الفصل الأول

المندائيون

في المقهى المعتِم لفندق الرشيد في بغداد، نظر إليَّ رئيس كهنة المندائيين، وشقيقه، وابن عمِّه طالبين مساعدتي. لم يكونوا يعرفون مدى شعوري بالفخر لمقابلتهم. هنا، أمامي، حضَر مُمثلو واحدةٍ من أكثر الديانات غموضًا في العالم. ولأنهم كانوا يعبدون إلهًا واحدًا، ويمارسون التعميد، ويعتبرون يوم الأحد يومًا مقدَّسًا لهم، ويوقرون نبيًّا يُدعى يوحنَّا، فقد أخطأ المبشِّرون الأوروبيون في القرن السادسَ عشر في اعتبار المندائيين مجردَ طائفةٍ أخرى من الطوائف المسيحية العديدة والمتنوِّعة في المنطقة. في الواقع، ديانتهم منفصلة تمامًا عن المسيحية. فهم يؤمنون بالجنة، لكنهم يُسمونها «عالم النور»، وبوجود روح شريرة، لكنها مؤنَّثة، على عكس إبليس، وتُدعى روها، وبالتعميد بوصفه شرطًا ضروريًّا لدخول «عالم النور»، على الرغم من أنه عندهم يجب أن يكون في مياهٍ جارية، بينما الأطفال الذين يموتون بلا تعميدٍ يتَعزَّون إلى الأبد بأشجار تحمل ثمارًا على شكل أثداءِ أمهاتهم. ويوحنَّا الذي يتبعونه هو يوحنا المعمدان، وليس يوحنا الإنجيلي، وعلى الرغم من تقديم المعمدان في النصوص المسيحية على أنه تابعٌ ليسوع، فالمندائيون يرَونه نبيًّا أعظمَ شأنًا. وبعد سماع الإنجيل المسيحي الذي يقول فيه يوحنا المعمدان إنه ليس أهلًا لأن يحلَّ سيور حذاء يسوع، أعربَ أحدُ المندائيين، الذي عاش في القرن التاسع عشر واعتنق المسيحية، عن سخطه. وسأل الكاهن بعد القُدَّاس: «أليس عيسى ويحيى» — الأسماء العربية ليسوع ويوحنَّا — «ابنَيْ خالة، ومِن ثَمَّ فهما متكافئان؟ أليسا في «عالم النور» معًا؟»

figure
تعميد مندائي في نهر دجلة. حقوق الطبع والنشر: أوليج نيكيشين/جيتي إيمدجز.

يزعم المندائيون أنهم من نسلِ شيث، ابن آدم، وأنهم تلقَّوا تعاليمَ سريةً انتقلت من آدم في جنةِ عَدْن. وعندما يهمس كاهنٌ مندائي في أذن أحدِ أتباع الديانة، في يوم أول تعميدٍ لهذا الشخص، بالاسم المقدس لذلك الشخص، الاسم الذي يجب ألَّا يُكشف عنه أبدًا إلا لأقربِ أفراد الأسرة، فإنه يقوله بلغةِ بابل القديمة. وعندما يلتقط مِن على رَفِّه أحدَ الكتب المقدسة، الذي يحتوي على أساطير وحوارات كانت سريةً جدًّا لدرجة أنها لم تُدَوَّن مطلقًا قرونًا عديدة، فإنه يقرأ الكلمات التي ظل المندائيون يُرددونها أكثرَ من خمسة عشَر قرنًا. وعندما يتناول وجبةً مقدسة، مؤديًا الطقوسَ بالترتيب الدقيق اللازم لخلاص الأرواح، فإنه يفعل كما فعل أسلافه على مدى أجيال. وتربط هذه الطقوس في وقتِنا الحاضر بالماضي البعيد قبل المسيحية، وبالمأدُبة الجنائزية للميثرائيين والمصريِّين، وبتعاليم المانوية، الديانة المنقرضة الآن التي كان لها فيما مضى أتباعٌ حتى في أماكنَ بعيدة مثل الصين، وكانت تتنافس مع المسيحية على ولاء القِدِّيس أُغسطينوس.

