واضطربت نفس الآخر لدى سماع الاسم، فامتلأ حنقًا فجأةً. تُرى أهذه هي الغَيرة التي يقولون عنها؟ … يا لَلعار! كيف يقع في ذلِّ الغَيرة من يطمح إلى تحطيم الأغلال جميعًا؟ وعاد يقول بلهجةٍ جديدة يُخفي بها سُخريةً جديدة: أظنُّ كمال هذا الامتزاج يُوجب أن تكون فتاتك محرَّرة من الدِّين، مؤمِنة بالمجتمع والمُثل العُليا والاشتراكية!

فقال علي برزانة: حسبُنا أن نحيا حياةً وجدانيةً روحيةً واحدة، وسوف يتَّحد عقلانا بالاختلاط، فنكون أسرةً سعيدة يومًا ما …

فقال محجوب باستغراب: أبلَغتما هذا الحد؟

– نعم.

– هل تكاشَفتُما؟

– نعم، سأنتظر حتى تنتهيَ من دراستها العُليا …

– مُبارَك يا أستاذ.

وعزَّ عليه أن يهنِّئ وهو أحق إنسان بالعزاء، وامتلأ شجنًا وانقباضًا. فاز عليٌّ بأجمل مليحة في القاهرة، وغدا الجسد اللَّدِن الطريُّ من نصيبه، واندفع إلى السؤال بغير روية: كيف عرفتَها؟ … في الطريق؟ …

فقال علي بدهشة: كلَّا … من النافذة!

– ولكن غيرُك نظر أيضًا؟

أفلتَت منه الجملة بغير رويَّة أيضًا، فندِم عليها أشدَّ الندم، وخاف أن يفهمها صاحبه على حقيقتها، فاستدرك يضلِّله: جيراننا الطلبة ينظرون كذلك …

فصمت علي مُبتسمًا، وسكت محجوب أن يورِده لسانه عثرةً جديدة، وشارَفا دار الطلبة: بدَت كالثُّكنة العسكرية، ببنائها الضخم ونوافذها العديدة الصغيرة، ورأيا في مُقابِلها — عند ناصية شارع العزبة — دار عم شحاتة تركي. كان الرجل واقفًا أمام دكانه، كان في الخمسين، أبيض البشرة، حسن الوجه، فقال محجوب لنفسه ساخرًا: «نِعمَ الصِّهر!» ودخلا الدار الكبيرة؛ أسعد الناس وأشقاهم.

١٠

واجتمع الأصدقاء الثلاثة في حجرة مأمون رضوان، وكانت النافذة مُغلَقة، والمِدفأة وسط الحجرة يعلوها غشاء من الرماد، وكان مأمون ينتقد خطبة الجمعة التي استمع إليها ظهرًا، وجعل يقول: إن خُطَب الجمعة في حاجةٍ ماسَّة إلى التجديد، وإنها بحالتها الراهنة دعوةٌ صريحة للجهل والخُرافة.

ولم تكُن خطبة الجمعة مما يأبه له صاحباه، بيدَ أن علي طه قال: الحاجة ماسَّة حقًّا إلى وُعَّاظ من نوعٍ جديد، من كُلِّيتنا لا من الأزهر، يبيِّنون للشعب أنه مسلوب الحقوق، ويدلُّونه على سبيل الخلاص …

وكان من عادة محجوب عبد الدائم أن يشترك في أحاديث صاحبَيه، لا عن إيمان برأي؛ فلم يكُن له رأيٌ يؤمن به، ولكن حبًّا في الجدل والسخرية، ولكنه شعَر ذلك المساء — أكبر من ذي قبل — أنه من الشعب البائس الذي يعنيه علي، فأراد أن يُنفِّس عن صدره المحزون بالكلام، ولم يكُن الشعب شيئًا يُهمُّه، ولكنه لم يستطع أن يَطرُق همومه الخاصة إلا عن سبيله، فقال: جميل … إن علَّتنا الفقر.

فقال علي طه بحماس: هو الحق، الفقر الذي يختنق في جوِّه الفاسد، العلم والصحة والفضيلة، إن من يرضى بحال الفلَّاح حيوان أو شيطان!

فقال محجوب في نفسه: أو عاقلٌ مِثلي على شرط أن يكون غنيًّا. ثم تساءل بصوتٍ مسموع: عرفنا الداء، وهذا شيءٌ ميسور، ولكن ما العلاج؟

فقال مأمون رضوان وهو يُثبت طاقيته: الدين، الإسلام بَلسمٌ لجميع آلامنا …

ومدَّ علي طه ساقَيه حتى كادتا تمسَّان المِدفأة، وقال دون مُبالاة لما قال صاحب الحجرة: الحكومة والبرلمان …

فقال محجوب: الحكومة … أي الأغنياء أو الأُسَر، والحكومة أسرةٌ واحدة، الوُزراء يُعينون الوُكلاء من الأقارب، الوُكلاء يختارون المُديرين من الأقارب، المُديرون ينتخبون الرؤساء من الأقارب، الرؤساء يختارون الموظفين من الأقارب، حتى الخدم يختارون من خدم البيوت الكبيرة؛ فالحكومة أسرةٌ واحدة، أو طبقةٌ واحدة مُتعددة الأُسر، وهي حقيقة بأن تضحِّيَ بمصلحة الشعب إذا تعارضت مع مصلحتها.

– والبرلمان؟

فقال محجوب مُبتسمًا بخبث: النائب الذي يُنفق مئات الجنيهات قبل أن يُنتخب لا يمكن أن يمثِّل الشعب الفقير، والبرلمان في ذلك شأنه شأن المؤسَّسات الأخرى. انظر إلى قصر العيني مثلًا؛ فالاسم مستشفى الشعب الفقير، وبالفعل حقل تجارِب لإجراء اختبارات الموت على الفقراء …

فقال علي طه بهدوء: السخط شعورٌ مقدَّس، أما اليأس فمرض، ومهما يكُن من أمر فالبرلمان بُحيرةٌ تلتقي فيها جداول مُتباينة المصادر، لا مَحِيد عن أن تمتزج أمواهها، وينشأ عنها نبعٌ جديد …

فابتسم محجوب ابتسامةً مُرَّة وتَمتَم: تُعجبني هذه الأسماء؛ أحمس والهكسوس، منفتاح واليهود، عُرابي والجراكسة!

فقال مأمون رضوان ضاحكًا: أعجب شيء أن طه شيوعي بنَّاء بينما أنت مدمِّر … أنت أحق الناس بلقبٍ فوضوي.

فقَهقَه محجوب حتى سعل وقال: نحن نشقُّ على أنفُسنا أكثر مما ينبغي، كأن هذه الحجرة مسئولة عن رفاهية الدنيا …

فقال علي طه: سوف تُصغي جُدرانها إلى آمال الأجيال المُتعاقبة ما دامت حجرة للطلبة …

فقال مأمون رضوان باهتمام مُتسائلًا: هذه الحجرة مَعمل تفريخ، فما الخطوة التالية؟

فقال محجوب بسرورٍ شِرير: السجن إن كنَّا من الصادقين!

ثم ذكر الهموم التي جاء بها من القناطر ففقد حماسه للحديث، ونهض مُستأذنًا في الانصراف بتعب السفر، ومضى إلى حجرته، وجلس إلى مكتبه الصغير محزونًا مُتفكرًا: إذا انتهى يناير انتهت معه «رفاهية» حياته الراهنة! أجل بدَت له هذه الحياة فيما مضى جحيمًا، ولكنها إلى ما ينتظره من حياة الغد نعيمٌ مفقود! ولا شك أن الأشهُر الثلاثة القادمة تحمل في طيَّاتها ألوانًا من الشقاء لم يحلُم بها قط، فماذا هو صانع؟ ومضى يشدُّ حاجبه الأيسر يلوح في وجهه الشاحب العزم والتحدِّي …

١١

ونشِط في الأيام الباقية من يناير للبحث عن حجرةٍ رخيصة، ولم يظفر بحاجته بسهولة؛ لأن الحي من الأحياء المأهولة، ولأنه مُكتظٌّ بالطلبة، وهؤلاء يتقاتلون على الحجرات المُنعزلة فوق الأسطُح، ثم عثر في النهاية على حجرةٍ سطحية بعمارةٍ جديدة بشارع جركس — على مَقربة من ميدان الجيزة — ولكن جِدتها كانت طامَّةً عليه؛ لأن صاحب العمارة أبى أن يكريَ الحجرة بأقل من أربعين قرشًا، فاضطرَّ محجوب إلى القبول مغلوبًا على أمره، وأخبر أصحابه بأنه سينتقل إلى حجرة بعمارةٍ جديدة، وقال لهم — وهو يغمز بعينه — إن أسبابًا خاصَّةً دعت إلى ذلك. قال ذلك وهو يعلم أنه سيُعجزه غدًا وصال جامعة الأعقاب، ولكنه آثَر كذبًا من هذا النوع على إذلال كبريائه، ووجد نفسه في حاجة إلى نفقات النقل وابتياع مِصباح غازي، فنظر في أثاثه البسيط فلم يجد شيئًا يمكن الاستغناء عنه، سوى صُوان الثياب الصغير — أشبه بصندوق منه بصوان — باعه سرًّا بمساعدة البوَّاب بثلاثين قرشًا. وفي أول يوم من فبراير حزم متاعه وودَّع صحابه، وانتقل إلى الحجرة الجديدة، وأدَّى الإيجار مقدَّمًا فلم يبقَ معه من نفقته الجديدة إلا ستون قرشًا هي جِماع ما يملك طوال الشهر، قرشان لليوم الواحد، للغذاء والغاز، وهناك الغسل ضرورة لا مَحيص عنها — وليترك الكنس جانبًا — ثم الحلاقة، أما فنجان القهوة فمن الكماليات المحرَّمة. وليس فيما بقي من أثاثه الحقير ما يمكن الاستغناء عنه أو ما يطمع أن يأتيَه بثمنٍ يُذكَر؛ فالفِراش وهو أهم ما لديه لا يكاد يُساوي نصف جنيه، ونفعه مع ذلك لا يُقدر؛ فعليه يرقد، وتحت حشيَّته يحفظ ثيابه. وهز رأسه ذا الشعر المُفلفل وغَمغَم: «ستُكرُّ الأشهُر الثلاثة كما يُكرُّ غيرها من الأيام، ولن أموت جوعًا على أيِّ حال.» وبات ليلته الأولى بالمَسكن الجديد.

وفي صباح اليوم الثاني غادَر الحجرة بعد أن أغلقها، وأراد البوَّاب أن ينظِّفها له، ولكنه ردَّه مشكورًا. وكان في الحقيقة يهرب؛ لأنه لا يستطيع أن يتنازل له عن مليمٍ واحد. وبلَغ ميدان الجيزة، وجال ببصره حتى استقرَّ على دكان فول مدمس، فتوجَّه إليه واجمًا، ووجد جماعات العمال يقتعدون الإفريز أمام الدكان يلتهمون طعامهم ويتحادثون ويتضاحكون، فقال لنفسه: «أصبحت واحدًا من هؤلاء العمال الذين يرثي لهم علي طه …» وطلب نصف رغيف وانتحى جانبًا يأكله بشهيَّة، فانتهى ولما يشبع، وكان بطبعه عظيم الشهيَّة، يتناول في إفطاره صفحة فول ورغيفًا غير البصل والمخلَّل، ولكنه لا يستطيع أن يأكل أكثر من وجبتَين صغيرتين في اليوم. وهزَّ منكبه ومضى في سبيل الجامعة وهو يقول: «لشدَّ ما أنا في حاجة إلى صفاء الذهن؛ فإما النجاح وإما الانتحار!» ومضى وقت الدراسة كالعادة، وقابَل أصحابه جميعًا، وأنفقوا في حديقة الأورمان وقتًا غير يسير يتناقشون في المحاضرات، وعندما أزِف وقت الغداء انفصل عنهم فذهبوا إلى المقصف، وعاد هو إلى ميدان الجيزة. بالأمس فقط تناول غداءه بالمقصف مع علي ومأمون وأحمد بدير، وكان مكوَّنًا من صفحة سبانخ باللحم الضاني وأرز وبرتقالة، أما اليوم …! وأقبل على دكان الفول وقد استقبله صاحبها بابتسامة وهو يقول: «أهلًا وسهلًا.» فآذَته تحيَّته ونالت من كبريائه، وكان إلى جانب دكان الفول دكان كباب، فحمل الهواء دُخان الشِّواء إلى أنفه، فسالَ لُعابه وتوجَّعت مَعدته، ثم أخذ الرغيف، ومضى فارًّا من الرائحة الشهية، وعاد إلى حجرته وفتح بابها، فشمَّ رائحة هواء فاسد؛ لأنه كان قد ترك النافذة مُغلَقة، ورأى الغُبار يعلو المكتب والكتب، والبطانية مكوَّمة على الفِراش، فأدرك أن عليه منذ الساعة أن يكون طالبًا وخادمًا، وربما «غسالة» أيضًا، وشرع في القيام بوظائفه الجديدة مُمتعضًا ثائرًا. الحياة الجديدة شاقَّةٌ مُتعِبة، سيُواصل دراسته بلا ريب، وسيُواصلها بعزم وعناد، ولكن لن يسكت له جوع أو يطمئنَّ له جانب، وسيسهر الليالي طاويًا، يجلس إلى مكتبه الساعات الطوال مثلَّج الأطراف مقوَّس الظهر، وربما فضحه مَظهره وعرَّضه للهُزء والسُّخرية، وربما نال منه الجوع فأسقمه.

ولكن ليس له إلا أن يُكافح بصلابة وعناد، وأن يتحدى الناس والحظ والدنيا جميعًا، وأن يغضب وأن يحقد وأن يُجنَّ جنونًا. استمرَّ في عمله حتى انتصف الليل، ثم ترك مكتبه إلى فِراشه، ورقد عليه منهوك القُوى، وهو يُغمغم: انتهت أولى ليالي مِحنتي! …

١٢

وفي صباح اليوم الثاني استيقظ مُتعَبًا مُوجَع الرأس، ومن عَجبٍ أنه لم يكُن جائعًا، ولكنه ذكر آلام جوع الليلة الماضية؛ فإن رغيف الفول لم يصمد بعد العشي، وتركه لجوعٍ قاسٍ أليم. وقد خطر له أن يُضرِب عن طعام الإفطار على أن يتناول في غدائه رغيفًا ونصفًا، فيضمن راحة الليل ويُذاكر رخيَّ البال، أما ساعات النصف الأول من النهار، فالدروس كفيلة بأن تشغله عن مَعدته في أثنائها. فكرةٌ طيبة جديرة حقًّا برأس فقير مُعدِم، والعادة كفيلة بأن تجعل الألم غير أليم، بيدَ أنه ما كاد يكرع كرعةً رويَّة ويستروِح نسائم الصباح في الطريق حتى تمطَّى وحش مَعدته، فانهارت عزيمته، وهروَل إلى دكان الفول لا يلوي على شيء. وراح — وهو يتناول طعامه — يذكُر ما يُقال عن سير مُتصوفي الهنود، وعجِب كيف يُقاومون الجوع تلك المقاومة الخارقة، وكيف يصبرون على الألم ذلك الصبر المُر، ويجدون في هذا وذاك لذةً عالية! … ربَّاه … لشدَّ ما احتارت هذه الكلمة البديعة «اللذة» بين أمزِجة البشر، أما هو فلذَّاته بيِّنة، وحِرمانه بيِّن كذلك، حتى جامعة الأعقاب أمست عزيزة المنال! وذهب إلى الكلية، وحضر الدرس الأول، ثم مضى إلى الحديقة ينتظر الدرس الثاني الذي يبدأ بعد ساعتَين، وجلس على أريكةٍ وسط جمع من الطلبة يستمتعون بأشعة الشمس اللطيفة التي يجود بها فبراير جودَ مُقترٍ شحيح، وكانوا يتحادثون بحميَّة الشباب، وينتقلون من موضوع إلى موضوع كيفما شاءوا؛ تلك الآنسة البدينة التي تضطرب نبراتها ويتهدج صوتها إذا نهضت لقراءة نص من النصوص، ومستر أرفنج مُدرس اللاتيني ذو الشعر الذهبي … ألم يكُن من الإنصاف لو خُلِق أنثى، وخُلقت آنسة درية ذَكرًا؟! السينما وتهديدها للثقافة الحقَّة والفن الرفيع، والويسكي والحشيش وأيهما أمتع، هل يعود دستور سنة ١٩٢٣؟ من صاحب الفضل الأكبر في إنشاء الجامعة؟ الملك أم المغفور له سعد زغلول؟ جماعة مصر الفُتاة هل هم مُخلِصون أم دسيسة؟ من أحق بالفضل في نهضة المسرح؛ يوسف وهبي أم فاطمة رشدي؟ أيُّهما خير للوطن أن يُتمَّ الأمير فاروق دراسته في إيطاليا كما يُريد والده، أم في إنجلترا كما يُريد الإنجليز؟ امتلأ الجو آراءً وملاحظات، وضجَّ بالضحكات والصِّياح، واشترك محجوب في الكلام بقدر، وأصغى لما يُقال بسخريته كالعادة، ثم نهض يتمشَّى في أرجاء الحديقة الواسعة، حتى أزِف وقت الدرس فانطلق إلى الكلية، وبعد انتهاء الدرس خرج مُتأبطًا ذراع أحمد بدير، وقد قال له الشابُّ الصِّحافي: مُبارَك عليك السكن الجديد.

فقال محجوب مُبتسمًا: بارَك الله فيك.

فسأله الشاب وعلى شفتَيه ابتسامةٌ ماكرة: من أسرة أم من بنات الهوى؟

فأدرك محجوب في الحال عمَّ يتساءل صاحبه، وارتاح لذلك، وأجابه بابتسامةٍ غامضة قائلًا: هذا سرٌّ لا يُذاع!

– هل تُقيم معك في الحجرة أم تُوافيك إليها الليلة بعد الليلة؟

فقال محجوب بزَهو: الإقامة مَجلبة للشُّبهات كما تعلم!

فهزَّ الصِّحافي رأسه وهو يُمصمص بفمه وقال: يا حظك! …

وتتابعت أيام فبراير ومتاعب الحياة تصكُّه صكًّا، ولاحَقه شبح الجوع ليلًا نهارًا، فلم تطمئنَّ مَعدته إلا سُوَيعاتٍ معدودات في اليوم الطويل، وكان إلى عمله الدراسي يكنس حجرته، وينظِّف مكتبه، ويرتِّب فِراشه، ويغسل مناديله وجواربه وقمصانه. ولم يدرِ كيف يقتني الحوائج التي يعدُّها غيره تافهةً كابتياع قطعة من الصابون، أو غاز المصباح، أو حاجته من الورق؛ فاضطرَّ أيامًا أن يقتصر على وجبةٍ واحدة، وطحنه الجوع طحنًا، واشتدَّ هُزاله، وشُحوب وجهه، حتى خاف على نفسه، نفسه التي يُحبُّها أكثر من الدنيا جميعًا، أو التي يُحبُّها وحدها دون الدنيا جميعًا. لبِث جائعًا وحيدًا في الحجرة التي يحسب بعض صحبه أنها مَهد غرام مُستعر. لماذا لا يسأل إخوانه أن يُطعموه؟ لو سأل علي طه ما تأخَّر أو تردَّد، ولو سأل مأمون رضوان لنزل له عن طعامه ولو كان كِسرة خبز، فما الذي يمنعه؟ الكرامة؟ … الكبرياء؟ … تبًّا له! ألم يكفُر بكل شيء؟ ألم يستهزئ بالقيم؟ فما له يأبه للكرامة والكبرياء؟ تبًّا له! لا تزال فلسفته كلامًا وهُراءً، متى يصير رجلًا حقًّا؟ متى يفرِّط في كرامته وعِرضه كأنه ينفض تُرابًا عن حذائه؟

وبلغ الكرب ذروته حين طالَبته الكلية باقتناء كتاب في اللغة اللاتينية ثمنُه خمسة وعشرون قرشًا، فأُسقطَ في يده، ولم يجد من ثمنه مليمًا واحدًا، وقد بات الامتحان قريبًا! ماذا يصنع؟ أما اللجوء إلى أحد من أصحابه فحلٌّ بغيضٌ مَقِيت، خصوصًا وهو يعلم أنه لن يقضيَ دَينه إذا استدان، فماذا يصنع؟ ومضى يوم ويوم، واضطربت حياته أيَّما اضطراب، وأوشك أن يُدركه القنوط لولا أن ذكَر قريب والدته الكبير أحمد بك حمديس! أيجوز أن يقنط وله مِثل هذا القريب الكبير؟ أجل، إن والده يَجِد عليه وجدًا عظيمًا، ويقول إنه رجلٌ جحود، نسِيَ أهله، وتنكَّر لهم. هذا هو الواقع حقًّا، ولكن والده مخطئ في غضبه وليس البك مُخطئًا في سلوكه، إذا كان قريبه يتكبَّر فجميع أمثاله يتكبَّرون، ومن حقهم التكبُّر، ولولا آداب الريف الحمقاء لما غضب والده، بيدَ أن تكبُّر البك لن يمنعه من أن ينظر إلى مسألته بعين العطف، ويمد له يد المعونة؛ فليَقصِد إليه آمنًا، وسوف يكفيه شر اللجوء إلى البَغضاء!

١٣

وغادَر حجرته وقد صدقت نيَّته على زيارة قريبه وتجرِبة حظه، ولم يقتصد في تهيئة نفسه، فكوى طربوشه، ولمَّع حذاءه بقرشٍ كامل أو بثمن وجبة كاملة، ولكنه بدا رغم ذلك كالعليل شحوبَ وجه وهُزالَ جسم، وبحث في دفتر التليفون عن عنوان قريبه؛ شارع الفسطاط بالزمالك، وحثَّ إليه الخُطى …

وحلَّق به الخيال — في مسيره — في عالم الذكريات المُنطوية، فأضاءت فترةٌ بعيدة من الزمن إذ هو في الثامنة، وإذ قريبه لا يزال أحمد أفندي حمديس المهندس بالقناطر، وكانت أسرة المهندس مكوَّنة من زوجه الحسناء وتحية ابنتهما — في الرابعة — وطفل في الثانية من عمره. كانت أسرةً سعيدة تزينها ربَّة مُفرِطة في الحسن. وفي ذلك الوقت لم يكُن آل حمديس يترفَّعون عن مخالطة آل عبد الدائم، ولم يألُ عبد الدائم أفندي جهدًا في إكرام الأسرة العزيزة، ولكَم جاب الأسواق يبتاع الدجاج والحمام يهيِّئ لهم مائدةً شهيَّة. ولقد فاز هو بعطف حرم حمديس بك، فكانت تُثني على ذكائه وتُعجَب بشطارته، وتترك له تحيَّة يُلاعبها في فِناء الدار وفي الطريق. تُرى كيف صارت تحية الآن؟ … وهل تذكُره؟ لقد انطوى ذاك العهد منذ خمسة عشر عامًا، فنسِيَ واندثر وانتهى، وذهب بذِكراه الزمن والإهمال، ولو كانوا شيئًا ذا بال لرسبت منهم آثار في باطن الذاكرة، ولكن آل حمديس كبروا وعظموا ولبثوا هم على ضآلتهم وتفاهتهم، فامَّحت القناطر من سِجل الحياة، وغاصت ذكرياتها في غياهب الماضي، ونبذ عبد الدائم أفندي موظفًا بالشركة اليونانية. تُرى كيف صارت تحية؟ … ألا يُمكِن أن تتذكَّره؟ ذلك الغلام الذي كان يحملها بين يدَيه ويجري بها ما بين البيت والمحطة! … أما حمديس بك فلا يمكن أن ينسى وإن تناسى، سيذكُره بمجرد أن يقع عليه بصره، ولن يقبض دون يده.

وبلَغ الزمالك، واهتدى — بعد سؤال — إلى شارع الفسطاط، كان كشارع رشاد باشا ضخامةً وسكونًا، وتحتشد على جانبَيه الأشجار الباسقة، وتشتبك أغصانها من الجهتَين، فتجعل فوق أديمه ظُلَّة من الأزهار الحُمْر، فرمق القصور بنظرةٍ غريبة من عينَيه الجاحظتَين، نظرة يقول لسان حالها مُتسائلًا: «هل يمكن أن ينفُذ الشقاء من هذه الجُدران الغليظة؟ أحقٌّ ما يقول مَدعو الحكمة أم إنهم يُخدرون القلوب المُلتاعة؟!» واقترب بقدمَين ثابتتين من الفيلَّا رقم ١٤، وسأل البواب بلهجةٍ رفيعة ونبراتٍ رزينة عن البك، وأخبره أنه قريبه وأنه جاء لمقابلته، فدعاه النوبي إلى السلاملك، ودخل حجرةً كبيرةً فاخرة الأثاث، لم يسبق له أن دخل بيتًا كهذا البيت، أو وُجد في حجرة كهذه الحجرة، فألقى على ما حوله نظرةً مُتفحصةً مقرونة بالدهشة والإعجاب والحسرة؟ وتطلَّع بناظرَيه من نافذةٍ قريبة، فرأى ناحيةً من حديقةٍ حافلة بآي الجمال المعطَّر. تُرى كيف يكون استقبال البك له؟ هل تدعوه حَرَمه لترى كيف صار الغلام شابًّا يافعًا؟! هل يتذاكرون عهد القناطر ويسألون بشوق عن عبد الدائم أفندي الصديق القديم؟ … هل يتأثَّرون لمرضه ويُدرِكون الباعث الذي حمله على طرق بابهم فيمدُّون له يد المعونة عن طِيب خاطر؟ يا لها من حجرةٍ نفيسة! … ألا يمكن أن يملك يومًا قصرًا كهذا يقصد إليه ذوو الحاجات؟ …

وسمِع وقْعَ أقدام، فاتَّجه بصره نحو الباب ثم رأى البك، وقد عرفه من النظرة الأولى على تغيُّر صورته وتقدُّم عمره، قادمًا، فنهض قائمًا وتقدَّم منه في أدب مادًّا يده، فتصافحَا والبك يُمعِن فيه النظر، ثم قال مُبتسمًا: هو أنت إذن! … بدا الاسم غريبًا بادئ الأمر ثم أسعفتني الذاكرة، الآن صِرت رجلًا، كيف حال والدَيك؟

بدا الاسم غريبًا بادئ الأمر! … هو أنت إذن! وتناسى محجوب ذلك كله وقال بإجلال: والدتي بخير، ولكن والدي مريض، بل في حالةٍ خطرة!

وعند ذلك جلسا، وكان البك يرتدي معطفه يدل مظهره على أنه متأهِّب لمغادرة البيت، وقال الرجل وهو يُسند ظهره إلى مقعده: لا بأس عليه، ماذا به؟

فقال محجوب بعناية وبصوتٍ واضح: أُصيبَ والدي بشللٍ ألزمه الفِراش، فانقطع عن عمله، وساءت الحال.

وناط أمله بالعبارة الأخيرة «ساءت الحال»، فاسترق إلى البك النظر على أثر النطق بها، ولكنه لم يجد لها أثرًا يُذكَر، وقال البك دون أن تتغير ملامح وجهه الباردة: أمرٌ مُحزِن، أرجو أن تبلِّغه تحياتي، وأنت يا محجوب هل انتهيت من الدراسة؟

وأحنقه تغيُّر مجرى الحديث، وأثاره بُرود محدِّثه، ولكنه لم يجد بدًّا من أن يُجيبه قائلًا: امتحان الليسانس في مايو القادم.

– عظيم … مُبارَك مقدَّمًا …

ثم نهض وهو يقول: آسف جدًّا أن أتركك الآن؛ لأني على مَوعدٍ هام.

فنهض الشاب قانطًا حانقًا يَلعن في سرِّه المقابلة التي لم تستغرق دقيقتَين بعد فِراق خمسة عشر عامًا! ألم يُدرك الباعث الذي رمى به إلى بيته؟ ألم تدلُّه «ساءت الحال» على ما جاء من أجله؟! وتبِعه إلى الخارج في حَيرةٍ شديدة، هل يُمسِك بذراعه ويهتف به: «إني فقيرٌ مُعدم وفي شدة الحاجة إلى معونتك، فمُدَّ إليَّ يدك!» وتوثَّب للعمل مُجازفًا بكل شيء، ولكنه رأى على بعدٍ قريب فتاةً شابَّة وفتًى يافعًا يرقَيان السُّلَّم في هدوء، فانهار توثُّبه وجمد بصره على القادمين. عرف تحية من النظرة الأولى على رغم التفاوت الكبير بين الصورة الماثلة للحسن والصورة الثاوية في الذاكرة، وعرف من أوجُه الشبه بينها وبين الفتى أنه شقيقها. نسِيَ عزمته، وانقلب إلى حالة من الجمود … والكبرياء، ونظر البك إلى ابنَيه مُبتسمًا، ثم أومأ إلى محجوب قائلًا: الأستاذ محجوب قريبي … تحية ابنتي، وشقيقها فاضل.

وتصافَحوا، وقال محجوب مُبتسمًا: إني أذكُرهما جيدًا.

فقال البك وهو يتحرك نحو السيارة التي تنتظره: إذن امكث معهما بعض الوقت.

هل يمكُث معهما؟ وتبادلوا النظرات في تطلُّع وابتسام، أما فاضل فشابٌّ جميل نبيل المنظر، فكرِهه من النظرة الأولى؛ لأناقته وجماله ونُبله، وأما تحية ففتاةٌ حسناء فائقة الحسن، ربما كانت إحسان شحاتة أفتن منها حُسنًا، ولكن تحية مثالٌ كامل للتعبير عن الأناقة والكبرياء، وأنموذجٌ حي للأرستقراطية، فسُرعان ما بهرت حواسه، وسُرعان ما وجد فيها الرمز الحي للحياة العالية التي يتآكل قلبه حسرةً عليها، وقد سعرت عواطفه وهيَّجت طموحه، بيدَ أنها لم تُثرِ شهوته كما فعلت إحسان، ولا أيقظت بنفسه عاطفةً سامية؛ فلا عهد له بالعواطف السامية، ولكن حرَّكت به إعجابًا مقرونًا بالحنق، ورغبةً مُمتزجة بالتحدِّي؛ فشعر في أعماقه بنزوع إلى السيطرة عليها والبطش بها! وقرَّ عزمه في الحال على أن يمكُث معهما! وجلس ثلاثتهم في الثوى الفخم، وأيقن أنه لن تخفى عليهما رثاثة هيئته، ولكنه تلقَّى هذه الحقيقة بالاستهانة. والواقع أنه كان يتمتع بقدرةٍ عجيبة على قهر الحياء والارتباك، وعلى الادِّراع باستهانة لا تعرف الحدود! وقال فاضل مُبتسمًا: هل تذكُرنا حقًّا يا أستاذ؟

فقال محجوب بهدوء: عِشنا معًا في بلدةٍ واحدة منذ خمسة عشر عامًا، كان البك مهندسًا بالقناطر، وكنَّا نلعب معًا في «حديقة» بيتنا.

فقال له الشاب بدهشة: لا أذكُر شيئًا عن هذا العهد.

وقالت تحية بصوتٍ مهذَّب كمَنظرها سواءً: ولا أنا تقريبًا …

فآلَمه ذلك، وقال مُداريًا عواطفه بالابتسام: كنتما صغيرَين، أما أنا فكنت في الثامنة …

فهزَّ فاضل رأسه مُبتسمًا وسأله: وهل انتهيت من الدراسة؟

تُرى هذا السؤال من تقاليد الأُسر الأرستقراطية؟! وأجاب: سأنتهي في مايو.

– أية كلية؟

– الآداب …

فقال فاضل بلهجته الرفيعة: نحن سُعداء إذ وجدنا قريبًا مِثلك.

فقال على الفور: وأنا أسعد؛ لأني وجدت قريبَين.

وكانت تحية تتفحَّصه بعينَين أنثويَّين، فقالت لمجرد الرغبة في الحديث كما يقضي الأدب: لم نَزُر القناطر منذ تركناها.

وارتبك محجوب على غير عادته، هل يدعوهما لزيارة القناطر ومشاهدة البيت ذي «الحديقة» التي كانوا يلعبون فيها؟! بيدَ أن فاضل أنقذه من ورطته بأن قال مُوجهًا خطابه لشقيقته بلهجةٍ ساخرة: وهل زرت القاهرة التي تعيشين فيها؟ أنت لا تعرفين إلا الصالونات والسينما.

فابتسمت تحية وقد تورَّد وجهها وقالت: يا لك من مُغالٍ ساخر! ألا تعلم أني أعرف القاهرة جميعًا حتى دار الآثار والأهرام زُرتها كالسائحين …؟!

فخطر لمحجوب خاطرٌ بديع فقال على الفور وقد خلص من ارتباكه: دار الآثار والأهرام باتت مَناظر مملولة، هل زرت الحفريَّات الجديدة؟!

فتساءلت تحية مُلتفتةً إلى المتكلِّم: الحفريَّات الجديدة؟!

فأشار إلى صدره كأنه هو الذي اكتشفها وقال: حفريات الجامعة، بعد سير دقائق من الهرم الأكبر دنيا غريبة مُحاطة بالأسلاك الشائكة، وجميع مفتِّشيها من أصدقائي وزملائي، فمتى نذهب معًا لمشاهدتها؟

فقالت بسرور: لا أدري، ولكنني سأذهب يومًا ما … أليس كذلك يا فاضل؟

فقال فاضل بلا وعي منه وقد أخذ يعتوِره الفتور: طبعًا … طبعًا …

وشعر محجوب عبد الدائم وهو يعبُر حديقة الفيلَّا بعد انتهاء الزيارة أنه من الممكن أن ينشأ بينه وبينهما نوعٌ مما يُسميه الناس بالصداقة، وتفكَّر فيما يمكن أن يُفيده من هذه الصداقة إذا حدثت، أم يخرج منها كما خرج من زيارة البك صِفر اليدَين …

١٤

ووجد نفسه في شارع الفسطاط مرةً أخرى، ولفحته ريحٌ باردةٌ عاتية لم يدرِ متى هبَّت، تهزُّ الأغصان فيضجُّ الطريق بحفيفها، وتصفرُّ بين الجُدران فيصمُّ الآذانَ زفيفُها، فسَرَت إلى جسمه المُتعَب رعدةٌ تمشَّت في مفاصله؛ فأمشير أقسى من أن يحتمله ضعيفٌ جائع. بيدَ أن أفكاره شغلته عمَّا حوله، فاقتحم طريقه نصف شاعر بقساوة الجو. ذكَرَ فاضل، وقارَن بينه وبين نفسه، هُنالك الصحة والجمال والغنى، وهنا المرض والدمامة والفقر، ومع ذلك فهما قريبان! أما تحية ففتاةٌ أرستقراطية، صورةٌ حية للدنيا التي يطمح إليها. تُرى هل يذهب بها يومًا إلى الأهرام؟ إن فتاةً مِثلها لحقيقةٌ بأن تكون مِفتاحًا سحريًّا يفتح الأبواب المُغلَقة ويصنع المعجزات. تفكَّر في ذلك طويلًا، ولكن يا أسفًا. أيجوز أن يغرق في تلك الأحلام وينسى همومه الراهنة؟ من أين له النقود ليبتاع كتاب اللاتيني؟ وكيف له بمقاومة الجوع الذي بات يهدِّد جسده وعقله؟! … يا عَجبًا! … هل من دليل على حقارة الإنسان أكبر من ضرورة الطعام لحياته؟! أيكون هذا الطعام الذي يُقتلع من الطين ويُسمَّد بالقاذورات زبدةَ الحياة وقوامها؟ وعماد التفكير؟ والمُبدِع الحق للمُثل العُليا؟ أليس هذا دليلًا على أن جوهر الإنسان قذارة وحقارة؟! وحثَّ خُطاه، وكانت الرياح لا تزال تُزمجر كاسرة، والسماء تتلبَّد بالسحاب المُظلِم، ومياه النيل الزُّمرُّدية تصطخب وتُعربد، فألقى على ما حوله نظرةً غاضبة، وبصق على الأرض باحتقار كأنما يُناصب الدنيا العداء! … ألا يحسُن به أن يقترض؟ … ممن؟ … وكيف يقضي دينه؟ لن يكون الشهر القادم بخير من سابقه، بل لعله أسوأ، فما العمل؟ لو كان يعرف فن النشل؟ … النشل فنٌّ سِحري، والنشَّال يملك ما في جيوب الناس جميعًا، وقد عرف سادة هذا البلد مَغزى هذه الحكمة، ولكن ما العمل؟ هل يُعيد على حمديس بك الكَرَّة؟ أيُقابله في الوزارة ويسأله صراحةً المعونة؟ واعترضت سبيلَ أفكاره صورةُ تحيَّة؛ تحية بنُبلها وأرستقراطيَّتها، أيرضى أن تعلم أنه بائسٌ شحَّاذ! … هذه الفتاة تحرِّك مشاعره، ليس مجنونًا فيهذي كما هذى علي طه؛ فهي شهوةٌ جديدة كتلك التي علقت إحسان لا أفلاطون ولا هيام. ومن عَجبٍ أنه كان عظيم الثقة بنفسه لحدٍّ غير معقول، ربما كان مَبعث هذا ما طُبِع عليه من جسارة وجرأة، وفضلًا عن ذلك كان يُشارك العامة اعتقادهم في التفوُّق الجنسي على الأغنياء؛ فاعتقد صادقًا أن تحية ليست بمنأًى عن طموحه. كانت أحلامه لا توقفها السموات، وزادها الجوع جنونًا؛ ذلك الجوع الذي جعل من دراسته كفاحًا مريرًا، ومن لياليه عذابًا أليمًا. وكتاب اللاتيني، تبًّا له! كيف يحصُل على النقود؟!

١٥

واستيقظ في صباح اليوم التالي أهدَأَ نفسًا، فهمَدَت الأخيِلة التي بعثتها في عقله زيارة آل حمديس؛ ولذلك أمكَنه أن يثوب إلى رأي، وأن يقرِّر أن يقصد إلى حمديس بك في الوزارة مادًّا يده بالسؤال، مضحِّيًا بصداقة تحية وفاضل، ولم يرَ بدًّا من العدول عن الذَّهاب إلى الكلية، وامتنع عن تناول الإفطار ليوفِّر ما يركب به الترام في الذَّهاب والإياب، ومضى إلى حال سبيله فبلَغ وزارة الأشغال في تمام العاشرة، وعرف السبيل إلى سكرتير قريبه، فوجده رجلًا في الأربعين، فحيَّاه بأدب وقال له: أريد مقابلة سعادة البك.

– مَن حضرتك؟

– قريب البك … محجوب عبد الدائم.

فاستنظره الرجل لحظةً وغاب عن عينَيه، ولبث محجوب يفكِّر فيما عسى أن يقوله البك، ويرتِّب الكلام ترتيبًا مؤثِّرًا، وعاد الرجل بعد قليل وجلس إلى مكتبه وهو يقول: البك يرأس المجلس الاستشاري، فيَحسُن أن تعود يومًا آخر.

وبَغَته ذاك الجواب، وكبُر عليه، فشعر بضربةٍ تهوي على أم رأسه، وقال برجاء: ولكني أريده لأمرٍ هام جدًّا.

– لا شك في هذا، إن شاء الله، ولكن يومًا آخر.

– أستطيع أن أنتظر ساعة أو ساعتَين.

فقال الرجل بلهجة مَن يريد أن يفرُغ إلى شيءٍ آخر: تعالَ مساءً إذا شئت.

وغادَر المكان مَغيظًا مُحنَقًا، هل يبتلع الترام ما تبقَّى من نقوده؟ ألا فليذهب البك ومجلسه الاستشاري إلى الجحيم. وأدرك أولَ وهلةٍ أنه ينبغي أن ينتظر في المدينة حتى العصر — إذا أراد أن يُقابل البك — توفيرًا لنفقات الانتقال، ثم لم يعُد يُقاوم الجوع الذي ينهش مَعدته، فمضى إلى ميدان الأزهار باحثًا عن دكان فول! وتناوَل الطعام الذي داوَم على تناوله لثلاثة أسابيع مضت، وانطلق في طريق قصر النيل ليقضيَ وقت انتظاره الطويل في حدائقه. وكان الجو باردًا، والسماء ملبَّدة بالغيوم! وكان يسير مُطرِقًا مردِّدًا بحِقد وغضب: «أهانني الرجل المُجرِم، أهانني المُجرِم!» ومع ذلك فهو مُرغَم على الجري وراءه مرةً أخرى! … هو عدوٌّ ما من صداقته بُد، وهو بعض الألم الذي تمتحنه به الدنيا. وأمرَّ أصابعه على جبينه المُحترِق وقال: «لن أبكيَ، سأُحافظ على جبروتي، ومهما بلَغ مني الجوع فلن أصرخ مع الجُبناء هاتفًا: يا رب!» وانتهت به قدماه إلى الحديقة، وراح يُمضي الوقت ما بين الجلوس والمشي ضجرًا مملولًا. وبردت أطرافه، وأحسَّ تعبًا في مَعدته، وتساءل خوفًا وفزعًا: «ألا يمكن أن تترك هذه الأيام السود آثارًا لا تزول أبد العمر؟!» وتجهَّم وجهه الشاحب، ولاحت في عينَيه نظرةُ قلقٍ مُحزِنة. ومرَّ على انتظاره نصف ساعة، وكان يتمشَّى في الطريق المُحاذي للنيل، لا يدري كيف يؤاتيه الصبر حتى يأزف المَوعد، وعلى مَقربة من باب الحديقة الأندلسية الخلفي رأى فتاتَين تدنوان مُنهمِكتَين في الحديث والابتسام، فألقى عليهما نظرةً عابرة، فعرف إحداهما؛ كانت تحية حمديس دون سواها! كانت في شغل عنه بصاحبتها! أما هو فقد أحدث ظهورها المُفاجئ في نفسه أثرًا أي أثر، انقطع حبل أفكاره، نسي أباها ومجلسه الاستشاري، تناسى آلامه وجوعه، وتركَّز همُّه في شيءٍ واحدٍ أن يَلقاها، ولم يَحفِل بمظهره، ولا بوجود الفتاة الغريبة، ولم تتحول عيناه عنها في مِعطفها السنجابي المُلتف حولها في أناقةٍ أرستقراطية، ولعلها شعرت بعينَيه فنظرت نحوه، وكانت أصبحت على بُعدِ أذرُع منه، فاعترض سبيلها — وحنى رأسه تحيةً، ولاحت الدهشة في وجهها، ثم تورَّد، وألقت عليه نظرةً سريعة، ثم مدَّت إليه يدها، وقدَّمت إليه صديقتها، وقدمته إليها، ثم وقفوا ثلاثتهم في شِبه ارتباك. لقد اندفع إلى تنفيذ غرضه، ثم لم يجد ما يقوله، ثم عمد إلى الأحاديث التقليدية، فسألها: كيف حال الأسرة الكريمة؟

فقالت برِقَّتها الطبيعية: بخير شكرًا لك.

وأنقذه عقله من ارتباكه، فذكَّره بحفريَّات الجامعة، فسُرَّ لعثوره على موضوع للحديث وقال: هذه فرصةٌ سعيدة تهيَّأت لي لأذكِّرك … أنجزَ حرٌّ ما وعَد؟

فقالت مقطِّبةً دهشةً: لا أفهم شيئًا.

فقال بلهجةٍ تنمُّ عن العتاب: الحفريات … حفريات الجامعة.

– آه … كلَّا لم أنسَ.

– متى؟

– متى!

– نعم. لنكُن عمليين. ما رأيك في عصر الجمعة القادم؟

فتردَّدت قليلًا ثم قالت وقد راق لها الاقتراح: حسن.

– وفاضل بك؟

– سأُخبِره …

– لنتَّفِق على مَوعد.

– لا نريد أن نُتعِبك؛ فسمِّ مَوعدك.

– الساعة الرابعة مساءً، أمام محطة الأتوبيس بميدان الجيزة.