لقد صادفتُ هذه الديانة الاستثنائية في ظروفٍ غير مُواتية للغاية. ففي عام ۲۰۰٦، كنتُ أنصهر من حرارة بغداد المغبرة، أعاني، ليس من الخوف ولكن من الإحباط. كانت الأسلاكُ الشائكة تُحاصر عالمي؛ في المنطقة الخضراء، وهي المدينة الفاسدة للقرن الحادي والعشرين، التي تبلغ مساحتها خمسةَ أميال مربَّعة مليئةً بالحواجز الخرسانية والأسلاك الشائكة، وجسورِ الطرق السريعة التي تنتهي في الهواء حيث فجَّرَتها قنبلة، وأنفاقٍ مسدودة لاعتراض سبيلِ الدُّخلاء. في هذا المكان، الذي كان يومًا ما ضاحيةً مبنية خصوصًا للديكتاتور السابق صدَّام حسين وأتباعه المقرَّبين، كانت حمامات السباحة وقتئذٍ مردومة تمامًا، وقُسِّمت القصور المبهرجة، وأُخليَت حديقة حيوانات خاصة لإفساح المجال أمام فيلقٍ دائم الزيادة من البيروقراطيين الغربيِّين الذين كانوا، عندما يشعرون بالإنهاك بسببِ قضاء أيام طويلة أمام شاشات الكمبيوتر الخاصةِ بهم، يُقوُّون أنفسهم أحيانًا بوجبات سرَطان البحر الذي نُقل جوًّا من أمريكا أو بمشروباتٍ كحولية تُقدَّم في حاناتٍ لا تسمح بدخول العراقيين، حيث يترنَّح الزبائن الذكور الذين يُشكلون أغلبيةً ساحقةً في المكان ويَنصِبون جميعًا قاماتِهم كلما دخلَت امرأة.

كان لديَّ على الأقل مصدرُ إلهاء يتمثل في العمل في مكتبٍ كلُّ موظفيه من العراقيين. وخلال شهر رمضان، عندما لا يأكلون ولا يشربون أثناء النهار، كنتُ أحيانًا أتسلل خِلسةً إلى المطبخ، حريصًا على عدم جَرح مشاعرهم، ولكنني بحاجةٍ إلى المشروبات الغازية الغنية بالسكَّر لطرد النُّعاس. فيما عدا ذلك، حاولت أن أحذوَ حذوهم، وصولًا إلى النقطة التي كانوا يُضطرُّون فيها إلى مغادرة المنطقة الخضراء الآمنة. في أمسيات رمضان كنا نتناولُ طعام الإفطار معًا، حيث كانت تتعاظم متعةُ التمر والحساء البسيط إن تمكَّنتُ من الصمود طوال اليوم دون تناول الطعام. حاولتُ تقليدَ اللهجة البغدادية المعقَّدة، ذاتِ الحروف المتحركة العميقة، وتعلمتُ التنقل بين الأروقة المتهالكة لمختلِف المصالح الحكومية، وأعددتُ نفسي للتعامل مع الأخبار المروعة التي كانت تأتي كلَّ يوم من العالم خارج ذلك المكتب، حيث كانت عصابات المسلمين السُّنة والشيعة تتقاتل على السيطرة. كلَّ يوم كانت ترِد أنباءٌ عن مَآسٍ جديدة: رأس فتاةٍ مقطوعٌ، مزروع بالمتفجِّرات بحيث أصبح فخًّا ملغومًا لأفراد عائلتها عندما حاوَلوا استعادته؛ ورجالٌ مخطوفون يُطلق سراحهم مقابل فِدية، ولكن بعد اقتلاع أعينِهم وقطع أيديهم وأرجُلِهم.

كل هذا كان يحدث في المكان الذي بدأتْ فيه الحضارة منذ أكثرَ من سبعة آلاف عام. إذا قارَنَّا التاريخ المسجَّل بالمناظر الطبيعية، فسيُمثل العراق جبل إيفرست: مثلَما تبدو الجبال الأخرى صغيرةً أمام جبل إيفرست، فحتى التاريخ القديم يبدو حديثًا مقارنةً بتاريخ العراق. ماذا عن سفينة نوح؟ تتحدث الأساطير العراقية القديمة عن طوفانٍ عظيم وعن رجلٍ يُدعى أوتنابيشتيم نجا منه في مَركب عظيم. الأسطورة، التي انعكس أثرُها على رواية نوحٍ في الكتاب المقدَّس، كانت مستنِدةً إلى حقيقة. فقد تعرَّضَت مدنُ العراق المنخفضة لطوفانٍ مدمر. واكتشف عالمُ الآثار ليونارد وولي أدلةً على مِثل هذا الطوفان عندما حفر فريقُه في أنقاض مدينة أور في عشرينيات القرن الماضي ووجد ثمانيةَ أقدام من التربة النظيفة بين طبقتَين من الأدوات المصنوعة من الفخَّار والصَّوَّان. كما سَجَّل بفتور، قائلًا: «جاءت زوجتي ونظرَت … واستدارت مُعلقةً بعدم اهتمام: «حسنًا، بالطبع، إنه «الطوفان».» قد يكون من الأصدق أن نقول إنه كان «طوفانًا»، لكن أساس القصة الإنجيلية هو بالتأكيد العراق، التي كانت حضارتها بالتبعية أقدمَ من الطوفان.»

ماذا عن الأهرامات؟ إنها يافعة بالمقارنة بمدن جنوب وسط العراق، التي ظهرَت في وقت مبكر يعود إلى سنة ٥۳۰۰ قبل الميلاد — قبل ثلاثة آلاف سنةٍ من بناء الفرعون خوفو للهرم الأكبر. كانت مدنُ العراق تكاد في قِدَمِها بالنسبة إليه تُوازي قِدَم توت عنخ آمون بالنسبة إلينا. إن العادة العراقية في البناء بالطوب اللَّبن، في مُناخ أقلَّ جفافًا بكثيرٍ من مناخ مصر، هي التي تسبَّبَت في انهيار آثارها العظيمة بينما بقيَت الآثارُ المصرية.

ماذا عن مَلحمة «الأوديسة» لهوميروس؟ كان العصر الذهبيُّ للعراق على وشك الانتهاء بحلول زمن هوميروس. القصص الملحمية العراقية باقيةٌ منذ نحو سنة ۲۰۰۰ قبل الميلاد. وتدور أحداثُ إحداها حول بطلٍ يُدعى جلجامش، وعلاقته برجلٍ يُدعى إنكيدو، واشتراكهما في قتل الوحش هومبابا. إنها تتعاملُ مع مواضيعَ خالدةٍ مثل: الصداقة، والجنس، والموت. إنها حتى تحتوي على الكوميديا. تقول لعنةٌ قذرة تستهدف عاهرة: «أتمنى أن تُرابط كلابٌ برِّية في غرفة نومكِ … أتمنى أن يُغطيكِ قيءُ السَّكارى … وأتمنى أن تُقاضيَكِ الزوجاتُ الغاضبات!» ربما سمع أوديسيوس نفسُه هذه القصيدةَ الملحمية وأدرك فيها بعضَ أوجُه التشابه مع أسفاره؛ ولكن حتى في عصره، كانت بالفعل قديمة.

كانت بابل هي أشهرَ وربما أعظمَ مدن العراق القديم، لكن هذه المدينة التي كانت عظيمةً يومًا ما هي الآن رُقعة متَّسعة من الطين الذي يكاد يكون خاليًا من المعالم على ضفَّة نهر الفرات، خمسين ميلًا جنوب بغداد. كل ما تبقَّى هو جُدران منخفضةٌ وأساساتُ بوَّابات. يومًا ما كانت تلك جزءًا من معابدَ شامخةٍ لدرجة أن الناس ظنوا أنها كانت تبلغ الجنةَ ذاتها. وسط هذه الأطلال التي لا تُثير الإعجاب، من المفترض أنه تم اختراع اللغة. يقول الكتاب المقدس: «لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ»؛ لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ.»

في مَواكبهم الدينية الاحتفالية، حمَل البابليون تماثيلَ الأسد، الصورة الحيوانية لإله الشمس شماش، والتنين، هيئة إله القمر سين. أما عشتار، إلهة الحب (التي بقيَت حتى اليوم باسم إستر)، فكان يُرمَز لها بالحمامة. كُرسيُّ مَعبد، يكاد يُضاهي في ضخامته كاتدرائيةَ القديس بولس، لكبير آلهة المدينة، مردوخ؛ وزُيِّنت أبوابه بزخارفِ تنانين، ومخلوقات أسطورية كانت في هيئة نصفِ عنزة ونصفِ سمكة، وكلاب. تشتهر المدينة بأنها موطنُ الحدائق المعلَّقة، إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. هنا هرَب دانيال ورِفاقه من أتون النار المتَّقدة، ووُزِن بيلشاصر في الموازين فوُجِد ناقصًا، ومات الإسكندر الأكبرُ في قصر نبوخذ نصَّر، بعدما أُحبط طموحُه في غزو العالم.