وسلَّموا وافترقوا، واستأنف مسيره. نجاحٌ باهر فاقَ كل ما تمنَّى، فصار الحُلم مَوعدًا. أجل، لاحظ أن صاحبتها تفحَّصت منظره بدقة، ولكن ماذا يهمُّ المنظر، أليس أحقر رجل بامرأتَين؟ فما بالك إذا كان الرجل محجوب عبد الدائم؟! إذن مُحتمل جدًّا أن تُمسيَ العلاقات وثيقة، وليس هذا بالأمر الهيِّن؛ فتحية من ذرائع الحظ التي يرفع بها المجدودين، وهي بعدُ شيءٌ نفيسٌ أنيق، ومن يعلم …؟! بيدَ أنه أدرك أنه لم يعُد من الممكن استجداء حمديس بك؛ إذ ليس من المنطق في شيءٍ أن يمدَّ يده اليوم إلى الأب سائلًا، وأن يَلقى كريمته غدًا لقاء المودَّة والاحترام. ولو فعل لأبى الرجل على كريمته أن تذهب إلى مَوعد فتًى بائس مِثله، ولأبَت ذلك عليها نفسها الغالية؛ فإما الاستجداء وإما اللقاء، ولكن لم يعُد هناك اختيار، أو أنه اندفع إلى الاختيار وهو لا يدري. لقد سُدَّ هذا الباب في وجهه …! ووجد نفسه بعد كل ما بذل من جهدٍ يتساءل مُتحيرًا: ما العمل؟ … كيف أحصل على النقود؟ وكان يحثُّ الخُطى مُرتبكًا مهمومًا، ويُعمِل فِكره دون توقُّف، فذكر الأستاذ سالم الإخشيدي، ولمعت عيناه الجاحظتان فجأةً! … أجل، هذا جارٌ قديم، وهو غير مأمون رضوان أو علي طه، ولن يجد غضاضةً في أن يمدَّ له يده، فلماذا لا يقصد إليه؟ يا لها من فكرة، واليوم لم يكَد ينتصف بعد، وبينه وبين الوزارة مَسير نصف ساعة على الأكثر، فليذهب بغير تردُّد. وقد ذهب.

١٦

وسأل عن مكتب الأستاذ سالم الإخشيدي سكرتير قاسم بك فهمي، فقيل له بل مُدير مكتبه، ودلُّوه عليه، ووقف على الباب ساعٍ طويل القامة عريض المَنكبَين، غزير الشارب، فطلب أن يؤذَن له عليه، فغاب الرجل لحظةً وعاد يقول بصوتٍ غليظ: «تفضَّل.» ووجد الحجرة مكتظَّة بالجالسين نساءً ورجالًا، وغاب الإخشيدي ومكتبه وراء نصف دائرة من الموظفين يعرضون أوراقهم، ونظر الشاب فيما حوله وتساءل: متى ينفضُّ هذا الحشد من الخلق؟ … متى تتهيَّأ له فرصة للكلام؟ وعلا صوت الإخشيدي في الحجرة، ورنَّت نبراته الدالَّة على الأمر والسلطان، تُلاحظ وتنتقد وتعنِّف، وأصوات الموظَّفين تئنُّ بالشرح والتفسير والأعذار، وجعل الموظَّفون يحملون أوراقهم ويُغادرون المكان واحدًا إثر واحد حتى فرغ المُدير منهم، فانتبه إلى وجود الشاب، ومدَّ يده ودعاه إلى الجلوس، ثم التفت إلى الزُّوَّار، وأشعل سيجارة، وأخذ نفسًا عميقًا، ونفخ الدخان في لذة وارتياح، وقد لاح في وجهه السرور والخُيلاء، واختلس محجوب إليه نظراتٍ خاطفة، إنه شبعان وسعيد، ولا شك أنه أفطر زبدة وقشدة وعسلًا، تبدو عليه آي الصحة، والاطمئنان إلى كرسيه الكبير، وأحس نحوه مَقتًا، وتساءل في سره ساخرًا: لماذا لا يعلِّق في حجرته الكبيرة صورة صاحبة العصمة ست أم سالم بجلبابها الأسود الملوَّث بالتبن؟! وكان الزُّوَّار أصحاب حاجات كالعادة، فقدَّم بعضهم طلبات إعفاء من المصروفات المدرسية، واستشفعته سيدة في ترقية ابنتها إلى الدرجة الخامسة، ورجاه آخر أن ينقل له قريبه إلى القاهرة وقد قضى في الأرياف عشرين عامًا من سِني خدمته، وسأل شابٌّ أن يؤذَن له في مقابلة البك ليُهديَ إليه مؤلَّفه عن حياة الطفل حتى الخامسة، وسمِع الجميع يدعونه بإجلال واحترام: «سعادة البك.» وهو يُجيبهم بتؤدة وكبرياء وغطرسة. وتصبَّر محجوب في قلق وعذاب حتى يفرغ البك المدير له. وحدثت المعجزة فخلت الحجرة، وتحوَّل الإخشيدي إليه وقال: هكذا أقضي نهاري، ثم أستأنف ليلًا في قصر البك!

وتساءل محجوب في سره حانقًا: هل تريدني أن أدعوَ الله أن يُريحك من عملك؟ ثم قال بملق مُبتسمًا: على قدر أهل العزم تأتي العزائم!

فهزَّ الإخشيدي رأسه الكبير، وكان لا يني عن الإشادة بعظمته، والهُزء بفضل الغير. وقد عُرِف بحِدَّة اللسان ومهاجمة أعدائه وأصدقائه على السواء، وقد قيل عنه بحقٍّ إنه شيَّد حياته على العمل المُتواصل، والدعاية لنفسه، والتشهير بمنافسيه، على أن أنانيَّته كانت تصوِّر له أكثرية المُتصلين به كمُنافسين؛ ولذلك قلَّ من نجا من شره. ولم يكُن يأبَه رأي الناس فيه، وكأنه يؤثر في بطنه أن يُقال عنه ما أفظعه عن أن يُقال ما أطيَبه. وكان إذا بلغه قول سوء عنه يقول باحتقار: «كل عاشق حق مكروه.» هزَّ رأسه الكبير وقال للشاب: عملٌ مُتصل، لكن هل كفاني شر الألسنة؟ … هيهات … ولن يفتأ قومٌ قائلين رُقِّي الإخشيدي إلى الخامسة وما مضى في السادسة عامَين!

فتظاهر محجوب بالإنكار وقال: وهل وُضِع نظام الأقدمية لقتل الكفاءات؟!

– الظاهر أني في وزارة، والحقيقة أني في مَزبلة. والآن يا عزيزي ما حاجتك؟

فازدرد محجوب ريقه، واعتدل في جلسته، ثم قال بلهجةٍ تنمُّ عن الرجاء: سالم بك، إنك جارٌ قديم وزميلٌ قديم، ومَلاذنا وقت الشدة. يا سعادة البك، والدي طريح الفِراش، ونحن في بَأساء، وأنا في أزمةٍ مؤيِسة، وقد نفِدَت نقودي؛ فدعني أسألك بعض المعونة …

وتفحَّصه الإخشيدي بعينَيه المُستديرتين، فأدرك أنه جائع! ولكنه لم يتعود على أن يُعطيَ أبدًا، ولا عهد له بفن الإحسان، ولا كان من «الضعفاء» الذين تلين مظاهر البؤس من قلوبهم، فاعتبر الشاب وحاجته عائقًا سخيفًا اعتاق تيَّار أفكاره، فتوثَّب لمحوه، ولكن ماذا يجمُل به أن يفعل؟ يعتذر له؟ ولكنه يكره الاعتذار خاصةً لمن لا حول له، ثم تذكَّر أمرًا فسأل الشاب: هل تُجيد الفرنسية والإنجليزية؟

وشعر محجوب بخيبة رجاء؛ لأنه كان يتوقَّع شيئًا آخر غير هذا السؤال؟ ولم يدرِ ما حكمة توجيهه إليه! ولكنه أجاب قائلًا: نعم أُجيدهما …

– حسنا … أتعرف مجلة النجمة؟ … صاحبها صديقي وزميلي، وربما رحَّب بك إكرامًا لي …

– هل أُكلَّف بترجمة بعض الموضوعات؟

– نعم … مقالات … فكاهات. خُذ بطاقتي هذه واذهب إليه! وسأحدِّثه عنك بالتليفون، ولا تؤاخذني؛ فأنا ذاهب لمقابلة البك وعرض أوراقي عليه … أليس هذا أكرم بك وأنفع!

ونهض الإخشيدي قائمًا، وأخذ مِلفًّا في يُسراه، ومدَّ يده للشاب، فمدَّ له الشاب البائس يده وهو يسأله: أيُدرُّ هذا العمل ربحًا معقولًا؟

فضحِك الإخشيدي — ولشدَّ ما بدا لعينَيه بغيضًا — وقال: لعلك سمِعت عن ثراء الصحفيين! على أنك ستجد ما أنت في مسيس الحاجة إليه … وتقدَّمه الإخشيدي نحو الباب، فجزِع جزعًا شديدًا، وأوشك أن يهتف به سائلًا بضعة قروش، ولكن الباب فُتح قبل ذلك، وبدا الساعي بجسمه الضخم الطويل، فغادَر الحجرة حاملًا البطاقة، وغادَر الوزارة واجمًا مُتحيرًا، ما زالت أزمته قائمة، ومجلة النجمة على فرض نجاح مَسعاه إليها علاجٌ آجل، فما العمل؟ … وكيف يحصل على النقود؟ وكانت الساعة تدور في الثالثة، والجو بارد كما كان في الصباح، فخبط في الطريق على غير هدًى، مُثقَل الرأس قانطًا، وضاقت الدنيا في وجهه، حتى كوَّر قبضته مُهددًا، وقال حانقًا غاضبًا بصوتٍ أشبه بالنحيب: «سيدفع العالم ثمن هذه الآلام!» وقد أدرك أنه لم يبقَ إلا علي طه أو مأمون رضوان! … لكَم كرِه أن يمدَّ لهما يدًا، ولكنه لم يعُد يملك حيلة، ولا بد مما ليس منه بد. ومضى إلى الترام مُتسائلًا: أيَّهما يفضِّل؟! كلاهما شابٌّ نبيل، ولكنه لا يُحب علي، بينما لا يكره مأمون، وفضلًا عن ذلك فمأمون رجل دين وورع؛ فهو حقيق بأن يصون سِره، ويحفظه بالغيب، جديرٌ بأن يُغضيَ عنه إذا تأخَّر عن قضاء دَينه.

ومضى إلى دار الطلبة، وقصد إلى حجرة مأمون رضوان، واستقبله الشاب بسرور وسأله: لماذا تغيَّبت اليوم عن الكلية؟

فقال محجوب: مُكرَهٌ أخاك، لشدَّ ما أُعاني من الاضطراب.

وتفرَّس مأمون في وجهه بعينَيه النجلاوين السوداوين، فهالَه ما يرى من الهُزال والقنوط، وسأله باهتمام وإشفاق: ما بك يا أستاذ محجوب؟!

فقال دون تردُّد: ظروفٌ قاسية، فقدت آخر مليم من نقودي، لا أملك من ثمن كتاب اللاتيني مليمًا واحدًا …

ونهض مأمون قائمًا دون كلمة، واقترب من المِشجب، ودسَّ يده في جيب جاكتته، وأخرج ثلاث ورقات من ذات العشرة، وأتى بها إلى الشاب، فأخذها محجوب وهو لا يُصدق، وفتح فمه ليشكر صاحبه، ولكن صاحبه سارَع بوضع أصبعه على شفتَيه مُتمتمًا: «هس.»

وغادَر دار الطلبة لا يلوي على شيء، حتى دار إحسان لم يُلقِ عليها نظرةً عابرة، وكان راضيًا وساخطًا معًا، راضيًا لحصوله على النقود، ساخطًا لأنه بات مَدينًا لمأمون رضوان.

١٧

وجاء يوم الجمعة الموعود، فذهب إلى محطة الأتوبيس قُبيل الميعاد بزمنٍ يسير، ومضى يسأل نفسه: تُرى هل يفِيان بوعدهما؟ … وفي الموعد المضروب جاءت سيارةٌ فخمة وقفت أمام المحطة، وأطلَّ من نافذتها الوجه الجميل، فخفق فؤاده وهرع نحوها، وفتح له الباب واتخذ مكانه، ثم أدرك وقتئذٍ فقط أن تحية جاءت بمفردها. وعجِب لذلك، ولكن لم يطُل عجبه، وغمره سرورٌ شامل، وإن سأل بإنكارٍ متكلَّف: أين فاضل بك؟

فأمرت الفتاة السائق بالمسير، ثم التفتت إلى محجوب وقالت بلهجةٍ انتقادية: ركِبنا معًا، ثم رأى في الطريق «بعض الناس» فتخلَّف عن الرحلة وحمَّلني اعتذاره إليك.

فأطرق محجوب ليُخفيَ سروره، وسألها بأدب: وكيف الوالدان الكريمان؟

– الحمد لله، وهما يشكران لك هذه الرحلة الجميلة.

– عفوًا … عفوًا …

فقالت بصوتٍ ينمُّ عن الرجاء: سنرى أشياء لذيذة … أليس كذلك!

فقال بيقين وإن كان في الحقيقة يذهب إلى هناك أول مرة: بكل تأكيد …

وساد الصمت، وراحت الفتاة تُرسل ببصرها من النافذة، وراح هو يسترق إليها النظر. هذه أول مرة يخلو فيها إلى أنثى تستحقُّ أن توصف بالأنوثة حقًّا، وأين؟ … في سيَّارةٍ فخمة تُحزن الحاسدين — فضَّل هذا التعبير عن تسرُّ الناظرين — فأسكرت أنفَه رائحةٌ ذكية، لا رائحة العَرق الملبَّد بالتُّراب، فدخله شعور المُختنق إذا حُمل إلى حجرةٍ مليئة بالأكسجين، ولم تكُن به ذرة استعداد لخلق الصور السامية الطاهرة، فتركَّزت رغبته في تخيُّل صورة واحدة؛ أن يُلقيَ بنفسه عليها! … وشعَر بدبيب الرغبة يسري في دمه، فألقى ببصره إلى الخارج، وتساءل: لماذا تخلَّف فاضل؟ هل رأى فتاةً حسناء فجرى وراءها؟ أم إن تحية نفسها عملت على التخلص منه؟ وداعَبه غروره الجنسي فقال: إنهما (هو وهي) من دمٍ واحد، وكما يقولون «فالدم يحن»، ليس شيء بمُستحيل. أما لو صدَق حدسه فسترى أشياء لذيذة كما تحب! … والسائق؟! … لا يهمُّ … فهو لا يستطيع أن يتصور الثراء والعفاف في كائنٍ بشري معًا. ولا شك أن هؤلاء السائقين مدرَّبون على التغاضي …! أجل … أجل … أو فما الداعي إذن لمجيئها منفردةً؟! إن أجمل حكمة هي التي تقول: «إذا خلا رجل بامرأةٍ كان الشيطان ثالثهما.» فأين هذا الشيطان ليجثوَ بين يدَيه، ويلثم قدمَيه؟ طالما كان للشيطان تابعًا ومُريدًا، أفلا يجزيه الشيطان عطفًا بإخلاص؟

واستردَّ بصره من الخارج، وشعر برغبة إلى جرِّها إلى الحديث، فسألها: والآنسة في الجامعة؟

فهزَّت رأسها نفيًا وقالت مُبتسمةً: كلية بنات الأشراف.

فقال بسرور: جميل … جميل جدًّا …

وسألته تحية: ماذا تنوي أن تعمل بعد الليسانس؟

وبَغَته السؤال، إن أقرانه يتحدثون عن المستقبل بحزن ويأس، والسابقون منهم يقبعون وراء المكاتب في الوزارات يروحون بالشهادة على وجوهٍ أحرقتها حرارة الدرجة الثامنة … ولكنه بجسارته المعهودة تخلَّص من ارتباكه، وقال بثقة ويقين معًا، وإن كان يعلم أنه من الكاذبين: عليَّ أن أختار بين طريقَين؛ فإما الانخراط في السلك السياسي، وإما التحضير للدكتوراه فالتدريس في الجامعة …

فقالت مُبتسمةً: جميل …

لماذا استعملت تعبيره الخاص؟ … أتسخَر منه الشيطانة أم تجهل هذه الأمور؟ … وأراد أن يسبرها فسألها: أيَّهما تفضِّلين!

– أنا؟ … هذا شأنٌ يعنيك …

فقال بمكر ودهاء: ويعنيكِ أيضًا ما دام يعني قريبكِ.

فتورَّد وجهها وقالت: السلك السياسي أجمل …

وتمثَّل له حمديس بك ذاهبًا إلى الخارجية للتوسُّط في تعيينه ثم قال: هذا رأيي … ما أجمل أن تمضيَ الحياة كلها ما بين بروكسل وباريس وفيينا.

فاستضحكت قائلةً: أو ما بين دمشق وأنقرة وأديس أبابا!

فجاراها في ضحكها، ولكنه قال بدهاء: هذه عواصم لا يذهب إليها من كان حمديس بك قريبه!

وابتسما معًا، وقال لنفسه راضيًا إن اللبيب بالإشارة يفهم، وحسبُه ذلك الآن، أما عن المستقبل فقلبه يحدِّثه بأن هذه الفتاة لن تذهب من حياته كأنها شيء لم يكُن. ومن يعلم؟ إن الجسارة لا تنقُصه، بل لعل عيبه أنه جسورٌ أكثر مما ينبغي، واستسلم لتيَّار أفكاره، حتى انتبه إلى السيارة وهي تَرقى الطريق المُلتوي الصاعد على هضبة الأهرام، ونزلا عند سفح الهرم الأكبر وهو يقول: الحفائر وراء أبو الهول بفراسخ معدودات.

وسارا سيرًا غير يسير، وجعلت أقدامهما تنغرس في الرمال وتُقلع بقوة. وكان الوقت أصيلًا، والجو باردًا، ولكن السماء صفت، وأشرقت الشمس دون حجاب. بدت ملابسه في وضح النهار غير ذات أناقة أو جمال، فقلِق، وقال لنفسه ساخرًا: «لعلها تسأل نفسها لماذا لا يرتدي حضرة السفير مِعطفًا؟» وبعد مسير ثلث ساعة لاحت منطقة الحفائر تُحيط بها الأسلاك الشائكة، فتَمتَم محجوب: وصلنا.

واقترب الشابُّ من الخفير وأرسله بورقة إلى مفتش المنطقة، وعاد الرجل وأذِن لهما بالدخول، فدخلا، ثم قابَلهما المفتش وهو شابٌّ دون الثلاثين، وكان من أصحاب محجوب، فرحَّب بهما وقال لهما مُعتذرًا: سترَيان الأماكن المسموح بزيارتها، وهي التي تم الكشف عنها، ولكني لن أُرافقكما إليها لأني مشغول جدًّا، ولا أظنُّكما في حاجة إلى دليل (وهنا هزَّ محجوب رأسه مُوافقًا)، حسنًا. هاكما مَعبد الشمس، وهو تابع للمعبد القديم المعروف بمعبد أبي الهول، وإلى جانبه الجزء الخلفي لمقبرة الأمير سنفر …

وقال محجوب لنفسه: «قضى الله لحكمةٍ يعلمها أن نظلَّ اليوم مُنفرِدين، وإذا كانت حكمة الله كلها على هذا المِنوال فأنا من المؤمنين!» وأخذ كنزه النفيس إلى معبد الشمس، وهبط أدراجًا صنعت حديثًا، فوجدا نفسَيهما في بَهو أرضه في الصوان، وعلى جانبَيه صفَّان من الأعمدة، ولا سقف له، ولم يكُن به شيءٌ يروح أو يُثير العَجب، فألقت الفتاة على ما حولها نظرةً تنطق بعدم الاكتراث، ولم يكن محجوب أقلَّ خيبةً منها، ولكنه تعمَّد أن يُكبر من شأن رحلته فقال: انظري إلى هذه الأعمدة وكيف قاوَمت الدهور!

فابتسمت كالهازئة وقالت: وماذا كان عليها لو أنها اندثرت؟

فأشار إلى النقوش على الأعمدة وقال: لو كنَّا نقرأ الهيروغليفية لعرفنا أمورًا تستثير الإعجاب والدهشة.

– حقًّا!

– بكل تأكيد، ألم تُلمِّي بتاريخ الفراعنة؟!

فهزَّت رأسها نفيًا؛ وبذلك انتهت زيارة الأثر الأول، وفيما هما يدنوان من المقبرة وراء المعبد سألته تحية: ألا توجد آثارٌ أخرى غير هذه المقبرة؟

وأحسَّ ما وراء التساؤل من ملل، فارتبك وقال: توجد آثارٌ كثيرة، ولكن لم يُصرَّح بزيارتها …

وهبطا أدراجًا فوجدا نفسَيهما في حجرةٍ صغيرةٍ مُستطيلة، تتحلَّى جُدرانها بالنقوش والصور، ولا يكاد يعلو سقفها كثيرًا على طول الهامة، وألقيا على المكان نظرةً عامة، ثم تعلَّق الشابُّ بالصور، فقال بصوتٍ خافت: فلنُشاهد الصور، انظري إلى ألوانها الزاهية …

وبدآ بالحائط القريب من المدخل، وقد حُلِّي بصورٍ تمثِّل صاحب المقبرة وعلى يساره زوجه، بينهما أطفال، ويُحيط بهم جميعًا خدم وحشم، وعلى الحائط الذي يليه شاهَدا منظر حقل مُترامي الأطراف، تحرثه مَحاريث تجرُّها الثيران، ووقف هنا وهناك فلَّاحون عرايا، وتحوَّلَت تحية من المنظر بلا ريث، وانتقلت إلى الحائط الثالث، وأدرك محجوب أنها مرَّت خجِلةً من صور العرايا، وتفحَّص الصور بعينَيه الجاحظتَين، فجَرَت على شفتَيه ابتسامةٌ خبيثة، واضطرب مَجرى دمه، وقوِيَ شعوره بأنهما مُنفردان. ولم يتحوَّل عن منظر الحقل، ولا حوَّل عينَيه عن صور العرايا، حتى ملأت عليه نفسه تلك الحقيقة الرائعة، وهي أنهما مُنفردان أمام العرايا، وخُيِّل إليه من إدمان النظر أن الصور تتجسم لعينَيه، وأن الحياة تدبُّ فيها، والدماء تتدفَّق في عروقها، فتكتسي بشرتها بذاك اللون الخَمري ذي الوهج، وتلتمع في مَحاجرها نظراتٌ خاطفة، ثم تشرئبُّ أعناقها نحو … الفتاة الهاربة، مورَّدة الخدَّين من الخجل. وخفق فؤاده بعنف، والتهبت جوارحه من قوة العاطفة، وعبثًا حاوَل أن يملك زمام نفسه، وذكر مجيئها بمفردها، وحديثهما في السيارة، ورقَّة حاشيتها، وانفرادهما معًا، ثم وجودهما في هذه المقبرة تغشاهما وحشة الأجيال، فخال الثمرة دانية القطوف، وعنف هياجه حتى صار وحشًا فاقد العقل والإرادة، وازدرد ريقه بصوتٍ غريب، وعيناه ثابِتتان على العرايا وإن باتا لا يرَيان شيئًا: هلَّا نظرتِ إلى هذا الحقل الحافل …

فقالت باقتضاب وبلهجةٍ ناطقة بالملل: ليس به ما يستحقُّ الرؤية …

فعطف رأسه وقال بصوت كالهمس: لشدَّ ما أنت ملولة يا آنسة.

ودنا منها خطوة فحاذاها، وجعل ينظر معها إلى صورة خادم تعجن، وانحنى قليلًا كأنما ليُعاين جزءًا من الصورة، فلامَس كتفها ويُمناها، ثم اعتدل ونظر في عينَيها، وقال بصوتٍ مُتهدج: ألم يُعجبك شيء؟

فضحِكت ضحكةً رقيقة وقالت بصراحة: الحقُّ أننا لم نجد ما يستحقُّ عناء الرحلة …

فقال محجوب بصوته المتهدِّج وعيناه تثقُبان عينَيها: ولكن المكان جميل وهادئ …

وانتبهت إلى تهدُّج صوته، وشعرت بحِدَّة نظرته النارية، فاختلج بصرها، ونظرت إلى الأرض، ثم قطَّبت في حيرة وقالت: آن لنا أن نذهب …

فهزَّ رأسه، وهمَّ أن يقول شيئًا، ولكن أعياه القول، فأمسك بيدها، ولكنها سحبت يدها بسرعة، وألقت عليه نظرة إنكار، فلم يُبالها، واستردَّ يدها بقوة، وقال وصفحة وجهه تموج بعاصفة: «دعينا نمكث قليلًا.» وتملَّكه شيطان الشهوة، فجذبها نحوه بعنف، وأحاطها بذراعَيه، وأهوى إليها بفمٍ يحترق إلى التهامها، ولكنها صدَّته بيُمناها، وباعدت رأسها عنه، ولاح في وجهها الجميل الغضب، وصاحت به صوت رن رنينًا مُزعجًا في المقبرة الصامتة: أجُنِنت! … دعني … اترك يدي …

فاستصرخها قائلًا يكاد يُجنُّ من العذاب: لا تغضبي … أرجوكِ … تعالَي … تعالَي إلى صدري … ولكنها تخلَّصت من ذراعَيه بقوةٍ جنونية لا تدري كيف أتتها، وصاحت بعزم وقسوة: مكانك … إيَّاك أن تلمسني … إيَّاك أن تعترض سبيلي …

واتَّجهت نحو الباب، فتنحَّى لها، وتبِعها مُطرِقًا، صامتًا، مُثقَلًا بشعور الخِزي والخجل، وسارا صامتَين يقطعان الطريق الذي جاءا منه صديقَين سعيدين، وقد اكتسى وجهها الجميل بلون الغضب القاني، وارتفع رأسها كبرياءً وصلفًا، ولم يدرِ كيف يُصلِح من خطئه. وكلما طال الصمت يئس وغُلِب على أمره، حتى تساءل نادمًا: أما كان ينبغي أن يمدَّ حبل الصبر؟ وقال لنفسه مُتأسفًا: الظاهر أن فتاةً مِثل تحية لا تؤخذ كما تؤخذ جامعة الأعقاب … لعله لم يوفِّها حقها من اللباقة والغزل، ولو أنه اصطنع معها التريُّث والأناة لربما فاز بها. تبًّا للشهوة الجامحة، لقد ضيَّعت عليه فرصةً سانحة، وبلَغا السيارة، وقالت تحية بلهجةٍ آمرة دون أن تنظر إليه: مكانك.

وصعِدت إلى السيارة، وأغلقت الباب، وأمرت السائق بالمسير، وأتبعها عينَيه حتى هبطت تحت مستوى البصر، وغابت عن ناظرَيه تاركةً إيَّاه وحيدًا عند سفح الهرم، ولبِث هُنَيهةً مكانه — كما أمرته — واجمًا، ثم هزَّ منكبَيه، وأخذت روح الاستهانة تُعاوده حتى أوشك أن يضحك من نفسه، ونظر إلى الهرم طويلًا، ثم غَمغَم ساخرًا: «إن أربعين قرنًا تنظر إلى مأساتي من فوق هذا الهرم!» ثم غلبته موجة غضب مُفاجئة، فاحمرَّ وجهه الشاحب، واضطربت أرنبة أنفه، فودَّ لو يستطيع أن يقذف القاهرة بأحجار الأهرام الهائلة، وتحرَّكت قدماه وما يزال يأكله الغضب. علامَ الحزن؟ … ما هي إلا أنثى! … ولن تزيد على فتاته — جامعة الأعقاب — شيئًا! … أجل، بيدَ أنه أضاع فرصة، وخسِر تحية وأباها إلى الأبد! وتذكَّر لحظة، ثم غمغم وهو يهزُّ كتفَيه استهانةً: طظ.

١٨

وجاءت فترة استقرار نسبيًّا …

تناسى محجوب إخفاقه وتوثَّب للعمل، فقابَل رئيس تحرير «النجمة»، وكلَّفه الرجل بترجمة بعض المختارات نظير خمسين قرشًا في الشهر، فصار دخله مائة وخمسين قرشًا، واستطاع أن يتَّقيَ به ويلات الموت جوعًا، وأن يجعل الحياة مُحتملة على أية حال. وانبرى للعمل يُواصله ليلًا ونهارًا، ما بين دراسته الجامعية وعمله الصحفي البسيط. وخلت حياته من الفراغ، فنذر تفكيره في نفسه، واجتراره الهموم، ومضت أيامٌ كاملة لا يكوِّر فيها قبضته غضبًا أو يهتف ساخطًا ساخرًا قائلًا: طظ. أجل، كانت توجد أُوَيقاتُ غيظٍ ما منها بد، إذا تهيَّأ لتناوُل طعامه الحقير مثلًا، أو رأى علي طه بجسمه الرياضي وابتسامته السعيدة، أو ذكر طَرْقه الأبواب التماسًا لبضعة قروش، ولكن فيما عدا ذلك سارت الحياة سيرًا هونًا مُحتملًا.

وولَّى مارس بجوه اللطيف، ورياحه الطيبة، وسمائه الآخذة في خلع أردِية الشتاء لاستقبال حرارة الربيع وشذاه، وتبِعه على الأثر أبريل بشمسه المزهوَّة، شأن كل حديث نعمة، ورياحه المغبرَّة، وجوِّه الأصفر الكدر. وجاءه في أول مايو كتاب والده الشهري المعهود، قال له فيه إنه أرسل إليه آخر جنيه يستطيع الاستغناء عنه، ودعا له بالتوفيق والنجاح، ثم قال له إنه سينتظر من الآن فصاعدًا معونته التي بات في أشد الحاجة إليها، وبشَّره بأنه سيستطيع إن شاء الله أن يتحرك قريبًا، وربما أمكنه المشي مُتوكئًا. لم يكُن في الرسالة شيء لم يسبق الاتفاق عليه، بيد أنه لم يستطع مدافعة الغيظ الذي هاجَمه، وعاودته ذكريات الليالي السُّود، ليالي الجوع والهذيان، وعاد يقول عن والدَيه لو كانا لكنت، ولو كانا لكنت …

ثم كان الامتحان في أول مايو، وظهرت النتيجة قبل الثلث الأخير منه، ونجح الصحاب الأربعة الذين تزامَلوا أربعة أعوام كاملة. ولم يكُن الامتحان — بالنسبة لمحجوب — مجرد امتحان مدرسي، كانت في الواقع الفرصة الوحيدة والأخيرة كي يجنيَ ثمار كفاح خمسة عشر عامًا، فسُرَّ سرورًا مُضاعَفًا، وتنهَّد ارتياحًا من الأعماق، ولكن سرور الطالب المتخرِّج بالنجاح سرورٌ قصير المدى، بل هو سرور لا يُجاوز ليلة ظهور النتيجة، فإذا أدركه الصباح غشِيَه بهموم من نوعٍ جديد، هموم شاب يطرح عنه رداء التلمذة ليَلقى مُنفردًا — خصوصًا إذا كان حاله كحال محجوب — ذلك الجبَّار المقنَّع المشتمل على جميع فرص السعادة وجميع عثرات الشقاء الذي يُسمُّونه المستقبل، ومضى الصحاب يجتمعون كل مساء تقريبًا بنادي الجامعة، وكانت تترامى إليهم أخبار الزُّملاء ذوي الحسب والنَّسب، ممن تُفتح لهم أبواب الحكومة بقدرة قادر، وتناولوا مستقبلهم بالكلام والنقد، مُتفائلين أو مُتشائمين، واعتاد أحمد بدير أن يقول باطمئنان: «لن يتغير مَجرى حياتي؛ فلن أبحث عن مهنةٍ جديدة، بالأمس كنت طالبًا وصِحافيًّا، فالآن أتفرَّغ لعملي في الصِّحافة.» ولم يكُن مأمون رضوان يدري إن كان يُبعث إلى فرنسا أم يبقى في مصر، ولكن هدفه بقيَ واحدًا في الحالتَين، وهو الإسلام. وقد تساءل مرةً قائلًا: «ألا يمكن أن نبدأ كفاحنا الحقيقي في جمعية الشُّبان المسلمين؛ فنُظهر الإسلام من غُبار الوثنيات، ونردَّ إليه روحه الفتيَّة، وننشر منها دعوة لا تلبث أن تشمل الشرق العربيَّ جميعًا ثم بلاد المسلمين؟!» أما علي طه فلم يكُن ذا هدفٍ واضح، ولكن اختلطت عليه الوسائل، كان مهيَّأً للاشتغال بالسياسة، ولكن السياسة كما يعرفها هو لا كما يعرفها الناس، ولو وجد حزبًا ذا مبادئ اجتماعية لاشترك فيه بلا تردُّد، ولكن أين هذا الحزب؟ فهل ينتظر حتى تنشأ الأحزاب الاجتماعية ثم يشترك فيها، أم يأخذ هو في الدعوة إليها منذ الآن؟ لا شك أن الانتظار أسهل، وأحكم؛ إذ ما جدوى الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي في بلد لا يشغله شاغل عن الدستور والمعاهدة؟ ولعله من الخير أن ينتظر قليلًا ليستكمل عُدَّته من العلم والمعرفة وغير ذلك؛ فلم ينُط أمله في الوظيفة، ولا كان يرفضها لو أُتيحت له.

محجوب عبد الدائم وحده أدركه الجزع؛ الإسلام، السياسة، الإصلاح الاجتماعي، كل أولئك مسائل لا يكترث لها، أما شغله الشاغل فهو اتقاء الموت جوعًا، أو هو وظيفة توفِّر له الرغيف! وإذا أخفق في الحصول على وظيفة فالجوع لن يتهدده وحده هذه المرة، ولكن يتهدد والدَيه معه، وهو لا يُشفِق عليهما بقدر ما يُشفِق من مُضايَقتهما له، فما العمل؟ … كان في الحقيقة بلا مُعين، والحكومة لا يدخلها أحد بلا مُعين، وتفكَّر طويلًا، ولكنه لم يفعل شيئًا إلا أنْ كتب لوالده كتابًا قال فيه إنه بصدد البحث عن وظيفة، وإنه يرجو أن يتمكَّن قريبًا من تأدية واجبه نحو أسرته، وشرح له الصِّعاب التي تعترضه. وفي ذلك الوقت رُشِّح أستاذ الفلسفة الفرنسي مأمون رضوان لبعثة السوربون، ووصَّى بتعيين علي طه في المكتبة ليتهيَّأ له جوٌّ حسن لتحضير رسالته. سمِع محجوب بهذه الأنباء، وقارَن بين حظه وحظ زميلَيه. غدًا ينتقل مأمون ربيب أحقر قرية في الغربية إلى باريس … وغدًا يطمئنُّ علي إلى كرسيه في المكتبة فيحضِّر الماجستير ويعقد على إحسان! … مَرْحى … مَرْحى … وماذا هو فاعل؟ هل تعود أيام فبراير السُّود؟ وذهب لمقابلة علي طه في المكتبة وقد مرَّ على تعيينه أسبوع، وكان يتوقَّع أن يجده فرِحًا مسرورًا، وقابَله الشابُّ بابتسامته المعهودة، فلم يقرأ في وجهه ذلك السرور الذي توقَّعه، بل خال أنه يرى مكانه فتورًا لم يتعوَّده صاحبه، وعجِب لذلك أيَّما عَجب، وغمضت عليه أسبابه، حتى حسِب أن الشابَّ يُداري فرحه بهذا المظهر الفاتر. وتجاذَبا الحديث طويلًا، وأعرب له عن نيَّته في عدم الاستمرار في الوظيفة، قال: هذه فترة انتظار وتفكير ريثما أجد سبيلًا للاشتغال بالحياة العامة … وربما اخترت الصحافة في الوقت المناسب …

وذكر محجوب عمله في النجمة وما يُدرُّ عليه من رزقٍ واسع! فجَرَت على شفتَيه ابتسامةٌ ساخرة، وعاد علي طه يقول: إني أتهيَّأ لكتابة موضوع عن توزيع الثروة في مصر.

وضاق محجوب صدرًا بآمال صاحبه، وسأله صراحةً عمَّا إذا كان في الإمكان أن يجد وظيفة في المكتبة؟ ومضى به الشابُّ إلى موظف المستخدمين يستفتيانه، وكان الرجل صريحًا جدًّا، فأمسك بيد محجوب وقال له بحِدَّة: اسمع يا بُنَي، تَناسَ مؤهِّلاتك، ولا تضع ثمن طلب الاستخدام، المسألة لا تعدو كلمةً واحدة ولا كلمة غيرها: هل لديك شفيع؟ أأنت قريب أحد مما بيدهم الأمر؟ أتستطيع أن تطلب يد كريمة أحد من رجال الدولة؟ إن أجبت بنعم فمُبارَك مقدَّمًا، وإن أجبت بكلَّا فلتُولِّ وجهك وجهةً أخرى …

وغادَر المكتبة مُظلمَ العينَين من اليأس ومرارة الإخفاق، ولم يكن شيءٌ مما سمِع بالجديد عليه، ولكنه أحنقه كأنما سمِعه أول مرة، ومضى يخبط في حديقة الأورمان واجمًا مُكتئبًا. آه لو كان أبقى على علاقته الحسنة بآل حمديس، آل لو لم يقطع تلك العلاقة بوحشية يوم الهرم؟ تُرى لماذا لا يستقيم له أمر؟ لماذا لا ينال حظه من السعادة والطمأنينة؟ … لماذا يرصُده الجوع كأنما لا يجد فريسةً سِواه؟ الدنيا جميعًا فرِحة لا تأبه له؛ هذا الربيع يجري في خُضرة الغصون وحُمرة الأزهار، ويطير مع العصافير والأطيار، ويرقص على الشِّفاه المورَّدة الغارقة في النجوى عن يمين وشمال. الدنيا كلها فرِحةٌ مطمئنَّة، والوجوه مُشرِقة. هذه حديقة الأورمان مَجمع أفراح الإنسان والحيوان والنبات، والأرض نفسها، والسماء تشملها غبطةٌ صامتة فوق كل كلام. أيموت جوعًا في هذه الدنيا؟ وبدا له سؤاله غريبًا نافرًا، وضحِك هُزءًا وسخرية وتحدِّيًا، وقال مُتحديًا: «أأموت جوعًا؟ … فلا نزل القطر … فلا نزل القطر.» … كيف يموت جوعًا ثائرًا على جميع القيود؟ … كيف يموت جوعًا كافرًا بالضمير والعِفَّة والدين والوطنية والفضيلة جميعًا؟ … وهل جاع في هذه الدنيا أحدٌ ممن يتَّصفون بالرذيلة؟ … بل هل كانت الشكوى إلا من أنهم يستأثرون بكل طيِّب في هذه الحياة؟ ماذا عليه لو نشر في الإعلانات المبوَّبة بالأهرام يقول: «شابٌّ في الرابعة والعشرين، ليسانسيه، طوع أمر كل رذيلة، عن طِيب خاطر يبذُل كرامته وعِفَّته وضميره نظير إشباع طموحه.» ألا يقتتل عليه العُظماء؟ ولكن من له بنشر هذا الإعلان؟ … من عسى أن يأخذ بيده؟ … لا فائدة من السعي لدى الزملاء، ولا الأساتذة، ولا حمديس بك … إلا واحدًا كان يجب أن يُفكر فيه دون سواه … سالم الإخشيدي … ليس بذي مروءة ولا نجدة، ولكن هل لديه سواه؟! …

١٩

ورأى عن حكمةٍ أن يزور الإخشيدي في بيته؛ لأن حجرته بالوزارة لا يتهيَّأ لها الجو الهادئ، فمضى إلى المنيرة حيث يقطُن الأستاذ في شقة بشارع السيد المفضال، واختار يوم الجمعة صباحًا ليضمن وجوده، واستقبله الأستاذ في حجرة استقبال صغيرة أنيقة، وكان يُقيم في القاهرة بمفرده ومعه طاهية … وأدرك الأستاذ الباعث على الزيارة بداهةً، ولكنه ترك القادم يُفصح عن رغبته، دون مُبالاة. وقال محجوب: مَعذرةً عن مجيئي إلى البيت؛ فإنني أعلم أن عملك بالوزارة لا يسمح لك بسماع الأحاديث الخاصة.

فقال الإخشيدي ببرود: الواقع أنني لا أترك العمل إلا فترةً قصيرة يوم الجمعة!

وفطِن محجوب إلى ما في إجابته من مَغزًى، ولكنه تغاضى عنه بجسارته المعهودة، وقال: حصلت على الليسانس.

فابتسم الإخشيدي ابتسامةَ تشجيعٍ فاترة، وتَمتَم قائلًا: مُبارَك …

فشكره الشابُّ بحماس وقال: يا سالم بك، أنت جارٌ قديم، وزميلٌ قديم، وأستاذنا في العلم والوطنية على السواء، ولن أنسى ما حيِيت أن توصيتك لدى رئيس تحرير النجمة أنقذت حياتي ومستقبلي من الضياع؛ لهذا أقصد إليك كبير الرجاء. يا سعادة البك، الشهادة بغير شفاعة أرخَصُ من ورق اللحم، فهل آمل أن تُلحقني بوظيفةٍ ما؟

أصغى الإخشيدي بلا تأثر؛ لأنه تعوَّد سماع هذه الخُطب الحارَّة، وكان يحتقر الشاب ويستهين به لفقره وعوزه، فلم يتحمَّس لمساعدته، وكان يوجد بالوزارة وظيفتان خاليتان، ولكنه وعد شخصًا إحداهما، وتقبَّل نظير الأخرى هديةً فاخرة، وقد يصير محجوب ذا فائدة يومًا ما، ولكن العاجلة خير من الآجلة، وجعل محجوب يرمُقه بعينَين تنطقان بالخوف والرجاء، ويشعر أنه بات تحت رحمة إنسان لا يُراعي إلا مصلحته الذاتية. ولما وجد منه صمتًا قال بصوتٍ مؤثر: إني أمَّلتك وكفى.

فأشعل الإخشيدي سيجارة، وهزَّ رأسه كالآسِف وإن لم تدلَّ عيناه على شيء، وقال بهدوء: لا توجد وظائف خالية عندنا الآن.

فلاحَ اليأس في وجه الشاب وتساءل: أما من فائدةٍ تُرجى؟

– لا داعي لليأس المُطلَق، ليس عندنا وظائف، ولكن توجد في الدولة وظائف كثيرة، ويمكن أن أدلَّك على سبيل الخير.

ولم يجد في قوله ما يبعث على الأمل، ولكنه لم يرَ بدًّا من أن يقول: شكرًا لك يا بك، شكرًا لك.

فنظر إليه الإخشيدي نظرةً غامضة قوية وقال: أرجو أن تكون رجلًا عمليًّا، وأن تُحسِن فهم الدنيا، وأن تَعلَم أن كل فائدة بثمن … لست أسالك شيئًا لنفسي، فما أنا إلا دليل.

– عفوًا، عفوًا … أستغفر الله …

فابتسم الإخشيدي وقال: إذا أخذت بقولي فهُنالك أناسٌ قادرون يستطيعون أن ينفعوا أمثالك!

وسكت الإخشيدي لحظات ثم استدرك: هناك مثلًا عبد العزيز بك رضوان … ألم تسمع عنه؟!

– بلى … أظنُّه من رجال الأعمال المعروفين.

– هو ذلك … وله كلمةٌ نافذة في العهد الحاضر … ودائرة اختصاصه وزارة الداخلية.

فسأله الشاب مُتحيرًا: ومن لي بمعونته؟

– الطريق ميسور، ولكن ينبغي أن تعلم أنه يأخذ ممن يعيِّنه نصف مرتَّبه لمدة عامَين بضمان!

وهالَ الثمن الشاب المُعدم، ونظر إلى صاحبه بخوف، ثم سأله بعد تردُّد: أليس يوجد من هو أيسر شرطًا؟

فقال الإخشيدي فورًا كأنه نادلٌ يقرأ ثبتًا: المُطرِبة المعروفة الآنسة دولت …

فلاحت الدهشة في وجه الشاب الشاحب، فلم يُباله الآخر واستدرك: منطقة نُفوذها السكك الحديدية ووزارة الحربية وبعض الدوائر الكبرى …

وأخذ الإخشيدي نفسًا عميقًا من سيجارته، واستطرد قائلًا: والأسعار كما يأتي: الدرجة الثامنة ثلاثون جنيهًا، والسابعة أربعون، والسادسة مائة جنيه. والدفع فورًا.

وتنهَّد محجوب يائسًا، ثم تفكَّر قليلًا وقال: أظن شرط عبد العزيز بك راضي أرفق؛ فإني لا أملك مما تطلبه المُطرِبة مليمًا، ولكني أستطيع أن أتنازل عن نصف مرتَّبي إذا صار لي مرتَّب، فكيف أتَّصل به؟

– ليس الآن … ليس قبل شهر ونصف، بعد عودته من أداء فريضة الحج …

تبًّا له! ولكن الجوع لن يُبقيَ عليه حتى يعود الحاج. وقال بصوتٍ خافت وهو يخشى أن يضيق به صاحبه ذرعًا: الانتظار معناه الجوع … فما عسى أن أصنع؟

فقال الإخشيدي ضاحكًا لأول مرة: لستَ بالفتى الأمرَد، ولا أمك بالفاتنة اللَّعوب، فما عسى أن أصنع أنا؟!

وساد الصمت، وبات في حكم المقرَّر أن يُنهيَ الإخشيدي المقابلة، لولا أنْ خطر له خاطر، وتفكَّر سريعًا ثم قال لنفسه إن استفادة محجوب محتملة، أما استفادته هو — إذا حقَّق هذا الخاطر — فمؤكَّدة! ثم قال: هُنالك السيدة إكرام نيروز.

– مُنشئة جمعية «الضريرات»؟

– نعم.