لقد انقضَت الآن أربعةُ آلاف سنة منذ تأسيس بابل، وطوال أكثرَ من نصف ذلك الوقت ظلَّت مهجورةً ومعرَّضة للمطر، والفيضانات، ونهب الأجيال اللاحقة. وبعد وفاة الإسكندر سنة ۳۲۳ قبل الميلاد، انقسمَت إمبراطوريتُه الضخمة بين مُساعدَيه المتنازعَين. ودمَّرَت حربهم الأهلية اقتصادَ بابل، ودخلت المدينةُ مرحلةً من التدهور. وباستثناء تضحياتٍ متفرقة، لم نَعُد نسمع بمعابدها العظيمة. واختفَت حدائقُ بابل المعلَّقة، ولا يوجد أيُّ أثر لها اليوم. يوجد مشروعٌ مَهيب بين الأنقاض؛ لكنه جديدٌ وليس قديمًا. إنه أحدُ قصور المدينة القديمة، التي أُعيد بناؤها. تحمل أحجارُه نقشًا يقول: «في عهد الرئيس صدام حسين، أعيد بناءُ بابل كلِّها في ثلاث مراحل. من نبوخذ نصر إلى صدام حسين، بابل تنهض من جديد.»

في جميع الأنحاء، على نحوٍ يُشبه التصويرَ الواردَ في قصيدة «أوزيماندياس»، كانت توجد رقعةٌ ممتدَّة من طوب لَبِن متحلِّل. كانت عملية إعادة إعمار بابل التي قام بها صدَّام عبارةً عن تشكيلة متنوِّعة من مختلِف الأنماط، وسَخِر منها علماءُ الآثار الجادُّون واستهجنوها. واستُعمِل معظمُ ما تبقى من بابل الفعليةِ منذ مدةٍ طويلة موادَّ بناءٍ لمدينة بغداد، أو نُهب أو بِيعَ بثمنٍ بَخْس لعلماء آثار أجانب وشُحن إلى متاحف في لندن، وبرلين، وباريس. ومع ذلك لم يُبْنَ قصرُ صدام الجديد، وهو ما أسعدَ علماء الآثار. فبناؤه كان يعني استيلاءَ صدام على ماضي العراق القديم، وهو ما كان يمكن أن يساعد على إضفاء الشرعية على وجود العراق كدولة وسيادتِه عليها. فبدلًا من أن يكون العراقُ مجموعةً من المقاطعات التركية المنتزَعة من حُكامها العثمانيِّين في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لا يوحِّدها دين، أو لغة، أو عِرق، كان يُمكنه أن يُقَدِّم دولتَه البوليسية القمعية بوصفها وريثةَ الإمبراطوريتين البابلية والآشورية. ومن التوافق، أن العراق لم يُحكَم، في ذلك الماضي المجيد، على يد رجال الدين المسلمين، الذين كان صدام يكرههم ويخافهم، ولكن حَكَمه ملوكٌ مستبدُّون وقُساة؛ تمامًا مثل صدام.

وبحلول عام ۲۰۰٦، كان صدام تحت الحراسة الأمريكية وكان العراق في حالةٍ من الفوضى. وبدا الزمن الذي كان فيه العراق عاصمةً لحضارة العالم بعيدًا للغاية. فيما مضى كان البطاركة المسيحيون في العراق يوقِّعون رسائلهم هكذا: «من صومعتي على نهر جنةِ عَدْن»؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها كانت موقعَ الجنة الأصلية التي عاش فيها آدم وحواء. أما في وقتنا الحاليِّ فالنهر ذاتُه كان يحمل جثث الموتى نحو البحر، مُرورًا بشارع أبو نُوَاس، حيث اعتاد البغداديُّون الجلوس في الأيام السعيدة الماضية، وأكْلَ السمك، وتدخينَ النَّرجيلة. كان معظم العراقيين يحاولون البقاءَ بأمان فحَسْب، فكانوا يتوجَّهون إلى منازلهم بأسرعِ ما يمكن بعد العمل ثم يمكثون بها. وإذا أرادوا محاولة العيش كما كانوا قبل الحرب، والجلوسَ في أحد مقاهي المدينة، فكان يتعيَّن عليهم إعدادُ أنفسهم لمواجهةِ مواقف صعبة. أخبرتني إحدى النساء أنها كانت هي وإحدى صديقاتها تشربان الشاي في أكوابه الأنيقة التي يُسميها العراقيون «الاستكانة» — عريضة عند الحافَة، ورقيقة من المنتصف، وما زالت توجد أكوابٌ مماثلة منذ القرن الخامس عشر — عندما سَمِعتا رجلًا يُفجر نفسه في الشارع. نظرَتَا حولهما هُنيهة، وعندما أدركَتا أنه لم يكن ثمة خطرٌ محدق، عادتا إلى «استكانتَيهما» واستأنفَتا احتساءَ الشاي. فقد كانت التفجيرات الانتحارية من الأمور اليومية المعتادة.

في الأشهر التي قضيتُها في بغداد بصفتي دبلوماسيًّا، أمضي بسرعة على طرُق المدينة السريعة في سيارة مصفَّحة أو أُطل من طائرة مروحية تُحلق فوق أراضي العراق الزراعية بمدفع رشاش معلَّق على جانبها، لم أكن قد رأيتُ أي أثرٍ لتاريخ البلاد. فقد دُمِّرَت قصورها القديمة ومساجدها وكنائسها في العديد من الحروب، وعمليات الغزو، ومخطَّطات إعادة البناء غير المدروسة؛ حيث كانت البيوت المبنية بالطوب اللَّبِن قد تحلَّلَت بفعل قرونٍ من المطر. وساعَد كلٌّ من الحروب، والإهمال، والفساد، وطفرة البناء في القرن العشرين المدعومة بالنفط على تحديث بغداد، التي أصبحَت الآن مطوَّقةً بضواحٍ شاسعة من منازلَ صغيرة مكونةٍ من طابَقَين ومزوَّدة بساحات ضئيلة المساحة.

أوصى كتيب إرشادي كُتِبَ بشجاعة في وقتٍ قريب من حرب عام ۲۰۰۳ للسيَّاح القلائل الذين قد يرغبون في الزيارة (حيث كُتب تحت قسم «الترفيه»: «الأخبار سيئة») ببضعة مساجد وقصر واحد بقي من المدينة التي ذُكِرَت في كتاب «ألف ليلة وليلة»، حيث كان الخليفة هارون الرشيد يتجوَّل ليلًا بصحبة خادمه المخلص جعفر. فقصة «ألف ليلة وليلة» كانت خيالية، لكن المدينة الحقيقية كانت رائعةً جدًّا؛ إذ بَناها الخليفة العربيُّ المنصور سنة ٧۳٤ ميلادية، وصمَّمها الفُرس، وفي وقتٍ من الأوقات كان يعمل بها علماءُ فلَك هندوس أحضَرهم مبعوثٌ يهودي من الهند. كان هذا النصب التذكاريُّ للروابط الخصبة بين الثقافات والأديان مدفونًا الآن في الخرسانة في مكانٍ ما تحت محطة السكك الحديدية الرئيسية. لم يتعامل العراق بلطفٍ مع تاريخه.

•••

ومع ذلك، كان المندائيون تاريخًا حيًّا. تعود نصوصهم الدينية إلى القرن الثالث الميلادي على الأقل، وقد حافَظوا على العادات والتقاليد التي كانت أقدمَ من ذلك بكثير؛ فربما يعود تاريخها إلى بابل ذاتها. وذلك لأن الحقيقة المدهشة هي أنَّه لا المسيحية ولا الإسلام قَمَعا بشكلٍ كامل دياناتِ العراق القديمةَ. ظل عددُ الوثنيين يفوق عددَ الموحِّدين في العراق بعد الفتح الإسلامي. وصف كتاب بعنوان «الفلاحة النبطية»، كتبه عراقيٌّ يُدعى ابن وحشية نحو سنة ۹۰٤ ميلادية، الثقافةَ المعاصرة التي لم تتغيَّر إلا قليلًا عن العصور القديمة لدرجة أن علماء العصر الفيكتوري ظنُّوا مدةً من الوقت أن الكتاب يعود إلى بابل القديمة، وأنه مِن ثَمَّ كان أقدمَ كتابٍ على الإطلاق. فهو يصف لقاءاتٍ مع متعبِّدين في معابدَ للشمس والقمر، وفواكهَ وخَضرواتٍ وأشجارًا، بفضل قوة الآلهة، قادرةً على الكلام، وحشراتٍ أتت بها إلى الوجود آثامُ البشر، وعرَّافين، ومخلوقات جولم تشكَّلَت بعلوم الإغريق من طين صيني، وجماعاتٍ زاهدةً مكرَّسة للآلهة القديمة، ولكنها تُشبه الرهبان المسيحيين أو الصوفيين، بشَعرٍ مصبوغ بالحنَّاء ولِحًى طويلة، وتكهُّنات فلسفية حول أصل العالم. وفي ظل هذه الخلفية، كان من الممكن أن تنجوَ الثقافة البابلية بسهولة؛ وبالفعل، كتب الكاتب المسلم المسعوديُّ في القرن العاشر الميلادي أن «البقية الباقية من البابليِّين» لا تزال تعيش في الأهوار العراقية، التي كانت في وقتٍ من الأوقات تُغطي ما يزيد عن ٧۰۰۰ ميل مربع من جنوب العراق.