– ولكنها مُثرِية جدًّا، ويُضرَب بثرائها المَثل …

– نعم … نعم … السيدة لا تطلب مالًا، ولكنها مُغرَمة بالشُّهرة والثناء، ويمكن أن أقدِّمها إليك في إحدى المناسبات، وعليك بعد ذلك بقلمك ومجلة النجمة؛ فإذا وُفِّقت إلى رضاها ضمِنت مستقبلك، إنها صاحبة نفوذ واسع يمتدُّ إلى وزاراتٍ كثيرة، وأحزابٍ كثيرة.

وكان يرمي إلى استغلال الشاب في الدعاية لها، بعد أن يقدِّمه كأحد تابعيه الذين يأتمرون بأمره، فقال: ستُقيم السيدة نيروز حفلةً خيرية يوم الأحد القادم بدار «الضريرات»، فاحضُر الحفلة وسأقدِّمك للسيدة، واكتب عن الحفلة وصاحبتها، ولننتظر، ولننتظر.

– أيُبلغني هذا ما أريد؟

– ربما توقَّف هذا على قلمك! … وعليك أن تبتاع تذكرة بخمسين قرشًا؛ لأنك لست صحافيًّا مُحترفًا، وربما عرفت فيما بعدُ أن هذا المبلغ الزهيد أجلُّ فائدةً من ستين جنيهًا تؤدِّيها للآنسة دولت … فهَلمَّ دون تردُّد.

وعلى جسارته لم تؤاتِه شجاعته على أن يستلف منه ثمن التذكرة، فنهض قائمًا، وصافَحه شاكرًا، وغادَر الحجرة.

٢٠

خمسون قرشًا! مَبلغٌ زهيد حقًّا، ولكن كيف يحصُل عليه؟ حقًّا إنه يدَّخر مكتبه وكتبه لينتفع بثمنها في الشهر الذي يسبق صرف أول مرتَّب إليه — تُرى هل ينتظر يومًا حقًّا هذا المرتَّب؟ — فمن يُعطيه ثمن التذكرة؟

مأمون رضوان ارتحل إلى طنطا ليودِّع أسرته قبل السفر إلى أوروبا، فلم يبقَ إلا علي طه، ولا بد مما ليس منه بد.

وذهب إلى مكتبة الجامعة صباح السبت، واستقبله علي بالابتسامة المعهودة، ولكن محجوب أدرك من أول نظرة أن صاحبه حزين! ليس هذا علي طه الذي يعرفه، انطفأ نور عينَيه البهيج، وهمدت روحه المتوثِّبة الحيَّة، وكل هذا حقيق بأن يولِّيَه سرورًا لو وجده في ظروفٍ غير هذه، أما اليوم فهو يُشفِق من أن يَلقى هذا الحزن عثرة في سبيل الغرض الذي تجشَّم من أجله هذه الزيارة! وتَعامى عما قرأه في وجه صاحبه وسأله: أين بلَغ بك موضوع بحثك؟

فنفخ علي طه ضجرًا وقال بيأسٍ ملموس: لا أدري، إني الآن مَهِيض الجَناح.

فقطَّب محجوب مُتظاهرًا بالإشفاق، وقال وهو يلعن في سِره نحسه المُلازم: كفى الله الشر، ماذا تقول؟

وكان علي عصبيَّ المزاج، لا يكاد يطوي سرًّا، فقال: كما ترى … الأمر يتعلق بإحسان!

وكأن ماءً باردًا رُشَّ على وجهه، فثار اهتمامه، وغَمغَم مُتسائلًا: خطيبتك!

فتنهَّد علي وقال بانكسار وحسرة: خطيبتي!

فازدادت دهشة محجوب، وقال بلهجة من يودُّ معرفة كل شيء: لا أفهم شيئًا …

وتردَّد علي ثانيةً، أيبُوح بسِره؟ … وكان بطبعه غير كَتُوم، وكان محجوب من أصحابه الذين أفضى إليه بقصة حبه، وكان إلى هذا وذاك في أشد الحاجة إلى الترويح عن نفسه، فقال بصوتٍ أبانَ عن تأثُّره العميق ويأسه: ولا أنا، لشدَّ ما أنا ذاهلٌ حائر، ولشدَّ ما أُسائل نفسي، ما الذي حدث؟! ما البواعث الخفيَّة الأسيفة التي تنفُث سمومها في الظلام؟ … كانت الحياة تسير سيرًا جميلًا، كنَّا مُتحابَّين ونزداد على الأيام حبًّا، وكنَّا مُتفاهمين ونزداد على الأيام تفاهمًا. عرفنا ماضيَنا وأحبَبناه، وخبرنا حاضرنا ورضينا به، وأمَّلنا مستقبلنا وانتظرناه، وتتابع اللقاء، وتمَّت الأُلفة، ورسخت المودَّة …

وسكت علي لحظة، وعينا صاحبه لا تُفارقان وجهه المتجهِّم، ثم اندفع يقول مسحورًا بحرارة الحديث: ما الذي بثَّ الفساد في حياتنا؟ إنه شيءٌ لا يُصدَّق، ولكنه الحقيقة دون زيادة، كيف حدث هذا؟! بدأت تتغير! وكان التغيُّر طفيفًا بادئَ الأمر، ولكنه لم يخفَّ عن قلبي اليقِظ الساهر. رأيت في عينَيها نظرةً قلِقةً حائرة، تناوَبها الشُّرود وفتَرَت ابتسامتها، ومضت تتجافى عن حديث الحب، وتتَّقي ذِكر آمالنا وعهودنا، فأخذت نفسي بالصبر عهدًا عرفت فيه مرارة الحيرة وعذاب الشك، ولكن دون جدوى، فلم يتغير الحال، وكاشَفتها بوساوسي، وقلت لها ما أجدَرَ حبَّنا بأن يكون هباءً إذا طوَت دوني سِرها! ولكنها اتَّهمتني بالمبالغة، واعتذرت عن تغيُّرها بتوعُّك مزاجها، فتضاعف عذابي وألمي … كيف أصدِّق أن حبًّا كحبنا يموت فجأةً وبغير نذير؟ وجددت بها، فصارت اللُّقيا جحيمًا، ثم انقطعت عني، أتصدِّق؟ لقد جُنِنت، فرصدتها في كل مكان، وراسَلتها، وثابرت على مطاردتها بعناد، فجاءت لمقابلتي، جاءت تتعثَّر بالحزن والخجل، فصِحتُ بها أن تحوُّلها سيُورثني الجنون.

وأمسك الشاب، وكان محجوب يُتابعه بحواسَّ مُرهَفة، ويُوليه اهتمامًا كاد يُنسيه غرضه من الزيارة، وتظاهر بالتأثُّر الشديد ليشجِّع صاحبه على الاسترسال، فقال علي: قلت لها إن تحوُّلها سيُورثني الجنون، فقالت لي إن لقاءنا أورثها الجنون بالفعل، وقالت لي إن آمالنا مقضيٌّ عليها بالفناء؛ فينبغي أن نُعالج حزننا بالحكمة، وأن نرضى بالنهاية المحتومة. هل أرضى بالشقاء دون دفاع؟! أأفرِّط في سعادتي دون سؤال؟! قالت لي إنها رغبة والدَيها، وإنها يئست من إقناعهما، وإنها لم تدع وسيلة، وضرعت إليَّ في النهاية أن نفترق وألا أُضاعف لها العذاب.

ونظر الشابُّ إلى محجوب طويلًا، حتى أفاق قليلًا من سَكرة الحديث، فتورَّد وجهه وقال: لماذا أُطيل عليك؟ … لقد انتهى كل شيء، تحطَّمت آمالي. إن دراسة الحكمة لا تُغنِي عني شيئًا.

وعجِب محجوب أيَّما عَجب، لماذا يرفض عم شحاتة تركي بائع السجائر الأستاذ علي طه؟ أيراه غير أهل لنَسبه! … أم يطمع الرجل أن تُتمَّ كريمته دراستها لتُنفِق على أسرته؟! ثم خطر له خاطر فسأل صاحبه: ألا يجوز أن مُثرِيًا كبيرًا طمِع في الفتاة فأراد أبوها أن يزوِّجها له؟! فرفع علي حاجبَيه حيرةً ولم ينبس بكلمة. وكان محجوب قد ذكر غرضه الأول من هذه الزيارة، فأراد أن يمهِّد له، وكان اعتراف علي قد أحدث في نفسه لذةً كبيرة، فسالت نفسه نشاطًا وحُبورًا، ولكنه قال لصاحبه بلسان الواعظ: لا يجمُل بك على أية حال أن تستسلم للحزن، والحق أقول إنه مهما يكُن السبب الحقيقي لهذه القطيعة فلا شك في تبعة فتاتك؛ فهَبْها كشيءٍ لم يكُن، وأودِع العلة والمعلول سلة المُهمَلات …

فقال علي بحزن: لم يلتئم الجرح بعد!

– هذا جزاء من يهتمُّ بنظريتك في الحب، ألا ترى أن الكلاب تُعالج الحب بطريقةٍ أدعى إلى السعادة والراحة؟ … نحن المسئولون عن شقائنا دائمًا …

فلازَم علي الصمت، واستطرد الواعظ: النسيان … النسيان … أترضى أن تكون من المجانين الذين يُفسد الحب حياتهم؟

وساد الصمت، وفي تلك اللحظة امَّحى سببٌ قويٌّ مما كان يبغِّض علي طه إليه، فلم يعُد يمقُته كما كان، خفَّت وطأة البغضاء، ومضى يقول لنفسه: ما يَضِيره لو فقد إحسان؟ فلا يزال ذا وظيفة وشباب وجمال! إحسان التي طالما أصلَته نارًا؛ فمن الراحة ألا يفوز بها مُنافسه وإن فاز بها ثالثٌ غيرهما! ثم نهض قائمًا مُتوثبًا للهجوم على غرضه، فمالَ نحو صاحبه وهو يُصافحه، وقال بصوت لا يكاد يُسمَع: أستاذ علي، أخوك في حاجة إلى خمسين قرشًا حتى آخر الشهر؟

ودس علي يده في جيبه ومدَّها إليه بما يريد، فتناولها محجوب قائلًا: شكرًا لك … شكرًا لك أيها الصديق الكريم.

وغادَر المكتب راضيًا، وتساءل وهو ينتف حاجبه الأيسر: متى يمتلئ جيبي بنقود الحكومة؟!

٢١

وأخذ أُهْبته؛ استحمَّ، وكوى البدلة والقميص والطربوش، ولمَّع الحذاء، وحلَق ذقنه، ورجَّل شعره، فبدا شخصًا جديدًا، وإن لم يُزايله الهُزال ولا الشحوب.

ذهب إلى دار جمعية الضريرات مُبكرًا، ووجدها دارًا كبيرة، أنيقة، تُحيط بها حديقةٌ غنَّاء وارفة الظلال، فسار إلى بهوٍ عظيم مُستطيل، يتصدَّره مسرحٌ كبير، وقد تراصَّت به صفوف المقاعد الخُضر، وعلى الجانبَين أبواب الشُّرفات المُطلَّة على الحديقة، ولم يكُن سبقه إلى المكان إلا نفرٌ قليل، فاتَّخذ مجلسه هادئًا، ومضى يتفحَّص المكان بعينَيه الساخرتين، ويتساءل: تُرى هل يمكن حقًّا أن تنتهيَ به رحلته في هذه الدار إلى الحكومة؟! وكان تيَّار القادمين لا ينقطع، وكان في استقبالهم جماعة من الأوانس الحُور، وبعد ثلث ساعة من جلوسه تكاثَر عددهم، وتزاحموا نساءً ورجالًا، في أبهى الثياب وفاخر الحُلَل، فشاع الحُسن في كل موضع، وتطايَر في الجو شذا العطور، وزاغ بصر محجوب، وتردَّدت عيناه الجاحظتان بين الوجوه الصبيحة، والنحور المُتألقة، والظهور العالية، والصدور الناهدة. وجرى دمه بحيويةٍ فائضة، وسرى القلق في أعصابه. وعجِب لهذه الدنيا الباهرة، أين كانت خافية؛ هذه الثياب الفاخرة، وتلك الحُلي النفيسة؟ إن واحدةً منها تكفي للإنفاق على طلبة الجامعة جميعًا. وهؤلاء النسوة، ما أكثرهن وما أجملهن، ولكن من المؤسف حقًّا أن كل امرأة يحوم حولها رجل أو أكثر، وأكثرهن يتكلَّمن الفرنسية بطلاقة، وهن المُسلمات الظوالم! كأن الفرنسية لغة الدار الرسمية. تُرى كيف يتفاهمن مع الضريرات؟! واجتاحته موجة من السخرية مُفعَمة حقدًا، لا لغَيرة على لغة البلاد، ولكن تلمُّسًا لأسباب الكراهية. وتساءل: أين صاحب السعادة ابن الست أم سالم؟ وأرسل بصره ناحية المدخل فصادَف مَجيء سيدة باهرة المنظر، عرفها من النظرة الأولى، فذكر القناطر لعهدٍ خلا، وذكر مهندس القناطر الشاب وزوجه الحسناء. أجل، كانت حرم حمديس بك دون غيرها، وقد جاء وراءها البك نفسه، وتبِعته تحية وفاضل! وعلِق بصره بالأسرة وهي تمضي إلى مقاعدها من الصف الأول، وتورَّد وجهه الشاحب، وعادت على ذاكرته رحلة الأهرام، فخال أنه يسمع صفقة باب السيارة وهو يُغلَق دونه! … وقرض أسنانه وشعر برغبةٍ جهنَّمية إلى البطش بهذه الفتاة الأنيقة المُتعجرفة! … آه لو تأبَّطت ذراعه حسناء من هؤلاء الحِسان فسار بها أمام أسرة «قريبه»! تلك الأسرة الكريمة التي تجشَّمت المجيء إلى هذا البَهو في سبيل الإحسان والرحمة! ينبغي أن يسود بلا قيد ولا شرط؛ فلا ضمير ولا خُلُق، ولكن متى يجلس معهم في الصفوف الأمامية؟! في لباس السهرة الفاخر في بدلة الصحافة هذه؟! وقبل أن يُفيق من أفكاره رأى عن بُعدٍ الأستاذ سالم الإخشيدي يشقُّ طريقه إلى الأمام في مِشيته المتمهِّلة، ورزانته المعهودة، كأن البَهو لا يحوي سِواه … وكان يحيِّي برأسه كثيرًا من الطبقة العالية نساءً ورجالًا، فظلَّ يُتابعه بناظرَيه حتى جلس، وقد ملأه إعجابًا وحسدًا. هذه هي الحياة الحقَّة؛ الحياة المُمتِعة، الحياة التي تُرضي الغرائز جميعًا. الإخشيدي مَثلُه الأعلى، ونِعمَ المثل الأعلى هو. وشعَر عند ذاك بيدٍ تُوضَع على كتفه، فالتفت إلى يمينه فرأى الأستاذ أحمد بدير يجلس في المقعد المُلاصق، فتصافحا بحرارة، وسأل محجوب قائلًا: ما الذي جاء بك يا أستاذ؟

فنظر إليه الشابُّ نظرة كأنما يقول له: ما الذي جاء بك أنت؟

وأجابه كالداهش: عملي! … ألست مندوب الجريدة؟

فقال محجوب: وأنا مندوب مجلة النجمة!

وضحِكا معًا، وهمَّ أحمد بدير أن يسأل صاحبه عما إذا كان ينوي الاشتغال بالصحافة، لولا أن رُفعتِ السِّتار، وبدت على المسرح سيدةٌ جليلة، ذات جبينٍ وضَّاح، ووجه مُستدير مَهيب، لم يذهب كل جماله على اقترابها من الستين، وقُوبلت بتصفيقٍ حادٍّ مُتواصل، فتلقَّته برزانةِ من يألفه، وحنَت رأسها تحيةً للمُعجَبين، وبسطت بين يدَيها ورقة، ونظر محجوب إليها طويلًا، ثم سمِع أحمد بدير يقول بصوتٍ مُنخفض: السيدة إكرام نيروز مُنشئة الدار …

أجل. عرف ذلك بداهةً. تُرى أي دور ستلعبه في حياته؟

واستدرك أحمد بدير قائلًا: إنها عجوز، ولكنها مُغرَمة بالشباب!

وأدرك أن أحمد بدير لن يُمسِك — كعادته — وسُرَّ لذلك أيَّما سرور؛ لأنه من المُحنِق أن يقتحم الإنسان دنيا جديدة بغير دليل. أما السيدة إكرام نيروز فراحت تُلقي كلمة الافتتاح بصوتٍ هادئ متَّزِن جميل. رحَّبت بالحاضرين، وأثنت على عواطف الخير التي تعمُر صدورهم، ثم تكلَّمت عن جمعية الضريرات وهدفها السامي. ألقت كلمتها بالعربية، فلم تكَد تنجو كلمة من خطأٍ نحوي ولحن، وتبادل الصاحبان الابتسام، وقال أحمد: لا تحزن؛ فالدار خالية ممن قد يفطن إلى الخطأ …

فقال محجوب كالمعتذر: مغفور لها الخطأ، أليست تخطب بلُغةٍ أجنبية؟

ثم شاهَد الحاضرون فصلًا من مسرحية لموليير، وغنَّت مدام تارد أغنيةً فرنسية عالمية، وتركت في النفوس أبلغ الأثر، ثم دُعي الجميع إلى بهوٍ آخر مُستدير، أُعدَّ للرقص، فتصدَّرته فِرقةٌ موسيقية إيطالية، ورُصَّت إلى جوانبه الموائد، وعُزفت الموسيقى، ورقص الراقصون، ودارت الكئوس مُترَعات، ووقف الصديقان عند مدخل إحدى الشرفات يُشاهدان الرقص ويتحدَّثان. كان محجوب يرى الرقص لأول مرة، فأثار دهشته وإعجابه، رأى الصدور تكاد تلمس الصدور، والأذرُع تُحيط بالخصور، فعجِب كيف يتمالك هؤلاء أنفُسهم! وتمنَّى لو كان من الراقصين، وتفحَّص الوجوه بعينَيه الجاحظتين القلِقتين، وهمس لنفسه: «المال، المال هو السيادة، وهو القوة، هو كل شيء في الدنيا!» وعثرت عيناه بثديِ ناهدٍ تكاد حلَمتُه تثقُب الفستان الأبيض الشفَّاف، فحمِيَ دمه، ورفع بصره ليرى وجه صاحبته، فرأى عجوزًا دميمة على فرط تهتُّكها، فلكز صاحبه ولفته إلى السيدة هامسًا: كيف يكون هذا الثدي لهذه العجوز؟

فألقى أحمد بدير على المرأة نظرةً شاملة، وابتسم كالساخر، ثم قال: وكيف تكون هذه الحفلة الخيرية في حانة؟!

فقطَّب محجوب غاضبًا، أو مُتظاهرًا بالغضب، وقال: لتذهب الضريرات إلى الجحيم … الحانة خير وأبقى!

وجال ببصره مرةً أخرى فرأى تحية حمديس! رآها تُراقص شابًّا جميلًا مفتول العضلات، له طول مأمون رضوان، ومَتانة بُنيان علي طه، فشعر أنه — الشاب — يستطيع أن يقبره بضربةٍ واحدة، وتجهَّم وجهه، وسأل أحمد بدير عنه، فقال: الشابُّ وكيل نيابة، وأحد أبطال التنس المعدودين …

وتنهَّد محجوب، ولو أمكنه — في تلك اللحظة — أن يصير عظيمًا ولو بجريمةٍ ترمي به إلى حبال المِشنقة لما تردَّد! ما الذي منع من أن يكون أحدَ هؤلاء الشُّبان؟! الدنيا جميعًا! القُوى الكونية التي خلقت التاريخ، وصنعت الطبقات، وقسَّمت الحظ، وجعلت عبد الدائم أفندي أباه، والقناطر مَسقط رأسه. وهنا سمِع أحمد بدير يهمس إليه مُتعجلًا: «انظر إلى الشُّرفة.» وأدار رأسه إلى داخل الشرفة، فرأى سيدةً تكاد تُخفي وجهها بمِروحة من ريش النعام، وعلى يدها ينحني رجلٌ مُتقدم في السن، فلما استوى واقفًا عرفه من الصورة التي تنشرها له الجرائد من آنٍ لآخَر. قال أحمد بدير: هذه حرم أنيس بك إبراهيم، والباشا من المُعجَبين بها، ويُقال إنها تسعى لمنح زوجها الباشوية!

وكفَّت الموسيقى، وهرع كثيرون إلى الشُّرفات والحديقة، فتحوَّل الشابَّان إلى الشُّرفة، دخلا معًا. قال أحمد بدير: في أول عهدي بحياة المجتمعات كان يكلِّفني موقفنا هذا عناءً ما بعده عناء؛ كنت إخالُ الناس جميعًا وكأن لا عمل لهم إلا تفحُّصي من الرأس إلى القدم. وأنت؟

فذكر محجوب ملابسه، ووجهه الذابل الشاحب، فتصاعَد الدم إلى خدَّيه، ولكن سُرعان ما استعدى جسارته واستهانته، فقال بصوتٍ هادئ: في موقفنا هذا يُداخلني شعور بأني رجلٌ يجول بين ماشية!

ولم يكَد يُتمُّ كلامه حتى وجد نفسه أمام حمديس بك، وجهًا لوجه، وخفق قلبه بعنف، ونظر إليه نظرةً حاوَل ما استطاع أن ينقِّيها من آي الخوف والاضطراب، وتساءل: تُرى كيف يُواجهني؟ … ما عسى أن يقول؟ ما عسى أن يفعل؟ … أما حمديس بك فقد عرفه، ولاحت في وجهه ابتسامة، ومدَّ له يده قائلًا: كيف حالك يا محجوب؟

وتصافَحا، وافترقا بسلام! … وتولَّته الدهشة … إذن أخفت تحية الأمر! … ولم يدُر له هذا بخَلَد، وتنبه إلى أحمد بدير يسأله للمرة الثانية: أتعرف حمديس بك؟

فأجابه بزهو: طبعًا … طبعًا. ابن عم والدتي!

– وكيف لم تحدِّثنا عن هذه القرابة العظيمة؟

فأجابه محجوب بنفس اللهجة، وكان لا يزال مُتأثرًا بسرور النجاة: طظ! …

وهبطا الأدراج إلى الحديقة، ومضت عيناه تبحثان عن سالم الإخشيدي، ومتى يُقدمه إلى السيدة؟ … وهل من فائدةٍ تُرجى؟ … ومرَّ بجماعات النساء والرجال، وشاهَد نخبة من الرجال المعروفين، منهم المُتحفظون، ومنهم من أطلقوا لأنفُسهم العِنان. ولفت نظرَه شخصٌ غريب المنظر، ضخم الجسم في غير تناسُق، مُكرش، كأنه مادةٌ حيوانية لم تُسوَّ بعد، يمشي مُنفرِج الساقَين كأنه ذو داء، بيدَ أنه بدا أثيرًا محبوبًا مكرَّمًا، يُحادث العِظام بغير كُلفة، ويُمازحهم ويعلو صوته بينهم بغير مُبالاة، ويُقهقه عاليًا. وعجِب محجوب لشأنه، وسأله صاحبه عنه قائلًا: ومن هذا أيها العارف بأمر الناس؟

فضحِك أحمد بدير وقال: كيف لا تعرفه؟ … عزوز ضارم. كان يومًا موظَّفًا محترمًا، ثم اضطرَّ إلى الاستقالة لأسبابٍ خُلقية، فاشتغل بالأعمال الحُرة، وعرفه أناس من ذوي النفوذ، فأُعيد إلى الخدمة وسار قُدمًا … ولكنه لم يهجر أعماله الحُرة!

– وكيف يجمع بين الاثنين؟

– عمله الحر شقته الأنيقة، فيها مائدة للقمار، وفيها الحِسان الكواعب الحُور! …

وتفكَّر محجوب مليًّا، وانقبض صدره، وتكدَّر صفوه. كيف يُتاح له التفوق في مِثل هذا المجتمع؟! إنهم يعلون بمبادئه بغير حاجة إلى تفلسُف، ولن يمتاز دونهم باستهتار أو جرأة، فما الفائدة؟! أليس من الأفضل أن ينقلب مُصلحًا كمأمون رضوان أو كعلي طه؟! وقطع أفكارَه ظهرُ شابٍّ كالقمر، ممشوق القوام، بديع الحُسن، ناعم البشرة، فاتن العينين، أخَّاذ الملامح، لامع الشعر، يخطر كالغزال نافثًا سحر الأنوثة والذكورة معًا، فما تَمالك أن تَمتَم قائلًا: لله ما أجمَله! … أتعرفه؟

فقال أحمد بدير مُبتسمًا: أحمد مدحت، أشهر من نار على علَم، يدعونه بحقٍّ كوكب الشرق!

– موظَّف؟!

– ببنك مصر، مُتخرج في الحقوق منذ عام، مرتَّب ثلاثون جنيهًا.

– ثلاثون جنيهًا! ومن كان شفيعه؟

فضحِك بدير قائلًا: هو شفيع نفسه يا أحمق!

ورنَّ جرسٌ يدعو المُبعثَرين في جوانب الحديقة إلى بهو التمثيل، فعادوا جميعًا وأخذوا مجالسهم بهدوء ونظام، ورُفعتِ الستار بعد قليل عن مجموعة من بنات الطبقة الراقية في أردِيةٍ فرعونية رائعة، ورقَصن جميعًا رقصةً فاتنة التصوير، دقيقة التعبير، أخذت بمَجامع القلوب، حتى همس أحمد بدير بأغنية سيد درويش: «دا بأف مين اللي يألِّس على بنت مصر بأنه وش.» وصفَّق الجمهور للراقصات بحماس وإعجاب.

وأعلن بعد ذلك عن مسابقة الجمال، فسَرَت في الحاضرين هِزَّة شوق واهتمام، وشملهم سرورٌ عجيب، وظهرت على المسرح هيئة المحكَّمين. كانت المسابقة أمتع ما في السهرة، بل كانت المشهد الوحيد الذي أجمع الحاضرون على الاهتمام به، وقد تفحَّص أحمد بدير المحكَّمين بإمعان، ثم جرَت على شفتَيه ابتسامةٌ خفيفةٌ ساخرة، وأبرز من جيبه بطاقةً كتب عليها كلمة أو كلمتَين وطواها حتى صارت كالعويد، ودسَّها في جيب محجوب وهو يقول: دع هذه البطاقة حيث هي حتى تُعلَن النتيجة، ثم ابسطها تجد اسم ملكة الجمال!

فسأله محجوب بدهشة: وكيف عرفته؟

– صه … انتباه!

وتركَّز انتباه الجميع في مكانٍ واحد، ودعا الداعي أولى المَتسابقات، فطلعت في سماء المسرح كالكوكب النيِّر في بهاء وأناقة، وكانت ترفُل في ثوب من الحرير الأبيض، وتبسم ابتسامةً تُوحي بالهدوء واللطف، بيدَ أنها أخفقت في إخفاء ارتباكها. وقال أحمد بدير بأسف: في أوروبا تبدو المُتسابقات عرايا! أما نحن فنقنع بالحكم على الظواهر …

فتساءل محجوب ساخرًا كعادته: ولماذا لا يختارون المحكَّمين من المطَّلِعين؟!

وحملقت الأعيُن، وأمسك كثيرون بالنظَّارات المكبِّرة، وأثبت البعض ملاحظاتهم في مذكِّرات، واستمرَّ العرض والفحص بلا سأم ولا ملال. وتتابعت الوجوه كالأقمار، ثم اختفت هيئة المحكَّمين للمُداولة فتصاعَد اللغط، وعلا النقاش، وتراهَن كثيرون، وعادت اللجنة بعد قليل وأعلنت اسم الفائزة: آنسة هدى حيدر. فصفَّق الجميع، وصفَّق والدها في مقدمة الجميع، وأبرز محجوب البطاقة من جيبه، وبسطها، فوجد فيها اسم الفائزة «هدى حيدر» بخطٍّ واضح، فلاحت الدهشة في وجهه، وسأل رفيقه: ما معنى هذا؟

فابتسم أحمد بدير فخورًا بفِراسته وحسن اطلاعه على البواطن، ورغِب أن يترك صاحبه لحيرته، ولكن الآخر ألحَّ عليه، فلم يرَ بدًّا من إسكاته، فقال بصوت لا أثر للفخر فيه: عرفته بطريق المصادفة! رأيت الفائزة منذ يومَين مع الأعضاء الصحافيين من لجنة التحكيم عند سفح الهرم، أيُدهشك هذا؟!

وكرِه محجوب عبد الدائم أن يُدهَش حقًّا، فتمالَك نفسه، وقال بضجر: كلَّا لا يُدهشني شيء، اختيار الموظَّفين تزييف، رسو العطاءات تزييف، الانتخابات نفسها تزييف، فلماذا لا يكون انتخاب ملِكة الجمال تزييفًا؟

•••

وأوشك الجمع أن ينفضَّ، فذكر محجوب غرضه، ورأى الأستاذ سالم الإخشيدي يتَّجه نحو أحد الأبواب، فودَّع صاحبه ومضى نحوه. وكان الأستاذ قد نسِيَه تمامًا، فتصافحَا وسارا معًا إلى الباب المقصود، ودخلا حجرةً كبيرةً فاخرة الأثاث، جلست السيدة نيروز في صدارتها مع نفر قليل من أصحابها، وأهاب محجوب بجسارته أن يخونه الارتباك، واقترب مع صاحبه من السيدة الجليلة، وانحنى الإخشيدي على يدها مسلِّمًا، وقدَّمه إليه بصوته الرزين الهادئ: «الأستاذ محجوب عبد الدائم، مندوب النجمة! من خرِّيجي الجامعة المُعجَبين بما أحدثت عصمتك من نهضةٍ رائعة.» وانحنى لها محجوب فمدَّت له يدها قائلةً: إني فخور بالجيل الجديد … (وأتمَّت بالفرنسية) فقد طفح الإناء بالماء القذر، ولا بد من تطهيره وملئه من جديد …

فقال محجوب بالفرنسية: هذا حق يا سيدتي …

وكان الإخشيدي يقوم لها بدعاية في بعض الصحف إما بنفسه أو بواسطة بعض أصدقائه، فرجا أن تُضيف ما عسى أن يؤدِّيَه محجوب إلى أفضاله السابقة. وألقت السيدة على الشاب أسئلةً تتعلق بثقافته وتخصُّصه وآماله، فأجاب محجوب بلباقة، وجرى الحديث مجرًى جديدًا، فاستأذن الإخشيدي وصاحبه، وغادَر المكان وهو يقول له مودِّعًا: الشيء الكثير يتوقَّف على قلمك …

حقًّا؟ … أتحقيق أمله رهنٌ بمقاله عن حفلة اليوم؟ … وعاد إلى الجيزة مُتفكرًا تستأثر به الأحلام، وأرِق تلك الليلة كما كان يؤرِّقه الجوع في ليالي فبراير، تاهَ في وادي الأحلام والآمال، ثم ذكر طويلًا السهرة التي عاش فيها نصف الليل كله؛ جمال الرفاهية، ومشاهد النعيم، ومجالي الحُسن، وروعة العشق، وجنون الإباحية؛ تلك الحياة الباهرة التي تذوب روحه شوقًا إليها …

٢٢

وعند ضُحى اليوم الثاني كان يقطع حُجرته الصغيرة ذَهابًا وجَيئة مُفكرًا في المقال الخطير. ماذا يقول؟ كيف يبدأ؟ وبمَ يختم؟ ثم ركَّز ذِهنه في حصر النُّقط الهامَّة، ثم هداه منطقه إلى طريقةٍ لبقة في كشف النقط الخطيرة، فبسط صفحة، وشطرها نصفَين بخطٍّ رأسي، وجعل لكل شطر عنوانًا:

الحقيقة ما ينبغي أن يكتب
(١) إكرام نيروز كريمة رجل من صنائع الاحتلال. (١) أسرة إكرام نيروز وعراقتها في الوطنية.
(٢) غرامها بالشُّبان. (٢) زوجٌ وفيَّة وأمٌّ بارَّة.
(٣) تفوُّقها في الفرنسية وعجزها في العربية. (٣) اغترافها من الثقافتَين العربية والفرنسية.
(٤) دار الضريرات حانة. (٤) مشروعاتها الخيرية.
(٥) مدعوُّوها على مِثالها. (٥) مدعوُّوها على مِثالها.
(٦) المدعوُّون يهتمُّون بكل شيء إلا الضريرات. (٦) عاطفة الخير.

هكذا استخرج نُقَط الموضوع الخطير، ثم جلس إلى مكتبه يتهيَّأ للكتابة، ولكنه لم يكَد يُمسِك بالقلم حتى سمِع طَرقًا على باب حجرته — لأول مرة منذ انتقاله من دار الطلبة — فنهض مُنزعجًا ساخطًا وفتح الباب. رأى جسمًا ضخمًا يملأ عليه الفراغ، فتذكَّره وخفق قلبه خفقةً مروِّعة، كان ساعي سالم الإخشيدي دون غيره. ورفع عينَيه إلى الرجل في تساؤل ولهفة، فقال الرجل مُبتسمًا ولكن بصوتٍ غليظ: سعادة البك يُريدك على أن تُقابله الآن.

– سالم بك؟

– نعم!

– أين؟

– في مكتبه بالوزارة!

ثم قصَّ عليه الرجل كيف قصد إلى دار الطلبة كما أمره سيده، وكيف وصف له البوَّاب مَسكنه الجديد، ولكن محجوب لم يسمع شيئًا، كان يرتدي ثيابه بسرعة وهو يقول لنفسه: ماذا هُنالك؟! … أيمكن …؟! ولكن بهذه السرعة! … إنه لسِحرٌ مُبين! … هذه المرأة إمبراطورة … بل شيطانة … بل إلهة … آه … لشدَّ ما أخاف أن تكون الدعوة لسببٍ آخر فيضيع هذا السرور الجنوني سُدًى! … ولكن لأي سبب يدعوه إن لم يكُن لهذا؟ …

وذهبا إلى الوزارة فبلَغاها في منصف الثانية عشرة، وقصد إلى حجرة الإخشيدي، فاستقبله هذا بلطف لم يعهد مِثله من قبل، وأمر الساعي ألا يأذن لأحد حتى يأمره، وجلس محجوب على كثب منه، فالتفت إليه الرجل بوجهه المثلَّث الهادئ، ولكن كان الهدوء هذه المرة قِناعًا يُخفي انفعالاتٍ عارمة، وقال مُبتسمًا: دعوتك لأمرٍ خاص بمستقبلك!

هي الكلمة المرجوَّة! … لن يضيع السرور سُدًى … وغلبه الانفعال، فقال بصوتٍ متهدِّج: لم أفرُغ من المقال بعد!

– دعِ المقال الآن، وانسَ إكرام نيروز. سنحت فرصةٌ أجلُّ فائدة، كالثمرة الدانية تروم من يقطفها …

فتساءلت عيناه المُحملِقتان، وقال وهو يزدرد ريقه: بعَونك أقطفها!

فتريَّث الإخشيدي مُتفرسًا في وجهه بدهاء لم يُلاحظ الآخر — لم يُلاحظ شيئًا — ثم قال: وجدت وظيفة.

وساد صمت وقد تورَّد الوجه الشاحب، فاستدرك الإخشيدي: درجة سادسة!

– سادسة!

– سكرتير.

فتساءل لاهثًا وهو لا يصدِّق أذُنَيه: سكرتير من؟

فأشعل الإخشيدي سيجارة، غيرَ راحمٍ لهفةَ صاحبه، وقال مُتغافلًا عن سؤاله: الفرصة الجميلة كَنزٌ لمن يهتبلها، حسرة للمُتردد. أتذكَّر كيف كان فيضان المسيسبي من سنواتٍ بِركة على قطن بلادنا البائر؟

فاحترق الشابُّ لهفة وقال بعزمٍ أكيد: مُحالٌ أن أتردَّد يا سعادة البك.

فسُرَّ الإخشيدي لتلهُّفه، واطمأنَّت نفسه القلِقة بعض الشيء، ثم قال: سبق أن أفهَمتُك أنك يمكن أن تأخذ إذا رضيت أن تُعطي!

أن تُعطي؟! ماذا يملك لكي يُعطي؟ … وغصَّ بخيبة لم يتوقَّعها، فانطفأ بَريق عينَيه، وقال بصوتٍ كسير مُتسائلًا: ولكن … ولكن كيف أُعطي؟

– ليس المال بالعُملة الوحيدة المطلوبة في سوق الفرص، «وتنهَّد محجوب بصوتٍ مسموع»، ومن سجايا الإنسان ما لا يقوم بمال. المسألة لا تعدو هذا؛ أأنت جسورٌ ذكيٌّ حقيق بالطيِّبات، أم أنت ممَّن تُلقي بهم الأوهام على شاطئ الحياة فتطؤهم النِّعال كالتُّراب؟

فلاحت الحَيرة في العينَين الجاحظتين، حتى خلع الشابُّ طربوشه ومسح على شعره المُفلفل، ثم لبِسه بسرعة، وقال: أرجو أن أكون عند حسن ظنك …

– لهذا دعوتك، وما خابت فِراستي قط.

ونظر إلى محجوب بعينَيه المُستديرتَين وسأله: أتَقبَل أن تتزوَّج؟

فتولَّته الدهشة، لم يخطر الزواج على بال، فلم ينبس بكلمة، وكان الإخشيدي لا يزال مُصوبًا إليه عينَيه، فقال بلهجةٍ ساخرة: جاء دَوري لاستحثاثك.

– ألا يمكن أن أُعطى مُهلة للتفكير؟

فهزَّ الإخشيدي منكبَيه استهانةً وقال: ظننتك أشدَّ رغبة، لماذا أنتظر؟ يوجد ألف عروس وعروس، ولا بد من اختيار واحد اليوم …

– اليوم؟

– بل الساعة.

فتنهَّد محجوب، وواتَته جَسارته المعهودة، فقال بتسليم: إذن قبِلت …

فابتسم الإخشيدي ابتسامةً ماكرة، وقال: بدايةٌ حسنة، ولكنها ليست كل شيء.

ماذا يريد الشيطان؟ … ليس الأمر كما حسِب أول وهلة، ليس الزواج كل شيء، فماذا تحوي «كل شيء» هذه؟ … وسمِعه يقول بصوته البغيض: ولكني مُتفائل بجسارتك وبسرعة بتِّك في الأمور. الوظيفة في مكتبنا هذا، وكنت شاغلها لأسابيع خلَت وظيفة سكرتير قاسم بك فهمي.

يا لَلعَجب، أيُصدَّق هذا؟ أيمكن حقًّا أن يجود الدهر بكل هذه السعادة؟ ولماذا يختاره الإخشيدي وما يعهده ذا مروءة أو أريحيَّة؟ إنه يُطالبه — نظير هذه الوظيفة — بالزواج، فأي زواج هذا؟ أجل، أي زواج هذا … وأخفى حيرته وقال بسرور: يا لها من سعادة كالحُلم. جزاك الله عني خيرًا.

فابتسم الإخشيدي وقال وقد ازداد اطمئنانًا وجسارة: دعني أتكلَّم عن الزوجة.

فأحدث لفظ «الزوجة» في نفس الشاب هِزَّة، وتطلَّع إلى الإخشيدي بعينَين مُتسائلتين كأنهما تسألانه: «من هي؟ … ما صورتها؟ … ما معنى زواجي بها؟» فقال الإخشيدي: فتاةٌ كريمة من «دائرة» قاسم بك فهمي.

دائرة، وتساءل الشاب بارتياع: قريبته؟

– قارَبت الحقيقة … هي من معارفه!

فتغابى محجوب وتساءل مُزدردًا ريقه: معرفة جِوار، صداقة والِدَين.

فقال الإخشيدي ببساطة واستهانة: قارَبت الحقيقة، سعادته صديقها هي بالذات!

وبدَت الحقيقة سافرة، وأدرك ما يُراد بهن، وعرف ثمن الوظيفة الفاخرة. إن الإخشيدي لا يُرسل الساعي في طلبه حبًّا في سواد عينَيه، ولكن ليستغلَّ بؤسه. وإنه ليمقُت الإخشيدي، ولكن ليس هذا بيت القصيد. لقد تضرَّج وجهه بالاحمرار، وأحسَّ الحرارة تَسري في رأسه، فجعل يستصرخ ما جُبِل عليه من جسارة وفجور. أجل، ما الذي يُخجله؟ … ما الذي يؤلِمه؟ … أيؤمِن بالزواج؟ أيؤمن بالعِفَّة؟ أيشعر بإهانة في تصريح صاحبه؟ إن الحياة تنبري لامتحان فلسفته؛ لتُثبت بالتجربة المحسوسة إن كانت سفسطة وجدلًا أو عقيدة وعملًا. فيا أيها الاضطراب زُل، ويا أيها الغضب اسكت، وليتحدَّث عن الزوجة الساقطة كما لو كان يتحدث عن درجة حرارة الجو في البرازيل. فدعا استهانته وسخريته، وسأل صاحبه: عَذراء؟

فقال الإخشيدي مُبتسمًا: كانت!

ولاذَ بالصمت هُنَيهةً، وكان الوجه الشاحب لا يزال متورِّدًا، واستدرك الإخشيدي: لا تحسبنَّ عُظماء الرجال بمعصومين، والبك جادٌّ في إصلاح خطئه؛ فإذا شاطرته مَقصده النبيل ظفِرت برضاه، وهيَّأت لنفسك مستقبلًا حسنًا. ومِثل هذا العمل يتطلَّب قلبًا كبيرًا، وعقلًا واسعًا، وثقافة عميقة. أما إذا تناولت الأمور بمِعيار العوام فهذا فِراق بيني وبينك. ولا تتوهمنَّ أني أجري وراءك؛ فالذين يرضَون بما يُعرَض عليك لا حصر لهم، بيدَ أني أُوثر أن تعمل معي أنت في هذا المكتب لما أعهده فيك من الذكاء والإخلاص، ثم إننا جِيرة من قديم، ودرجة سادسة كنز …!

إنه يُدرك البواعث الخلفية التي جعلت الإخشيدي يُرسل إليه ساعيَه، إنه يروم خدمة مَولاه، واكتساب رضاه، ولعله إن لم يظفر بزوجٍ طيِّب للفتاة التي اعتدى البك عليها اضطرَّ أن يقدِّم نفسه كبشًا للتضحية. هذا واضح ومفهوم، ولكن هناك حقائق أخرى أولى بها أن تُذكَر؛ هُنالك وظيفة سكرتير، وهنالك الدرجة السادسة، أفيجوز أن يُضحى بها؟ ولماذا؟ … أيشعر بما يدعونه غَيرةً على العِرض؟ … حاشاه. أيصدِّق فيما يُسمُّونه الشرف؟ … تبًّا له. لقد قال كلمته الأخيرة في كل هذه الأشياء، فينبغي أن يختار دون تردُّد. التردُّد معناه أنه لا يزال غير أهل لفلسفته الجسور. تبًّا له. أينسى لياليَ الجوع؟ أينسى الفول المُدمس؟ أينسى التخبُّط في شوارع القاهرة شحَّاذًا مُتسولًا؟ علي طه في المكتبة ومأمون رضوان في طريق باريس ويتردَّد؟! حمديس بك لا يكلِّف نفسه مجالسته خمس دقائق ويتردَّد؟! وتحية — وهنا تميَّز غيظًا — أغلقت باب السيارة في وجهه ويتردَّد؟! ونتف حاجبه الأيسر، ورفع عينَيه إلى صاحبه، وسأله: من هي؟ أريد أن أعرف كل شيء.

فقال الإخشيدي: ستعرف كل شيء في حينه، ولن تكون من الآسفين.

فرفع محجوب حاجبَيه استهانةً وقال: ليكُن، فمتى يكون التعيين؟

٢٣

فتنهَّد سالم الإخشيدي بارتياح، وقال وهو ينهض قائمًا: تعالَ أقدِّمك إلى البك.

وتبِعه على الفور باذلًا جهده لضبط عواطفه. ودخلا حجرةً فاخرة، رأى في صدرها مكتبًا كبيرًا يجلس إليه البك، واقتربا من المكتب في احترام حتى كادا يلمساه، ورأى الإخشيدي يتنازل مرةً واحدة عن جلاله، وينحني على يد البك في خشوع، ففعل مِثله، ولما اعتدل في وقفته ألقى على الجالس نظرةً خاطفة. كان في الأربعين، مُعتدل القامة، جميل المحيَّا، أنيق المَلبس والهِندام، صغير الشارب جميله، يدلُّ مَظهره على أنه إمام من أئمة مدرسة الغزل، وقد قدَّمه الإخشيدي إليه، وأثنى عليه، فرحَّب به في تحفُّظٍ مقصود، وسأله: هل أنت من مُتخرجي هذا العام؟

فأجاب محجوب بالإيجاب، فقال له البك: أرجو أن تكون عند حسن ظن الأستاذ الإخشيدي بك.

ثم مدَّ له يده إيذانًا بانتهاء المقابلة! وقد تعمَّد أن يجعلها مقابلةً رسمية حتى لا يلعب الغُرور برأس الشاب. وعاد إلى حجرة الإخشيدي، ورآه محجوب مُختالًا فخورًا، فامتلأ حنقًا عليه، ولكن حنقه لم يدُم طويلًا؛ لأنه — رغم كل شيء — كان راضيًا، وسأل بأدب: متى يتمُّ التعيين؟

– هذا عليَّ هيِّن. ستُكتَب اليوم مذكِّرة تعيينك، فجهِّز مسوِّغات التعيين، ويتمُّ كل شيء إن شاء الله في بحر أيام، أما الآن فدعنا نُنجز الأمر الآخر … (وسكت لحظات) تكرَّمْ بالحضور إلى بيتي عصر اليوم. فتساءل محجوب بدهشة: لماذا؟

فقال الآخر بهدوء: لتعقد زواجك.

فقال محجوب بانزعاج: أليس من الأفضل أن تؤجل هذا إلى ما بعد إتمام التعيين؟

– ولمَه؟

فقال الشاب مُبتسمًا: حتى أتريَّش …

– أستاذ محجوب، خير البر عاجِله، سيدفع لك بمبلغٍ محترم تستعين به على الزواج حتى تقبض أول مرتَّب، ولن يكلِّفك الزواج شيئًا، شقة العروس في انتظارك، وما عليك إلا تجديد ملابسك!

فاستولت الدهشة على الشاب الذي لم يكُن يتصوَّر أن كل شيء مهيَّأ على هذا الوجه. كانت المَصيدة مجهَّزة تنتظر فأرًا، ووقع الفأر. تُرى أبها عسل أم سُم؟

– ألا تُعطيني مُهلة أسبوعًا؟

– العقد اليوم ليطمئنَّ قلب والدَي العروس، أما الزِّفاف فبعد التعيين. فتنهَّد محجوب مُستسلمًا، وسأله: وأين شقة … العريس …؟

– شارع ناجي، عمارة شليخر، شقة رقم ٤.

فقال الشابُّ بدهشة: هذا حيٌّ إفرنجي، إيجاره مُرتفع بغير شك!

– لا تكترث لهذا …

فتساءل الآخر بانزعاج: كيف يمكن هذا؟!

– أنت كثير الأسئلة، قليل الصبر. اعلم يا أستاذ أن البك قد اكترى هذه الشقة لمدة عام!

فتبلبل فِكر الشاب، وسأل بمكر: لو ترك لي الخيار لاخترت مَسكنًا مصريًّا.

وابتسم الإخشيدي ابتسامةً دلَّت على احتقاره لمكر صاحبه، وقال باستهانة: المساكن الإفرنجية ينعدم فيها التطفُّل، فإذا رأى البك أن يزورك، زارك في أمن من المتطفِّلين:

وصوَّب بصره نحو المتكلم، فوجده يتظاهر بالنظر في بعض الأوراق، وشعر مرةً أخرى بالدم يتصاعد إلى رأسه، وخفق قلبه بعنف، وذكر — لا يدري كيف — زميله أحمد بدير وحفلة السيد إكرام نيروز، وتخيَّل نفسه جالسًا في الحفلة، وصاحبه الصحافي يومئ إليه خُفيةً من بعيد ويحدِّث! دائمًا الناس، الناس دائمًا … أيترك الناس يحطِّمون سعادته؟

أيهما يفضِّل؟ أن يكون من المجدودين وليقُل أحمد بدير ما يشاء، أم يكون من البائسين ولا يجد الصحافي ما يقوله عنه؟ … وقطَّب غاضبًا، ألا يزال مُترددًا؟ … كيف نسي «طظ» العزيزة؟ يا له من جبانٍ حقير. واشتدَّ غضبه، ثم نظر إلى صاحبه وقال بحِدَّة: ليكُن …

فقال الإخشيدي: سأنتظرك عصر اليوم.

وفيما هو يُغادر حجرة المُدير وقع نظره على حجرةٍ تُقابلها كتبٌ على لافتتها «السكرتير الخاص»، فخفق فؤاده، ومضى إلى الخارج، وجعل يحدِّث نفسه: قرنان في الرأس، يراهما الجاهل عارًا، وأراهما حِليةً نفيسة. قرنان في الرأس لا يؤذيان، أما الجوع … سأكون أي شيء، ولكن لن أكون أحمق أبدًا؛ أحمق من يرفض وظيفة غضبًا لما يُسمُّونه كرامة، أحمق من يقتل نفسه في سبيل ما يُسمُّونه وطنًا … أحمق من يضيِّع على نفسه لذةً لأي وهم من الأوهام التي ابتدعتها الإنسانية. كل هذا حق وجميل، بيدَ أني مُنفعلٌ هائج. لماذا؟! ذلك أن العقل لا ينفرد بتوجيه سلوكنا، وبينما يُحدِث العقل حكمة، يُخلف الشعور حماقة؛ فعلى الحكمة أن تمحق الحماقة، وليكُن لي أسوةٌ حسنة في الإخشيدي؛ ذلك الأريب، ظفِر بوظيفته لأنه خائن، ورُقِّي لأنه قوَّاد؛ فإلى الأمام … إلى الأمام.

وكوَّر قبضة يُمناه ولوَّح بها، وحثَّ خُطاه وقد انبعث من عينَيه الجاحظتين نورٌ خاطف …

٢٤

وغادَر حُجرته عصرًا بعد أن ارتدى بدلته بعناية وأخذ حظَّه من التأنُّق والزينة! ومضى إلى طريق المنيرة إلى بيت الإخشيدي. لبِث طوال يومه مُتفكرًا، وكان يقطع تفكيره بالتعجُّب، ثم يقول لنفسه وكأنه لا يصدِّق: «سأتزوَّج اليوم.» وكانت الورقة التي أثبت بها نُقَط الموضوع الخاص بحفلة جمعية الضريرات لا تزال على مكتبه! فكيف قطعت الأمور هذا الشوط البعيد؟! تفتَّحت أبواب الوظيفة، وها هو ذاهب لأداء الثمن؛ الزواج؟! … لا ينبغي أن يدع اسمًا يهوله، فما هو إلا اسم! … وكثيرٌ مما نحسبه حقائق أو قيمًا ما هي إلا أسماء. هو عادةٌ اجتماعية، وفي بعض البلاد يتعدد الأزواج كما تتعدد الزوجات في بلادٍ أخرى، وقد يُباح الزنا في بلاد، وكانت الإباحية قانونًا في بعض المجتمعات؛ فليس هناك قانونٌ مُطلَق للزواج، وليتحلَّ بما أُثِر عنه من شجاعة وجسارة. هكذا مضى يُحادث نفسه، ثم ذكر في طريقه والدَيه! … وانقبض صدره على رغمه، وفرَق، وتفصَّد جبينه عرقًا. تمثَّلت له والدته التي تؤمن بأنه لا يُخطئ أبدًا، وتمثَّل له والده الرِّيفي، بطِيبته وتَقواه وغَيرته. إنه يتزوَّج دون عِلمهما، ولا يدري متى يَعلَمان، ولكن هل يحتمل أن يعلما بالحقيقة، لا فلسفته ولا أعصابه بمُستطيعةٍ أن تجعله يُواجه مِثل هذا التحدِّي! … إن ذِكرى والدَيه شبحٌ مُخيف، فليطرُده عن مخيِّلته. ما أحوَجَه الآن إلى صفاء الذهن وحضور البديهة ورباطة الجأش! أليست عروسه في انتظاره؟! … يا لها من حقيقة بالخيال أشبه. تُرى من عروسه؟ … ما صورتها؟ ما أسرتها؟ ما أخلاقها وأحوالها؟! قلبه يحدِّثه بأنها جميلة، وإلا ما جذبت شخصًا كقاسم بك، ولكن لا شك كذلك في أنها فقيرة كما يدلُّ اختياره زوجًا لها، والفتاة الغنيَّة لا يعوقها عن الزواج عائق، والشرف قيدٌ لا يغلُّ إلا أعناق الفقراء. تُرى ماذا تُخبئ له هذه الحياة الزوجية؟ كيف يكون شعوره نحو زوجه غدًا؟ وكيف يكون شعورها نحوه؟ وما هي حقيقة الرابطة التي ستربطهما معًا؟! وكيف يستقبل البك إذا جاء لزيارته! يا لها من حياة، ويا لها من تجرِبة. غدًا تُمتحن فلسفته وقوته. إنه يسير نحو هدفه لا يَلوي على شيء، ولا يستطيع عقله الآن أن يجد حلًّا لجميع المُشكِلات التي ينطوي عليها الغد، ولكنه إذا واجَهها فسيعرف كيف يقهرها، وينتصر عليها كما انتصر على كل عقبة في ماضيه، وداخَله شعور بالثقة والزَّهو والخُيلاء، فسار بقدمَين ثابتتَين، وانتهى إلى بيت الإخشيدي، وفتح له الرجل بنفسه، ثم مضى به إلى حجرة نومه وسأله: أأنت مُستعد؟

فقال محجوب وهو يبتسم ليستبقيَ ثقته بنفسه: كما ترى يا بك.

ونظر إلى الإخشيدي فلم يرَ ما اضطرَّه قديمًا إلى إجلاله، وشعر في أعماقه برغبة في تحدِّيه والاستهانة به. قال الرجل: سيأتي المأذون عمَّا قليل …

فابتسم محجوب وقال بغرابة: المأذون!

فقال الإخشيدي مُبتسمًا أيضًا: ستدخل دنيا يا عم، والآن دعني أقدِّمك إلى العروس ووالدَيها.

وتبِع الإخشيدي خافِقَ الفؤاد، تلوح في عينَيه نظرة تطلُّع وما يُشبِه الخجل والتردُّد، وكان لا يكفُّ عن دعاء جراءته وقحته، ويُرسل ناظرَيه لرؤية حياته ومستقبله … وسبقه الإخشيدي إلى الدخول وهو يقول: هاكم عضوٌ جديد في أسرتكم المحترمة …

ودخل وراءه، فوقعت عيناه على وجهٍ غريب، رأى إحسان شحاتة، إحسان شحاتة تركي دون غيرها، والتفَّت عيناهما …

٢٥

كانت إحسان شحاتة دون غيرها، ولكن غير الفتاة الطاهرة التي أحبَّها علي طه فتعاهَدا على الحب والزواج. حدث تاريخٌ جديد، بدأ بنظرة عين ثم أعقبتها أمور. حدث ذلك وهي عائدة عصرًا من المدرسة، عند رأس شارع رشاد باشا فيما يلي شارع الجيزة، أمام القصر المعروف بالفيلَّا الخضراء. ولكَم مرَّت بهذه الفيلَّا ذهابًا وإيابًا منذ أعوام، ولكن في ذلك اليوم وقعت عليها عينان جميلتان خبيرتان، مُغرَمتان بكل حسن صبيح، وشعرت الفتاة بالنظرة الثاقبة فلم يخلُ وقعها من أثر. رأت رجلًا جليل الشأن، إن لم يكُن باشا فهو بك، أنيق المنظر، جميل المحيَّا، ذا شاربٍ صغير فاتن، يكتنفه جلال وجمال على دقة جسمه وميله إلى القِصر نوعًا. ولعل ذلك وحده ما جعلها تلتفت إلى الوراء بعد أن ابتعدت أذرُعًا، فوجدته مصوِّبًا نحوها عينَين أحسَّت — في حياء — نفاذهما وحرارتهما! كانت الفيلَّا مِلكًا لمدير شركة إيطالي، باعَها إلى هذا البك منذ أشهُر، وقيل يومئذٍ إنه موظفٌ خطير، ونوَّه البعض بِاسمه، ولكنها نسيت ذلك جميعه. وما بلَغت دارها الباهتة حتى كادت تنسى البك ونظرته. في عصر اليوم الثاني — وعند عودتها من المدرسة أيضًا — رأته بمَوقِف الأمس. التَهمَتها العَينان الجميلتان وهي مُقبِلةٌ نحوه، وتبِعاها بعد أن جازَته، وتساءلت: تُرى هل وجد ذلك الوقت مصادفةً كالأمس أم إنه انتظر اليوم على عمد؟! وسارت دون أن تلتفت وراءها، وإنْ ظلَّ ذِهنها مُتفكرًا. وعند منتصف الطريق شعرت بدنوِّ سيارة من الطوار الذي تمشي عليه، فعطفت رأسها إلى يسارها فرأت سيارةً تكاد تُوازيها؛ سيارةً رائعة كأنها فيلَّا مُتحركة، ولمحت وراء نافذتها عينَي البك تُرسلان إليها بنظرةٍ غريبة، فيها ابتسامٌ مُستتر، وإعجابٌ ظاهر، وفُجرٌ فاضح، وبطُؤَت حركة السيارة حتى سارت تُسايرها، فتولَّاها الحياء والارتباك، وحثَّت خُطاها، وابتعدت داخل الطوار. ولما اقتربت من دار الطلبة اندفعت السيارة مُسرِعة، ودارت إلى طريق الجامعة، واختفت عن الأنظار. قُطِع الشك؛ فهذا غزل. وخالَط فؤادَها شعورٌ بالسرور والخُيلاء، وغلَبتها خِفَّة ودلالٌ ورِثَتهما عن أمها، فترنَّمَت بصوتٍ خفيض بأغنية: «التاكسي على الباب مستنيني.» ثم قالت لنفسها: «ليس تاكسيًا، ولكنها سيارة ولا سيارات عابدين!» بيدَ أنه كان شعورًا بريئًا أحدَثه زهو الصِّبا، أما الرجل العظيم الجميل فلم يُمسِك، بل تمادى في غزله يومًا بعد يوم، فلم ترَ بدًّا من الاستياء والتجهُّم له، وقالت له عيناها: «هذا سلوك لا يليق.» ولكنه لم يأبه لإنذارها. ويومًا رأت إلى جانبه في السيارة شخصًا جديدًا مثلَّث الوجه مُستدير العينَين، ثم استمرَّت المطاردة وعنُفت، حتى باتت الفتاة في حيرة. كانت تُحبُّ علي طه، فرأت أن من المنطق أن تنتهيَ هذه المطاردة المُلحَّة، ومن ناحيةٍ أخرى لم يترك البك الجميل في نفسها أثرًا سيئًا، وعلى العكس من ذلك أبهج نفسَها وُلوعُه ونظرة عينَيه الجذَّابتَين. وقالت لنفسها مُتألمةً: إنه على كُهولته أجمل من علي وأروع مَنظرًا، ولولا أن قلبي قال كلمته لما درَيت كيف أصدُّه عن صاحب السيارة العظيم! وجعلت تتساءل مَغيظةً: هل ارعوى؟ متى يغيب عن ناظري؟ متى يبعد عن سبيلي؟! ولكن هل كانت صادقة في تساؤلها؟ أو لأي درجة كانت صادقة؟ فلم تجد لذلك جوابًا صريحًا. باتت في حيرة من أمر نفسها، وراحت تقول لنفسها كالمُعتذرة … إن كانت تُسَر لمطاردته … فما ذلك إلا إرضاءً لغُرورها الأنثوي وتأثُّرًا بمَقامه الكبير. وما تدري يومًا إلا وأبوها يقول لها بلهجةٍ ذات معنًى — وكانت راجعةً من المدرسة — «ألم تَثُوبي إلى رشدك بعد؟!» واضطرب فؤادها، وتورَّدت وَجْنتاها. هل يَعلَم الرجل بما يحدُث في شارع رشاد باشا؟! ربَّاه، أدائمًا هو بالمِرصاد لها؟! ونظرت إليه نظرة المُتسائلة المُتجاهلة، فقال وكانت أمها لحِقت به: «رجل لا يقلُّ مَقامًا عن وزير، وأعظم جاهًا وثروة، ألا ترَين سيارته؟ ألا ترَين قصره؟ فماذا تريدين؟!» فسألته الفتاة بحِدَّة: «ماذا يريد هو؟» فقال المعلم شحاتة تركي بصوتٍ غليظٍ أخافَها على غير عادته: «يريد بك خيرًا، ويريد بنا خيرًا. يريد الله أن يرفعك إلى طبقة السادة، وأن يُزقق إخوتك الجِياع … كلَّمني مدير مكتبه الذي أعرفه منذ عهد تلمذته، سيتزوَّج منك. نعم. لمَ لا؟ أنتِ جميلة، وأنا رجل من صُلبٍ كريم. لعن الله الزمن، فحتَّامَ تلوي بوزك؟ افتحي عينَيك. أبوكِ يستغيث بك، وأمك تستغيث بك، وإخوتك يستصرخونك!» واستفاض الحديث، واشتركت فيه أمها. في تلك الليلة لم يُغمِض لها جَفنٌ حتى مَطلع الفجر. قضت الليلة تتقلَّب على جنبَيها وتُفكر، وعند عصر اليوم الثاني في الموعد المعهود، اقتربت السيارة منها وفتح الباب. وتردَّدت قليلًا، ثم صعِدت إليها …

كيف وقع هذا؟! ألم تكُن تُحبُّ علي طه؟ بلى كانت، ولكنه ليس الحب الذي يُعمي ويُصم. ليس الحب الذي يصمد للتجارِب الشديدة والمُغرِيات العنيفة. كانت تُحبُّ الجاه كذلك وتَكرَه الفقر، كانت تئنُّ تحت حمل أسرتها الثقيل. كانت الفيلَّا مَنظرًا بديعًا، والسيارة كَنزًا نفيسًا، والبك إلهًا من آلهة الذهب والسلطان. لقد قاوَمت أول مرة الشابَّ الحُقوقي؛ لأنها كانت أول مرة، ثم راح والداها لا يسكتان عن الإلحاح، وقد جعلاها منذ التجربة الأولى في حلٍّ من كل استهتار، بل جعلا عِصمتها بيدها، ولولا علي لهوَت وانتهت من زمنٍ بعيد، بيدَ أنها لم تُرِد فيما بينها وبين نفسها أن تعترف بضعفها. تجاذَبَتها في ليلتها المسهَّدة عهودٌ كثيرة وعواطف مُتباينة، تردَّدت بين البك وعلي طه، بين زوج اليوم وزوج الغد البعيد، بين الراحة والتعب، بين حياة الدَّعة والاطمئنان وحياة الكد والكفاح، بين عيش رغيد لها ولأسرتها وحياةٍ جلُّها مغالبة لفقر لا يُغلَب وضنكٍ لا يزول، ثم اختارت دامعةَ العينَين، خافقة الفؤاد، وأوهمت نفسها أنها تضحِّي بسعادتها في سبيل الآخرين، وأن الليل استقبلها فتاةً معذَّبة، وطلع عليها شهيدةً من الشُّهداء. قالت لنفسها: «إني أُحبُّ علي، ولكني أُحبُّ إخوتي كذلك، ولا يجوز أن يذهب إخوتي ضحيَّةً لأنانيَّتي؛ لذلك — لا لشيءٍ آخر — ينبغي أن أُذعِن لأبي. أنا لا أحب البك، ولا أحب الجاه، والله يعلم بذلك!» وهكذا صعِدت إلى السيارة التي ظلَّت تُطاردها بعناد وإصرار. كانت السيارة سحرًا، وكان صاحبها ساحرًا كذلك. كان علي طه عاشقًا وناقدًا في آنٍ واحد، يُحب ولكنه ينقد ويعلِّم ويُرشِد أيضًا، أما البك فرجلٌ فاتن، مَنظره جميل، وكلامه لذيذ، ودُعاباته جنون وفُتون. كانت عيناه بأعيُن المنوِّمين أشبه، وكان إذا نظر في عينَيها الجميلتين وعاطاها الحديث شعَرَت بتخديرٍ عام واستسلامٍ حالم. وجزى الله صبر المعلم شحاتة تركي خيرًا، فجاءته يومًا سيارة شيكوريل، وأفرغت حمولتها من الثياب الفاخرة! وحرَّكت أم إحسان رأسها على طريقة العوالم وغنَّت: «حوِّد من هنا وتعالَ عندنا.» ولاحَ السرور في عينَي إحسان وهي تقلِّبهما في ألوان الحرير لتختار ما يروقها. وهكذا بدأ تاريخٌ جديد، ثم كانت نزهة الهرم بعد ذلك بأسابيع. انطلقت السيارة بالبك الجليل، إلى يمينه فلقةُ قمرٍ تبعث الجنون. والحقُّ أن إحسان بعد أن تريَّشت وأخذت زينتها، وصار شيكوريل ومدام جريكور الخيَّاطة في خدمتها، أصبحت، على حد قول البك، جنونًا رسميًّا. في ذلك اليوم بُيِّت أمر؛ تعطَّلت السيارة في الطريق فتركها الراكبان، وقال البك إن له فيلَّا على مَقربة من المكان، واقترح أن يستريحا فيها حتى يتمَّ إصلاح السيارة، ومضَيا إلى فيلَّا جميلة تُحيط بها حديقةٌ غنَّاء، ثم قال البك إنها وقد شرَّفت بيته الخلوي فينبغى أن يحتفل بزيارتها الميمونة، وأمر خادمًا فهيَّأت لها مائدة من التفاح والشمبانيا، وقشَّر لها تفاحة، وقدَّم لها كأسًا من الشمبانيا وهو يقول لها إنها شرابٌ غير مُسكِر، ولذيذ. كان الوقت أصيلًا، والحياة في أطيَب أحوالها. كانت النافذة تُشرِف على خُضرةٍ يانعةٍ يَتِيه فيها البصر، والسماء مورَّدة الوَجنات بحُمرة الشَّفق، والحِدأة تولِّي مودِّعةً ضاربة بجَناحَيها، ووسائد الكرسي الكبير تتلقَّاها وكأنها تضمُّها بحنوٍّ، وقدماها مُنغرستَين في سجادةٍ وثيرة. وبعثت الشمبانيا الدفء في العقل، والعقل إذا أحسَّ دفئًا تهيَّأت له قوةٌ سحرية يحوِّل بها عالم المحسوس إلى عالم أطياف روحية، خالٍ من الخوف والهم والأحزان. وتصاعَد همس محبوب أشهى من نفثات الأماني، ونقرت على مِعصَمها أصابع مسحورة، تُدغدغ حواسَّها وتحمِّل دمها رسائل الاستفزاز، ونفَذَت أنفاسٌ حارَّة مُترددة كشكَّات الإبر من جيب فُستانها إلى ثغرة صدرها وما بين ثدييها، وجعلت تُدافع بساعِدَين مخذولتين، حتى يئِسَت، فضمَّت بهما.

•••

ونطقت عيناها بالفزع والارتباك والحياء، فقال لها البك بلهجةٍ مُطَمئنة: لا تحسبي أني غدرت بكِ، إن مستقبلكِ أمانة بين يدي، والله على ما أقول شهيد …

٢٦

التقت عيناهما — محجوب وإحسان — في صمت وذهول، وذكَر كلاهما صاحبه فتولَّته الدهشة والانزعاج واضطراب أيُّما اضطراب. ذكرها محجوب فكاد يفقد رشاده، وذكرته إحسان فتولَّاها الذهول، وذكرت علي طه، ودار الطلبة، والماضيَ الذي تودُّ أن تفرَّ منه فرارًا. ونظر محجوب فيما حوله فرأى عم شحاتة تركي في مِعطفٍ جديد، وسيِّدةً بدينة أدرك أنها زوجه، وفطِن الإخشيدي إلى ارتباك الجماعة، فقال مُبتسمًا: لعلَّكم لا تحتاجون إلى تعارُف …

فقال عم شحاتة: محجوب أفندي جارُنا منذ أربع سنوات …

ولم يكُن الإخشيدي يجهل هذا — وهو ما جعله يحرص على ألا يعرِّف أحد الطرفَين بالآخر قبل مُفاجأة اللقاء — قال: مصادفةٌ جميلة، والناس تقول: «اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش.» سلِّم واجلس يا أستاذ محجوب.

وأفاق الشاب من ذهوله، فاقترب من آله الجُدُد وسلَّم عليهم واحدًا واحدًا، ومدَّت له إحسان يدها خافضةَ العينَين، بوجهٍ كالجُمان. كانت تريد أن تُسدل على الماضي ستارًا كثيفًا، وأن تفرَّ منه إلى الأبد، فرمى بها الحظ بين يدَي واحد من صميم ذاك الماضي، وكأنه — الحظ — لم يشبع بها تنكيلًا! وأراد الإخشيدي أن يُعالج توتُّر الجو بالحديث، ولكن محجوب لم يُلقِ إليه بالًا. وكيف له بأن يغفل ثانيةً عن العجيبة الماثلة أمامه؟! هذه إحسان شحاتة بلحمها ودمها! أهذا سر مأساة علي طه؟! يا عَجبًا، كيف غوَت؟! كيف استولى البك عليها؟! كانت ثقة علي بها عَمياء! … أهكذا تقع إحسان؟ … أما هو فلا يعرف الثقة العمياء أبدًا، ومع ذلك فلم يذهب به سوء الظن يومًا إلى التنبؤ بما وقع! … انتهت إحسان التي أحبَّها علي طه، وانتهى ذاك الحب القديم، وها هي إحسان أخرى جديدة تمدُّ إليه يدًا ليرتبطا بميثاق الزواج … إحسان التي طالما تمنَّاها معذَّبًا محسورًا! أفليست الحقيقة أغرب من الخيال؟ وتنبَّه إلى صوت الإخشيدي يقول له مُعاتبًا: أما تستفيق؟

فنظر إليه بعينَين ذاهلتين وتَمتَم قائلًا: إني أعجَب لهذه المصادفة.

فسأله الإخشيدي مُبتسمًا: كيف ترى هذه المصادفة؟

فقال محجوب بلا تردُّد: مصادفةٌ سعيدة بلا جِدال!

وجعل الإخشيدي يتكلَّم عن المصادفة مُتفلسفًا، وقالت أم إحسان كلمة أو كلمتَين، وظنَّ عم شحاتة أنه أحاط بالموضوع حين قال: إن المصادفة من صُنعِ الله وبأمره سبحانه، ولكن بالرغم من هذا كله ظلَّ العروسان غارقَين في أفكارهما، وغلب الوُجوم والارتباك على جو الجلسة، ثم رنَّ الجرس، فنهض الإخشيدي ظافرًا بالخلاص من التوتُّر الشائع حوله، ومضى إلى الخارج وهو يقول: لعلَّه المأذون يا سادة …

وخفَقت القلوب جميعًا، ثم دخل الحجرةَ شيخٌ يتبَعه الإخشيدي، وسلَّم على الحاضرين، ثم دعا الله أن يجعل مَحضره مُبارَكًا، وجلس الشيخ إلى نضد، شمَّر عن ساعِدَيه، وأخذ في عمله البسيط الخطير، وجرَت يده المغطَّاة بالشعر الغزير على القِرطاس، وتابَعه عم شحاتة والإخشيدي، أما محجوب فقطَّب قليلًا وأحدَّ بصره ليركِّز انتباهه ويطرد أفكاره، وخفضت إحسان عينَيها الساجيتَين وقد امتُقع لونها. وجاءت الدقيقة الفاصلة، فالتفت المأذون إلى محجوب عبد الدائم وقال له: «كرِّر ما أقوله: الآن قبِلت زواج الست إحسان كريمة السيد شحاتة تركي، البِكر البالغ الرشيد … إلخ.» وكرَّر محجوب قوله بنبراتٍ هادئة، وصوتٍ واضح، لم يَعتوره اضطراب، حتى نطقه كلمة «البكر»، بيد أنها وقعت من مسمعه موقعًا غريبًا أثار سخريته الكامنة، وحِقده الراسخ. وذكر إجابة الإخشيدي حين سأله عن العروس: عذراء؟! فأجاب الفاجر باستهانة: كانت؟! … أجل كانت، فلماذا لا يكتب المأذون: التي كانت البكر؟! تزوير في أوراقٍ رسمية! … زواجه تزوير، حياته تزوير، الدنيا كلها تزوير …

ومضى المأذون يُلقي الخطبة: الحمد لله الذي أحلَّ النكاح وحرَّم السِّفاح. واستمرَّ في محفوظاته، واستمرَّ محجوب في تأمُّلاته. وقال لنفسه: ولكن البك حرَّم النكاح وأحلَّ السِّفاح! وجاراه هو على اعتقاده، فوقَّع على عقد نكاح في الواقع هو عقد سِفاح! وصارا زوجَين أمام الله والناس! … واسترق الشابُّ إلى عروسه نظرة فرأى عينَيها محمرَّتَين تُنذِران بالدموع، فقال لنفسه ساخرًا: أول الغيث قطر. وتُبُودِلت التَّهاني، ودارت أكواب الشربات. كان زواجًا غريبًا، شعر كلٌّ من شارَك فيه بأنه يؤدي واجبًا ثقيلًا يودُّ الفراغ منه في أقصر وقت. ارتاح الوالدان دون أن يستخفَّهما فرح أو سرور، وغرِق العروسان في وُجوم وتفكُّر، وغلبهما شعور بالقلق والخجل. قد عجِبت إحسان في أول الأمر، حين علِمت أنه يُراد تزويجها، وتساءلت حَيرى: أين الذي يرضى بعروسٍ مِثلها؟ ثم ذكرت والدها المحترم، فلمَ تستبعد شيئًا؟ والدها الذي تعامى عن سقوطها، والذي وصَّاها بعشيقها ولم يوصِّها بزوجها، فلماذا لا يوجد أناس على شاكلته؟ وقد وُجد بالفعل واحد، وها هو يجلس إلى جانبها كزوجها، وإنها لتذكُره، وتذكُر كيف صدَّت هواه حين كانت تملك الصد عن هواه. وخالَطها شعورٌ نحوه بالاحتقار، ولكنها لم تتمادَ فيه، وقالت لنفسها مُمتعضةً: ألستُ مِثله أو أضلَّ سبيلًا؟! كِلانا باع نفسه للجاه والمال.

أجل، صارا زوجَين …

٢٧

وقعت التجرِبة إذن، وتلقَّتها فلسفته بساعدَين شديدتين، إلا أن نفسه لم تخلُ من قلق، بيدَ أن هذا القلق لم يُقعده عن العمل، بل على العكس جعله أشدَّ رغبةً فيه، فلم ينسَ غرضه لحظةً واحدة، ولم يُضِع ثانية بلا نشاط، وكأنما وجد في العمل مَلهاة عن وساوسه. راح يُعدُّ مسوِّغات تعيينه، وكانت أعجبها شأنًا شهادة بأنه «حسن السير والسلوك»، ووقَّع عليها الإخشيدي وزميل له؛ مما جعل محجوب يقول ساخرًا: «من يشهد للعروس؟»

وتسلَّم عشرين جُنيهًا ليستعين بها على إصلاح شأنه، فأخذ الأوراق ذاهلًا؛ لأنه لم يكُن رأى شيئًا كهذا من قبل، وجعل يعبث بها باهتمام، ويتفرَّس فيها بغرابة وإنكار. هذا ثمن القرنَين اللذين يحلِّي بهما رأسه، كل قرن بعشرة جُنيهات! ورأى على إحدى الورقات صورة الفلَّاح، فجَرَت على فمه ابتسامةٌ خفيفة، وذكر أباه طريح الفِراش، المهدَّد بالجوع، وتساءل: لماذا لم يُصوروا أحد الباشوات … أو العلَم التُّركي؟! وقال لنفسه ساخرًا: إن هذه الصورة شبيهة بإمضائه على عقد الزواج. ومضى بجيبه المُنتفخ إلى الخيَّاط، وابتاع قماشًا لبدلتَين، فأدرك الرجل أن الطالب صار موظَّفًا، ولم يكُن فصَّل له سوى بدلةٍ واحدة في مدى أربع سنوات الدراسة، ثم ذهب إلى الموسكي، واشترى بيجامتَين، وقُمصانًا، وفانلات وجوارب، وحذاءً وطربوشًا، كما ينبغي لعروس! وحزم ثيابه الجديدة في حقيبةٍ كبيرة وقد تورَّد وجهه سرورًا وحياة، وألقى على حجرته الصغيرة نظرةً شامتة، وذكر لياليَ فبراير البشِعة، ودكان الفول بميدان الجيزة. تبًّا لهاتِيك الأيام السُّود! لن تعود أبدًا مهما كان الثمن! … ينبغي أن يتورَّد هذا الإهاب الشاحب، وأن يمتلئ ما بين هذا الجلد وهذا العظم، وأن يصفوَ هذا الذكاء الجبَّار، وأن يهلك شبح الجوع المَقِيت. إن النعامة لكي تعيش جعلت رقبتها كالثعبان طولًا، والأسد لكي يعيش جعل قبضته كالقنبلة فتكًا، والحرباء لكي تعيش اصطنعت كل لون، وهذا ما فعله هو على اختلاف الوسائل! أجل، وليكُن طموحه لا نهائيًّا، وطمعه لا حدَّ له؛ فقد غرِم ثمنًا باهظًا، ويجب أن يكون الجزاء كالعمل. وتفكَّر مليًّا، ثم وصَّى نفسه قائلًا: الحذر! ليفعل ما يشاء، ولكن لا يجوز أن يقول إلا ما يشاء الناس. وقد فطِن إلى هذه الحقيقة منذ البدء؛ فإذا امتدح الفضيلة بكلمة أو كلمتَين لم يعدم من يُسبغ عليه لقب الفاضل، أما إذا صارَحها العداء فسينقلب عليه الناس جميعًا، وعلى رأسهم الملوَّثون. وليكن له أسوة في الإخشيدي الذي يُرى في كل حفلة خيرية! … بل لماذا لا يُفكر جِديًّا في الاشتراك في بعض الجمعيات الخيرية؟! ثم ذكر زواجه! وعاد يتساءل: كيف هان علي طه على إحسان؟ كيف زلَّت قدمها؟! وما عسى أن يفعل علي إذا علِم غدًا أن إحسان صارت زوجه؟ سيُسقَط في يده، ويتشتَّت ذهنه حَيرةً، ولا يصدِّق أنه — محجوب — كان سبب شقائه؛ فإذا لم يجد بدًّا من التسليم بهذه الحقيقة الغريبة اتَّهمه حاقدًا ثائرًا بكل خِسَّة ودناءة وغدر ذميم. ليكُن، فليتَّهمه كيف شاء، وليحقد عليه ما وسِعه الحقد. بيدَ أنه ذكَر دَينه الذي لم يقضِه؛ الخمسين قرشًا، فصدَق عزمه على ردِّها إليه في يومه، وكرِه أن يُواجهه بنفسه لشعوره بذنبه، فأرسلها بالبريد، وارتاح لذلك أيَّما ارتياح، وشعر بأنه قطع آخر خيط يربطه بعلي طه، وأنه لا يجوز له بعد الآن أن يعبأ بما يتوهَّمه الآخر أو بما يُحسُّه أو بما قد يفعله. ودعا البوَّاب وكلَّفه بيع أثاث حجرته، ووعده بالتنازل عن ثلث ثمنه نظير أن يحتفظ له بما قد يصله من خطابات بِاسمه. وكان يُفكر وقت ذاك في والِدَيه، ولعلها كانت أول مرة يذكُرهما بلا سخط أو تذمُّر أو غضب، وقد بات في نيَّته أن يُرسل لوالده جنيهَين كل شهر، بل يزيدهما إلى ثلاثة إن أمكن.

أما غدًا، فصباحًا يذهب إلى الوزارة، ومساءً يأخذ عروسه إلى عُشِّها الجديد.

٢٨

واستيقظ مُبكرًا، ومضى إلى الوزارة، وانتظر الإخشيدي في حجرته، وجاء المدير عند تمام التاسعة، فتصافَحا بمودَّةٍ ظاهرة، وشرِبا القهوة معًا. وقال له الإخشيدي وهو يهيِّئ مكتبه: لا شيء يُصدَّق! أتَعلَم أن أكثرية طلبات الإعفاء من المصروفات مقدَّمة من ذوي اليسار؟

ولم يكُن محجوب — في ذلك الوقت على الأقل — ليهتمَّ بأمثال هذه الأمور، ولكنه لم يرَ بدًّا من التظاهر بالدهشة، وقال: شيء لا يُصدَّق حقًّا! … وكيف يسوِّغون التماساتهم؟

وقال الإخشيدي: لا حاجة ماسَّة إلى التسويغ، حسبُ أحدهم أن يُقهقِه ضاحكًا، وأن يقول لقاسم بك: «ألا يكفينا هبوط أسعار القطن؟» ثم مزاح فمداعبة فموافقة!

ثم جعل كعادته يتهكَّم من أحوال البلد وتصرُّفات كِبار الموظَّفين وصِغارهم، فلم يَسلَم من لسانه سوى قاسم بك، ولعل ذلك إلى حين … والتفت إلى محجوب قائلًا: لا تنسَ أن عملك يحتاج إلى لباقة وحسن تصريف للأمور. (ثم غلَبه طبعه في التهوين من شأن الغير وأعمالهم فقال) … هو سهل في ذاته، بل هو لعب، لا يحتاج بطبيعة الحال إلى فلسفة أو علم، ولكن إلى لباقة …

فقال محجوب باهتمام: أرجو أن أنتفع بإرشادك …

– يسرُّني أن أجد مُساعدًا مُخلِصًا لي؛ ولذلك احتفظت لك بهذه الوظيفة على كثرة المُتقاتلين عليها؛ ولذلك أيضًا ينبغي أن نكون يدًا واحدة لأن أعداءنا كثيرون. لا يغرُّنك ما تَلقى من بشاشة؛ فالعادة أن الموظَّفين يُقبِلون على صاحب السلطان ما أقبلت الدنيا عليه، فإذا أفل نجمه فأكرَمُهم من يُدبِر عنه دون أن ينشب فيه أظفاره؛ فلنكن يدًا واحدة.

وتحدَّث الإخشيدي طويلًا على غير عادته، وفكَّر محجوب طويلًا فيما يدعو إليه الآخر من أن يكونا يدًا واحدة، فقال مُخاطبًا صاحبه في سره: وقعتَ في شرٍّ منك، وساقَك الحظ إلى مُساعد من طِينتك، يفهم الخلاص كما تفهمه، ولكل شيء آفةٌ من جِنسه، وليست منزلتي عند البك دون منزلتك؛ فإذا كنتَ مهرِّجه أو قوَّاده فأنا زوج عشيقته.

وجاء الساعي الضخم، وأعلن حضور قاسم بك، فنهض الإخشيدي واصطحب محجوب إلى حجرته، وصافَحهما البك بسرور، وهنَّأ الشابَّ على تسلُّمه العمل، وقال له برِقَّة: أرجو لك التوفيق، والمستقبل الباهر …

ومضى الإخشيدي يَعرِض عليه بعض الأوراق، أما محجوب فوقف انتباهه عند «المستقبل الباهر». يقولون: «يا بخت من كان النقيب خاله.» والنقيب أقرب إليه من خاله! واختلس من البك نظرات ليملأ عينَيه من الرجل الذي صاد إحسان، وأفقدها رشدها. نظر إليه بغرابة كأنما ينقب عن سره السِّحري، أيوجد في محاسنه؟ أم جاهه؟ أم في مكانٍ اكتشفته إحسان لحسن حظها أم لسوء حظها؟! أعجب بهؤلاء الرجال ذوي السلطان، إنهم يأتون الكبائر باستهانة، ويتجاهلون ما يُسميه السُّذَّج ورطة أو مشكلة، ويخلقون الحل اليسير للأمر في غمضة عين، وكان هو الحل اليسير! … كيف غوَت إحسان؟ سيظلُّ مُتحيرًا حتى يعرف الحقيقة. ليس علي طه دون البك جمالًا، وهو يفوقه بشبابه، فكيف غوَت؟ … ولو كانت تزوَّجته لقال آثَرته لماله، ولكنها … ربَّاه … تبًّا لهؤلاء الرجال الأقوياء، إنهم لا يعرفون المستحيل. أم تكون إحسان خدعةً كبرى جازت على المُصلِح الاجتماعي الأحمق، وما هي إلا … لا بد أن يعرف الحقيقة.

وغادَرا حجرة البك، وسار به الإخشيدي إلى حجرة «السكرتير الخاص»، وقد قام ببابها ساعٍ طاعن في السِّن، وكانت حجرةً مستطيلةً اصطفَّت على جانبَيها المقاعد الجلدية، وتصدَّرها مكتبٌ كبير. قال الإخشيدي: أستودعك الله، سأُبلغ المستخدمين أنك تسلَّمت عملك اليوم.

وكان الإخشيدي يقول لنفسه: أما كان الأحكم أن يَلحَق الشاب بوظيفةٍ بعيدة عن المكتب؟ فليس مما يرتاح إليه أن يوجد في نفس المكتب شخص له هذه العلاقة الوثيقة بالبك! ولكن ماذا كان بيده أن يفعل؟ كانت الحالة حرِجة، والبك مُضطربًا خائفًا، والوظيفة خالية، ولو لم يعثر على محجوب لربما كان هو الزوج! ولعل الأيام تُثبت أن الشابَّ أهلٌ لصنيعه!

وترك محجوب وحده في الحجرة، استخفَّه سرورٌ عجيب كاد يرقص له، وجلس على الكرسي المُتحرك ضاحِكَ الثَّغر، ووضع يده على سماعة التليفون، ولم يكُن استعمل التليفون قط! وجعل يُحرك الكرسيَّ ذات اليمين وذات الشمال. موظَّفٌ خطير بغير شك، وغدًا يمتلئ بطنه باللحوم والفواكه. تبًّا للفلاسفة الذين يقولون: إن السعادة في البساطة. أليست أمراض البِطنة بخير من عذاب الجوع؟

واليوم والغد، أما الماضي فسحقًا له …

•••

ولبِث ساعة وحيدًا حتى ضاق بوحدته، ورغِب أن يفعل شيئًا أيًّا كان، فضغط على زر الجرس، وفتح الباب، وجاء الساعي العجوز وقال بأدب: «أفندم يا سعادة البك.» وتورَّد وجهه! ووقعت الرُّتبة الجديدة من أذُنَيه مَوقعًا موسيقيًّا مُطرِبًا، وإن تظاهَر بعدم المُبالاة، ثم قال باقتضاب: «قهوة.» وما كاد الباب يُغلَق مرةً أخرى حتى رنَّ جرس التليفون، فرنَّت أوتار قلبه، ورفع السماعة بقلق ووضعها على أذنه، ثم قال بصوتٍ هيَّاب: أفندم.

– سكرتير قاسم بك فهمي؟

– نعم يا فندم.

– البك موجود؟

– نعم يا فندم.

– دعني أكلِّمه … قُل له محمد رشاد.

وظنَّ أنه ينبغي أن يذهب إلى حجرة البك ليُخبره، فأعاد السماعة إلى موضعها الأول، فأقفل السكة وهو لا يدري، ومضى إلى حجرة البك وقال باحترام: محمد رشاد … بك، يريد أن يُكلم سعادتك.

– خلِّه يدخل …

– إنه يتكلم في التليفون.

فسأله البك بدهشة: ولماذا لم تحوِّل السكة إليَّ …؟

فلم يَحِر جوابًا، ولاح في وجهه الارتباك على غير عادته، فضحِك البك وقال: حوِّل السكة عليَّ، استعمِل الموصِّل في مِثل هذه الأحوال.

وغادَر الحجرة مُرتبكًا، وقد أدرك أنه أخطأ. كيف تُحوَّل السكة؟ وأي شيء هذا الموصِّل؟ وعاد إلى مكتبه، ورفع السماعة إلى أذنه، فسمع نقيقًا متصلًا فقال: يا سعادة البك …

فلم يُجِبه أحد مع معاودة الدعاء، ولم يسمع إلا النقيق المستمر، فاشتدَّ ارتباكه، وخاف أن يكون قد ارتكب خطأً جديدًا، ولبِث مُمتعضًا. ما كان يعلم أن للتليفون ثقافةً خاصة ينبغي أن يَعلَمها، ودعا الساعي على مضض ليلقِّنه سر التليفون، ودوَّن بعض الملاحظات على ورقة كي لا ينسى ما يجب ذِكره في المستقبل، ثم دبَّت الحياة في الحجرة، فتوارَد عليها أناسٌ مختلفون من طبقاتٍ مُتباينة يستأذنون في مقابلة قاسم بك فهمي، فاستقبلهم دون ارتباك، وعاوَنَته جسارته الطبيعية على تمالُك أعصابه، والظهور بمظهر الرزانة والثبات، واستقبل أحد الباشوات المعروفين الذين لم يكُن يراهم إلا من بعيد، فسلَّم عليه، واستأذن له، ودعاه إلى مُقابلة البك. وعلى رغم تظاهُره بالهدوء كان يكتم بعنفٍ انفعال السرور والفرح. ومضى نهار العمل في حركةٍ دائبة ونشاطٍ متَّصل وسرور لا مزيد عليه؛ وبهذا النشاط غير المُنقطع نسِيَ أفكاره ووساوسه، فارتاح باطنه وهو لا يدري، وغادَر الوزارة مُعافًى كأنما ينهض من نومٍ عميق.