والسؤال هو: لماذا لم يقمع المسلمون، الذين حكموا العراق أكثر من قرنين من الزمان، هذه الثقافاتِ غيرَ الإسلامية؟ كان أحد الأسباب هو أن الجيل الأول من الفاتحين العرب، الذين دحَروا في العقود التي تلَتْ عام ٦۳۲ ميلادية قواتِ بيزنطة، وحطَّموا الإمبراطورية الفارسية، لم يعملوا بجِدٍّ شديد على فرض الإسلام على رعاياهم الجدد؛ لأنهم رأوا أنه في الأساس دينٌ عربي. وقيل إن الخليفة عمر بكى عندما علم أن رعاياه من غير العرب كانوا يعتنقون الإسلام. فمن الناحية العملية، كان غيرُ المسلمين يدفعون أيضًا ضرائبَ أكثر؛ لذلك خسرَت الدولة دخلًا عندما اعتنق رعاياها الإسلام.

figure
قرية في الأهوار العراقية تعزل أنهارُها الصغيرة المتداخلة سكانَها عن العالم الخارجي. نشأَت هناك ثلاثُ ديانات على الأقل. حقوق الطبع والنشر: نيك ويلر/كوربيس.

حتى عندما أراد العرب فرْضَ إرادتهم على كلِّ مِيل مربَّع احتلُّوه، لم يتمكَّنوا من ذلك. فقد بدَءوا بكونهم نسبةً صغيرة من السكان، على أقصى تقديرٍ عشرين بالمائة في العراق. أيضًا وقفت الجغرافيا في طريقهم. وفي التسعينيات، على سبيل المثال، اضطُرَّ صدام إلى بناء سدودٍ على الأنهار التي تُغذي الأهوار قبل أن يتمكن من قمع الجماعات المتمردة التي كانت قد لجأَت إلى هناك. وللحكَّام في الماضي، لم تكن حملةٌ قمعية كتلك تستحقُّ العناء.

علاوةً على ذلك، كان التسامح تقليدًا متبَعًا في الإسلام. وعلى الرغم من أن القرآن قَبَّح فعلة عبَدةِ الأوثان، فقد امتدح «أهل الكتاب» الذين كانوا موحِّدين ولديهم كتبٌ مقدَّسة. تضمَّن هذا الوصفُ صراحةً المسيحيِّين واليهود. وكان الزرادشتيُّون و«الصابئة» من الديانات الأخرى التي خُصَّت بالذِّكر على نحوٍ إيجابي في القرآن. وبعد عدة قرونٍ من بداية الإسلام، كان التحديد الدقيق لهذه المجموعة الأخيرة غيرَ واضح، ممَّا وفَّر ثغرةً نجَت من خلالها العديدُ من ديانات الشرق الأوسط الأخرى من الاضطهاد، بما في ذلك المندائيين، الذين اعتبَرهم من الصابئة العالِمُ المسلم العظيم في القرن الحادي عشر، المتخصص في علم الإنسان، البيروني، في واحدٍ من كتبه التي يصل عددُها إلى ۱٤۲ كتابًا. وبالمناسبة، يعتبر البيروني، الذي وصفه جورج سارتون بأنه «أحد أعظم العلماء في تاريخ العالم» بسبب انفتاحِه الفكري، مثالًا جيدًا على التسامح الذي أظهرَه بعضُ المثقفين المسلمين تجاه الأديان التي اكتشَفوها وسطهم. ومن الأمثلة الأخرى المسعودي، الذي كان من رصد البابليين الذين يعيشون في الأهوار العراقية، والذي درس شعوبًا بعيدةً ومتنوعة مثل الروس والفرنسيين. وعلى الرغم من تحفُّظات المحافظين الدينيين، فإن هؤلاء المثقفين كانوا مستعدِّين للتعلُّم حتى من أولئك الذين لا يُشاركونهم عقيدتَهم، بِناءً على مقولة عربية هي: «الحكمة ضالة المؤمن: فحيثُ وجَدها فهو أحقُّ بها.» وعلى الرغم من أن روح التسامح هذه تضاءلَت في القرون اللاحقة، وكثيرًا ما تعرَّض المندائيون للمضايقة والاضطهاد في بعض الأحيان، إلا أنه نادرًا ما بذَلَت السلطات الإسلامية جهدًا كبيرًا لإرغام رعاياها على اعتناق الإسلام بالقوة؛ وكان لدى المندائيين الأهوارُ لِيَحتموا بها، حتى القرنِ العشرين.