وكان غيرَ الفتى الذي جاء الصبح ساعيًا؛ فقد عرف بكوات وباشوات، وثقِف فن التليفون، ودُعِي «محجوب بك» عشرات المرَّات، فكان أعظم ثقة وخُيلاء، بل أوشكت أن تتغير مِشيته ونظرة عينَيه، وذكر — في نشوة المجد المُباغت — قريبه أحمد بك حمديس، فودَّ لو يأتي يومًا لمقابلة قاسم بك ليجيء حجرته مُستأذنًا، فأي دهشة تتولَّاه؟! وكيف يتصافحان تصافُح الأنداد، ثم يقص ما رأى على أسرته فتسمع تحية، وتَعلَم أنها أغلقت باب سيارتها دون فتًى ذي نباهة ومجد! … ولكَم يودُّ أن تراه تحية مع زوجه الحسناء! فزوجُه تفُوقها حُسنًا وفِتنة، وإنه ليودُّ أن يتفرَّس في وجهها وهي تنظر شزرًا إلى زوجته وقد أدركت مدى حُسنها الفتَّان!

صبرًا صبرًا، إن الحياة بدأت تبتسم …

٢٩

وفي ذلك اليوم نفسه ذهب محجوب عبد الدائم إلى الإخشيدي — كوعدٍ سابق — ومضى به الرجل إلى الشقة ليسلِّمها له، وحمل محجوب معه حقيبة ثيابه وكُتُبه القلائل، وأعطاه الإخشيدي مِفتاح الشقة وهو يقول: الشقة وما تحتوي — لكما — إلا صُوانًا صغيرًا في حجرة النوم.

أدرك محجوب أن الصوان خاصٌّ بقاسم بك فهمي، وتورَّد وجهه، وشعر محجوب برغبةٍ قوية في أن يركله بما أُوتي من قوة! وقال الإخشيدي: يحسُن أن يُجدَّد العقد بِاسمك.

– أهو الآن بِاسم قاسم بك؟

فقال الإخشيدي ببرود: بِاسمي أنا …

فأحسَّ محجوب ارتياحًا وسأله: وكم إيجار الشقة؟

– عشرة جُنيهات!

فابتسم محجوب قائلًا: ما يُعادل ماهيَّتي تقريبًا …

– سيؤدِّيها البك، كما سيؤدي عنك أجر الطاهية … وغير ذلك …

ودارا معًا في الشقة دورةً استكشافية، وكانت على صِغرها آية في جمال البناء ونفاسة الأثاث، فتولَّته الدهشة، وأدرك أنه يرى كثيرًا من قِطع الأثاث لأول مرة، ولم يدرِ لها أسماءً. كانت الشقة مكوَّنة من ثلاث حجرات وصالة؛ فعلى يمين الداخل تقع حجرة الاستقبال، وهي تفتح على دِهليزٍ يؤدي إلى صالةٍ معَدَّة للجلوس، وبها جهاز الراديو، وعلى جانبها الأيمن بابان؛ أحدهما لحجرة النوم، والآخر لحجرة السفرة، ولحجرتَي النوم والسفرة شُرفةٌ طويلة واحدة تُطلُّ على شارع ناجي. وذكر في موقفه بسرعةٍ بيت القناطر، ودار الطلبة، وحجرة السطح بعمارة شارع جركس. أدرك في موقفه ذاك أن الحقائق قد تفوق الأحلام سحرًا وجمالًا. والواقع أن مادة الأحلام مستمَدَّة في العادة من محسوسات الحالم ومُدرَكاته، وها هو ذا يرى أدواتٍ ترفُّ لأول مرة في حياته، لم تكُن من محسوساته ولا من مُدرَكاته! الفرق بين هذا البيت وبيت القناطر هو الفرق بين إحسان وجامعة الأعقاب، كِلتاهما امرأة، أجل، ولكن شتَّان بين هذه وتلك. ونسِي في تلك اللحظة ما كان يقوله لنفسه دائمًا من أنه لا يوجد ثَمة فرقٌ بين امرأة وامرأة، وأن إحسان وتحية وجامعة الأعقاب كلهن سواء! …

وقال له الإخشيدي وهو يودِّعه: غدًا مساءً تجد عروسك في انتظارك!

وذهب الرجل والشاب يرمُقه شزرًا.

وعند أصيل اليوم الثاني انطلق إلى الجيزة، وذكر في الحال علي طه، تُرى في أي موقع يُقيم؟ كان يعلم أنه في الجيزة، ولكنه جهِل عنوانه، فهل ما يزال الشاب مُقيمًا على عهده واهتماماته بالفتاة؟ أيدعوه هواه إلى رُبوعها، وهل نما إليه خبر زواجها؟ أيمكن أن يلتقيَ به وهي مُتأبطةٌ ذراعه؟ ساوَره قلق، وإن كان لا يُبالي شيئًا، بل ودَّ في تلك اللحظة لو يَلقاه علي ويعلم كل شيء، ومضى إلى بيت عم شحاتة تركي، فوجد الأُسرة في انتظاره — ما عدا إحسان — فأيقن أن تعليمات الإخشيدي سبَقته إلى آله الكِرام. وكان الجميع — عم شحاتة وزوجه والأبناء الستة الصغار — يرفُلون في الثياب الجديدة الناطقة بكرم قاسم بك وحدبه، وسلَّم وسلَّموا بحرارة، فقبَّله عم شحاتة في جبينه، وقبَّل يد حماته، وداعَب الصِّغار، وقبَّل أصغرهم في خدَّيه. وفي جلسته أنعم نظره في الوجوه تتطلع إليه، فأقرَّ لتوِّه بأن بيت عروسه حافل بالحسن؛ أبوها حسن القسَمات، وأمها حسناء، وإخوتها لآلئ منثورة. وقال لنفسه إن الجمال سلاحٌ نافع حقًّا في يد الفقير. واستفاض الحديث، وساهَم فيه الشابُّ كما ينبغي وإن ودَّ لو يُغادر البيت في أقرب وقت، وتكلَّم عم شحاتة عن دار الطلبة، وعن الطالب محجوب عبد الدايم المهذَّب المُجتهد، وكيف أنه لم يكُن من عملائه لأنه لا يدخِّن، وكيف أنه — عم شحاتة — يحترم الطلبة الذين لا يدخِّنون وإن (وقد ضحك عند ذاك) لم ينتفع باستقامتهم، وقال إنه لم يُحيي حفلًا لعُرس ابنته؛ لأن الزوج الطيِّب هو الفرح الحقيقي، وإنه لم يدعُ أحدًا من أقربائه وآله — وهم ريفيُّون — حتى لا يجشِّمهم مشقَّة السفر. وغلب على ظن محجوب أن الرجل يكذب كما يكذب المُولَعون بالفخر الزائف، ولكنه ذكر والدَيه بامتعاض، وقال إنه طيَّر نبأ زواجه إلى والدَيه، ولولا أن أباه، وهو مُزارع ذو شأن بالقناطر، وهو مريض، لشَهِد يومه وبارَكه بنفسه. وتحدَّثت أم إحسان عن أبنائها، وعن إحسان خاصة، وأدرك محجوب من حديث حماته، من لهجتها، وحركات رقبتها وحاجبَيها وعينَيها، أنها امرأةٌ ذات دلال وأنوثة ودُعابة ومكر — وكان يجهل تاريخها بشارع محمد علي — وقد سألته عن وظيفته، واقترحت عليه أن تقرأ كفه، وتنبَّأت له بذُريةٍ صالحة ومركزٍ حكومي مُمتاز. وكان محجوب يتكلم ويستمع، ويسترق النظر إلى باب الحجرة المُوارب، وعيناه تتساءلان: «حتَّامَ الانتظار؟» وأخيرًا جاءت إحسان، جاءت في ثوب العُرس الأبيض الشفَّاف، وقد عقصت شعرها وجعلته على هيئة عمامة، فتجلَّى سواده اللامع، وأكسب بشرتها صفاءً، وجاء في صحبتها نِسوةٌ أربع — قيل إنهنَّ قريبات أمها — ولكنه لم يُلقِ بالًا إلى أحد. جذب حُسنها عينَيه فأطاح باستهتاره المعهود، حتى تمشَّت شرارة الكهرباء في صدره، وقرض على أسنانه، والتقت عيناهما وهما يسلِّمان، فامتلأ بالسحر الجاري في لحظَيهما، وشعر بأنه ثمِلٌ يترنَّح، وعاوَدته ذكريات عذابه القديم، ومآسي شهوته المُضطرمة، فلم يصدِّق — على استهانته وجسارته — أنها صارت مِلكًا له، أو حتى مِلكًا له على المَشاع كما يقولون، وذكر الشريك، وكيف سبقه، فتألَّم، وعاوَد النظر إلى الجسد البضِّ الذي يشفُّ عنه فُستان العُرس الأبيض وما يزداد إلا تألُّمًا. وكان عم شحاتة قد هيَّأ للحاضرين عشاءً فاخرًا كلَّفه ثمنًا غاليًا، فدعاهم إلى المائدة، ونهضوا تسبقهم ضجَّة الصِّبيان. وكانت أم إحسان على مرحها مُستاءةً في أعماقها، وكانت تودُّ من كل قلبها أن تحتفل بيوم إحسان السعيد، وأن تجعل منه يوم سرور للحيِّ جميعًا، ولكن الإخشيدي صارَحها بأن محجوب أعجز من أن يحقِّق لها رغبتها، وكانت تعلم أن زوجها أعجز من زوج كريمتها، فطوَت نفسها على رغبتها الحانقة، وقد أكلوا مريئًا، وعادوا إلى جلستهم هانئين، ولم يكن يوجد ثَمة داعٍ إلى بقاء العروسَين، فنهضا يودِّعان الحاضرين. وجيء بتاكسي حُملت إليه ثياب العروس في حقيبةٍ كبيرة، وأخذ محجوب إحسان من يدها وسار بها وسط نصف دائرة من المودِّعين، وهبط السُّلَّم على مهل، وكأن أم إحسان قد نفد صبرها، فأطلقت زغرودة رنَّت بين الحيطان رنينًا نفَّاذًا، خفق له فؤاد الفتى، وارتجَّ جَفناه، وتلقَّت النسوة تلك الزغرودة كما يتلقى الجنود علامة الهجوم، فأطلقن الزغاريد تتجاوب أصداؤها، ويشتدُّ صفيرها المُتقطع، يهتزُّ له صدور الحِسان. واحتوى التاكسي العروسَين، وقد نسِيا في شدو الزغاريد نفسَيهما، فابتسما في بشاشة وحياء، وظلَّا ينظران إلى الواقفات بالباب حتى جاوزت السيارة دار الطلبة إلى شارع رشاد باشا.

٣٠

وأراد أن يتكلم، ولكنه لم يدرِ ماذا يقول، وكان كلما طال صمته طال حصَرُه، فعدَل عن رغبته وهو كظيم، وتفحَّصها بعناية، رآها تنظر إلى الطريق من النافذة، مولِّيةً إياه مؤخِّر رأسها. ولم يشكَّ في أن أعيُنًا كثيرة في الطريق ستنفس عليه هذا الحسن البديع الذي يستأثر به، وسُرَّ لذلك أيَّما سرور. ليت آل حمديس يرَونه في جلسته هذه، وخصوصًا تحية حمديس! … وخطر له في تلك اللحظة — وقد اطمأنَّ إلى أن تحية تكتَّمت فضيحته — أن يمضيَ يومًا إلى زيارة قريبه العظيم ليُقدم له عروسه كما جرَت العادة، وداعَب هذا الخاطر فؤاده حتى أسكره. وكانت لا تزال عاطفةً رأسها إلى الخارج، فألقى بنظره الجائع إلى جسمها اللَّدن، فجرى على الجِيد، فالمَنكب، فالثَّدي الناهد، ثم الخاصرة الخميصة، وأخيرًا الفخِد اللفاء. وتنهَّد من أعماق صدره، وقال لنفسه: ما أشدَّ جوعه، واضطرام دمه. ووقف التاكسي أمام عمارة شليخر، ونزل ونزلت مُستندةً إلى يده، وسارا إلى المِصعد، ودخلا الشقة يتبعهما البوَّاب بالحقيبة، ودلَّها على حجرة النوم، فتقدَّمت إليها وردَّت الباب! ووقف مُترددًا، ثم تراجَع إلى مقعد في الصالة وارتمى عليه، لم يرتَح أول وهلة لإغلاق الباب، وذكر باب السيارة في الهرم! ولكنه سُرعان ما أقام العذر بالارتباك الذي يُحدِثه الموقف، بيدَ أنه لم ينجُ من مرارة طبعه الساخر، فقال لنفسه: يا له من حياء هو بالأبكار الساذجات أولى؟! ثم قطَّب وتساءل: تُرى ماذا تُخبئ له حياته الجديدة؟ أسعادةً أم شقاءً؟! إنه لا يطمع أن تنظر إليه كزوج بالمعنى المفهوم؛ لأنه هو نفسه لا يستطيع أن ينظر إليها هذه النظرة، وحتم أن تراه — في قرارة نفسها — قوَّادًا، كما يراها — في قرارة نفسه — عاهرة. فهل يمكن أن يسعد قوَّاد وعاهرة معًا؟ هذه هي مسألته دون زيادة ولا نُقصان. إنه لا يروم من حياته الزوجية معنًى اجتماعيًّا، ولا ذريةً صالحة، ولا احترامًا مُتبادلًا، كل ما يريده رغبةٌ مُتبادلة، ميلٌ يُعادل ميله، شهوة بشهوة، وحسبُه هذا من زواج هو وسيلة لا غاية. إنه يروم حبًّا بلا غَيرة، يرِد ماءها الحين بعد الحين، دون قلق أو فكر أو هم، وتوكُّله أولًا وأخيرًا على نفسه الجسور التي حطَّمت القيود ومزَّقت الأغلال. كان يُفكر ونظره عالقٌ بالباب المُغلَق، أينتظر حتى يفتح؟ وإذا ظلَّ مُغلَقًا، فهل يلبث مكانه حتى الصباح؟ ونهض قائمًا، ودنا من الباب ونقره بخفَّة، فلم يُجِبه صوت ولا حركة، فأدار الأكرة ودفعه. وجد الظلام يوشك أن يبتلع الحجرة إلا نورًا خافتًا آتيًا من ناحية الشُّرفة، فأدرك أنها في الشُّرفة، تستجم، فمضى إليها في خُطًى رقيقة، ورآها جالسة في ناحيةٍ مُسنِدةً ذراعها إلى حافتها، مُلقيةً بنظرها إلى الطريق. ولم تبدِ حركة لدخوله، فوقف يُنعِم فيها النظر على ضوء مِصباح الشُّرفة، ثم قال: فعلتِ خيرًا بدخولك الشرفة؛ فهذه الليلة من ليالي يوليو الحارَّة! فحولت رأسها إليه، وقالت بعد تردُّد: أجل هذه ليلةٌ حارَّة …

سُرَّ لمبادلتها إيَّاه الحديث، فأتى بمقعد، وجلس عليه على كثب منها، وألقى عليها نظرة، فراعَته صورتها، وحرقه تكوين جسمها البديع المُشتهى، وذكر أنه سيتمتَّع بهذا الجسد الفاتن هذه الليلة، بل هذه الساعة، فجُنَّ جنونه، وأسكرته هذه الحقيقة الماثلة بين يدَيه، كأنه يكتشفها لأول مرة. ولم تعُد تحتمل عَرامة نظرته فأطرَقَت، فمدَّ يده إلى ذقنها، ورفع رأسها إليه، وهو يقول بصوتٍ مُتهدج: دعيني أُطالع وجهك الجميل …

والتقت عيناهما لحظة، فامتلأ حماسًا وقال بحرارة: تآلفت حياتنا بمعجزة، وما كنت أحسب قبل اليوم أن المصادفة تلعب هذا الدور الخطير في حياة الإنسان، فما أحقَّها أن تسخر من منطقنا ومن سنن الوجود جميعًا، ولعلَّك تجدين وحشة، ولكنك ستتغلَّبين بذكائك وثقافتك. وكما أن الحب يكون مقدمة للزواج، فالزواج يكون مقدمة للحب، والمعاشرة كفيلةٌ بمزج النفوس وتوحيد الآمال … أليس كذلك؟

فتحرَّكت شفتاها كأنما لتتكلم، ثم جمدتا ارتباكًا، وارتسمت عليهما شِبه ابتسامة. وازداد حماسًا فقال:

ستُدركين معنى قولي هذا، وستعملين على تحقيقه، لِنعملن معًا على تحقيقه، وسنرى …

وقال لنفسه: إن النساء لا يعِشن بلا حب — حقيقة تعلَّمها من القراءة — فهي لا شك تُحب، ولكن مَن المحبوب المجدود؟! …

حسِبَه يومًا علي طه، ثم ظنَّه قاسم بك فهمي، وقد يكون المال دون غيره؛ فعلى هذه الحقيقة تتوقَّف سعادته، وقد يكون صادقًا في قوله لها: «ولعلَّك تجدين وحشة؟» فالحقيقة أنها كانت تجد هذه الوحشة. وقد أدرك ذلك من أول نظرة، بل أدرك أنه لو أعتقها هذه الليلة لكان ذلك أدنى إلى التهذيب والرِّقَّة، ولكنه نبذ هذا الخاطر، مُوقنًا أن الحيوان الهائج في باطنه لا يعرف التسويف ولا التأجيل، ولا يقدر على انتظارٍ مهما كان الثمن، ثم كفَّ عن التفكير وقد عاوَدته جسارته الطبيعية: هلمِّي ندخل …

وأمسك بمعصمها برفق ونهض، فنهضت طائعةً، ثم أحاط خَصرَها بذراعه، ودخلا معًا …

٣١

وفتح عينَيه في الصباح الباكر فوقَعتا على مرآة الصُّوان الفاخر، فرأى صورته وإلى جانبه يرقد الكَنز النفيس، وارتفق ساعدَيه، ثم ثبَّت عينَيه وقد غمرته ذكريات الليل التي لم تُمحَ آثارها من نفسه وجسده، وكانت لا تزال مُستغرقة في النوم مُبعثَرة الخصلات على الوسادة الحريرية. ما أجملَ صفاء هذه البشرة، ما أعمقَ سواد هذا الشعر! واهتزَّ صدره طربًا، فهوى بشفتَيه المُمتلئتَين على خدِّها الأسيل …

ومضى الأسبوع الأول من هذه الحياة الجديدة، وقد أقبل ينهل من الشراب العذب المبذول بشراهةٍ جنونية، وسُرعان ما أدرك منذ اللحظة الأولى أن لذَّته — لذتهما — لن تتمَّ إلا بشيءٍ جديد ضروري جدًّا كي ينسى هو ما ينبغي أن ينساه، وكي تنسى هي ما يحسُن أن تنساه، فيصفوَ الجو، ويستمتعا بحياتهما أجمل استمتاع. وجرَّب بالفعل ذلك الشيء الضروري الذي سمِع عنه كثيرًا؛ الشراب! وقليل منه كفاهما، ولكنه نفعهما نفعًا سِحريًّا، بفضله وجَدها تذوب رقةً، وتنفث سحرًا، وسكن بين ذراعَيها يرشف من طيبات رزقه. كانت الحياة في ظاهرها ثمِلة باللذة، مخمورة بالشهوة. أما في الأعماق فاضطربت تيَّاراتٌ خفيَّة، فلم يفتأ محجوب يتساءل عن علي طه وقاسم فهمي وقلب إحسان، وربما ثار شكُّه، وراح يؤنِّب نفسه ويعنِّفها، ويقول: إنه الحمق، ولا شيء غيره، الذي يُوسوس له فيُوقظه من لذَّته ليَصلى نار الفكر. وحاوَل مرَّاتٍ أن يعوذ بسخريته، وجعل يُوصي نفسه قائلًا: «اقتل الشك، امحُ الكرامة من قاموسك، احذر الغَيرة، أفرِغ شهوتك، توثَّبْ للطموح، واذكر أن ما أنت فيه هو الامتحان الأول والأخير لفلسفتك، فقُل الآن طظ، قُلها بلسانك وبقلبك وبإرادتك …»

ولم تخلُ إحسان كذلك من خواطر تضطرب في أعماقها. عرفت أخيرًا المصير، واستقرَّ بها المستقر. أُسدلَ الستار على أحلام الحياة الأولى، وخاب الرجاء فيما طمعت فيه من أن تصير زوجًا للبك العظيم، ووجدت نفسها ربَّة هذا البيت العجيب الذي يتنازعه صاحبان. لم تعُد تقول لا، فما خوف الغريق من البلل؟ ورأت من الحكمة أن تنظر فيما بين يدَيها. إن القلب الذي أيقظه علي طه اندثر وذهب، والأمن الذي لوَّح لها به قاسم فهمي خاب وانطفأ، فلم يبقَ لها إلا تلك الغريزة الحيوانية التي أطلقها والدها من عِقالها منذ البدء. ربما حنَّت إلى علي طه، أو حقدت على قاسم بك، أو عافت نفسها محجوب عبد الدائم، ولكنها لم تسمح لإحدى هذه المشاعر بالتمادي والتضخُّم، ومالت بمزاجها وبالدوافع التي تُحيط بها إلى الاستسلام التام. ما من فائدة تُرجى من التحسُّر على ماضٍ لن يعود، وأولى بها أن توليَ الحاضر والمستقبل عِنايتها، فلتستمتع باللذة، ولتستأثر بالقوة، ولتُنفق عن سعة، ولتغمر أسرتها بكل خير عميم؛ وبذلك وحده لا تذهب التضحية عبثًا، وزوجها أولى الجميع بتفكيرها. لقد همَّت بأن تحتقره أكثر من مرة، ولكن لماذا؟ لأنه …؟ ولكنها هي أيضًا …؟ فلا تعيِّره ولا يعيِّرها؟ بل هُنالك وجهٌ آخر يُقرب بينهما، فهو فيما يبدو ضحيةٌ مِثلها للعوز والطمع، وكلاهما ضحية لشرٍّ واحد، فما أجدرَهما بالتصافي والتعاون. كان كلاهما يُعالج همومه بالحكمة، ويُحاول ما استطاع أن ينفيَ عن نفسه نوازع الشقاء، واطَّردت الحياة في لذةٍ يهيِّئها الشراب والرغبة في السعادة. وكان محجوب أقدر منها على التغلب على أمثال هذه الهموم لاستهانته المعروفة، أما هي فكانت حديثة عهد بالشذوذ؛ فربما تولَّتها الكآبة إذا خلَت إلى نفسها، وربما وجدت حنينًا إلى الآمال المُشرِقة الأولى في الحب والحياة الشريفة، مثلها مثل النازح إلى بلدٍ غريب إذا احتواه بيته الجديد في أول لياليه، ولكنها كانت تتغلب على مرضها — والحنين مرض — بتلك الواقعية التي اشتهرت بها النساء، وبتلك الرغبة الصادقة في طِيب الحياة؛ ولهذا السبب سألها محجوب يومًا — من أيام الأسبوع الأول — وهو يقرصها في خدها: أنت سعيدة؟

أجابته من فورها: نعم، والحمد لله …

فقال لها الشاب بسرور: الحياة أمامنا مُنبسطة، والفُرص دانية، فلنثِب بين الأزهار، ولنجنِ الثمار …

فقالت مُبتسمةً عن درِّها النضيد: نثِب … ونجني.

– لا تصدِّقي الحِكم الجامدة التي يعرِّفون بها السعادة. السعادة ليست في الحياة، وجميع ظروف الحياة لديها سواء، هي حقًّا في الإرادة؛ فمن يُرِدها إرادة تأتِه طوعًا أو كَرهًا …

فحدجته بنظرةٍ مُتفكرة بعينَيها السوداوين البديعتين، فقال بحذر وتواضُع: إذا لم يكُن ما تُريد، فأرِدْ ما يكون …!

فقالت بهدوء: لا داعِيَ لهذا … (وهُنا ذكَرَت شطر بيت للمُتنبي فقالت) … كل مكان يُنبِت العز طيِّبُ …

فأخذ يدها في يده كأنه يُعاهدها، تريَّث قليلًا، ثم قال وقد غيَّر لهجته: وثَمة شيءٌ آخر، لا ينبغي أن نعيش في عُزلة، لنقتحم الحياة العريضة، ولنأخذ من مظاهرها بأوفى نصيب.

كان يريد أن يتمتع بحياته الاجتماعية على أكمل وجه، وأن يقدِّس مظاهرها الكاذبة التي يُكبرها الناس جميعًا، واشتدَّت إليها حاجته ليُخفيَ بها ما في حياته من شذوذ؛ ولذلك فكَّر جِديًّا أن يذهب وعروسه إلى آل حمديس ليُبرئ جُرحًا قديمًا، وليُشبع شهوته إلى الظهور، ولكن ألا توجد ثَمة عقبةٌ حقيقية؟

٣٢

ولم ينثنِ عن رغبته الجريئة، وأراد أن يجعل منها أُولى خُطاه في غزو المجتمع الراقي. ورأى عن حكمةٍ أن يمهِّد للزيارة بمحادثة حمديس بك بالتليفون، وسيَعلَم من إجابته إن كانت حكاية الهرم قد بلَغته أم إن الفتاة الأريبة أخفَتها عنهم. وحادَثه، ووجد منه خطابًا رقيقًا، فأخبره بزواجه، وكاشَفه برغبته في تقديم زوجه إليه، فرحَّب بها البك أيَّما ترحيب. وهرع محجوب إلى زوجه، وقال لها بسرور وخُيلاء: دعيني أقدِّمك إلى أقربائي العِظام …

وعند عصر اليوم العاشر من حياته في البيت الجديد أخذا أُهْبتهما للزيارة الخطيرة، فارتدَت إحسان ثوبًا جميلًا من ثيابها الجديدة، وتجلَّت صورتها الفاتنة، وتهيَّأ سحرها باجتماع الشعر الأسود الفاحم، والبشرة العاجية الصافية، والشفتَين الورديتَين، وبدا الشابُّ في منظرٍ حسن قد أخذ يستعيد عافيته ورونقه، واستقلَّا تاكسي إلى الزمالك. لم تكُن إحسان تخلو من قلق ووحشة، أما محجوب فكان يبتسم ابتسامةً هادئة مطمئنَّة كأنه ذاهب إلى بيته الذي شبَّ وترعرع فيه. وقد عبَرا الحديقة إلى سلاملك الاستقبال وهما على تلك الحال، فما راعَهما إلا منظر الأسرة الكريمة في انتظارهما عند مدخل السلاملك. وقفوا الأربعة صفًّا؛ أحمد بك حمديس، حرمه، تحية، فاضل. وسُرَّ محجوب لنجاح الاستقبال، وقد اطمأنَّ إلى نجاحه من قبلُ لما هو معهود في النساء كافَّةً من الميل إلى تفحُّص بنات جنسهن ونقدهن، وتبادَلوا التحية والسلام، ولم يخفَ عن عينَيه الجاحظتين الأثر الذي أحدثته زوجه في المستقبِلين، فأحسَّ ارتياحًا وغِبطة. وجلسوا، وما زالوا يتبادلون ألفاظ الترحيب والمجاملة، وجعلت عيناه القلِقتان تدوران في جميع الأنحاء، وتتفرَّس في الوجوه، ووجد نفسه وهو لا يدري يُقارن بين زوجه الحسناء وتحية حمديس. إن لتحية جمالها، ولها إلى جمالها سمت أناقة ورفعة، ولكن هيهات أن تبلُغ مدى هذا الحسن الرائع. إن زوجه أجمل من تحية، بل أجمل من أم تحية في صِباها، وأعيُنهم لا تُنكر هذا ولا تُماري فيه. وطرِب لذلك أيَّما طرب، وقال لنفسه بشماتة: «لقد هُزمت في المقبرة يوم الرحلة، وتم لي الانتقام اليوم.» وأراد أن يعرِّفهم بزوجه كما ينبغي، فقال بجسارته المعهودة وهو يُشير إلى فتاته: إحسان كريمة شحاتة بك تُركي من كبار تُجار الدخان، ألا تعرفه يا سعادة البك؟

وتورَّد وجه إحسان، وأطرقت لتُخفيَ ارتباكها، أما أحمد بك حمديس فزوى ما بين حاجبَيه باحثًا في ذاكرته، ثم قال بلهجة الاعتذار: لا أذكُر للأسف، (والتفت إلى إحسان) لنا عظيم الشرف! فقال الشاب ضاحكًا وهو يُشير إلى زوجه مرةً أخرى: زميلة قديمة، عرفتها في الجامعة …

فابتسم البك وابتسمت زوجه، وابتسمت إحسان أيضًا وقد هالَها اندفاع محجوب، ولم تدرِ أين يقف. وكان فاضل ينظر إلى العروس بفتور، أما تحية فلم تحوِّل عنها عينَين ثاقبتين. وقد فطِنت ببداهتها إلى البواعث الحقيقة التي أغرَت الشابَّ بهذه الزيارة، فازدادت له احتقارًا، وتجلَّى في نظراتها إلى العروس الاستهانة والسخرية. وراحت حرم حمديس بك تتحدث عن فتَيات الجامعة، فقالت: إن الجامعة تمهيد للوظيفة، وإنها لذلك اختارت لتحية سبيلًا آخر. (وسألت العروس) ألم تُخامرك فكرة التوظف وأنت تلتحقين بالجامعة؟

وكانت إحسان برمة بالحديث، مُشفقة من مغبَّة الكذب، ولكنها لم ترَ بدًّا من الإجابة، فقالت: بلى يا هانم، ولكن كل شيء قسمة ونصيب كما يقولون.

فسألتها تحية بمكر: ألم تأسفي لتغيُّر مجرى حياتك؟

وابتسموا جميعًا، وضحِك محجوب كأنما راقَته دُعابتها، وقال: سامحني الله، كانت إحسان طالبةً بارعة، وطالما أثارت إعجاب المسيو ليشو أستاذ الفلسفة بذكائها، وقد اعترض طويلًا على انقطاعها عن المدرسة …

ونظر إلى تحية ليرى ما ترك من أثر في عينَيها، فوجدها تنظر إليه باحتقار وسخرية، فلم يغضب، بل سُر سرورًا خفيًّا، ودخل عند ذاك خادم نُوبي بالمرطِّبات، فشربوا هنيئًا، وسادت فترة سكون كالاستراحة.

وطرقت حرم حمديس بك الحديث مرةً أخرى، فنادت الذكريات البعيدة، وذكرت الغلام الصغير الذي يُطالعها الآن زوجًا رشيدًا وربَّ أسرةٍ ناشئة، وتكلَّمت عن الزمن وسرعته العجيبة، ثم سألت الشاب قائلةً: كيف حال والِدَيك؟

– الحمد لله.

أجاب محجوب بسرعة، وسُرعان ما انقبض صدره، فسألته السيدة مرةً أخرى: ألم يحضُرا زفافك؟

– لم يُمكنهما ذلك لمرض والدي …

فدعت السيدة للرجل بالشفاء، واستدركت سائلةً أيضًا: وكيف القناطر؟

– جميلة كعهدك بها …

– يا عَجبًا، لم نُعاودها منذ فارَقناها …

وسأله أحمد بك مُبتسمًا: هل تقضيان شهر العسل في القاهرة؟

فسُر محجوب بالسؤال؛ لأنه فتح له أبوابًا للحديث، فقال: عملي كسكرتير لقاسم بك فهمي لا يدع لي فراغًا في الوقت الحاضر …!

وهنا قالت تحية لتشرح للشاب أسباب وجودهم في القاهرة في يوليو إذا كانت غابت عنه: والدي يقوم عادةً بإجازته في أغسطس فنُسافر جميعًا إلى أوروبا …! ثم غيَّرت لهجتها وسألته باهتمام: ألم تأخذ إحسان هانم إلى حفريات الجامعة؟

واضطرب فؤاده، وجرى بصره بحذر على وجوه الجالسين، فوجدهم مُبتسمين لا تدلُّ وجوههم على شيءٍ مما أثاره الخوف في نفسه من سوء الظن، فتنهَّد ارتياحًا، وقال وقد تمالك نفسه: كلَّا …

ثم قال بخُبث: سنذهب بلا شك عندما نبتاع سيارة قريبًا …

فقالت بخبث أيضًا: المشي في الرحلات ألذ …

وسأله حمديس بك عن قاسم بك فهمي، وقال له إنه كان زميله في البعثة، ووعده أن يوصيَه به خيرًا، وضايَقته هذه الصلة التي لم يتوقَّعها، ماذا يحدُث لو وقف حمديس بك على سر زواجه؟ وشعر بيدٍ ثلجية تقبض على قلبه. ولما كانت الزيارة للتعارف فأحبَّ ألا تطول أكثر مما طالت، ونهض مُستأذنًا في الانصراف …

•••

وفي طريق العودة قالت له إحسان وهي تنفخ: أعوذ بالله منك …

فقهقه ضاحكًا، وقال بسخرية: كُوني جسورة، الكذب كلام كالصدق سواءً بسواء، إلا أنه ذو فوائد.

– وإذا انكشفنا؟

فقال بضجر: وإذا … وإذا … دائمًا وإذا … إذا هذه حرف خيبة إذا دخل على جملة ذهب بفائدتها وثبَّط همَّة الفاعل، لا تقولي وإذا …

فضحِكت إحسان وقالت: حرم البك قريبك سيدةٌ لطيفة!

فاختلس إليها نظرةً ماكرة، وقال بخبث وشيطنة: وتحية؟ … يا لها من فتاةٍ كاملة!

فصمتت لا تدري ما تقول، ثم غمغمت: أجل …

وكان يلحظها بخبث، وسُر سرورًا كبيرًا، وعاد إلى الشقة يُخامره شعور الظافر المُنتصر. وظلَّ ذاك المساء مُغتبطًا حتى ناداه جرس التليفون، وما وضع السماعة على أذنه حتى تجهَّم وجهه، وفتر حماسه، كأنما أُلقيَ على لهيب قلبه الفرِح الراقص ماءٌ بارد. كان المُتكلم سالم الإخشيدي، وقد أخبره أن البك سيزور الشقة مساء الغد …

٣٣

ما لجرُح بميتٍ إيلام.

جعل يردِّد هذا الشعر قُبيل مساء اليوم الثاني وهو يتأهَّب لمغادرة البيت، ثم تساءل: متى يموت جرحه إذن؟! كان عظيم الثقة بنفسه وبفلسفته، ولكنه شعر في اضطرابه وألمه بأن الفلسفة إذا خرجت من الدماغ إلى دنيا الحقائق قد يحدُث لها ما يحدُث للقذيفة إذا انطلقت من المِدفع؛ تتفجر وتتناثر. حاوَل أن يستعيد رباطة جأشه وبروده، حاوَل أن يقول: «طظ.» ولكنه، أخفق، أو أخفق مؤقَّتًا على حد تعبيره، وجعل يتساءل: تُرى هل علِمت؟ ثم نظر إلى التليفون فرجَّح أن يكون طير إليها النبأ السعيد! فالتليفون هو القوَّاد الثاني في هذه الشقة؟ تُرى ما حقيقة شعورها؟! أمسرورةٌ هي بذاك اللقاء المُرتقَب؟! … أتنتظر على لهفة أم بغير مُبالاة؟ … أيُحطَّم هذا الرأس الجميل كما تُحطَّم جوزة الهند ليرى ما فيه؟ وتلوث حية الغَيرة في قلبه نافثةً سُمَّها القتَّال، وغادَر البيت، وسار في شارع ناجي على غير هُدًى، وقُصارى ما يطمح إليه أن يُمسك زِمام عقله، أو أن يثوب إلى رشده. ووجد نفسه أمام حانة «لاروز»، فمال إليها بلا تردُّد، كأنها هي هدفه المطلوب، وكان طُلاب الجامعة يتقاطرون عليها فرارًا من جو يوليو القائظ، مُتهافتين على الجزء التابع لها من الطوار، ولكنه كرِه الازدحام، وانتبذ مكانًا داخلها، فلم يلقَ حوله إلا شابًّا يجلس إلى مائدةٍ غير بعيدة مُنفردًا بكأسه، وقبل فوات خمس دقائق على جلوسه كان يرفع الكأس إلى شفتَيه المُمتلئتين، ويُفرغها حتى الثُّمالة، ثم صفَّق يطلب أخرى. شرب بشراهة لا عهد له بها، وإن كان يوجد في حانة لأول مرة في حياته. وما انفكَّ عقله مُتفكرًا مشغولًا لا يغيب به عما حوله، ولم يكُن غضبه لاضطرابه بأقلَّ من اضطرابه نفسه. كبُر عليه أن يأسى على معنًى تافه من المعاني التي ثار عليها وكفر بها. أغضَبُه حقًّا لعِرضه؟ … وما عِرضه؟ ألم يتحرَّر من هاتِيك الأغلال جميعًا؟ كلَّا، إنه لا يغضب لعِرضه، ولا عِرضه بالشيء الذي يستحقُّ الغضب، ولكنه يُعاني الغَيرة. وتفكَّر مليًّا، ثم عاد يُحادث نفسه: هل الغَيرة طبيعية أو تقليدٌ اجتماعي كالعِرض؟ بل صفةٌ طبيعية بلا مِراء. إن الحيوان يُعاني لَأواءها كالإنسان سواءً بسواء، فنحن نغار ما دُمنا نُحِب، وما دُمنا نرى أنفسنا جديرين بأن نُحَب كذلك. هكذا حدَّث نفسه، ولكنه لم يقتنع كل الاقتناع، ولا ارتاح الارتياح كله، بقي في النفس شيء. ألا ترى أن هذه الغَيرة توشك أن تُفسد عليه جميع ما أفاد من فلسفته وتحرُّره؟ إنه ينتقد ويحلِّل ويحطِّم، ولكن وراء ذلك تتخايل لعينَيه أشباحٌ مُخيفة؛ سيَّارة تقِف أمام عمارة شليخر، ينزل منها البك الأنيق، المِصعد، الجرس، باب الشقة يُفتح، مساء الخير أيها العروس … جاء زوجك الطبيعي، ثم … كيف تَلقاه؟ في نفس الحجرة وعلى نفس الفِراش … وصفَّق بشدة يطلب كأسًا جديدة، ولاحت منه عند ذاك التفاتة إلى الشاب المُنفرد بكأسه — بكُئوسه — فوجده يحدِّق فيه بدهشة وسرور؛ فقد راقَبه الشاب منذ حضوره، وراح ينظر إلى اضطرابه وحركاته غير الإرادية، ويتساءل عما يُقلقه، ولكن في سرور ولذةٍ شأنَ المُنتشي الثَّمِل. ولما التقت عيناهما ابتسم، فابتسم له محجوب، والسُّكارى سريعو التعارُف إلى بعض وإن كانت مودَّتهم سطحية، فتُبودِلت التحية، وبدا الشاب الغريب وكأنه يلوذ بصاحبه من وحدته التي جعلها السُّكْر أفظع من أن تُحتمل، وعاذ به محجوب من أذكاره وآلامه فدعاه إلى مائدته، وسُرعان ما جلسا وجهًا لوجه، شابَّين ثمِلَين لا يُقيمان لشيء وزنًا، وتعارَفا، ثم قال الشاب الغريب: رأيتك آخذًا في حديثٍ عنيف مع نفسك، فودِدت لو حملت عنك بعض هذا العناء …

فضحِك محجوب ضحكةً عالية جدًّا دلَّت على انفلات الزمام من يده، وسأله: أحقًّا كنت أُحادث نفسي؟

– أجل، وكنت مُحتدًّا … بل حانقًا …

وكان لا بد أن يتكلم؛ لأنه دعا بمتكلم، ولأنه أراد أن يروِّح عن نفسه، ولم يجد في ذلك من بأس؛ فحالته وحالة صاحبه أذِنتا بحديثٍ أهوَج ماجن لا يعرف الحدود. سأله: ومتى يُحادث الإنسان نفسه؟

– في أحوالٍ نادرة …

– اضرب مثلًا.

– في السرور الفائض والحزن البالغ، أو في حالات لا هي إلى السرور الفائض ولا الحزن البالغ!

– وماذا يبقى من الحالات غير ما ذكرت؟

– الحالات التي يُحادث الإنسان فيها غيره …

فقال محجوب مُتحيرًا وهو يقبض على كأسه: لا أكاد أفهم شيئًا …

– ولا أنا! في مجلس الأُنس، كما في مجلس النُّواب، ليس بالمهم أن تفهم ما يُقال، ولكن المهم أن تتكلم.

– كيفما اتَّفق؟

– وكيفما أحببت …!

– ولذَّه الاقتراح، فطرح التفكير ظِهريًّا، وراح يقول وقد احمرَّت عيناه الجاحظتان من الشراب: أنا في الحجرة، والكبش في الحقل …

– كتب محمد الدرس …

– اعمل لدنياك كأنك تموت غدًا، واعمل لآخرتك كأنك تعيش أبدًا.

– ولكنك لن تعيش أبدًا، وربما لم تعِش حتى مَطلع الصباح؛ لأنك تُفرِط في الشراب …

– إذن نطلب كأسًا أخرى.

– علامَ يدلُّ امتلاء الحانات بالواردين؟

– يدل على أن دستور ١٩٢٣ أفضل من دستور ١٩٣٠.

– أتحسب أن دستور ١٩٢٣ يعود؟

– أين هو الآن؟

– في ضريح سعد مع جُثث الفراعنة.

– فليحفظوه هُنالك حتى نستحقَّه.

– هل أنت وفدي؟

– كلَّا … أنا حنبلي!

– وأي فرق بين الاثنَين؟

– الحنبلي ينقض وضوءَه خيالُ الكلب.

– والوفدي؟

– ينقض وضوءَه خيالُ الظل.

– إذن أنت حرٌّ دستوري!

– أنا؟ … أنا في الحقل …!

– أنت كبش إذن ذو قرنَين!

واضطرب محجوب، وبُهِت، وكأنه يستيقظ من هذيانه على مِطرقة، وحدج صاحبه بنظرةٍ مُلتهبة، لكن وجده يبتسم مُنشرحَ الصدر، مُتأهبًا لتلقِّي كل ما يقذفه به، فحمل نفسه على السرور حملًا، وسأل الشاب الغريب: خبِّرني أحقٌّ أن القوَّاد في نعيم؟

وتضاحَك الشاب، ورأى محجوب يرمي في الموقد حطبًا، فرغِب أن يُعاونه وقال: حالك خير دليل!

فضحِك محجوب ضحكةً عالية ارتجَّ لها المكان، وقال: حدِّثني بما لك من خبرة عن أنواع القيادة.

– قيادةٌ عمياء لا يدري بها ضحيَّتها، من النوع الذي ابتُلي به زوج عشيقتي …

– واحد.

– وقيادةٌ يعلم بها الزوج ويتجاهلها إيثارًا للسلامة، وهي موضةٌ مُنتشرة في بعض الأوساط.

– اثنان.

– وقيادةٌ يختارها الزوج للذة أو لفائدة. هل أنت مُتزوج؟

فعاوَده الضحك، وأغرق فيه ليُخفيَ توتُّر أعصابه، ثم قال بحقدٍ خفي: يوجد نوعٌ رابع يجمع ميزات الثلاثة معًا، وهو وقفٌ عليك؛ كنت أول الأمر تجهل ما أنت مُبتلًى به، ثم تكشَّف لك فتجاهلته إيثارًا للسلامة، ثم تعوَّدته فاستلذَذته.

وأغرقا في الضحك معًا، ثم قال الشاب الغريب بلهجةٍ ظاهرُها الجِد وباطنُها المزاح: الواقع أن القيادة من أعقد مشكلات الزواج في العصر الحديث.

– الحقيقة أن الزواج من أعقد مشكلات القيادة …

– صدقت، ألا ترى كيف يضرب الشُّبَّان عن الزواج؟ ولكنهم يشتركون في الأسر من منازلهم …

– الانتساب ألذ بلا تكاليف …

وهذَيا طويلًا، بلا ملل ولا تعب، حتى أوشك الليل أن ينتصف …

•••

وطاب له أن يخبط في الشوارع على غير هدًى قبل أن يعود إلى البيت. وغمغم كالمترنِّم: «أنا في الحجرة، والكبش في الحقل.» ثم راح يقول: «أنا في الحانة، والبك في الحجرة.» ولكنه كان في مُنتهى النَّشوة والسرور، فارتفعت حرارة غِبطته لدرجةٍ تذوب فيها جميع الأحزان، وبدا له وكأن شيئًا في الدنيا لا يُساوي مِثقال ذرَّة من الكآبة، وآتَته قدرةٌ يُمكنه أن يحقِّق بها فلسفته إذا شاء بلا تردُّد ولا تفكُّر ولا انفعال. وقد أدرك في تلك اللحظة أن فلسفته والخمر كلتَيهما من جَوهرٍ واحد! وعاد إلى البيت، ودخل الحجرة. كان كل شيء هادئًا ساكنًا، وهي مُستغرقة في نومٍ عميق، ووقف في وسط الحجرة يُحدق في وجهها بعينَين محمرَّتَين ذابلتين، ولبث واقفًا حتى خال الأرض تدور به، وخطر له خاطر فسُرَّ به دون أن يتدبَّره، ونفَّذه بأسرع مما خطر له. دنا من الفِراش، ثم ارتمى عليها بجسمه كله كأنه يلعب حركةً سويدية، واستيقظت إحسان فزِعةً، وفرَّت من فيها صرخة، وحملقت في وجهه بعينَين مُرتعبتَين، ثم دفعته بعيدًا عنها وقد أخذت تُدرك حقيقة الحال، دفعته بغيظ وحنق، وصاحت به: أنت سكران … كِدتَ تقتلني … ابعد …

فجعل ينظر إليها بذهول مالئًا عينَيه من وجهها الساخط الغاضب، ثم ابتسم، ابتسم ابتسامةً لا معنى لها، أو ابتسم سرورًا بما أحدث فيها من ألم وغيظ، وزاد حنقها وتضاعَف، وقالت بحدة: كسرت أضلُعي بجنونك، فابعد عني … أنت سكران، لا تنَم في هذه الحجرة …

وظلَّ الابتسام مُرتسمًا على شفتَيه، ثم فرَّت من فيه ضحكةٌ خفيفة، ولما تضاعف غضبها أغرق في الضحك حتى زلزل كِيانه …

٣٤

في صباح اليوم الثاني استيقظ في ساعةٍ مُتأخرة، ونهض مُتعَبًا مصدَّع الرأس، وكان نام ليلته على الشيزلنج، فنظر في الفِراش بعينَين خائفتين، ولكنه وجده خاليًا، وتذكَّر ليلة الأمس، فهالته الذكرى، ثم هزَّ منكبَيه استهانةً ومضى خارجًا، والتقى بها في الصالة، فطالَعته بوجهٍ مُقطب، فارتبك حينًا، وابتسم غاضًّا من بصره، وسألها بلهجةٍ لطيفة: لا زِلتِ غاضبة؟

فقالت بحدة: السُّكْر يجعل منك وحشًا مجنونًا، لا تَسكَر أبدًا، اشرب كأسًا … كأسَين كما نفعل، شيءٌ محتمل، أما أن تعود بعد انتصاف الليل ثمِلًا تترنَّح وتسلك مِثل ذاك السلوك الشائن فشيء لا يُحتمل …

وانتقلا إلى حجرة السفرة، وتناولا فُطورهما، في سكونٍ بادئ الأمر، ثم تبادلا بعض الكلمات، وغادَرا الحجرة في حالةٍ طيبة. وذهب إلى الوزارة قُبيل الظُّهر، وكان البك قد سافَر إلى الإسكندرية ذلك اليوم يُمضي بضعة أيام في بولكلي، فجلس في حُجرته يُطالع الجرائد. وبعد مُضيِّ بُرهةٍ وجيزة استقبل زائرًا لم يتوقَّع حضوره. فتح الباب، فرفع رأسه عن الجريدة، فرأى مأمون رضوان قادمًا نحوه، ولاحت الدهشة في وجهه، ثم نهض هاشًّا باشًّا، وتصافَح الصاحبان بحرارة، وجلس مأمون وهو يقول: مُبارَك … مُبارَك …

فأدرك محجوب أنه يهنِّئه على الوظيفة، وسُرَّ لذلك أيَّما سرور، وقال: الله يبارك فيك، حسِبتك في طنطا …

– عُدت من يومَين لشئونٍ خاصة، وقابلت ليلةَ عودتي الأستاذ أحمد بدير في نادي الجامعة، فأنبأني بتعيينك، وسُررت لذلك سرورًا عظيمًا …

أحمد بدير … انقبض صدره لذِكر هذا الاسم الخطير، وتساءل في نفسه: تُرى ماذا يَعلَم هذا الصِّحافي المُحيط بفضائح المجتمع؟ … ماذا قال لمأمون رضوان؟ وحدج صاحبه بنظرةٍ عميقة، ولكنه وجده هادئًا صافيَ النظرة كالعهد به، يشفُّ منظره عن باطنٍ نقي طاهر لا تقربه أخبار السوء. واصطنع ابتسامة، وقال مُتسائلًا: وكيف حال الأستاذ؟ … لم أُقابله منذ عهد ليس بالقصير، ولم يأتِ لتهنئتي.

فابتسم مأمون وقال: غابت عنك أشياء، لقد نشر خبر تعيينك — كما قال لي — في جريدته، وهو يعتبرك مَدينًا له بالشكر.

وتحدَّثا عن البعثة، والوظائف الإدارية والفنية، ومهنة التدريس في الجامعة والمدارس الثانوية، وانتقد مأمون النظام الجائر الذي يَحرِم المتخصِّصين الاشتغال بفنِّهم الذي تخصَّصوا فيه، ولم يرتَح محجوب إلى التهوين من شأن الوظائف الإدارية، وقال لصاحبه: إنها تنفرد بمجد ليس لمهنة التعليم منه نصيب. وكان مأمون يفهم المجد على نحوٍ آخر، ولكنهما أدلَيا بآرائهما في يُسر وتسامُح، وجرَّ الحديث بعض الشئون الخاصة، فاعترف مأمون أنه جاء إلى القاهرة لأسبابٍ تتعلق بزواجه، وعندئذٍ أخبره محجوب بأنه تزوَّج! وهنَّأه الشاب مرةً أخرى، ودعا له بالتوفيق، ثم قال: قابلت صديقنا علي طه أمس ومكثت معه مدةً طويلة …

وخفق قلب محجوب لهذا الانتقال المُفاجئ، وساوَره القلق. تُرى هل أدَّى الحديث إلى علي طه كيفما اتَّفق؟ أم علِم علي بزواجه وحدَّث به مأمون؟ لم يكُن من الممكن أن يظلَّ زواجه سرًّا، وكان حتمًا أن يعلم به علي طه يومًا ما، ولكن كيف انتهى إليه؟ وكيف فسَّره؟ ونظر إلى مأمون، فالتقت عيناهما، وقرأ في العينَين السوداوين الصافيتين الارتباك والرَّيب، فلم يعُد يُخالجه الشك أن عينَي مأمون مرآةٌ صافية لا تعرف المكر ولا الخِداع، وهما تسألانه بلسانٍ فصيح: «أحقًّا ما يُقال؟ هل خُنت صديقك حقًّا؟» ولم يجِد فائدة من حمل صديقه على البدء بالسؤال، فقال مُتسائلًا: وكيف حاله؟

فقال مأمون برزانة: على ما يُرام …

وساد الصمت بُرهةً، وأطرق محجوب. لقد صدق حدسه، ما في ذلك شك. ولكن لأي مدًى عرفت الحقيقة؟ إن الذين يعرفون الحقيقة — آل إحسان والبك والإخشيدي — لا يمكن أن يبوحوا بها لمخلوق؛ لأن البوح بها ضارٌّ بهم، ولو عرف مأمون الحقيقة لأبى أن يزوره؛ فليس من طبعه أن يتظاهر باحترام شخص يراه أهلًا لاحتقاره، وهو ما جاءه إلا ليسمع دفاعه عن تهمة صديقه — تهمة الخيانة فقط، لا تهمة الزواج من فتاةٍ صِفاتها كَيت وكَيت طمعًا في وظيفة — هذا هو الحق المُبين.

وقد ارتاح لمنطقه؛ فلم يكُن يعبأ بحزن علي، ولا هو يعبأ برأي مأمون فيه. ونظر إلى زائره بجسارته المعهودة وسأله: ماذا يسوءه؟

ولم يدرِ مأمون ماذا يقول، فعضَّ على شفته مُرتبكًا ولاذَ بالصمت، فضحِك محجوب ضحكةً فاترة كأنه يُجيب نفسه: زواجي.

فتساءل مأمون بلهفة: هل حقًّا …؟

فقال محجوب باقتضاب: تزوَّجت حقًّا من جارتنا القديمة إحسان شحاتة تركي …

فلاحت في وجه الآخر دهشةٌ ممزوجة بانزعاج، فابتسم محجوب وقال: ولكني لم آتِ نُكرًا …

وقصَّ عليه كيف فتَرَت العلاقة بين علي وإحسان حتى انقطعت، وأكَّد له أنه لم يتقدم لطلب يدها إلا بعد ذلك.

وسأله مأمون بصراحته المعروفة: لست مسئولًا عن فُتور العلاقة وانقطاعها؟

فقال له محجوب بلهجة التأكيد: مُطلَقًا.

وانتهت الزيارة عقِب ذلك، وشعر محجوب وهو يُصافح مأمون أن الشاب يودِّعه الوداع الأخير. وما إن سمِع صفقة الباب وهو يُغلَق حتى بصق باحتقار وغضب، وغَمغم بحقدٍ شديد: «طظ.»

٣٥

واستلقى بعد الغداء في فِراشه دون أن يغمُض له جَفن، ونامت هي كالعادة إلى جانبه، فجعل يستمع إلى تنفُّسها المُنتظم الذي ألِفه، ثم استسلم لتيَّار أفكاره العارم الذي حرَمه لذَّة النوم، اليوم هجره مأمون، وبالأمس هجر هو علي طه، فانقطعت صلته بأقرب الناس إليه.

ولم تكُن الصداقة يومًا بالشيء الذي يحرص عليه، ولكنه يشعر بالغُربة والوحدة، وبأنه في وادٍ والدنيا كلها في وادٍ. أجل، لم يرعَ صداقة إنسان، ولكن أكثر من إنسانٍ رعى صداقته فهيَّأ له شعور الأُنس بالناس، أما الآن فالخيوط الواهية التي تصِله بالناس تنقصف واحدًا إثر واحد، ويهوي هو إلى وحدةٍ عميقة، ومن قبلُ كانت غرابة آرائه سببًا فيما يعتريه الحين بعد الحين من شعور الوحشة، فلما جازَف بتحقيق بعض آرائه تضاعَف شعور الوحشة، وأحسَّ أنه في وادٍ والدنيا كلها في وادٍ، وتساءل في جزع: كيف يطرد سحائب الوحشة عن صدره؟ … ليس في عالمه فردٌ واحد يودُّه. هؤلاء الموظَّفون الذين يتَّصل بهم لا يُقرُّون إلا نوعًا من الزَّمالة الإجبارية، وسالم الإخشيدي لا يُبالي شيئًا غير منفعته، فأين يجد الدواء؟ وألقى ببصره إلى جانبه فرأى الوجه النائم، وسمِع التنفُّس المُنتظم. أجل، هي العزاء، وهي السلوى، خلاصة ما بقِي له من دنياه، ولو ظفِر بها ما اشتكى شيئًا. وحقيقة قلقه اليوم ليست ناجمة عن قطيعة مأمون له، بقدر ما هي ناجمة عن تذكُّر علي طه وهواه. غدا قلبه فريسةً للغَيرة، ولم يعُد يؤمن بأن الأمر مجرد رفع الصمام عن خِزانة البُخار كما كان يحلو له أن يقول كلما سئل عن الحب أو المرأة. كان شعوره بالحاجة إلى زوجة عنيفًا قويًّا؛ فلعلَّه كان نتيجةً للشعور بالوحشة، أو لعله كان سببًا فيه. ولم يكُن — حتى في حالته تلك — يؤمن بالحب كما عرفه علي طه، ولم يعرج ببصره إلى السماء قط، ولا حلُم بالمثال والأوهام، بيدَ أنه شعرَ بحاجته إلى الفتاة كقوةٍ مستبدَّة غشوم، لا تقع بمجرد بلوغ الجسد، ولكنها تطمع في أن تستبدَّ كذلك برغبته وميوله وهواه، فتكون رغبةً متبادلة، وحنينًا متبادلًا، وبغير ذلك لا يمكن أن يشعر بأنه بدَّد الوحشة وفاز بالعزاء. هذه القوة المستبدَّة الغشوم تهزأ بالعقول الراجحة والنفوس المُتعجرفة والفلسفات الساخرة. وابتسم ابتسامة المتهكِّم، وجعل يقول تبًّا لهذه الغَيرة الحقيرة … ما جدوى غرور هذه الحياة إذا كانت الدنيا تفقد طعمها لمجرد إغضاءة من هذا الحيوان اللطيف؟ … ولم تخفَ عنه حقيقة مشاعره الجديدة. لقد قبِل الزواج بادئ الأمر على أنه مساومةٌ نفعيَّة، وأراد أن يتغلب على وضعه الشاذ بحُريته المُطلَقة وطموحه اللانهائي، ولكنه يطمع الآن في أكثر من جسد زوجه، يطمع في عواطفها، ولو أن حظه كان جمَعه بغير إحسان — الفتاة التي أحبَّها قديمًا — لربَّما كان الحال غير الحال. أما إحسان فلا يملك إلا أن يُحبَّها. وقد تكدَّر صفوه بهذه الأفكار. رأى فيها نذيرًا يهدِّد كِيانه وحياته، وقال لنفسه محزونًا: عسى أن تكون آثارَ مرضٍ وقتي أحدثَته الوحشة المُخيفة.

•••

وحين العصر جلسا معًا في الشُّرفة يشربان القهوة، ولم يكُن انقطع عن أفكاره لحظةً واحدة حتى بدا تعِبًا قلِقًا، وجعل يتفرَّس في وجهها بعينَيه الجاحظتين حتى لاحظت ذلك، كما لحظت تعبه وقلقه، وحدست أسباب ذلك، وظنَّت أنها ترجع جميعًا لليلة أمس، فلم تنبس بكلمة، ولكنها ألقت عليه نظرةً مُتسائلة، وأراد هو أن يشرح لها حالته فقال: لم أنَم ظُهرًا …

فسألته وهي تتظاهر بعدم المُبالاة: ولمَه؟ …

ولكنه لم يُجِب سؤالها، وشعر بقوةٍ تدفعه إلى اقتحام الغموض الذي يغشاه ويحيِّره، فثبَّت عليها عينيه وقال: أنت سرٌّ يجب أن أعرفه …

فلاحت الدهشة في وجهها الجميل الذي لم يكُن أفاق تمامًا من أثر النُّعاس، وتمتمت: سر!

– أجل، يجدُر بنا أن نتكاشف! …

– نتكاشف! …

فلم يعبأ بدهشتها وحسِبها تظاهرًا، ثم قال: حياتك تُثير في النفس أسئلةً محيِّرة …

فأغضت دون أن تتكلم وبدا على وجهها الوُجوم، ولكن قوةً مهما بلَغت من الشدة لم تكُن لتثنيَه عمَّا اعتزم، فقال: التكاشف في حالتنا لا يُقدَّر بثمن، ينبغي أن يفهم كلٌّ منا صاحبه؛ لنستطيع أن نتعاون على ما فيه سعادة حياتنا المشتركة. اذكُري دائمًا أننا شريكان، وأن كل شيء ما خلا هذه الشركة زائل …

فأخذت آخر رشفة من فنجان القهوة، وأعادته إلى نضد بينهما دون أن تنبس بكلمة أو تُبديَ رغبة في الكلام، فاستطرد مُتسائلًا بجرأته: لماذا فعلت ما فعلت …؟

فاحمرَّ وجهها وقالت بحِدَّة: ولماذا قبِلت؟ …

فقال بسرعة وبلهجة ليِّنة تُوحي بالاعتذار: أنا لا أُحاسبك، ولكني أريد أن أفهم … لماذا؟ … ألم …؟

وأغلق فمه مُرغَمًا وقد تورَّد وجهه، ثم استدرك قائلًا: علي طه …؟

وطعنته وبسرعة اللهجة الحادَّة الغاضبة: لا محلَّ لذِكره …

فسألها بصوتٍ خافت: وقاسم بك؟

وقطَّبت، وجعلت تقرض ظُفرها بانفعال، ثم قالت بحِدَّة: حملني على معرفته ما حملك على قَبول هذا الزواج …

وأحسَّ ارتياحًا لهذا الجواب، وقال بلِين: لا تغضبي، أنا لا أُحاسبك كما قلت لك، بيدَ أني أريد أن أعرف، ألا … أعني هل … أعني قلبك؛ أجل، قلبك! …

– قلبي! … إن هذا التكاشف لن ينتهيَ بشيء، أو هو لن ينتهيَ بخير. قلبي؟! … عمَّ تتساءل؟! … ألسنا … سُعداء؟!

– بلى … بلى …

قال ذلك بسرعة، وتفكَّر مليًّا، ثم سألها بجرأةٍ عجيبة: وإذا منعتك عن البك؟

فنفخت باستياء، وقالت: أُطيع زوجي.

وشعرَ بما في إجابتها من تهكُّم، فأدماه جرحٌ عميق، وتساءل عمَّا جناه من تحقيقه الجريء، فوجد نفسه حيث بدأ في حَيرة وقلق، وأدرك أن علي طه لا يزال مَبعث غضبه وحنقه … «لا محلَّ لذِكره»، ما معنى هذا وقد قالتها بغضب؟!

غضِب لحالة التدهور العامة التي انتابته، لماذا لا يُقاتل هذه العواطف الخبيثة حتى يقتلها؟ أيستسلم لما يستسلم له الحَمقى من بني آدم؟! … فلتُحب علي طه أو فلتُحب قاسم بك، وليأتِ البك كل ليلة إذا أراد، وليلقينَّ كل ذلك بما هو فوق طاقة البشر من الاستهانة والعبث، هذه هي مسألته بلا زيادة ولا نُقصان، بيدَ أن طموحه لا يجوز أن يقف عند حد؛ لكل داء دواء، ودواء العُزلة التي يُعانيها المَجد والخمر! يُسطى عليه فينبغي أن يسطوَ على الناس! وغدًا يلتمس بيوت الفجور ويعشق النساء ألوانًا! فإذا انكشف سر زوجه يومًا طمِع أن يُقال: إن زوجها أفسدها باستهتاره، وإنه شابٌّ فاجر لا شيء آخر! وتنهَّد في شِبه ارتياح لما انتهى إليه تفكيره، غير أنه لم يطمئنَّ إلى الارتياح طويلًا. ذكرَ — متجهِّمًا— أنه يخاف الناس دائمًا، وأنه يخافهم أكثر مما ينبغي، وأنه يخافهم على الخصوص خلاف ما تقضي به فلسفته، ففيمَ التخبُّط والحَيرة؟! ومتى يبلُغ بحياته أقصى الكمال الذي ينشُد؟ …

٣٦

ولم يعُد لمِثل ذلك الحديث مرةً أخرى، وبذل قُصاراه في تجنُّب ما يعكِّر الصفو ويُبلبل الخاطر. وكان إذا قاتَل عن سعادته قاتَل بعنف ويأس غير مَبقٍ على شيء. وإذا كانت الحياة الزوجية لم تُتَح له فقد قام بدوره خير قيام، كما يقوم الممثِّل بدوره خير قيام، حتى لينسى نفسه فيضحك حقًّا ويبكي حقًّا. ظهرا أمام الناس كزوجَين سعيدين، فلم تُعوز أحدَهما الرغبةُ في التوفيق والتلهُّف على السعادة، أما حين يشعران جفوةً أو برودةً فكأس أو كأسان يُصلحان ما يوشك أن يفسد. وقد صدَق عزمه على أن يشغل وقته كله بحياته الجديدة حتى لا تجد الوساوس فرجةً إلى قلبه، وكانت وظيفته تستغرق جُلَّ نهاره، ففكَّر أن يقتحم الحياة الاجتماعية التي بدأها بزيارة آل حمديس؛ ليشغل ما يبقى من وقته، وليجنيَ من مُتَع مظاهرها ما تجود به على مِثله. وحادَث في ذلك إحسان، وانتهز فرصةً سانحة يومًا فقال لها: عرفت جماعة من صفوة الموظَّفين الشباب وبعض الأعيان، وقد دعاني أحدهم — دعانا معًا — إلى حفل سيُقيمه لعيد ميلاد ابنه، فقبِلت الدعوة بسرور …!

فرفعت عينَيها الدَّعجاوَين ولم تدرِ ماذا تقول، فعاد يقول بحماس: لا ينبغي أن نقبع في دارنا، انظري إلى الإخشيدي كيف يعرف وجوه المجتمع العالي جميعًا، وكيف تدعم هاتِيك الصِّلات بُنيان حياته وأُسُس مستقبله؟

وكانت في أعماقها تتُوق إلى التسلية والعزاء والسرور، وترغب في أن ترى وأن تعرف وأن تتناسى، فرحَّبت بالاقتراح، وقالت وقد سبَقَتها ابتسامتها إلى الموافقة: لنذهب …

فسُرَّ الشاب، كان يهوى دائمًا أن تُشاركه اهتمامه وآماله، وكان يشعر دائمًا بغريزته بأنه إن نجح في جذبها إلى مُحيط أطماعه فقد ضمِن فوزًا عظيمًا؛ لذلك سُرَّ، وقال: إن مُقتحِم هذه الحياة البديعة كالرحَّالة الجَسور لا يمكن أن يعود خاليَ اليدَين … وإن لي من وظيفتي لمركزًا مُمتازًا، وإن لكِ من جمالك لمكانةً سامية …

وذهبا معًا إلى حفل الميلاد، وأحدثت إحسان بجمالها الفاتن أثرًا بالغًا، واستعان محجوب بجسارته على تمثيل دوره، ولم يعجز عن خلق الفرصة المناسبة لإعلان قرابته بأحمد بك حمديس، وعاد وقد ظفِرت إحسان بإجابِ شابٍّ وجيه يُدعى علي عفَّت، وقد دعاهما الشاب بعد يومَين إلى بنوار بمسرح الفانتزيو …

وتقضَّت الأيام الباقية من يوليو في حياةٍ مرِحة حارَّة، فارتادا السينما والصالات الصيفية، ودُعي هو إلى البوديجا وجروبي وصولت، وأفضى بسروره يومًا إلى الإخشيدي، فقال وهو يمطُّ بوزه استهانةً: الطبقة العالية الآن خارج القُطر، وستعود الحياة الحقيقية إلى القاهرة في أواسط أكتوبر …

وقد هالَه الأمر، ولكنه قنع بمعارفه الجُدد، ولعلهم أن يكونوا أدنى إليه — أو لعله أن يكون أدنى إليهم — من أولئك السائحين في بطون القارَّات الحيَّة، بيدَ أن أمرًا واحدًا أزعجه؛ هو تكاليف هذه الحياة المرِحة المُمتعة. هذه الحياة تفرض عليه العناية بلباسه كالنساء سواءً بسواء، وأن يقتنيَ الأنواع النفيسة، ويختار الألوان الجميلة، مع ملاحظة الوفرة حتى لا تقع العين الناقدة على شيءٍ واحد مرَّتَين، ولم يلقَ بين أولئك الشُّبَّان مَن يتحدث عن العروبة، ولا من يُناقش الاشتراكية أو أُجست كونت. ومن بينهم جامعيُّون كثيرون، ولكنهم مُتأقلمون؛ فلا كلمة واحدة تذكِّر بحدائق الأورمان أو دار الطلبة، ووجد نفسه يهوي إلى التدخين ومشاهدة ألعاب القمار.

ولكن كيف يُواجه هذه الحياة بمرتَّبه الصغير؟! … أجل، إن قاسم بك يقوم بنفقات البيت والزوجة! ولكن تبقى وجوه إنفاقه هو، وهي تتَّسع يومًا بعد يوم، وتتنوَّع ساعةً بعد ساعة! وقد تفكَّر في ذلك طويلًا ثم قال لنفسه: «أمثالي يرتقون سريعًا في الحكومة، فلا يجوز أن أتخلَّف عنهم!»

•••

وطابت حياة المجتمع لإحسان، استهوتها بما فيها من تسلية ومرح وفرص للظهور والمُباهاة واستثمارات للإعجاب، وجذبت اهتمامها نحو أمور جديدة، فبثَّت في حياتها روح العناية والحماس، وأنقذتها من تأمُّل حياتها — ماضيها وحاضرها ومستقبلها — والاستسلام للفكر. سرورها ما صادَفها من نجاح ووداد. وكان قاسم بك فهمي مُغرَمًا بها غرامًا جنونيًّا ملَك عليه نفسه، فجرى وراء هواها غير عابئ بمركزه أو أسرته أو أبنائه، وأنفق عليها عن سعة حتى صارت زينة كل مجلس بفضل جمالها ولباسها. تلك حياة، أما القبوع في البيت تنتظر أحد رجلَيها فهو فوق ما تحتمل، بيدَ أنها رغم كل ذلك ما انفكَّت تشعر بفراغ وملل شأنَ فتاةٍ خلا من الحب قلبها. لم تكُن تُحب البك، ولم يعُد لسحره العجيب من سلطان عليها، والأرجح أن سحره زال مذ آنست غدره، ولعلَّها انطوت له عن مَوجدة وحِقد، إلا أنها حرصت عليه حتى لا تذهب «تضحيتها» هباءً. وكانت فتاةً ذات طبيعة عملية، فأودعت الماضي مَدارج النسيان، وولَّته ظهرها، غير عابئة بغمزه على قلبها الحين بعد الحين! فالماضي المولِّي ورمزه الجميل — علي طه — شيئان لا يعودان. وركَّزت اهتمامها في زوجها؛ فهو شريك حياتها، وهو قرين حاضرها ومستقبلها، وقد استأدَته الحياة — مِثلها — تضحية فظيعة! وإنه ليهدف — مِثلها أيضًا — إلى غايةٍ واحدة، ثم إنه بعد هذا وذاك شابٌّ يمكن أن يُحَب، وأن يهبَ الحياة الزوجية السعيدة؛ فكانت تُشجع محاولاته في سبيل سعادتهما المشتركة، تُشاربه وتُبادله القُبلات، وترجو أن ينتهيَ التمثيل بحياةٍ حقيقية. ولو كان مزاج إحسان حيوانيًّا بَحتًا لبلَغت ما تُحب من سعادة، ولكن ما زال قلبها مُتشوقًا إلى حنان ومودَّة لا يجدهما فيما تُتيح لها حياتها من لذَّة وترَف؛ لذلك ما انفكَّت تشعر بفراغ وملل، وكلما ألحَّ عليها هذا الشعور تمادت في التهالك على حياة المرح والترَف حتى فاقت زوجها في طموحه.

وكانت تُغادر بيتها عادةً كل صباح عقِب خروج زوجها إلى عمله؛ إذ كانت تُضمر للبيت نُفورًا جعلها أعجز من أن تستطيع البقاء فيه بمفردها. وكانت المحالُّ التِّجارية الكبرى هدفها المُختار، تنتقل بين معارضها، وتضرب في طُرقاتها المُزدحمة، وربما ابتاعت حاجةً مما يلزمها، غير مُلقِية بالًا إلى الشُّبَّان الذين قد يتعرَّضون لمغازلتها. وما حاجتها إلى رجلٍ جديد وفي بيتها رجلان؟ … وفضلًا عن ذلك فقلبها كان يحدِّثها دائمًا بأنها ستألَف زوجها يومًا ما، وتُحبه وتخلُص من حيرتها جميعًا. أما إذا تمكَّن منها المَلل وأدركتها السآمة فربَّما خرجت عن حِكمتها، وذكرت مَثالب حياتها — والدَيها وزلَّتها وحياتها الراهنة — فاجتاحتها موجة تمرُّد ثائرة، وحدَّثتها نفسها بالجري وراء اللذة حتى قرارة بؤرتها، ولكنها لم تفعل، كما أنها لم تتَّخذ قرارًا نهائيًّا كما فعل محجوب في مِثل ظروفها تلك. كانت تتسكَّع كل صباح كالمتعطِّلين، وربما استقلَّت الترام أو الأتوبيس إلى بعض النواحي النائية ذَهابًا وإيابًا. وعلِمَت يومًا أن إحدى صديقاتها ستنتقل يومًا مع زوجها إلى مفوَّضية روما، فأثَّر فيها الخبر تأثيرًا عجيبًا، وتمنَّت لو تستطيع أن تجوب بُلدان الأرض جميعًا، فما أجدر مثل هذه الحياة النشيطة أن تُنسيَ كل ذي هم همَّه، وأن تُسدِل على تفاهة الحياة ستارًا كثيفًا. وقالت لمحجوب وكان قد علِم الخبر: ما أمتع أن يُسافر الإنسان إلى روما …!

فسألها بدهشة: هل ترغبين في السفر حقًّا؟

– أجل … لمَ لا؟

فقال وقد ابتسمت شفتاه: والبك؟

– عسى أن يُكرمني بهذه الخدمة فيما بعد …

وأدرك ما تعنيه بقولها «فيما بعد»، فهزَّ كتفَيه وقال: إذا فتر هواه يومًا فلن يفعل شيئًا مُطلَقًا …

والتقت عيناهما في نظرةٍ ذات معنًى، وأراد أن يستغلَّ الفرصة السانحة أبعد استغلال، فقال: إنه الآن يُذعن لرغباتكِ؛ فلا تُفلتِن من بين يدَيكِ هذه الفرصة الجميلة. الفرصة السعيدة لا تُسنَح في عمر مرَّتَين. تَناسَي هذه الرغبة الفجائية في السفر؛ فهي رغبةٌ خيالية، واعلمي أنكِ إذا فقدت حُبَّه يومًا فستلقَي الحياة عابسةً متجهِّمة. إذا لم نُحسن الاستفادة من ظروفنا فسنضطرُّ غدًا إلى مغادرة حيِّنا هذا إلى حيٍّ فقير. وليُغلقن المجتمع الراقي أبوابه في وجوهنا، ولنكونن أضحوكة المتندِّرين، فينبغي أن نحتاط للمستقبل البعيد …

وتفكَّر في كلامه قليلًا، فوجد أنه يتكلم كما يتكلم القوَّادون بيُسر وبغير مُبالاة. وسُر لمقدرته، وعدَّها فوزًا مُبينًا لفلسفته وإرادته. وتفكَّرت إحسان في كلامه طويلًا، فلم تلبث أن اقتنعت بما فيه من حكمة وبُعدِ نظر …

٣٧

وجاء أول أغسطس، وقبض أول مرتَّب له من الحكومة، وهو مرتَّب لم يكُن ليحلم به أيام الجوع؛ فمن عجب حقًّا أنه لم يُسَر به! توزَّعته المطامع، وتعدَّدت رغائبه، فباتت حياته كالنار لا تشبع ولا تقنع، وذكَّره المرتَّب بوالدَيه اللذين ينتظران على لهفةٍ نصيبهما من مرتَّبه، لا شك أن مكافأة والده نفدت، ولعلَّه يبيع الآن أثاث البيت كما فعل هو في فبراير الماضي، وسيعجز حتمًا عن أداء إيجارة المسكن، وربما وجد والداه نفسَيهما بلا مأوًى وبلا طعام. ما عسى أن يفعل؟

كان حكيمًا بلا ريب حين قرَّر أن يُخفيَ عن والده تعيينه، وقد احتاط للأمر فرجا الإخشيدي ألا يُذيع الخبر في القناطر حتى لا يعلم به أحدٌ قبل الوقت المُناسب، ولكن متى يجيء الوقت المناسب؟ إن مرتَّبه لا يفي بتكاليف هذه الحياة الراقية؛ فهو يُدرك قصوره عن الظهور كما ينبغي، فإذا تنازَل لوالدَيه عن جنيهَين أو ثلاتةٍ اختلَّ ميزانه، وافتضح أمره، وانهارت آماله! فكيف يُواجه هذه الصِّعاب؟! وتولَّاه الغضب. كان دأبه الغضب إذا تحيَّر أو ارتبك، كأنما يعتقد في قرارة نفسه أن لا شيء يستحقُّ الحَيرة أو الارتباك، ولكنه ذكر على رغمه والدَيه، وتماثَلَت له صورتهما؛ أبوه على فِراش المرض — ولم تحرِّك هذه الصورة نفسه إلا بقدرٍ يسير — وصورة أمه بعينَيها الضعيفتين، وصمتها الرهيب، وإيمانها العميق به وبمستقبله. وقد حاوَل أن يهرب منها أو يطردها عن مخيِّلته فلم يُفلِح، فأجمع على أن يقهر ما تُوقظه في نفسه من عاطفة بقوة وصرامة. لم يكُن حبه والدَيه دافعه الأول إلى التفكير فيهما، ولكن شعوره بالتبعية نحوهما كان الدافع، وفطِن إلى هذه الحقيقة منذ البدء، فكانت من أسباب مضاعفة غضبه. ألا يزال يَعلَق بنفسه شيء من الأوهام؟ ما البُنوة؟ أليست عادةً سخيفة لاحقة بظاهرة الأسرة؟ بلى، وسيكفر بها كما كفر بأخوات لها من قبل، ولن يُراعيَ إلا ذاته ومجده ولذَّته … وتساءل: لماذا يعيشان؟ وما فائدتهما في هذه الحياة؟ وما معنى الحياة لهما؟ لماذا لا يموتان فيستريحان ويُريحان؟ البر بالوالدَين شر إذا عاق سعادة الابن، بل كل ما يعوق سعادة الفرد شر. هذا واضحٌ بيِّن، وهو يؤمن به إيمانًا عميقًا، ولكن ماذا هو فاعل؟ أيقطع كل صلة له بالقناطر ويترك والدَيه يُلاقيان مصيرهما وحدهما؟ وكيف يدبِّر لهما النقود التي يحتاجان إليها؟ الواقع أنه لا يستطيع الإنفاق عليهما، والظاهر أنه لا يستطيع كذلك أن ينساهما!

•••

وظلَّ مغتمًّا مُتفكرًا حتى غادَر الوزارة، ولم يكُن بتَّ في الأمر برأي وإن كان شعوره بأنانيَّته لا يغلب. وعند شارع قصر العيني الْتَقى بالأستاذ أحمد بدير خارجًا من إدارة الجريدة، وتصافَحا بحرارة، وما لبِث أن عاوَده شعور الخوف الذي ينتابه كلما ذكر هذا الصديق المُخيف. ومشيا جنبًا إلى جنبٍ يتحادثان كعادتهما القديمة في طريق الجامعة وحديقة الأورمان. وسأله الشاب الصحافي عن حاله وعن عمله وعن قاسم بك، وحدَّثه عن مشاقِّ حياته الصحافية، وكأنما أراد محجوب أن يُجامله فقال: الصحافة فنٌّ خطير، والوظيفة الحكومية بالنسبة إليها لهوٌ ولعب …

فقال أحمد بدير بسرور: صدقت أيها الصديق العزيز؛ ولذلك فإنه يُدهشني أن يزهد شابٌّ مِثلنا في العمل الحكومي ويهجر وظيفةً مُحترمة ليُجاهد في ميدان الصحافة …

فلاحَ التساؤل في وجه محجوب وتَمتم: حقًّا؟!

– أجل، هو صديقنا الأستاذ علي طه …

وقلِقت عيناه الجاحظتان، ولاحت فيهما نظرةٌ متجهِّمة، ثم داراها بالدهشة وقال متعجِّبًا: علي طه!

فقال أحمد بدير: إنه شابٌّ جسور مِثالي، فسُرعان ما ضاق ذرعًا بمكتبة الجامعة، واتَّفق مع بعض زملائنا على إصدار مجلة أسبوعية للدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي …

– والماجستير؟

فقال أحمد بدير: قال لي: لندع البحث للباحثين، ولنركِّز همَّنا فيما هو أجل، وليكُن جهادنا كله لمصر، وكيف تُحوَّل من أمَّة عبيد إلى أمَّة من الأحرار …

فتفكَّر محجوب عبد الدائم مليًّا دون أن يبدوَ على وجهه شيء، ثم قال: الواقع أن الأستاذ علي طه ذو طبيعةٍ عملية؛ فهو لا يصلُح للتفكير العِلمي النظري …

فلحظه الصحافي بنظرةٍ حادَّة، وقال: هذا لا يعيبه؛ الطبيعتان على اختلافهما جليَّلتان، والحق أن صديقنا شابٌّ مُخلِص متحمِّس، ولقد ركل الحياة المطمئنَّة ليدعوَ إلى مُثُله العُليا على ما في ذلك من مشقَّة وخطورة؛ فليست مبادئ صاحبنا بالمبادئ التي يأمن معها الصحافي على نفسه، وربما تعرَّض لسفاهة السفهاء، وتهجُّم الجُهلاء المتعصِّبين، وربما سِيق إلى ما هو أخطر من ذلك جميعًا. ما عسى أن ينتظر من يدعو إلى الإيمان بالعلم والمجتمع والاشتراكية؟

ولم يُجِب محجوب، ولكنه تساءل: وهل صدرت المجلة؟

– تصدُر في أوائل هذا الشهر.

فقال محجوب بعد تردُّد: وكيف جاء بالمال اللازم لمِثل هذا المشروع؟

– أعطاه والده مائة جنيه …

فتساءل محجوب كالساخر: وهل يؤمن ذلك الوالد المُوسِر بالاشتراكية؟

فضحِك بدير وقال: لعلَّ الرجل يعدُّ مشروع المجلة عملًا تِجاريًّا، فأعانه بما في وُسعه وهو وشأنه بعد ذلك …

فهزَّ محجوب رأسه وقال بلهجةٍ لا تخلو من الاحتقار: طالما حدَّثنا علي طه في دار الطلبة عن مبادئه، والحديث لونٌ من ألوان السَّمَر الجميل، أما أن يهجر الإنسان عمله، ويتَّخذ من الحديث عن مبادئه عملًا قد يؤدي به إلى غيابات السجون، فسلوكٌ أقلُّ ما يُقال فيه إنه جنون، وما صاحبنا بمجنون، فكيف فعل هذا؟ … انظر إلى صاحبنا مأمون رضوان! وكيف حدَّثنا طويلًا عن الإسلام؟ … ثم انظر إليه وقد جمح للسفر إلى باريس ليتأهَّل لوظيفة الأستاذية العظيمة … هذا شابٌّ حكيم …

فقال بدير بسرعة وبلهجةٍ نمَّت عن الدهشة: مأمون رضوان شابٌّ مُخلِص أيضًا، وأؤكِّد لك أنه سيُتمُّ تعلُّمه بتفوُّق كالعهد به، وأنه سيكون إمامًا من أئمة المسلمين، هذا أمر لا شك فيه …

– أو فيه شكٌّ كبير …

فهزَّ بدير منكبَيه، ولكنه لم يُجادل صاحبه؛ لأنهما كانا اقتربا من ميدان الإسماعيلية حيث ينبغي أن يُفارقه، واكتفى بأن قال: لقد عقد الأستاذ مأمون بالأمس زواجه، وسيُسافر الزوجان إلى الخارج في نهاية هذا الشهر …

ها هي ذي الخطوط الأولى لهذه الحيوات المُتناثرة ترسم في صحيفة الدنيا الواسعة، ولا يدري أحدٌ كيف تصير في الغد القريب أو البعيد، ولا ماذا ينتظر أصحابها من حظوظ ومقادير، وكل ما يدريه أن حياة أيٍّ منهم يمكن أن يُذيعها راوية كأحمد بدير إلا حياته، فإنها إذا ذاعت على حقيقتها اعتُبرت فضيحة! وما يعنيه ذلك في كثير أو قليل، ولكن ينبغي أن يخاف سوء العاقبة، كما ينبغي لعاقلٍ يعيش بين حَمقى ومجانين! ولم يستطع أن يستشعر الطمأنينة، ولا أن يستهين بالكآبة التي تولَّته. ومن عَجبٍ أنه وعلي طه نقيضان، ومع ذلك فلا يبعُد أن يقذف بهما المجتمع إلى أعماق السجون غير مفرِّق بين عابده والكافر به! … وبلَغا الميدان، وسمِعا باعة الجرائد يُنادون عليها منوِّهين باجتماع حزب الحكومة. وتذكَّر الأستاذ بدير أمرًا فقال وهو يُصافح صاحبه مودِّعًا: على فكرة، لقد فقد رئيس الحكومة عطف السراي!

فاضطرب محجوب، وذكر أن قاسم بك فهمي من رجال العهد الحاضر المعروفين، وتساءل: والإنجليز؟

فمطَّ الشابُّ بوزه وقال: قلبُ المندوب السامي قُلَّب …

وافترق الشابَّان: واتَّجه محجوب إلى شارع سليمان باشا متجهِّمًا مُكتئبًا، ولكن أنقذه هذا الاضطراب الجديد من الحَيرة التي لازَمته منذ قبض مرتَّبه، ولم يعُد إزاء الخطر الماثل يتردد في الحكم على والدَيه، فكانا أولى ضحايا الأزمة السياسية …

٣٨

ونقل الخبر إلى زوجه، فكان حديثهما على المائدة، وفي الشُّرفة، وتساءلا معًا: هل يبقى قاسم فهمي أو يذهب بذهاب الحكم؟ وكان البك من رجال العهد القائم المعروفين بعداوتهم الحزبية، فلم يكن ثَمة أمل في بقائه إذا استقالت الوزارة. وقال محجوب: إذا أُحيل البك إلى المعاش نُقلت حتمًا إلى وظيفةٍ مغمورة — إن لم يُقذَف بي إلى أقاصي الريف — وفقدت آمالي البعيدة إن لم أفقد وظيفتي نفسها …

أكان كافَح ما كافَح ليجنيَ هذه النهاية المُحزِنة؟! أهذه خاتمة الجسارة والمغامرة والاستهانة بكل شيء؟ … لقد امتلأ غمًّا وكمدًا، وجعل ينظر إلى زوجه بعينَين مُظلِمتَين لا ترَيان شيئًا، ولم تكُن إحسان دونه غمًّا أو كمدًا. فكَّرت مِثله فيما يمكن أن يتكشَّف عنه الغد، وتخايَل لعينَيها المصير المُنتظَر. لم يعنِها كثيرًا فقدان الآمال البعيدة، ولكن كربها تزعزُع الطمأنينة الحاضرة. هل تُحرَم هذه الحياة الناعمة الراغدة؟ … هل ينضب النَّبع الذي يروي أسرتها العطشى لتجد نفسها يومًا في إحدى مدن الريف ربَّة لبيتٍ باهتٍ تقف حياتها على خدمته ورعاية صاحبه؟ هذه الخواطر بالأحلام المُزعِجة أشبه، ولم تدرِ كيف تُواجهها غدًا إذا صارت حقائق واقعة! ولكن الظاهر أن الخبر كان سابقًا لأوانه، ولم يجدا صدًى في الجرائد التي عكفا على قراءتها بعناية. وأكَّد لهما كثيرون من الأصدقاء أنه لم يئن الأوان بعد. وتتابعت أيام أغسطس في هدوء حتى ألِفا الطمأنينة مرةً أخرى، بل عاد محجوب يذكُر والدَيه ويتساءل عما ينبغي أن يصنع بهما. وكان هذه المرة ذا عزيمةٍ صادقة، فكتب خطابًا لأبيه يُعرِب له عن أسفه لعجزه عن معاونته، وذكر له أنه لا يني عن البحث عن عمل، ووعده بفرجٍ قريب، وقال لنفسه، يسكِّن خاطرها: إن الرجل يستطيع أن يصبر شهرًا آخر أو شهرين حتى يُدركه بالمعونة في ظروفٍ أنسب؟ … ولكن الطمأنينة لم تدُم. وبعث الخبر الذي أعلنه أحمد بدير أول الشهر من جديد، وتطايرت الإشاعات حتى ملأت الجو، وبات الأفق يُنذر بشرٍّ مُستطير، وعاد الزوجان إلى أفكارهما، وساوَرتهما المخاوف. وقد قابَل محجوب مُديره سالم الإخشيدي في مكتبه يومًا ليسأله عما هُنالك؟ ووجده كما عهِده دائمًا هادئًا رزينًا، ولكنه لم يتأثر بهدوئه ولا برزانته؛ لأنه يعلم حق العلم أنه لا يخرج عنهما حتى في أحرج الأوقات. ورفع إليه الرجل عينَيه المُستديرتَين مُتسائلًا، فسأله الشابُّ وقد ظل واقفًا: ما حقيقة هذه الإشاعات التي تتناقلها الألسُن؟

فسأله الإخشيدي بصوت لم يفقد أية رنَّة من رنَّات الرياسة: أية إشاعات؟

– سقوط الوزارة. ماذا وراء الأكمة؟

فابتسم الإخشيدي وقال: وراء الأكمة ما وراءها!

– هل حقًّا يمكن أن يزول هذا العهد؟

فقال الإخشيدي وقد تملَّكته رغبةٌ عابثة في تعذيبه: كل شيء زائل.

فملأه بُروده حنقًا وغيظًا حتى اضطرَّ إلى مداراتهما بالابتسام، وقال: سعادتك تعلم أشياء وأشياء بلا ريب …

وأبَت عليه نفسه أن يقول إنه لا يعلم شيئًا، فابتسم ابتسامةً غامضة وقال بثقة: انتظِر، إن غدًا لناظره قريب …

– أما من كلمةٍ مُطَمئنة؟

وعاوَدته الرغبة في تعذيبه، فسأله مُتجاهلًا: ماذا يُخيفك؟

فاتَّسعت عينا الشاب الجاحظتان دهشةً، ورفع حاجبَيه، ثم قال: ما أجمل أسوان في أغسطس!