كان البابليُّون يعيشون في الأهوار العراقية؛ وكذلك المندائيون. هل يُحتمَل وجودُ صلة بينهم؟ لقد أحببتُ القراءة عن بابل في طفولتي، وكان من المشوِّق أن أظن أن المندائيين كانوا آخِرَ البقايا الضعيفة للحضارة البابلية. لذلك عندما اتصل بي رئيسُ كهنة المندائيين وطلب إجراء لقاء، كان الأمر أشبهَ باستدعائي للِقاء أحد فرسان المائدة المستديرة، أو اكتشاف أنَّه في قرية صغيرة في منطقة نائية من الريف الإنجليزي، لا تزال توجد طائفةٌ تعبد أودين، وقد دعاني المنتمون إليها لتناول الشاي. لذلك وافقت؛ فقد وَدِدتُ رؤية رئيس الكهنة.

لم يكن يوجد سوى مكانٍ واحد في المنطقة الخضراء يمكن أن يدخله البغداديُّ العادي بسهولة. في أوج عظمته، كان فندق الرشيد، وهو مبنًى خَرساني مكوَّن من ثمانيةَ عشَر طابَقًا من سبعينيات القرن الماضي، يضم مائةَ مُتنصِّت يجلسون في الطابق السُّفلي، متصلين بشبكةٍ من الكاميرات والميكروفونات التي سجَّلَت كلَّ ما فُعِل وقيل في كلِّ غرفة. بعد حرب عام ۲۰۰۳، على ما يبدو نُزعت الكاميرات والميكروفونات، وغُطِّيَت لوحةُ جورج بوش الأبِ المصنوعةُ من الفُسيفساء التي كانت مِمسحةَ الأرجل الرسميةَ للفندق. ظل الفندق مكانًا غريبًا. وقف النوادل في المقهى، وهم يرتدون صدرياتٍ وأربطةَ عنقٍ مزيَّفة، قريبين أكثرَ من اللازم من الطاولات وقتًا أطولَ قليلًا من اللازم، يُنصتون باهتمام. كان هذا هو المكانَ الذي قابلتُ فيه رئيس الكهنة، الذي كان معروفًا باسم الشيخ ستار («الشيخ» هو لقب عربيٌّ فخري، يُستخدَم على نطاقٍ واسعٍ في ديانات الشرق الأوسط وقبائله؛ للدلالة على الاحترام). كان يجلس على طاولة مع رجلَين اتضح أنهما شقيقُه وسكرتيره.

قال الشيخ ستار: «ديانتنا هي أقدمُ ديانة في العالم. فهي تعود إلى آدم.» تتَبَّعَ تاريخَها إلى بابل، على الرغم من قوله إنها قد تكون ذاتَ صلةٍ ما بيهود القدس. وقال إن المندائيين آمَنوا بآدم، الذي كان أولَ البشر، وآمَنوا ببعض الأنبياء الآخَرين الذين وردَت أسماؤهم في الكتاب المقدَّس العَبراني، مثل شيث ونوح. والأهمُّ من ذلك كلِّه، أنهم كانوا يُبجلون يوحنَّا المعمدان. لكنهم أنكَروا إبراهيم وكان لديهم كتبُهم المقدَّسة التي كانت منفصلةً تمامًا عن الكتاب المقدس أو القرآن. وسلمني الشيخ أحدَ هذه الكتب، الذي قد نُشر باللغة العربية مغلَّفًا بغلاف أبيض.

كان اسم الكتاب كِنزا رَبا؛ والاسم يعني «الكنز العظيم». تصفَّحتُ الكتاب، من اليمين إلى اليسار، وأدركتُ أنه يمكن أيضًا قلبُه رأسًا على عَقِب وقراءتُه من الخلف إلى الأمام، مما يكشف نصًّا آخَر بالتوالي مع الأول. صِيغَت كلتا النسختَين مثل القرآن، وقُسمتا بدقةٍ إلى آياتٍ وفصول. في بداية كلِّ فصل، حيث في القرآن عبارة «بسم الله الرحمن الرحيم!» جاء في كتاب كِنزا رَبا: «باسم الحي العظيم!» وكان على كلِّ صفحة ما يبدو أنه صليب، متوَّج بغُصنِ نبات الآس، ملفوفٌ فوقَه وِشاح أبيض. أكد لي الشيخ ستار أن هذا لم يكن صليبًا بل «درفش». وهو رمزٌ للتغطيس في نهر دجلة، أي «التعميد» المندائي وأحدُ أقدسِ طقوس الديانة. وتُمثل أذرُعه الأربع جهاتِ العالم الأربع. فهو نورُ الجنة المندائية على الأرض، حيث تتمتع أرواح الأخيار بالنعيم الأبدي. وُضِع على الأرض في اليوم الذي عَمَّد فيه هيبل زيوا، ملاك النور، يوحنا، الذي أصبح بدوره يوحنا المعمدان وصنع معجزاتٍ مسجَّلةً في أحد الكتب المندائية المقدَّسة، «إِدْرَاشا إِدْ يهيا» (كتاب يحيى). ويقول الكتاب إن يوحنا المعمدان كان صانعَ معجزاتٍ أعظمَ بكثير من يسوع.