فهزَّ الإخشيدي كتفَيه استهانةً وقال: كل مكان يُنبِت العز طيِّب.

– الإشاعات صادقةٌ إذن …

فصمت الإخشيدي لحظةً منقِّبًا عن إجابة لا تكشف جهله غدًا أو بعد غد، ثم قال: لا يعلم أحد حتى هذه اللحظة، أما بعد ذلك فالسياسة مجنونة …

وعاد إلى حجرته مَغيظًا مُحنَقًا يقول لنفسه: «ابن الست أم سالم يريد أن يُوهمني بأنه سياسيٌّ داهية. تبًّا له!»

وعند الظُّهر ملأت الوزارةَ إشاعةٌ بأن الوزارة قدَّمت استقالتها بالفعل، وقال قائل: إنه اتَّصل ببولكلي بالتليفون فأكَّد له الخبر. وعمَّت الموظفين حركةٌ عنيفة لا تظهر إلا إبَّان الاستقالات، فانطلقوا في الردهات يتحدَّثون بأصواتٍ مُرتفعة عن الوزراء الجُدد. واضطرب الشاب أيَّما اضطراب، ولاح في عينَيه الوجوم. وجاءه الساعي وأخبره بأن قاسم بك غادَر الوزارة، فاتَّصل بالإخشيدي بالتليفون وسأله عن الجهة التي ذهب إليها البك، فأجابه بأنه لا يدري. وخاطَب — بالتليفون — جمهرةً من صحبه في الوزارات المختلفة وتلقَّى الإجابات: ماذا عندك من الأخبار يا فلان؟ الحالة حرِجة. ما آخر الأخبار يا أستاذ؟ قطران. هل من جديد يا فلان؟ ضربوا الأعور على عينه. أسمِعت الإشاعات الغريبة يا عزيزي؟ عن الوزارة؟ إلى الجحيم يا سيدي! وهكذا حتى أيقن أن الوزارة في النزع الأخير، ورنَّ جرس تليفونه، وإذا بالمتكلم إحسان زوجه، فأوجس خيفةً: هل جاءك النبأ؟

– الوزارة؟

– نعم، استقالت …

– كيف علِمت هذا؟ …

– مُلحَق الجرائد …

– إذن …

– إني أكلِّمك لأُطَمئنك.

– كيف؟ … هذا كلامٌ غير معقول …

– بل معقول جدًّا، سأحدِّثك بالتفصيل عند عودتك. اعلم الآن أن البك قال لي إن الوزارة ستتغير، أما العهد فباقٍ كما كان …

– أمتأكِّدة أنت؟

– ولديَّ أخبار تسرُّك غير هذه ستعلمها حين عودتك …

وأغلقت التليفون، فنهض الشابُّ من فوره وغادَر الحجرة. وفي الطريق سمِع باعة الصحف يُنادون بأعلى أصواتهم على استقالة الوزارة، وآنَس الاهتمام والسرور يجريان مع الهواء في كل مكان. ذهب الطاغية، غار سفَّاك الدماء، وانفكَّ حبل الاستبداد عن أعناق المصرين أو كاد. لم يُشاركه أحدٌ سروره، ولولا ما بشَّرَته به زوجه لانتحب باكيًا. ووجد إحسان في انتظاره، فاستقبلته بابتسامةٍ عذبة، وأقبلت عليه تحدِّثه بما عندها من أخبار، وأعادت على مسمعَيه ما قالته في التليفون، ثم سألته: أتدري مَن وزيرك الجديد؟

فسألها مُتعجبًا: من؟

– قاسم بك فهمي …

رمقها بنظرةٍ ذاهلة وقد تورَّد وجهه، وسألها: أقال لكِ هذا؟

– أجل …

غمره شعورُ ارتياح وسرور، ولكنه لم يطمئنَّ به طويلًا، وما لبِث أن نتف حاجبه الأيسر وهو يقول: وزيرًا! … ليته ظلَّ كما كان! … الوزارة تقليد لا تخليد، فمَن لنا غدًا؟ …

ولكن ريبه لم يؤثِّر فيها؛ فقد خالت أن الوزارة آلت إليها هي، وقالت بإنكار: إنه الوزير، ألا تفهم؟ …

– بلى يا عزيزتي، هي فرصةٌ سعيدة، بيدَ أن الوزارة قصيرة الأجل كالأحلام السعيدة، وسيستقيل غدًا أو بعد غد، ونجد أنفُسنا بلا نصير، أو تحت رحمة أعداء لا يرحمون …!

فلم تَحِر جوابًا، ومضت تنتقل إليها عدوى القلق حتى لعنته في سرِّها، وجعل الشابُّ يزن الأمور واحتمالاتها بفكرٍ سريع نافذ، ثم قال: هذه هي فرصتنا الأخيرة؛ فإما نُحسن انتهازها فنحن في عيشةٍ راضية، وإما ندعها تُفلت من أيدينا فالعاقبة الهوان.

والتقت عيناهما، وأدركت ما يرمي إليه، ولكنها انتظرت حتى يُفصح عن رأيه. واستدرك محجوب قائلًا: إذا استقال ونحن في مركزٍ «معقول» فلن نأسف على ذهابه …! واستأنف الكلام بعد صمتٍ قليل: ينبغي أن ألحقَ بمكتبه …

– سكرتيرًا له؟

فهزَّ رأسه كأنه يقول: «هذا لا طائل تحته.» واستدرك: سكرتيره درجةٌ سادسة؛ فلا فائدة فيها، أما مدير مكتبه فدرجةٌ رابعة!

– أيمكن القفز من السادسة إلى الرابعة؟

– يمكن ترقيتي إلى الخامسة خصمًا على الرابعة، وفي الكادر تأويلاتٌ تتَّسع لكل شيء، فما رأيك؟

وعضَّت على شفتَيها لتُخفيَ ابتسامة خُيلاء، وكانت تُدرك أن أية درجة يرقى إليها فكأنما ترقى إليها هي، ولم يُداخلها شك في أن الدرجة الرابعة المرجوَّة تستطيع أن تحتفظ لها بمستوى الحياة الذي تتمتَّع به الآن، فبادَلته شعوره بإخلاص، وتَمتمت قائلةً بصوتٍ خفيض: لا أظنُّه يرفض لي رجاءً …

فقال بحماس وإيمان: همَّتك، همَّتك يا بطلة! فعلى نتيجة سعيك يتوقَّف مصيرنا.

وفي صباح اليوم الثاني تناول الأهرام باهتمام، ونظر في الصفحة الأولى، فجرى بصره على عمود من الصور، صور الوزراء الجُدد، ووجد في وسطه مُبتغاه؛ صورة قاسم بك فهمي، فاستقرَّت عليها عيناه، وتنهَّد من الأعماق: تُرى هل يتحقَّق هذا الأمل! … هل تستطيع قُبلة أو رنوة أو تنهدة أن تنقله من حال إلى حال، وأن تدفعه من طبقة إلى طبقة؟

٣٩

ومضت أيامٌ قلائل، وجعل الوزير الجديد إقامته في القاهرة — لا في بولكلي — لحالة ربو يُعانيها منذ سنوات. وفي اليوم الرابع لتولِّيه الوزارة علِم محجوب أنه قد استقرَّ الرأي على اختياره لوظيفة مدير المكتب. استقبلته إحسان بابتسامة وقالت بخُيلاء: «مُبارَك …» فاهتزَّ فؤاده سرورًا، واضطرب اضطراب المفاجأة كأنه لم يركِّز كل اهتمامه في هذا الأمل طَوال الأيام الأربعة الماضية. صار الأمل حقيقةً رائعة، وسيُصبح من كِبار الموظفين. ليست الدرجة الخامسة بالحظ الذي يُستهان به، فما بالك إذا كانت خطوةً قصيرة إلى الرابعة؟! وتخايَلت الرابعة لعينَيه مرسومةً بألفاظٍ واضحة، ثم تحوَّلت إلى صورٍ ذهنية على هيئة كرسي كبير، وأحاط بالكرسي سُعاة، ومثل أمامه خَلقٌ كثيرون من جميع الطبقات. ولم يرَ نفسه وهو يتخيل هذا المجد وإلا لسخِر منه كعادته؛ فقد قطَّب مُتكبرًا، وألقى على ما أمامه نظرةً مُرتفعة من رأسٍ شامخ. ولذَّ له في تلك الساعة أن يفرَّ صفحات الماضي القريب؛ ليالي فبراير، دكان الفول بميدان الجيزة، رحلة الأهرام، تردُّده بين الجيزة وشارع الفسطاط والإخشيدي مادًّا يده بالسؤال، زواجه، ثم هذه النهاية! … ولاحَ له رأسه المُفعَم جسارةً وفلسفة كمِصباح يهدي سواء السبيل؛ فطابَ نفسًا، وفرك يدَيه حبورًا.

وذهب إلى الوزارة مبكِّرًا في اليوم الثاني، وجلس إلى مكتبه الذي يُوشك أن يهجره، وقد بدا لعينَيه حقيرًا، ولكنه لم يكُن أول المبكِّرين. فتح الباب وبدا عند عتبته الأستاذ سالم الإخشيدي! … وانقبض صدره انقباضًا لم يبدُ على وجهه بطبيعة الحال، ووقف مُبتسمًا يستقبل القادم، وهو يتساءل في نفسه: ما الذي دعاه إلى التنازل عن كبريائه والقدوم إلى مكتبه؟! ومدَّ له يده بسرور وهو يقول: أهلًا بسعادة البك. تفضَّلْ بالجلوس!

وجلسا معًا، وجاد الإخشيدي بابتسامة من ابتساماته النادرة، وتكلَّم كلامًا عامًّا عن الوزارة الجديدة، والبك الذي ينتظر أن يخلُف قاسم بك، ثم قال بهدوئه المعهود: لديَّ ما أُحبُّ أن أُكاشفك به، وقد أمرت ساعيَك بألا يأذن لأحد بالدخول …

وحدس الشاب ما يريد قوله، وأحسَّ استياءً وحنقًا، ولكنه قال بلهجته الدالَّة على الترحيب والسرور: حسنًا فعلت، وها أنا ذا رهن أمرك …

فصوَّب الإخشيدي نحوه عينَيه المستديرتَين وقال: الأمر جِدُّ خطيرٍ ما دام يتعلق بمستقبلنا، وسنجني من ورائه نفعًا مؤكَّدًا مُتبادلًا، ولكني أُحبُّ أن أسألك سؤالًا قبل كل شيء: ألم تجدني صديقًا مُخلِصًا؟

– بل خير الأصدقاء جميعًا …

قال محجوب ذلك وهو يَعجَب لهذه اللهجة الليِّنة اللطيفة التي لم يتعود الإخشيدي الكلام بمِثلها من قبل. أين الأمر والنهي والزجر؟ أين البرود والتعالي؟ وقد شعر في أعماقه بدبيب الحنق والسخرية، ثم استمع إليه وهو يقول: شكرًا لك، صداقتُنا هذه كَنزٌ نفيس، وبفضلها تستطيع أن نقتحم الصِّعاب يدًا واحدة …

– نطقت بالحكمة كعادتك يا بك …

وجعل يقول في سره: تكلَّمْ عن الصداقة كيف شاء لك الخِداع؛ فأنا أعرفك كما تعرف نفسك أيها الشيطان الماكر، وحسبي أن أعرف نفسي كي أعرفك حق المعرفة، ولكل شيء آفةٌ من جنسه!

وحدجه الإخشيدي بنظرةٍ ثاقبة، وقال: علِمت أن مذكِّرة تُكتَب لندبك مُديرًا لمكتب الوزير …؟

هذه هي النقطة الجوهرية، أيريد أن يتنازل له عن الوظيفة؟! … يا له من أحمق، كيف غاب عنه أنه تلميذه؟! إن الدين والأخلاق والتقاليد لم تستطع أن تحُول بينه وبين هذه الوظيفة، فهل يظنُّ أن «صداقته» تنجح فيما أخفقت فيه جميع القُوى! قال بهدوء: أجل، علِمت ذلك بالأمس فقط …

فقال الإخشيدي: إن ذلك يسرُّني بقدر ما يسرُّك، بيدَ أني أُحبُّ أن ألفت نظرك إلى أن درجة مُدير مكتب رابعة وأنت في السادسة، فإذا وجدت درجةً خامسة خالية فقد بلغت مُرادك. خذ وظيفتي ودع لي وظيفتك الجديدة يتحقق أملنا جميعًا.

وتساءل محجوب في سره: أغبيٌّ هو أم يتغابى؟! فلم يُدرك أنه يطمع في الرابعة نفسها؟ وهبِ القفز إلى الرابعة تعذَّر عليه، فهل من شك في أنه يفضِّل أن يكونا في الخامسة معًا عن أن يمهِّد له سُبُل التفوُّق عليه؟ ونظر إليه مُتظاهرًا بالاهتمام وتساءل: وماذا تُريدني على أن أفعل؟

فقال الإخشيدي: صارِحِ الوزير بأنك قانعٌ بوظيفتي …

وجاءت الدقيقة الفاصلة! وكان يُدرك بلا ريبٍ أن أسطورة الصداقة التي تغنَّيا بها معًا رهينة بكلمةٍ واحدة، فتردَّد قائلًا، وذكر أن عداوة الإخشيدي شيءٌ لا يُستهان به، فليس الرجل بعلي طه أو مأمون رضوان اللذين لهما من شرفهما وازع، هذا رجل — مِثله — بلا خُلُق ولا مبدأ، وهو يعرف كل شيء، فماذا يصنع؟! … وتفكَّر مليًّا. قال إن سرَّه سيُعرَف يومًا بلا ريب، إن لم يكُن عرفه بالفعل أمثال أحمد بدير، وماذا نال تهكُّم بدير من أبطال حفلة جمعية الضريرات؟! … طظ! كلَّا، ثم لا ينبغي أن يتردد، وليذهب الإخشيدي وصداقته إلى الجحيم! واجتاحته عاصفة استهانة، فقال: ألا ترى يا سالم بك أن هذا معناه رفض شرف آثَرني به الوزير؟! فرمَقه الإخشيدي بنظرةٍ غريبة كأنها تقول له: «يا ابن اللئيمة!» ولكنه حافَظ على هدوئه بقدرةٍ عجيبة، وصمت بُرهةً، وقد همَّ بمراجعته، وأوشك أن يرسم ابتسامة من ابتساماته، وانتظمت على لسانه عباراتٌ لطيفة، وكاد يذكُر كلامًا عن الصداقة والتعاون، ولكن إرادته منعت ذلك كله، فظلَّ صامتًا جامد الوجه والنظرة، واكتفى بأن تساءل بلهجة لا تدل على شيء: أهذا رأيك؟!

فقال محجوب بغير مُبالاة وقد تلبَّسه شيطانه: أجل، ألا تُشاركني رأيي؟!

فتَمتم الإخشيدي وهو يحول عنه عينَيه.

– معقول، لك حق. أشكرك. مُبارَك!

وغادَر الحجرة بخُطاه الوئيدة وقد عاوَده كبرياؤه. وارتفق محجوب مكتبه مُتفكرًا! سبق أن خسِر علي طه ومأمون رضوان، وكان ينسى سريعًا. أما هذه المرة فقد ساوره الخوف، وقد ثار بخوفه، وكوَّر قبضته غاضبًا، وكأنما أراد أن يتناسى همَّه فنهض قائمًا، وغادَر الحجرة إلى إدارة المستخدِمين ليطَّلع بنفسه على مذكِّرة ندبه …

٤٠

واحتلَّ الأستاذ محجوب عبد الدائم — أو محجوب بك عبد الدائم من الآن فصاعدًا — حجرة مدير مكتب الوزير. ووفد عليه كبار موظفي الوزارة مهنِّئين، فكان يومًا عظيمًا ومجدًا مشهودًا. وهنَّأه البعض بالدرجة الرابعة «مقدَّمًا»، كأنها باتت أمرًا مفروغًا منه! أما سالم الإخشيدي فلم يهنِّئه، وأعلن بذلك عداوته صراحةً، وقد ذاع خبر في الوزارة بأن الإخشيدي سيُنقَل إلى الخارجية، وبأنه سيُرقَّى هناك إلى الرابعة، فلم يغِب عنه المصدر الذي خرج منه الخبر، ولكنه لم يستبعد صحَّته؛ لأنه كان يعلم بصِلات الرجل بكبار رجال الدولة. وقد قال لنفسه: «الإخشيدي قويٌّ بلا جدال، ولولا زوجي ما تغلَّبت عليه، ولكان اليوم في مكاني هذا …» وداخَله سرور، فإذا نُقِل الإخشيدي حقًّا خلا له الجو، وصار رجل الوزير الأول، كما صارت زوجه من قبلُ امرأة الوزير الأول. سُرَّ لذلك بلا ريب، بيدَ أن سروره لم يدُم طويلًا. عاد يفكِّر في غضب الإخشيدي وانتقامه، وفيما عسى أن ينجم عن هذا وذاك، وسُرعان ما أدركته روح الاستهانة فاستردَّ مرحه، وجعل يقول لنفسه: إن الناس يُحبُّون المظاهر ويُخدَعون بالرياء؛ فإذا اضطرَّ للدفاع عن نفسه عاطاهم ما يشتهون من تظاهُر ورياء، ولو بلَغ به الأمر أن يشترك في جمعية الشُّبَّان المسلمين مثلًا! فطُظ في كل شيء إلا الناس، على الأقل في العلانية، ولكنه لم ينتهِ عند ذاك من الإخشيدي وغضبه. خطر له خاطرٌ أزعجه أيَّما إزعاج، وقد عجِب كيف أنه لم يخطر له من قبل. الإخشيدي جارٌ قديم من القناطر، ألا يجوز أن تبلغ به الرغبة في الانتقام أن يُفشيَ سرَّه بطريقةٍ ما إلى والدَيه؟ ازدرد ريقه بصعوبة وقد علت وجهَه صُفرةٌ باهتة، وجعل ينتف حاجبه مُتفكرًا مُغتمًّا. ولبِث مُتفكرًا مُغتمًّا حتى كبر عليه أن يذهب سروره — يوم مجده — ضحية وساوس قد لا يكون لها أثر من الحقيقة، فنفخ مَغيظًا مُحنَقًا، وكوَّر قبضته غاضبًا، وقال لنفسه: قُضيَ الأمر، وكان ما كان، فليكن ما يكون. وبعيدٌ جدًّا أن يبلُغ الإخشيدي حقيقة زواجه؛ فإنه هو أيضًا يعرف عنه حقائق ليست دون زواجه خطورةً، ثم إن الإخشيدي أحكم من أن يُفشيَ سرًّا يتعرَّض به لغضب قاسم بك، ولكنه من ناحيةٍ أخرى ينبغي أن يتوقَّع أن يعلم أبوه بنبأ تعيينه، فيحسُن به أن يدبِّر للرجل ما يُقيم أوده ويصون كرامته … وأراد أن يطرد همَّه، فبسط ورقة على مكتبه، ورسم رقم مرتَّبه الجديد: ٢٥ جنيهًا؟ وثبت عليه عينَيه الجاحظتين حتى ابتسمت أساريره. سيقبضه أول أكتوبر، وما أول أكتوبر ببعيد، فهل يمكن أن يتصور ذلك بائع الفول بميدان الجيزة؟ بل مأمون رضوان نفسه لن يزيد مرتَّبه بعد عودته من البعثة — بعد ثمانية أعوام — على مرتَّبه هذا! نجحت طظ نجاجًا باهرًا! وقد ارتاح لذلك ارتياحًا عزَّاه عن كل ما لاقى من ألم ونصَب وقلق وأحزان، وسُر سرورًا خالصًا ببراءته من ذلك المرض الوهمي الخبيث الذي يُسمُّونه الضمير أو الندم. حقًّا خاف أحيانًا الناس، وعذَّبته الغَيرة أحيانًا أخرى، ولكن هذا شيء والندم شيءٌ آخر. كان كفرُه بالقِيَم والمجتمع كاملًا باهرًا، وإنه ليؤمِن بأنه سيظلُّ قويًّا حرًّا، ما امتدَّ به العمر، وأنه لن يلين أو يضعف إذا أقعده مرض أو رُدَّ إلى أرذل العمر. وما أجملَ أن يستهين بالموت — إذا حضره الموت — وأن يرمُق العدم بعين التسليم بالواقع دون فزع إلى قوةٍ وهمية أو إلهٍ باطل. هذا هو انتصار العقل الحر على الغرائز العَمياء والأوهام الباطلة! وتذكَّر قاسم بك فهمي والإخشيدي وعشرات ممَّن اتَّصل بهم في حياته الجديدة، كل أولئك يبدون كأنهم من مدرسته. كلَّا، إنه يرفض ذلك رفضًا مُتعجرفًا! أولئك يفعلون الشر وهم يعرفون أنه شر، ومنهم من يفعله وهو لا يميز الخير من الشر، ومنهم من لا يحمل نفسه مشقَّة التفكير بتاتًا، ومنهم من يفعله وهو يؤمن بالخير. هو غير هؤلاء جميعًا، إنه يُنكر الخير والشر معًا، ويكفر بالمجتمع الذي صنعهما، ويؤمن بنفسه فقط؛ يوجد لذيذ ومؤلم، ونافع وضار، أما خير وشر فمحضُ وهمٍ باطل. ورُبَّ قائل يقول: «لو آمَن كلٌّ بهذا لهلك الناس جميعًا.» هذا حق لا جدال فيه، ولكنه ليس أحمق كي يدعوَ لرأيه هذا، إنه يحتفظ به لنفسه، وإذا قال تكلَّم غيره، فرِزقُ أمثاله من الأحرار على الحمقى من المؤمنين! والمجتمع مُتسامح مع أمثاله إذا أحسنوا التخفِّي، فالمجتمع لا يعنيه إلا أن يُحافظ على ذاته، ويُعاديَ في ذلك حتى عُشاقه الذين ينشُدون له الكمال، أمثال علي طه ومأمون رضوان؛ فهو كالمرأة المغرورة إذا آنَست من عاشق انتقادًا نبَذته؛ ولذلك فنصيب هؤلاء التعب والكفاح، وربما السجن!

طابت الحياة إذن، ثم ذكر أمرًا فاستدرك قائلًا: «إلا شيئًا واحدًا.» هي إحسان! أو هي تلك العاطفة المستبدَّة التي لا تقع بغير الحب. وأين الحب؟ الفتاة تُشاركه آماله، وتُحسِن معاشرته، ولكنه يشعر بأنها تؤدي واجبًا بإخلاص. إنها كالموظَّف الذي يُحبُّ الوظيفة دون عمله بالذات، أو هو لا يُحبُّه ولا يكرهه. ارتبط مصيرها بمصيره، هي تحب الحياة كما يحبها، وتهوى الترف كما يهواه، ولكن ينقصه شيء كي يكمل هذا الامتزاج حقًّا، شيء يروعه افتقاده حتى في تلك الأُوَيقات التي يبدُوان فيها سعيدَين ثمِلَين، والشفة على الشفة، والصدر مُلتصق بالصدر. وليس هذا بالشيء الذي يهون وإن قال عنه — في غمرة اليأس — طظ، بل إنه ليُحدِث في نفسه ثورةً شبيهة بتلك الثورة التي أحدثها الجوع من قبل؛ ولذلك فكَّر جِديًّا في أن يسطوَ كما يُسطى عليه، بل عابَثَته فكرة اكتراء حجرة وتأثيثها استعدادًا للطوارئ، ومَن يدري؟ … فلا يبعُد أن يقصد إليها غدًا أو بعد غد ذوو الحاجات، وكما أعطى ينبغي أن يأخذ!

•••

وعند مساء ذلك اليوم — يوم مجده — وفدَ الأصدقاء على الشقَّة الأنيقة بعمارة شليخر ليقدِّموا التهانيَ لزوج مدير المكتب، وجرى الحديث في مرح وسرور، وقد اقترح البعض أن يحتفلوا جميعًا بترقية محجوب. وقال أحدهم مُخاطبًا إحسان: في يوم الخميس القادم ينتصف الشهر العربي، ويتربَّع البدر في كبد السماء، وتُمسي القناطر قِبلة الواردين، فما رأيك في رحلةٍ قمرية … (وهنا لحظ عفَّت بطرفٍ خفي واستدرك غامزًا بعينَيه) وعفَّت بك يملك يختًا صغيرًا جميلًا …؟!

وسُرَّ عفَّت سرورًا كبيرًا، وكان إعجابه بإحسان يزداد يومًا بعد يوم.

وقال بسرعةٍ دلَّت على حماسة للقَبول: اليخت وصاحبه رهنُ أمركم!

وما سمِع اسم القناطر حتى سرَت في جسده قُشَعريرةٌ باردة، وكان يعلم أن حماس الصحاب ليس لشخصه هو، فقال مُعترضًا: هذه النُّزهة القمرية لا تُوافق جو سبتمبر الرطب البارد.

فضحِك عفَّت وقد أشفق من أن تُفلت من يده الفرصة السانحة، وقال: لا شك أن وظيفتك الكبيرة قد بثَّت في نفسك شيئًا من الشيخوخة، فبتَّ ترجف من الجو اللطيف …!

وكان هذا «المدح في قالب الذم» جديرًا بأن يلذَّ محجوب في ظروفٍ أخرى، ولكنه لم يستطع أن يتذوَّقه في رعبه، وقال بحميَّة: الدنيا واسعة، اختاروا أي مكان تُحبُّون، أما القناطر …

واعترض عليه كثيرون فضاعت بقيَّة كلامه، ولم يدرِ كيف يُقنعهم ويحوِّلهم عن رأيهم، ولبِث حِيال احتجاجهم مقهورًا، بينما راح عفَّت يقول: ليس ثَمة فائدة تُرجى من الاعتراض، والأولى بك أن تُصغيَ إلى … سينتظر اليخت عند قصر النيل في الساعة التي تتَّفقون عليها … أطعمة جافَّة لطيفة … زجاجة ويسكي لكل ثلاثة … دعوني أُحصيكم …

وعلا ضجيج الاستحسان، وشارَكتهم إحسان سرورهم، وجعل محجوب يقلِّب عينَيه في وجوههم حائرًا وعلى شفتَيه ابتسامة لا معنى لها. لن يجد من رحلة القناطر مَهربًا، سيقطع حدائقها ذهابًا وإيابًا في ضوء القمر. أليس من المحتمل أن يَلقى أحدًا من أهلها الذين يعرفونه؟ … بلى، هذا محتمل، ويحسُن به والحال كذلك ألا يَبرَح اليخت مُنتحلًا عُذرًا. أجل لن يستطيع مقاومة العربيدَين العنيدين، فليذهب إذا لم يكُن من الذهاب بد، والحدائق على أية حال بعيدةٌ عن المحطَّة، بعيدة عن البيت البائس الباهت …

٤١

ومضت أيامٌ أربعة تمتَّع فيها بوظيفته الخطيرة متعةً صافية، وقد شعر جميع الذين يتَّصلون به من الموظَّفين — صغارًا وكبارًا — بأنه موظَّفٌ مُتعجرف ينبغي أن تؤدَّى إليه حقوقه كاملةً، ولا يعفو عن زلل، ولا يتكلم إلا آمرًا. وكان كلما لان الموظفون — ولا بد أن يلينوا — تمادى وطغى، واستلذَّ تماديَه وطُغيانه حتى ودَّ في أحايين لو يُمضي يومه كله في الوزارة آمرًا زاجرًا …!

وجاء يوم الخميس، مَوعد النُّزهة، فغادَر الزوجان بيتهما ومضيا في طريق قصر النيل، وقالت إحسان بتأفُّف وهما يقطعان طريقهما: لعلك الوحيد في الجماعة الذي لا يملك سيارة …!

فضحِك محجوب قائلًا: في التأنِّي السلامة …!

ولكن ملاحظتها حملته على أن يُناديَ على تاكسي فيستقلَّاه على قرب المسافة، وذكر لهجتها المتأفِّفة فقال لنفسه ساخرًا: «عيبٌ كبير ألا يكون لكريمة عم شحاتة تركي سيارةٌ خاصة!» ثم ذكر الأعباء التي تُواجهه بها الحياة الجديدة، كرغبته في اكتراء حجرة وتأثيثها، واقتطاع بضعة جنيهات من ماهيَّته لوالده، وغير هذه وتلك من وجوه الترف والإنفاق، فهالَه الأمر، وحدَّث نفسه قائلًا: «سأظلُّ ما حييت فقيرًا إلى المال!» وبلَغا مَرسى اليخت بعد قليل، فغادَرا التاكسي وأقبلا نحو الأصدقاء المنتظِرين وقد غشِيَ الظلام الآفاق، واستُقبلا استقبالًا جميلًا، وتقدَّم عفت بك من الزوجَين وصافَحهما، وأعطى ذراعه لإحسان؛ فتأبَّطته وسارا في الطليعة إلى اليخت. ولم يكن مججوب يُحب صاحب اليخت، وقد بدأ يُخامره النفور نحوه منذ لبَّى دعوته إلى الفانتزيو. قرأ في عينَيه الجميلتين آي الإعجاب بزوجه، فامتعض وتميَّز من الغيظ، ورمق شعره الأحمر، وبشرته البيضاء، وجسمه الرياضي، بعين المَقت والغضب …

وكان اليخت صغيرًا، ولكنه جميلٌ أنيق. وكان مكوَّنًا من طابقَين؛ بالأول المقصورات، والثاني سطح مسوَّر اصطفَّت به المقاعد الوثيرة على هيئة دائرة، وفي المقدمة منه امتدَّت الموائد حافلةً بما لذَّ وطاب. وقد أمر عفت بك بالإبحار فرُفعت المرساة، وأبحر اليخت ميمِّمًا شطر الشمال. في هداية نور القمر البهيج وسط الأفق الشرقي صاعدًا من وراء النخيل. هكذا بدأت الرحلة …

وجلس الأصدقاء على المقاعد مُتقابلين، وراحوا يَسمرون في جوٍّ لطيفٍ رطيب. وجعل محجوب يردِّد ناظرَيه بين الوجوه المُشرِقة والقامات الهِيف، فبهَره الشباب والجمال، ورأى زوجه بعيدًا عنه في هالة من الإعجاب والمُعجَبين، فذكر أيام كان يُطالعها عن بُعد من نافذة حجرته بدار الطلبة، بيدَ أنه رآها الآن أبهى ما تكون جمالًا وسحرًا، واستشعر الهُوَّة العميقة التي تفصل بينهما! وجرَت أمام مخيِّلته صورٌ سريعة مُضطربة، فرأى علي طه — في حالتَي سروره وحزنه — وعم شحاتة تركي، والوزير، وسالم الإخشيدي، ومَخدعه بعمارة شليخر! ووجد نفسه يتساءل: أيفضِّل لو كانت إحسان له قلبًا وجسدًا في بيت زوجية هادئ «شريف» ولو كان موظَّفًا صغيرًا بلا مجد؟! ولم يجد الجواب حاضرًا. أجل، كان طموحه قويًّا كعاطفته، بل لعل طموحه أقوى، ولكن ما جدوى المفاضلة؟! وألقى بنظره إلى النيل يتسلَّى، ثم رفع بصره إلى البدر الآخذ في الصعود والصفاء، كلما امتدَّت ظلمة الليل أذكَت نوره وبهاءه، ولكنه لم يكُن من الذين تفتنهم الطبيعة بمحاسنها، وكان يلذُّ له أن يقول: إن الهُيام بالطبيعة مَفسدة للعقل، ومصدر منذ الأزل لجهالات لا نزال نرسف في أغلالها. وذكر صاحبه مأمون رضوان وكيف كان يستيقظ في الفجر للصلاة والعبادة، وكيف كان يقلِّب وجهه بين النجوم الساهرة ويتلو: «والليل إذا يغشى»، «والسماء والطارق»، بصوت حنان، وعيناه الصافيتان تلمعان لمعان النجوم الزاهرة، ولكن هل يوجد بين هؤلاء الشُّبان والشواب مَن يعشق الطبيعة؟ وألقى عليهم نظرةً شاملة فوجدهم في شغل عن الدنيا بأنفُسهم.

وسمِع آنسة فيفي تتساءل في إغراء: لماذا لا نرقص …!

فقال علي عفت من فوره: ارقصوا إذا شئتم، ولكن هل ترقصون بلا موسيقى؟

فقال أحمد عاصم: أبشِروا، لقد أحضرت معي موسيقى اليد.

وتصاعَدت أصوات الاستحسان، ودارت العيون تتصيَّد الأحباب، وتناول أحمد عاصم آلته ولعِب بها وهو يتمايل على مقعده مع أنغامها الراقصة، ونهض الجميع للرقص إلا إحسان ومحجوب اللذين يجهلانه، وعفت بك الذي آثر أن يجلس إليهما. وجعلوا يُشاهدون الراقصين في صمت وإعجاب، ثم أعلن عفت بك إنكاره لجهلها الرقص، وقال لإحسان: سأعلِّمك الرقص؛ فإنه لا يجوز أن تجهليه … ما رأيك؟

فتمتمت وعيناها لا تُفارقان الراقصين: لا أدري.

– غريبٌ من يجهل الرقص في الحفلة الرائعة، أليس هذا رأيك يا محجوب بك؟

فشعر محجوب بالخطر المُحدق به، وأراد أن يزوغ منه، فقال بعدم اكتراث: لا أظن …

فضحِك عفت ضحكةً عالية وقال: يا لها من أسرة من صميم القرن التاسع عشر …

وضحِكت إحسان لضحكه وقالت: قد نتتلمذ لك يومًا ما …

فلاحَ الحماس في وجه الشاب وقال بسرورٍ فيَّاض: في أي وقت تشائين …

ولازَم محجوب الصمت مُتظاهرًا بالاهتمام بمراقبة الراقصين، وهو يكظم حنقه وثورته. إن الشاب الأحمق التيَّاه بجماله يتحفَّز للانقضاض على عِرضه، وإنه لفاعلٌ إذا وجد غِرَّة، ولكن هيهات أن يُنهزه فرصة؛ فليس لأحمق مِثله أن يُنبت في رأسه قرنًا جديدًا … لقد وهب رأسه للقرون الذهبية، قرون المجد والسلطان، ولكن تُرى هل تستجيب لغزله؟ هل تلِين هذه الفتاة الغامضة الفاتنة؟ وأحسَّ أنياب الغَيرة السامَّة تنهش صدره.

ورقص الراقصون حتى أدرك أحمد عاصم التعب — أو المَلل — فكفَّ عن اللعب، وانفرط عقد المُتجاذبين، فعادوا إلى جلستهم الأولى مُشرقةً وجوههم بالابتسام. وكان البدر قد علا في السماء وانسكب نوره إلى مياه النيل المُتموجة، فتقاذَفته ونشرته كاللؤلؤ يخطف الأبصار. وتساءل البعض: متى نفتح البوفيه؟

فردَّ عليه قرين: ليس قبل أن يرسوَ اليخت إلى شاطئ الحديقة يا جائع؟

فقال آخر: هل لكم في لعب الورق؟

ولكن اعترض كثيرون على الاقتراح أن يُلهيَهم عن صفوهم، وعادوا إلى السَّمَر، وانتبه محجوب من أفكاره على صوت الأستاذ حسني شوكت وهو يقول: كيف لا يكون أمرًا خطيرًا؟! … إن نجاح الحزب النازي في الوصول إلى الحكم أمرٌ جِدُّ خطير.

فقال أحمد عاصم: ولكن شخص الرئيس هندنبرج حقيق بأن يبتلع هتلر.

– انظر إلى الأفق، ألا ترى أن هتلر في عُنفوان الشباب والرئيس في نهاية العمر؟

– إذن سيتمخَّض الغد عن حربٍ ضروس …

– كلامٌ معقول، بيدَ أن فرنسا لا تتريث حتى تستعيد ألمانيا قوتها وتجمع للانقضاض عليها، وهُنالك حلقةٌ مُحكَمة حول ألمانيا من البُلدان المُوالية لفرنسا كبولندا وتشيكوسلوفاكيا والبلقان، ولا تنسَ أن إيطاليا العظيمة تعدُّ نفسها حامية النمسا؛ فما هو إلا أن تتصافح هذه البُلدان، وربما انضمَّت إليها روسيا، فتُضيق الحلقة الفولاذية رُويدًا رُويدًا حتى تخنق ألمانيا في النهاية، وتقضيَ عليها القضاء الأخير …

وإنجلترا؟ … هل تتغاضى عن خنق ألمانيا؟

– ولمَ لا؟

– إنجلترا أمكر من أن تترك فرنسا — أو غيرها — تُسيطر على القارَّة الأوروبية.

أصغى محجوب إلى الحديث باهتمام، وكان على اطلاعه الواسع على السياسة الداخلية عظيم الجهل بالسياسة العالمية، فاقترح على نفسه أن يُعنى بمعرفة الأخبار الخارجية حتى لا يفوته الكلام فيها إذا لزِم الأمر، وتظاهر بتأمُّل القمر والغياب عمَّا حوله حتى لا يُلاحظ أحدٌ صمته، فغاب حقًّا عن الحديث دقائق، ولما عاد بوعيه إلى الجلوس وجد الحديث قد طرق الأحوال الداخلية دون أن يدريَ كيف، وسمِع بعضهم يقول: أما مصر فيستطيع أي حاكم أن يستبدَّ بها دون كبير خطر.

– الواقع أن أي نظام من أنظمة الحكم يستحيل ديكتاتوريةً إذا طُبِّق في مصر.

– هذا وطن «ضربك شرف يا أفندينا» …

وقال أحمد عاصم بلهجة اليقين: لن تظفر مصر باستقلالها أبدًا …

– استبدَّت بها عادة الحكم الأجنبي!

فضحِك عفت وقال: وما حاجة مصر إلى الاستقلال؟ أما الزعماء فيتعاركون على الحكم، وأما الشعب فغير أهل للاستقلال.

ووجد محجوب الفرصة سانحة ليقول قولًا «أخلاقيًّا»، وليُحدِث لنفسه سمعةً إيجابية؛ الأمر الذي أجمع على تحقيقه حين فكَّر في الاشتراك في جمعية الإخوان المسلمين، فقال مُبتسمًا: ألا يسوءك أن تقول هذا القول عن قومك …؟!

فضحِك عفت مرةً أخرى، وقال بصوتٍ مرتفع: لا تجري في عروقي نقطة دم مصرية واحدة.

وأحدث قوله عاصفة من الضحك، أما محجوب فتضاعَف مَقته له، لا غضبًا لوظيفته، ولكن ثورة لكبريائه، وذكر خطبةً رنَّانة ألقاها والد عفت في مجلس الشيوخ، فظنَّ أنه قبض على عنق الشاب، وقال بلهجة الظافر: فما قولك في خطبة الباشا والدك في مجلس الشيوخ، عند مناقشة الميزانية، التي دافَع بها عن الفلَّاح دفاعًا وطنيًّا مجيدًا؟!

فقهقه عفت وقال كالساخر: هذا في مجلس الشيوخ، أما في البيت فكِلانا متَّفق — أنا ووالدي — على أن أنجع سياسة مع الفلَّاح هي السَّوط.

وضحِك الحاضرون — من الجنسَين — ضحكًا عاليًا، وابتسم محجوب يُداري هزيمته، وقد أفرخ روعه، وارتاح إلى تفرُّده بالدفاع عن «القومية المصرية»، وقال لنفسه: «إن بدلة التشريفة الحقيقية هي ثوب الرياء؛ فلا يفوتني ذلك!» وتساءل ساخرًا: تُرى كيف يُصلح علي طه هذا الشعب الكريم؟ وكيف يحقِّق مُثُله العُليا؟

ومضى الوقت واليخت يشقُّ الأمواج وكأنه يسبح في النور السني، وانتبه محجوب مرةً ثالثة على قول شاب: فما من شكٍّ أن الزوجة أجبرت الباشا زوجها على الإقامة في فندق إبقاءً على سائق السيارة.

فسألت إحدى الفتَيات باهتمام: وهل حقًّا خيَّرها الباشا بين بقائه هو أو السائق؟

– نعم.

– وماذا كان جوابها؟

– السائق …

ولبث يلتقط الأحاديث من هنا وهنالك، طورًا في يقظة وانتباه، وطورًا شاردًا ذاهلًا، حتى لاحت الحدائق ساهرة في ضوء القمر كأعذب الأحلام، ونهض الصحاب مُهتمين، ثم دعاهم عفت بك إلى البوفيه.

٤٢

استبقوا إلى الموائد، واتَّخذوا مجالسهم، وأُترعت الكئوس، وملأ عفت كأس إحسان، وكانت أول مرة تشرب في جماعة، فقالت بصوتٍ خفيض: حسبي كأسٌ واحدة.

فقال الشاب ضاحكًا: هلا تلفَّعت بخمار التقوى وذهبت إلى «السيدة» للوعظ والإرشاد؟!

ثم همس في أذنها: انظري إلى حكمت، إنها تشرب زجاجةً كاملة دون أن يبوح لسانها بسِر.

ورأت إحسان الجميع ينظرون إليها لتبدأ بافتتاح الحفل، فرفعت كأسها في شيء من الارتباك، فارتفعت الأيادي بالكئوس، وهتفوا جميعًا باسم مدير المكتب، ثم أفرغوا كئوسهم حتى الثمالة. وسُرعان ما مزَّقت السكاكين اللحوم، ثم التقطتها الشوكات وسلَّمتها إلى الأفواه النَّهِمة، وتحوَّل المقصف إلى ميدان، دارت به معركةٌ بالغة في عنفها، بالغة في لذَّتها، وتعدَّدت ضحاياها من الأطعمة والأشربة. وتنبَّهت إحسان إلى أن عفت بك يتعمَّد أن يلمسها وهو يميل نحوها ليملأ كأسها، وأن حذاءه مس حذاءها أكثر من مرة، ولكنها لم تُشجعه. وأكل محجوب وشرب بنهم، لا طلبًا للذة، ولكن هربًا من مشاعره؛ لأنه ما انفكَّ يُفكر في البيت القائم أمام المحطة مذ رسا اليخت إلى شاطئ الحديقة، تولَّاه شعور بالكآبة والخوف لم يستطيع منه فكاكًا. تُرى ماذا يفعل والداه في هذه اللحظة؟ ألا يزال والده طريح الفِراش؟ وما عسى أن تفعل أمه؟ … هل نفِدت النقود؟ … هل باعا بعض الأثاث القديم؟ ألا يحتاجان لشيء من فُتات هذه المائدة؟ … كيف يتخلَّص من شعور الضِّيق والكآبة؟! من له بمن يُخضع شعوره لقسوة عقله الحر؟! وقد أفرط في الشراب، وثرثر بغير حساب، ولم يألُ جهدًا في الهرب من باطنه، والارتماء بين أيدي المُحيطين به، واختلط الحديث أيَّما اختلاط. وسأل سائلٌ جماعة المتزوِّجين: هل حقَّق الزواج أحلامهم؟ وتبادل الأزواج نظرات الحيرة وضجُّوا ضاحكين. وسأل آخر عن أمتع ما في الزواج، فقال شابٌّ مُتزوج: إنه الحب. وقال آخر: إنه الخلاص من الحب! وقال ثالث: إنه تحديد النسل! وأجاب محجوب في سِره: «بل هو القرن الذهبي!» وقال حسني شوكت بلا مناسبة: خسِرت في الأسبوع الماضي خمسة عشر جنيهًا.

فقالت له خطيبته: البقيَّة في الأسبوع القادم!

وقال أحمد عاصم: يقولون إن سيِّئ الحظ في القمار سعيد في الحب.

فقالت فتاةٌ مُبتسمةً: ذلك لأن سيِّئ الحظ في القمار لا يعرف الغش!

وقال شوكت مرةً أخرى: إن أعجب مقامرة شاهَدتها في حياتي كانت مقامرة شاب بعشيقته!

فلاحَ الاهتمام في وجوه الجميع، وسأله كثيرون: حقًّا؟ … وكيف كان ذلك؟

فأجاب الشاب الثَّمِل قائلًا: إنه صديقٌ حميم، وقد اصطحب يومًا عشيقته إلى نادٍ خاصٍّ من أندية القمار، فخسِر جميع نقوده، وكانت الخمر قد لعِبت برءوس الجميع، فاقترح عليه سكران أن يُقامر بعشيقته على كل خسارته؛ فإما استردَّ نقوده وإما خسِر عشيقته، فقبِل الاقتراح وقامَر عليه، وخسِر عشيقته …

– وهل رضِيَت المرأة؟!

كانت في حالة سُكْر بيِّن، وقد انتقلت مِلكيتها إلى الرابح، أو — وهو الأصح — انتقلت ملكيته إليها.

– من عسى أن يكون ذلك الصديق؟

– أما هذا فلا؛ لأن أحد الطرفين موجود بيننا.

وتبادلت الأعيُن نظرات الإنكار، وابتسمت الثغور في ريب، ولاحَ الفضول في جميع الوجوه خاصةً النساء، وسألت إحسان عفت بك: من هذا المُقامر يا تُرى؟

فسُرَّ الشاب بسؤالها وفسَّره على هواه، ثم قال: لا يدري ذلك إلا الأستاذ شوكت، ولعله لا يدريه أيضًا.

– أيُعجبك هذا النوع من القمار؟

فقال كالساخط: أنا لا أُقامر بمن أحب …

وأدركت أنها تكلَّمت أكثر مما ينبغي، وأجمعت على ألا تشرب غير كأسها الثالثة، ودارت رءوس ورءوس، فتشاحن زوجان علانيةً وتبادلا السِّباب، وكاد الأستاذ حسني شوكت يفقد صوابه، وانتشى محجوب عبد الدائم، ولعبت الخمر بعقله فتناسى همومه، وأكبَّ على الحديث والضحك.

ولما فرغت الصِّحاف والزجاجات هتف بهم عفت قائلًا: هلمُّوا إلى الحديقة …

وردَّدوا قوله: «إلى الحديقة … إلى الحديقة.» ومضَوا أزواجًا وأفرادًا.

وأراد محجوب أن يتخلَّف في اليخت كما كان اعتزم، وتنحَّى جانبًا، بالرغم من سُكْره الشديد، ولكن لاحت منه نظرة فرأى زوجه مُتأبطةً ذراع عفت بك في مقدمة الراحلين، فهاجَ دمه، وقرض أسنانه بحنق، وعثر به بعض الإخوان فتأبَّط ذراعه ودعاه إلى المسير معه، فلم يُقاوم، ونسي عزمه ومخاوفه. وكانت الحديقة تموج بجماعات المُرتادين نساءً ورجالًا، بين سائرين يتضاحكون، وجالسين يأكلون ويشربون، وهؤلاء وأولئك ينفثون المرح في كل مكان، وقد ألَّفت بينهم جميعًا دواعي الغِبطة وأواصر الشباب والسرور وحب الفكاهة والمزاح، فاشتبكوا في الحديث على غير سابق معرفة، وتراشقوا بالنِّكات بغير استئذان، صاعدين هضبةً مُعشوشِبة أو هابطين مسيلًا بين الزهور، مُعتصمين بخميلة من اللَّبْلاب والياسَمين أو عابرين قنطرةً على جدولٍ يسيل بلُجَين القمر، والبدر يُطلُّ عليهم من علياء السماء في مَوكبه الأبدي تحفُّ به الكواكب والنجوم، غامرًا الدنيا بنوره البهي، وطابت النفوس وصفت، فراحَ ذوو الأصوات الجميلة يسجعون الأغاني، وانطلق العازفون يستنطقون الأوتار. وكان أصحاب اليخت يمضون في المماشي باعثين ضجيجًا صاخبًا، وكان الأستاذ حسني شوكت يُعربد بلا مُبالاة، فلفت نحوهم الأبصار. وسار محجوب إلى يمين زوجه — وعفت بك إلى جوارها — وقد بلَغ به السُّكْر. وكان يتكلم ويضحك، ولكنه كان مُتغيظًا على الفتى الذي يُلازم زوجه كظلِّها، وعلى سُكْره ومرحه لم يستطع أن ينسى أنه في القناطر، في بلده، على كثب من والدَيه البائسين، فجعل ينظر فيما حوله بحذر، ويُقاوم جهده شعور القلق الذي يُساوره. وفكَّر أكثر من مرةٍ أن يَقفل إلى اليخت، ولكنه ظلَّ مُستسلمًا لتيَّار الرِّفاق. وحدَث أن أوقفهم حسني شوكت عند بائع تِين ليبتاع منه، وكان البائع عجوزًا يتوكَّأ على عصًا من كِبَر وعجز. تذكَّر محجوب أباه في غمضة عين. وجدُّوا في طريقهم وصورة الرجل لا تُفارقه؛ فأبُوه إذا قُدِّر له أن يترك الفِراش فلن يكون إلا صورة من هذا الرجل، ولن يخطوَ خطوة بغير عصًا يتوكَّأ عليها. وتفكَّر مليًّا ثم قال لنفسه: «ولا يبعد إذا تحطَّمت وسائله أن يرفع سلة تِين ويسرح بها!» ومن يدريه؛ فلعلَّه يسرح الآن بسلة تين في موضعٍ ما من البلد؟ وألقى بطرفه ناحية المحطة وهو يمشي كالمترنِّح وقد انقبض صدره انقباضًا شديدًا، لم يعُد يُشارك الرفاق لهوَهم وسرورهم، وولَّى عنه الصفاء والسرور، وغلبه القلق والحزن والخوف. كان مجيئه خطأً كبيرًا، ولكن هل كان تخلُّفه يغيِّر من واقع الأمر شيئًا؟ … إذا كان تقدير أبيه صادقًا فقد مضى عليه الآن ثلاثة أشهُر وهو بلا عَون، فماذا صنع بنفسه وبأمه …؟ وكيف واجَه عبوس الحياة في عجزه ومرضه؟! ثلاثة أشهر أو يزيد، يونيو ويوليو وأغسطس، وهذا الأسبوع من سبتمبر، أي ذلك الزمن الذي ذاق فيه حلاوة العيش وطِيب الحياة. وثقل رأسه، وخمدت نشوته مخلِّفةً خمارًا مصدَّعًا، وخانَته جراءته التي تستهين بكل شيء، حتى تساءل فزِعًا: أهذه يقظة ما يُسمُّونه بالضمير؟ أبعد تلك الثورة المدمِّرة التي شمِلت حياته الجامعية كلها، وبعد مواجهة التجربة الخطيرة ثلاثة أشهُر كاملة، والظَّفر بالنجاح المُطلَق، يجد نفسه في هذه الحالة الزرية من الجبن والألم؟ وكوَّر قبضته بعنف، ورفض بعنادٍ أن يعترف بضيعته وخوفه، أو بأن الذي يئنُّ في صدره ضمير، أو بأنه لا يزال يتأثَّر بعاطفة البُنوة. رفض ذلك رفضًا عنيدًا مَغيظًا، وقال يعزِّي نفسه ويُشجعها: إن هو إلا الخوف من فضيحة قد تهدِّد مركزه الاجتماعي، إنه لا يأسى على والدَيه، ولكنه يخاف أن يدفعهما البؤس إلى إزعاج حياته وتكدير صفو مجده. ومَوعدهما أول أكتوبر؛ فإذا تسلَّم ماهيَّته الجديدة اشترى طمأنينته ببضعة جنيهات يُرسلها إلى أبيه، وانتهى من هذا العذاب. وردَّد هذا الرأي في نفسه، وأكَّده له تأكيدًا شديدًا، وحاوَل أن يستعيد شجاعته وطربه. ولما عاوَده شعوره بما حوله وجد نفسه يخبط مُنفردًا، فنظر فيما حوله ذاهلًا فلم يجد إلا الأستاذ أحمد عاصم، وسأله عن الرِّفاق؟ فهزَّ كتفَيه قائلًا: «لا أدري.» فأدرك أنه ضلَّ الجميع. وشعر بتعب، وغثيان مُباغت، ثم انقلب يقيء …! وأخذه صاحبه من يده إلى اليخت، وهناك مضى به إلى مقصورة، فاستلقى على أريكة وراح في سُبات، ولم يدرِ كم لبِث، ولكنه كان يرى في مخيِّلته دائمًا بائع التين حتى خاله أباه بالذات، وقد قهره الشقاء على ذل السؤال.

٤٣

وعادوا إلى اليخت وقد نال منهم التعب، وبحَّت منهما الأصوات، وأبحر اليخت قبل منتصف الليل بقليل. وسألت إحسان عن زوجها فأخبرها أحمد عاصم بأنه نائم في مقصورة، ودعاها لاصطحابها إليه، ولكن عفت تطوَّع بالمسير بين يدَيها، وهبطا معًا إلى باطن اليخت، وتقدَّمها في ردهةٍ جانبية إلى باب مقصورة، وفتحه وأوسع لها، فدخلت وتبِعها على الأثر وردَّ الباب، ووجدت المقصورة خالية، وطالَعتها في وسطها صورة لعلي عفت على نضد، فتحوَّلت إلى الوراء فرأت صاحبها يقف وراء الباب يبتسم إليها بعينَين تنطقان بالهُيام والظَّفر، فأدركت أنه استدرجها إلى مقصورته، وخامَرها الخوف، فسألته مُتجاهلةً مقاصده: أين محجوب …؟

فقال والابتسامة لا تزال على شفتَيه، وقد احمرَّت عيناه الجميلتان من أثر الخمار: سنذهب إليه بعد استراحة قصيرة …

فسألته بلهجةٍ رزينة: لماذا أتيت بي إلى هنا؟

كانت ثقته بنفسه لا حدَّ لها، فكان جوابه أن جثا على ركبتَيه عند قدمَيها، وأحاط ساقَيها بذراعَيه، وضمَّها إلى صدره، وقال لها رافعًا إليها وجهه: لا تسأليني يا إحسان، أنت تعرفين كل شيء، والكلام في مِثل حالتي تحصيل حاصل، ألم يتكلم قلبي منذ أول لقاء بيننا؟ ألم يصرخ هذه الليلة حتى خِفت أن تصكَّ نَجواه آذان الحافِّين بنا …!

وتولَّاها الاضطراب والاستياء، وأمسكت بساعدَيه لتفكَّ السلسلة التي تطوِّقها، ودفعته بعنف، وصاحت به بصوتٍ خشنٍ غاضب: دعني من فضلك … دعني …

ثم أربد وجهها وعبس، فقرأ فيه الجِد والنفور، وتورَّد وجهه خجلًا، وأرخى ذراعَيه، ونهض واجمًا دون أن ينبس بكلمة، وفتح الباب حتى غادرت المقصورة، ثم دلَّها على مكان زوجها وعاد أدراجه. ووجدت محجوب نائمًا أو كالنائم، وكان في حالةِ إعياءٍ شديد، وقد علَت وجهَه صُفرةٌ شديدة …

•••

ورسا اليخت إلى قصر النيل حوالَي الساعة الثانية صباحًا، وعاد الزوجان إلى عمارة شليخر في سيارة أحمد عاصم، وكان محجوب أفاق قليلًا، ولكنه لبِث مُتعَبًا منهوك القُوى، وما اعتوَر روحَه وحالته المعنوية كان أدهى وأمرَّ. تركَت نكسة السُّكْر في روحه آثارها فانقبض صدره، وخمدت نشوته، وامتعضت نفسه، وأحسَّ الدنيا بحواسِّ المريض، وغابت إحسان قليلًا وجاءته بفنجان قهوة، وجلست قبالته على الشيزلنج، قالت له: أفرطتَ في الشراب …

فأحنى رأسه بالإيجاب وإن ذكرَ الأسباب الأخرى التي كدَّرت صفوه، وقال بسخط: لقد قبِلت الدعوة إلى هذه الرحلة على غير إرادتي …

فقالت تُدافع عن الرحلة: وما ذنب الرحلة؟ … كانت رحلةً جميلة طيبة …

فقال بحِدَّة: يا له من صفيقٍ سِي عفت بك هذا!

فابتسمت إحسان، وتردَّدت مليًّا، ثم غمغمت: انتهى … أوقفته عند حدِّه.

فثبَّت عليها عينَيه الجاحظتين الذابلتين المحمرَّتَين مُتسائلًا، فأوجزت له ما حدث، ولكنه أبى إلا أن تُسهب ولا تترك كبيرة ولا صغيرة، فروَت له الحادثة بحذافيرها، حتى انفجر قائلًا: صفيق … وقح، ولكنك أحسنت كل الإحسان، يا لهم من أرذال جميعًا! …

واتَّقدت عيناه، بيدَ أنه تساءل: بأي حق يعيب أي إنسان في هذه الدنيا وهو ما هو رأيًا وفعلًا؟ … وقال وكأنه يُجيب نفسه: نستغفل الناس إذا شئنا، ولكن لا نسمح لمخلوق بأن يستغفلنا.

فتفكَّرت في قوله وعلى شفتَيها ابتسامةٌ غامضة، وعاد يفكِّر في والدَيه، فصدَقت نيَّته على مد يد المعونة إليهما حتى ينفض عن حياته أي ظل للكدر، ثم عجِب كيف أن تغيُّرًا هيِّنًا في الجسم قد يُذهب بهجة الدنيا في غمضة عين، ويُحيل لذَّاتها وصفاءها ألمًا وكدرًا يزهقان النفس. واقترحت عليه إحسان أن ينام، ولكنه أراد أن يرتاح قليلًا بمكانه من المقعد، فمضت هي إلى الفِراش. وعاد يتساءل: ماذا يحدث لو لازَمه هذا التغير فدأب على تناول الحياة بحواس المرض والامتعاض؟! واقشعرَّ بدنه! … ولم يجد سوى جواب واحد: الانتحار! هكذا قد يقضي على نفسه من كرَّس نفسه للأنانية! ومع ذلك يوجد في هذه الدنيا أناسٌ يؤثِرون التعب والأهوال على السلامة، كصاحبه القديم علي طه، ولا يمكن أن يسلم مخلوق بأنه ليس لهم لذَّاتهم الخاصة بهم في نِضالهم وكفاحهم، فأية لذة هذه؟! أحقًّا للإيثار لذَّة كلذَّة الأثَرة؟ إنه يُجلُّ هذه اللذة ويحتقرها. وتمثَّل له علي طه بوجهه الجميل وحماسه المتَّقِد، وذكر عهد دار الطلبة ومأمون رضوان، فتحوَّل رأسه وهو لا يدري إلى الفِراش، ورنَت عيناه إلى إحسان وقد غطَّت في سُباتٍ عميق، فبدَت له الذكريات في إطار من الدهشة والأحلام …

٤٤

واستيقظ في ضُحى اليوم الثاني — الجمعة — وعاوَدته في الحال ذكريات الليلة الماضية مقرونةً بإحساساتها المُحزِنة، وغادَر الفِراش بهمَّةٍ متوثِّبة، واستحمَّ بالماء البارد ليُنعش جسمه ونفسه، وعاد إلى الصالة، فالْتَقى بزوجه، وقد سألته برِقَّة: كيف أنت الآن؟

فغمغم وقد ابتسم ابتسامةً دلَّت على الخجل والارتباك: عال … شكرًا لكِ …

وارتدى ثيابه وانطلق إلى الخارج، ومضى إلى حديقة صولت حيث اجتمع ببعض الزملاء من الموظفين، وشرِب كوبة من عصير الليمون، ولبِث ساعة بينهم يتحادثون هونًا، ثم غادَر المكان، تاركًا قدمَيه للطريق ينقله من شارع إلى شارع مُستسلمًا للذة المشي، فذكرَ الليلة الماضية فعبس وجهه، وهالَه ما بثَّته في نفسه من مشاعر الألم واليأس، وما أشاعته فيها من أفكارٍ سُود وخواطر ضعف واستكانة، وتولَّاه خجل لما اعتوَره من خور في الجسم والنفس، وقال لنفسه: «لقد ظفِرت حتى الآن بفضل حرية عقلي وقوة إرادتي وتلك الحكمة العالية: طظ … فلا يجوز أن أفرِّط في كنز من كنوزي الغالية!» … أجل، هُنالك وظيفةٌ سامية وطموح وجاه وخمر ونساء ومال وطعام وترف، فكيف يسمح بأن ينغِّص عليه هذه اللذاتِ أبٌ مشلول، وخواطر مرض، وغَيرةٌ جنونية؟! وسُرعان ما استردَّ نشاطه وحيويَّته، وعقليَّته الصارمة الساخرة، واستقبل الحياة مرةً أخرى بجسارته المعهودة وطموحه الذي لا يعرف الحدود، وبدا كل شيء كأنما يسير في مجراه الطبيعي، وكأن الحياة ستظلُّ مُذعنةً لمنطقه أبدَ الدهر. وجاء يوم السبت وقد انتصف سبتمبر، فأثبتت له حوادثه أنه إذا كان يستطيع أن يتحكم في نفسه فإنه أعجز من أن يدَّعيَ القدرة على التحكم في الحوادث …

كان السبت يوم قاسم بك فهمي، وكان محجوب يُغادر الشقة في تمام السابعة مساءً ليهيِّئ للرجل الخلوة المنشودة، ولكن كانت الساعة السادسة حين رن الجرس، ولم يكُن الشابُّ يتوقَّع قدوم أحد في تلك الساعة، فدلف إلى الردهة الخارجية ليرى القادم، وفتحت الطاهية الباب فرآه كما أراد. لم يصدِّق عينَيه، وجعل يُحملق بذهولٍ جنوني. رأى أباه، أباه دون غيره من البشر، وقد وقف الرجل على عتبة الباب مُتوكئًا على عصاه، مُلقيًا إليه ببصرٍ جامد مُكفهر. سُمِّر كلاهما في مكانه، وجمدت عيناهما لا تتحوَّلان. وكابَد محجوب في تلك اللحظة الرهيبة شعورًا بالخوف والقنوط والهزيمة لم يشعر بمِثله من قبل، ثم مزق الأب السكون الأليم فقال بصوتٍ ضعيف ولكنه واضح ينمُّ عن الألم والتهكُّم المرير: ألم تعرفني بعد … لماذا لا تهرع إلى استقبالي؟!

وأفاق الشاب من ذهوله، فاقترب من أبيه في خُطًى مُتهالكة، ومدَّ إليه يده، ولكن الرجل تجاهلها، فقال محجوب بارتباك وتلعثُم: تفضَّلْ يا والدي … تفضَّلْ …

فتحرَّك الرجل مُتوكئًا على عصاه يسير في خطواتٍ ثقيلة، وقد تقوَّس ظهره، وتهدَّم بُنيانه، وجعل يتفحَّص الأثاث والجُدران بعينٍ ملؤها الإعجاب الهازئ، ويقول: ما شاء الله … ما شاء الله … لشدَّ ما تُعاني يا بُنيَّ مرارة البؤس والفقر؟!

فاشتدَّ ارتباك محجوب وحصِر، فما استطاع أن ينبس بكلمة. ها هو ذا والده يملأ الشقة بالفزع وعمَّا قليلٍ يأتي قاسم بك. حقيقتان لا يدري كيف يمكن أن يجتمعا، ومع ذلك فهُما واقعتان لا محالة وإن أشفق من التفكير في عُقباهما. تُرى كيف يذكُر غدًا هذا اليوم الخطير؟! أيذكُره كما يذكُر مأزقًا خطيرًا نجا منه بأعجوبة؟ أم يذكُره يومًا أسود انهارت فيه آماله جميعًا؟ ولم يستطع في انفعاله الأول أن يُحسِن التفكير ولا التدبير. وفتح عند ذاك باب حجرة النوم، وبرزت منه إحسان، ولعلَّه بعثها للخروج ما سمِعت من صوت وحركةٍ غير عادية، فعجِبت لوجود الشيخ الغريب، وألقت على هيئته الرثَّة نظرة إنكار. وحول عبد الدائم أفندي إليها رأسه، فلاحت على شفتَيه ابتسامةٌ حزينة، وقال بغير مُبالاة مُلتفتًا إلى ابنه: زوجتك؟! (ثم حوَّل رأسه إليها) أهلًا بزوج ابني، أنا حَمُوك يا عروس؟!

وحدجت إحسان في وجه زوجها فهالَها جموده وارتباكه وكآبته، وآنَست في عينَيه نظرةً مُنكسرة لم ترَها من قبل، فلم تشكَّ في صِدق الرجل، ولم تكُن تعلم شيئًا عما بين الرجلَين مما يستوجب المَوقف الذي يقفه زوجها، ولكنها لم تتردد عن القيام بواجبها، فاقتربت من القادم ومدَّت له يدها باحترام، ودَعته إلى الجلوس. وكان محجوب يرى ما يقع أمامه بعينَيه الذاهلتين، ولكنه كان انتقل من ذهولٍ سلبي إلى ذهولٍ إيجابي، فجعل يستصرخ إرادته وعقله لينتشلاه من ورطته، وأخذ يُفيق من وقع المُباغَتة فلم يرتَح لوجود زوجه، وأومأ لها إيماءةً خفيَّة بالانسحاب، فلم تلبث أن تراجعت بلطف. وتوثَّب بجامع قوَّته ليمتلك زِمام الموقف ويستردَّ عقله وإرادته، وأعانه على ذلك الخطر الذي يتهدَّده باقتراب موعد الوزير. أجل، ينبغي أن يُخفيَ أباه عن عينَي القادم عما قليل، ويُعالج أمره في خلوة وهدوء. هو أبوه على أية حال، وليس شيطانًا ولا قضاءً وقدرًا. وقال له بصوتٍ رقيق ليِّن: تفضَّلْ معي يا أبتي …

وأعطاه ذراعه، فلم يرفض الرجل، وأدرك أنه يريد أن يُحادثه على انفراد، فنهض بمعونته، وسار به محجوب إلى حجرة الاستقبال على يمين الداخل، ثم أغلق الباب، وكان عقله لا يني عن التفكير: ما الذي دلَّه على مَسكنه؟ ما الذي جاء به؟ وهل من المصادفات أن يجيء في يوم الوزير وقبل مَوعده بقليل؟ وشمَّ في الجو رائحة مؤامرة نتِنة، وتخايَل لعينَيه شبح الإخشيدي بوجهه المثلَّث وعينَيه المُستديرتين، فسَرَت في جسده رعدة، وامتلأت نفسه حنقًا وكراهية. تُرى هل أفشى سرَّه كله؟ … ربَّاه أي كارثة ترصده؟ … ولكن كلَّا … أبوه لا يعلم بسرِّه الخطير، وإلا ما استطاع — وهو الريفي الغَيور — أن يتمالك أعصابه، ولكن البغيض جاء به في الوقت المُناسب لعله أن يكتشف الحقيقة بنفسه لتكون الصدمة أفظع، وتفصَّد جبينه عَرقًا باردًا …

وصوَّب الرجل نحوه نظرةً مُلتهبة، وقال: لماذا تقف أمامي هكذا؟ لماذا لا ترحِّب بي؟ … وكيف لا تهنِّئني بالشفاء؟

وسكت الرجل الغاضب حتى تمالك أنفاسه، ثم استدرك بلهجةٍ ساخرة قاسية: لشدَّ ما آلَمني ما علِمت من فقرك وبؤسك وسعيك عبثًا في سبيل الحصول على وظيفة، فحفزني ذلك على ترك أمك وحدها في القناطر، والحضور بنفسي لمواساتك، أعانك الله يا مسكين!

واستطاع محجوب أن يتكلم بعد أن أغلق الباب واطمأنَّ بعض الاطمئنان: أبتي … لا تتهكَّم بي … أنا أعلم أني أستحقُّ غضبك، ولكن دعني أشرح لك ما التبس عليك فهمه، والحكم لك …

– وهل من حاجة إلى الشرح يا بُنيَّ؟ … حسبي أن أنظر فيما حولي لأُدرك في أي شقاء تعيش! …

فعضَّ محجوب على شفتَيه وقال: أبي … والله ما غفلت عنك قط، ووالله ما سنحت فرصة لمساعدتك فأهملتها، ولكن ظروفي قاسيةٌ رغم هذه المظاهر الخدَّاعة؛ لذلك لم يرتَح لي جنب، وما كان ليقرَّ لي قرارٌ قبل أن أطمئنَّ عليك وعلى والدتي …

فاشتدَّ اكفهرار وجه الشيخ وقال بحدَّة وحنق: ظروفك قاسية أيُّها الابن البار؟! … ماذا تنتظر حتى تتفضَّل علينا بجنيهَين؟ أتنتظر الوزارة؟! إني أعجب كيف طابت لك الحياة وأنت تعلم أن والِدَيك يُعانيان الفاقة والجوع والتشريد! لقد استصرختك باكيًا، ولكني علِمت فيما بعدُ أني خاطبت ضميرًا ميتًا. تركتنا للعجز والفقر حتى بِعنا أثاث بيتنا، وها أنت تنعم بالوظيفة العالية، والماهية الكبيرة، والمَسكن الوثير، ولكنك لا تجد في ذلك كله إلا ظروفًا قاسية لا تسمح لك بأن تُنقذنا من التسوُّل، أليس كذلك أيها الشابُّ الهُمام؟

امتقع وجه محجوب حتى حاكى وُجوه الموتى، شعر كالمُختنق الذي ينتفض ويقتتل عبثًا لاستنشاق نفس واحد. ولم يكن كلام أبيه قد حرَّك قلبه، ولكنه أربكه وكربه وأوقعه في ضِيقٍ شديد، فقال: لشدَّ ما يؤلِمني كلامك يا والدي، أصغِ إليَّ، سأُكاشفك بالحقيقة وأُصلح خطئي، وأكفِّر عما تتَّهمني به من عقوق. يعلم الله أني كنت سأزفُّ إليك أنباء توفيقي وأُمدُّك بالمعونة أول الشهر القادم. لقد وُفِّقت إلى وظيفتي منذ شهرين، وكنت مُعدمًا، فكان عليَّ أن أهيِّئ نفسي بالمَظهر اللائق، وإلا ضيَّعت على نفسي فرصةً لا تسنح في حياة مرَّتَين، فاقترضت مبلغًا كبيرًا ما زِلت مَدينًا به. هكذا فُزتُ بالوظيفة، ولكن لا زِلت أُكابد الارتباك والفاقة، هذه هي الحقيقة.

فهزَّ الرجل رأسه في رِيبة، وقال بامتعاض: إنك تُعنى أكثر مما ينبغي بالمَظهر اللائق، والمَسكن الأنيق، والمآدب الفاخرة! …

فأدرك محجوب أن الإخشيدي وفَّى وشايته حقَّها، وقال وهو يُغالب عواطف الحنق والغضب: هذه المظاهر وإن بدت كماليةً إلا أنها من ضرورات وظيفتي …

– وهل من ضرورات هذه الوظيفة المجيدة أن نتضوَّر جوعًا؟!

فقال الشاب وهو يبذل الجهد المُستميت ليُداريَ غضبه وحنقه: كلَّا يا أبي، لقد أبَنتُ لك عن حسن مقصدي؛ فلا تثبِّط همَّتي بنِقمتك، ودعني أُتم بنجاحي …

– أحسبه لا يتمُّ إلا بقتلنا …

– بل سيتمُّ بما فيه سعادتنا جميعًا …

وسكت عبد الدائم أفندي مليًّا وهو يرنو إليه بنظرةٍ مليئة بالرِّيبة وسوء الظن، ثم قال مُتسائلًا: إذا كانت هذه حالتك فكيف تزوَّجت؟! … لماذا لم تؤجِّل الزواج إلى ميسرة؟! وكيف تتزوَّج دون إخبارنا فضلًا عن الرجوع إلى رأينا؟ …

وارتاح محجوب لتساؤل والده هذا الذي أكَّد له جهله بالسر الخطير، وقال بصوتٍ خفيض: كانت الزِّيجة ثمن الوظيفة كما يحدُث في أيامنا هذه كثيرًا، لقد صاهَرت أسرةً محترمة تمتُّ إلى الوزير بصِلة القُربى، وكانت الزِّيجة من أسباب ارتباكي، ولعلَّك أحطتَ الآن بالظروف القاسية التي اكتنفت حياتي في الشهرَين الماضيين.

بيدَ أن الرجل لم يكُن مطمئنًّا، واشتدَّت بالشاب حالة التوتُّر والاستياء، وشعرَ كلاهما بأن لديه ما يقوله، ولكن جرس الباب الخارجي رنَّ بغتةً، وفُتح الباب ثم أُغلق: وسمِعا وقع أقدام ثقيلة في الدِّهليز يعرفها محجوب حق المعرفة …

٤٥

وخفق قلبه بعنف، وسرَت في جوارحه رعدةُ خوف لم يجد عليها من سلطان، وتخايَلت لعينَيه مرةً أخرى صورة الإخشيدي البغيضة. تُرى كيف تنتهي هذه الليلة؟ أيذكُرها في المستقبل وهو يضحك أم وهو يبكي؟ وسمِع أبوه وقع أقدام القادم فسأله: هل كنت تنتظر ضيفًا؟

فقال بلا تردُّد وهو يتظاهر بالهدوء: نعم … هذا حمايَ جاء لزيارة كريمته …

– ألا تذهب للقائه؟

فتلجلج لحظاتٍ ثم قال بحزم: كلَّا، ستجد زوجي عذرًا تنتحله لغيابي، وسأقدمك إليه في وقتٍ آخر …!

وساد الصمت، وقد شعر الشيخ بأن ابنه يتأفَّف من تقديمه إلى حميه، فنكس ذقنه في سكون وحزن. وجلس محجوب قريبًا من الباب يُحاول جهده أن يضبط عواطفه، واختلس من والده نظراتٍ غاضبةً تنمُّ عن حنَقه وحِقده، ينبغي أن تنتهيَ الليلة بسلام. أحسَّ في باطنه بأنه إذا انتهت الليلة بسلام فقد نجا بحياته وآماله إلى الأبد، ولكن ما الذي يدعوه إلى الخوف؟! قد بلَغ الوزير المكان الذي يُريده بسلام، ونمَّت حالة والده على أنه يجهل سره الخطير، فما عليه إلا أن يأخذ نفسه بالصبر والانتظار حتى يذهب البك — كما جاء — بسلام. بيدَ أنه لبِث — على رغم ما تبشِّر به الحوادث — قلقًا مُغتمًّا، وزاد من توتُّر أعصابه أن والده عاد يقول بنبراته الدالَّة على الإنكار والمرارة: لو كان قلبك حنونًا يا بُنيَّ لاستهان بضرورات الوظيفة التي تعتذر بها، ولشقَّ عليك أن تترك والِدَيك يتضوَّران جوعًا. وأعجب لوالدتك ما برِحت تدفع عنك جاهدةً الظنون، ونبذت ما نُقِل إلينا عنك، وقالت لي: «ستُبدي لك الأيام أني أعرَفُ بِابننا منك.» فلَيتها جاءت معي لترى بعينَيها …!

وشعر محجوب بضجر، وضاق بالرجل الذي لولا وجوده لم يكُن في المأزق الذي هو فيه، وتوثَّب للرد عليه، ولكن الجرس دقَّ مؤذنًا بقادمٍ جديد، فوجب قلب محجوب وجيبًا مؤلمًا. من يكون الطارق؟ هل من جديد؟! وفتحت الطاهية ثم سمِع صوتًا يتكلم بحِدَّة، فتميَّز الشاب غيظًا، ومضى إلى باب الحجرة وفتحه، فرأى سيدةً تُزيح الطاهية من طريقها وتدخل في حالة هياج عصبي شديد. كانت السيِّدة أرستقراطية المظهر، أنيقة الزِّي، فتولَّته الدهشة والانزعاج، ثم ارتاع وذُعِر وأعيا عليه القول، ورأته المرأة فأقبلت نحوه بهيئةٍ مُتعجرفة، تقدح عيناها شررًا، حتى وقفت أمامه وسألته بازدراء: أأنت المدعو محجوب عبد الدائم؟

وكان محجوب في حالةٍ جعلته مهيَّأً للذُّعر والتشاؤم، وحدَّثته نفسه المُضطربة بأنه ضحية مؤامرة غادرة، أبوه أداة من أدواتها القتَّالة، وغلبه القنوط، وأيقن أن مجده بات معلَّقًا بخيطٍ وشيكِ الانقصاف. نظر إلى المرأة بإنكار، وقال بصوتٍ مُنخفض مُشفقًا من صوتها المُرتفع الذي يصكُّ أذُنَي أبيه: نعم يا سيِّدتي، أنا هو …

فعبست حانقةً ولوَت شفتَيها اشمئزازًا، وقالت بلهجةٍ قاسية: هلَّا دلَلتَني على الحجرة التي ينفرد فيها زوجي بالسيِّدة المَصون زوجك؟

فنفَذ الكلام إلى قلبه فشقَّه شطرَين، وخارت قُواه، وأوشك أن يذهل عما حوله، وتحوَّلت المرأة عنه كالمجنونة إلى باب المَخدع، وأدارت الأكرة، ولكنها وجدت الباب مُغلَقًا، فدقَّته براحة يدها بشدة صائحةً بغضبٍ جنوني: افتحا الباب، افتح أيها الرجل والوزير الخطير. لقد برَح الخفاء، ورأيتك بعينيَّ داخلًا هذا الماخور … افتح وإلا حطَّمت الباب.

وبلَغ اليأس بالشاب نهايته، فوقف مكانه لا يُبدي حَراكًا، وكأنه يرى فاجعةً خطيرة لا تعنيه ولا يُناط بها مصيره، وكأنه كبُر عليه أن يصدِّق أن مجده الذي حشد له ما حشد من قوة وفِكر، وبنى عليه ما بنى من آمال، يمكن أن يصير في بعض الدقيقة أثرًا بعد عين. وشعرَ بوالده يقترب منه ويسأله بصوته الذي بات يمقُته مَقتًا: ماذا هُنالك؟ … ماذا تقول هذه السيِّدة؟

ولكن لم يكلِّف الشاب نفسه مئونة الرد عليه، وكأنه لم يسمع قوله، فلم يعُد يُباليه، ولم تكفَّ المرأة عن دق الباب، وصاحت حانقةً: إني أُنذرك بأنك إذا لم تفتح الباب طوعًا فتحته كَرهًا بقوة الشُّرطة.

فاستجمع محجوب قُواه المشتَّتة ودنا من السيدة، وقال لها بصوتٍ ينمُّ على الرجاء: سيِّدتي …

ولكنها لم تتركه يُتمُّ كلامه، فتحوَّلت إليه ولطمته على وجهه بشدة وغِل، وصاحت به: لا تنبس بكلمة أيُّها القوَّاد الخسيس …

فتراجع محجوب مروَّعًا إلى مَوقف أبيه وهو لا يدري به، وانفتح عند ذاك الباب، وبرَز منه قاسم بك فهمي ثم أغلقه وراءه، وسمِع صرير المِفتاح من الداخل، وكان الرجل يُحاول أن يتظاهر بالثبات، ولكن ارتباكه كان أعظم مما تنفع فيه المُداراة، وقال لزوجه بسرعة: هلمِّي معي إلى الخارج من فضلك …

فصاحت به وقد جُنَّت غضبًا: افتح هذا الباب، لا بد من فتحه.

فقال لها بصوتٍ خفيض: خفِّضي من صوتك يا هانم … هذا لا يليق بك …

فصاحت به بتهكُّم: حدِّثني عما يليق وعما لا يليق يا معالي البك. هل من اللائق يا تُرى أن أضبطك في مَخدع زوج هذا القوَّاد الصفيق؟! وهل يسرُّك أن يطَّلع ابنك وابنتك على سيرتك المحمودة؟!

– كفى … كفى، هلمِّي معي ولنسوِّيَن خلافنا في بيتنا.

وحاوَل أن يُمسِك بساعدها، ولكنها نترت ساعدها من يده باحتقار وصاحت به: سأُغادر هذا البيت الملوَّث، ولكن لا تمنِّ نفسك بتسوية الخلاف، لقد فاض الإناء، فلا تفاهُم بعد اليوم، ولأنتقمنَّ منك انتقامًا يكون الدهر عِظةً لأمثالك من المُستهترين.

ومضت المرأة نحو الباب الخارجي، والبك في أعقابها، وذهبا معًا.

•••

وتمتم محجوب بصوتٍ مبحوح: انتهى كل شيء.

أعجب بها من حقيقة! أيُخفِق ذاك الكفاح الجبَّار ولما يتسلَّم ماهيَّته الجديدة؟

أتُصاب الحظوظ كالأعمار بالسَّكتة القلبية؟!

وقطع عليه تفكيرَه صوتُ أبيه وهو يسأل محزونًا: ما معنى هذا يا بُنيَّ؟

وكأن هذه الجملة نفطٌ أُلقيَ على صدره المُلتهِب، فالتفت نحوه هائجًا تقدح عيناه شررًا، وقال بحنَق وحِقد: انتهى كل شيء، انتهت الوظيفة والماهية. هلمَّ نتسوَّل معًا …

وارتسمت في عينَي الرجل الذابلتين نظرةٌ زائغة ذاهلة، وبدا في حَيرةٍ قتَّالة وكربٍ عظيم. لم يصدق ما رأت عيناه ولا ما سمِعت أذناه، كابَد الألم المُمضَّ والغضب المُختنق، ولولا ما آنَس من قنوط ابنه وهذَيانه لانفجر بُركانه. لم تنتهِ الوظيفة والماهية فحسب، ولكن ابنه نفسه انتهى، ولم يعُد ذا مال ولا ولد، وسيقول لامرأته إذا عاد إلى بلده: لا تسألي عن محجوب؛ فقد انتهى محجوب وغدا ذكرى من الذكريات. وشعرَ عند ذاك بإعياء وخوَر، وبأنه يسقط إن لم يطمئنَّ إلى مجلس، فولَّى الشاب ظهره، وعاد أدراجه في خطواتٍ ثقيلة، مُتوكئًا على عصاه يكاد يقع على وجهه.

وارتمى محجوب على مقعده في الصالة، مُرتفقًا يد المقعد، مُسندًا رأسه إلى راحته. وكان السكون شاملًا كأنه بيتٌ مهجور، وكل شيء بمَوضعه كأن أمورًا خطيرة لم تنقلب رأسًا على عقِب. هل تستطيع روحه الثائرة أن تصمد لهذا الشلَّال العارم من الحظ العاثر؟! هل يمكن أن ينبريَ لمواجهة هذه الأزمة الخطيرة بدرعه المعهود: طظ؟ وما الحيلة إذا لم يستطع؟ … ما عسى أن يصنع أنانيٌّ مِثله، لا يهمُّه في الدنيا شيء إلا نفسه، إذا تألَّب الشقاء على سعادته؟ أمامه سبيلٌ واحد هو الموت! تبًّا لحظِّه! كيف انتهى مجده بهذه السرعة الجنونية؟! ألا تكتظُّ الدنيا بأمثاله من المُغامرين الذين تترفَّق بهم حتى النهاية؟! وتنبَّه من تأمُّلاته على وقع أقدام خفيفة، فرفع رأسه المُثقَل، فرأى إحسان أمامه تُطالعه بوجهٍ تعلوه صُفرة الموت. الْتَقت عيناهما في صمتٍ أليم وكأن كِلَيهما يقول لصاحبه: «أهذه نهاية الكفاح والتعب؟!»

وخرجت عن صمتها أخيرًا، فسألته بنبراتٍ مُتضعضِعة: هل ذهبوا؟

فأجابها في مِثل نبراتها: أجل … كما ترَين.

فتردَّدت هُنيهةً ثم سألت: ما عسى أن ينتظرنا؟

وكيف يدري هو؟! بيدَ أنه هزَّ رأسه وقد أخذت يُسراه تشدُّ حاجبه، وقال: لا أعلم الغيب، يحتمل حدوث أي شيء، ولكن لا مفرَّ من التشاؤم؛ فالأمر المؤكَّد أن أحلامنا تبدَّدت. هذه هي الحقيقة.

وساد صمتٌ ثقيل، ولاحت في عينَيها نظرةٌ غائبة، وجعلت تستحضر من الماضي ما أودعته من ذكريات، ذكرت آمالها وكيف خابت واحدًا بعد آخر، فاعتلج بصدرها الألم والحسرة حتى اغرَورَقت عيناها، وأغرق محجوب في أفكاره مرةً أخرى، ولكنه لم يستشعر الندم ولا أقرَّ بالخطأ، كلَّا، ولا عدَل عن رأي، وراح يتساءل: هل يتكشَّف الغد عن حياةٍ جديدة أو لم يبقَ له إلا الموت؟! بيدَ أنه غُلِب على أمره هذه المرة، فاستسلم لليأس والقنوط، وغشِيَت عينَيه سحابةٌ مُظلمة، وحاوَل جهده أن يهيب بروحه المتمرِّدة، وغَمغم بصوتٍ لا يكاد يُسمع هامسًا: «طظ.» ولكنها نمَّت — على خلاف عادتها — عما يُكنُّه فؤاده من اليأس والاستسلام.

٤٦

اجتمع الرِّفاق الثلاثة — علي طه وأحمد بدير ومأمون رضوان — بإدارة مجلة النور الجديد التي يُصدِرها علي طه، وكان مأمون رضوان يُكثِر من اجتماعه بصاحبَيه ليتزوَّد منهما قبل سفره الوشيك، ولم يكُن للناس من حديث في تلك الأيام إلا حديث الفضيحة الكبرى التي لاكَتها الألسُن في كل مكان. قيل: إن حرم قاسم بك فهمي همَّت بنشر بيان في الصُّحف عن الأسباب التي أدَّت إلى طلاقها من زوجها. وقيل: إن بعض الجهات تدخَّلت في الأمر وأقنعتها بالعدول عما كانت أجمعت عليه، وانتهت المسألة باستقالة الوزير، وسحب مذكرة ترقية مدير مكتبه من مجلس الوزراء ونقله إلى أسوان. استُبعدت الفضيحة من أعمدة الصحف، ولكنها لم تعُد تخفى على أحد، وقد خاض فيها الرفاق بأسفٍ شديد؛ لأنهم لم ينسَوا زميلهم القديم، ولا نسوا عهد الزمالة والجيرة بالجامعة ودار الطلبة. وكان علي طه أشدَّهم ألمًا، ولكنه لبث ألمًا دفينًا يعتلج مع بواعثه الباطنة، وقد قال أحمد بدير: أتذكُرون أحاديث صاحبنا البائس المُستهترة؟ أتذكُرون طظ المشهورة؟ … لطالما حسبت ذلك لغوًا وسخرية وفُكاهة لا شأن لها بالعقيدة والعمل …

فقال مأمون رضوان بنبراتٍ تنمُّ عن الأسى: إذا تزعزع إيمان الإنسان بالله غدا صَيدًا سهلًا لكل شر.

فابتسم علي طه على حزنه وشجَنه، وقال: اسمح لي أن أحتجَّ على هذا الاتِّهام!

فقال مأمون رضوان مُستدركًا: أنت لك إيمانك الخاص وإن كنت أراه دون الكفاية …!

وابتسمت عيناه النَّجلاوان، وتساءل قبل أن ينبس أحد بكلمة: تُرى أنصيرُ في المستقبل عدوَّين لدودَين؟

فقَهقَه أحمد بدير ضاحكًا وقال: لا شك في هذا، ستُهاجمك هذه المجلة التي تُباركها الآن بتمنِّياتك، وستتَّهمك غدًا بالرجعية والجمود، وستتَّهم أنت صاحبها — صديقك — بالزيغ والكفر والإباحية، ومن يعِش يرَه!

وابتسم الأصدقاء الأعداء، ثم قال مأمون رضوان بثقة وإيمان: مأساة اليوم هي مأساة الزيغ!

فهزَّ علي طه رأسه في شك وقال: كم في المؤمنين من أوغاد؛ فليست الحقيقة ما ترى، وصاحبنا البائس وحش وفريسة معًا، فلا تنسَ نصيب المجتمع من جريرته، وهُنالك مئات من المؤمنين يشقى الملايين لإسعادهم، فليست جريمتهم دون جريمة صاحبنا التَّعِس؛ فالمجتمع الذي نعيش فيه يُغْري بالجريمة، بيدَ أنه يحمي طائفة المُجرمين الأقوياء وينهال على الضُّعفاء. أُحبُّ أن أسألكما: هل يكفي أن يستقيل ذلك الوزير؟

فقال مأمون رضوان: ما كان عمر بن الخطاب يتردَّد عن رجمه!

فقال أحمد بدير ساخرًا: دعنا من عمر، إن مجتمعنا يستطيع أن يهضم هذا الوزير وأمثاله إذا أساغه بشيء من النسيان، وسوف يقبع عامًا أو عامَين أو أكثر في نادي محمد علي، وعسى أن تُخرجه غدًا المظاهرات الوطنية عن عُزلته، وتحمله كالأبطال إلى الوزارة مرةً أخرى، فيُعيد سيرته الأولى، أو يلعب دورًا جديدًا، ومن يعِش يرَه.

فقال مأمون رضوان مُمتعضًا: حقيقة المسألة أني أرى الخير مُتعلقًا بجوهر الروح، وترَيانه، أو يراه الأستاذ، تابعًا للرغيف؛ فإذا حسُن توزيع الرغيف مُحقَ الشر …!

فقال علي بلهجة لم تخلُ من حِدَّة: إني لا أُوافق على هذا الوضع للمسألة، وإنك لتعلم بأني أهيم بلذَّات الروح، وليس المجتمع الذي نحلُم به بخالٍ من الشر؛ فلا خير في مجتمعٍ يخلو من نقصٍ يحثُّ على الكمال، ولكن المجتمع الذي نحلم يه يمحو شرورًا نراها في وضعنا الحالي ضربًا من القضاء والقدر.

وهُنا ضحِك أحمد بدير ضحكًا عاليًا، وقال: لماذا تتعجَّلان المعركة ولمَّا يأزف مَوعدها؟!

وابتسم الرِّفاق، الأصدقاء الأعداء، وتبادَلوا نظرةً ذات معنًى، وكأنهم يتساءلون معًا: ماذا تخبِّئ لنا أيها الغد؟!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