حظي التعميدُ بتركيزٍ خاص لدى المندائيين. قال الشيخ: «إننا لا نمارس التعميدَ مرةً واحدة في العمر فقط، مثل المسيحيين، ولكن قبل كلِّ المناسبات الكبرى. على سبيل المثال، قبل الزفاف يُعمَّد كلٌّ من العروس والعريس.» فالمعمودية هي أكثرُ من مجرد عمليةِ تطهير. يُنظر إليها على أنها تُعطي طاقةً ورضًا روحيَّين، وتُطهر من الخطيئة، وتشفي الجسد. وأضاف الشيخ ستار أن المندائيين فضَّلوا ارتداء ملابس بيضاء والعيشَ بالقرب من الأنهار؛ لأنه كان يجب أن تُجرى المعمودية في مياهٍ جارية نظيفة. وكانوا أيضًا أشخاصًا مُسالمين. وأكد قائلًا: «نحن لا نؤمن بالقتال حتى لو هوجمنا.» كانت محادثتُنا باللغة العربية، لكنني علمت أن المندائيين لديهم لغتُهم الخاصة، التي لا تُستخدم اليوم إلا للأسماء والطقوس. جاء الاسم «مندائي» من كلمة «ماندا»، المرادف لكلمة حِكمة في هذه اللغة. كانوا يؤمنون بإلهٍ واحد، «ماندا دهايي»، الحي العظيم. أطلَقوا على الجنة اسم «عالم النور»، «مالكا دا نهورا».

لم تأتِ المجموعة لتُحدثني عن دينها فحسب. جاءوا ليطلبوا شيئًا مني. أخبرني السكرتير: «عائلتي تجَّار ذهب»، ولذا تعرَّضوا للهجوم ليس فقط بسبب ديانتهم، ولكن أيضًا من أجل أموالهم. وأضاف أن جميع أفراد عائلته من الذكور قد قُتلوا. قال رئيس الكهنة: «أرجوك، لم يتبقَّ منا في العِراق سوى بضع مئات. وكلنا يريد المغادرة. نريد أن يمنحَنا بلدُك حقَّ اللجوء.» لم تمنحهم بريطانيا حقَّ اللجوء بوصفهم طائفة، وهو ما كانوا يأمُلون فيه، لكنني علمت أنه لن يكون من الصعب عليهم التقدمُ كأفراد، في بريطانيا أو في أي مكان آخر، وأنهم سيغادرون العراق واحدًا تِلو الآخر. لقد صادفتُ رابطًا للثقافة العراقية القديمة التي كنتُ أبحث عنها، وكانت تكاد تتلاشى أمام ناظِرَيَّ.

•••

كما رأيت، يحافظ المندائيون على العادات البابلية، لكن ديانتهم تختلف عن ديانة البابليِّين القدماء: فهم، على سبيل المثال، لا يعبدون إلهَ الشمس البابلي بيل أو إلهةَ الخصوبة أترعتا. ووَفقًا للمؤرِّخة يورون باكلي، تعود أقدمُ نصوصهم الدينية الباقية إلى أواخر القرن الثاني أو أوائل القرن الثالث الميلاديَّين. وذلك ينسبها إلى مرحلةِ ثورةٍ فكرية غير مسبوقة في الشرق الأوسط، عندما اجتاحَت طوائفُ وفلسفاتٌ جديدة الشرق الأوسط، فجلبت آلهة، وأفكار، وأساطير جديدة حَلَّت محلَّ نظائرِها التقليدية. لكن لماذا حدَثَت هذه الثورة الفكرية في ذلك الوقت بالذات؟ كان السبب الرئيسي وراء ذلك هو السياسةَ والإمبراطورية. كان الشرق والغرب قد تقارَبا بشكلٍ وثيق أكثرَ من أي وقتٍ مضى، وذلك بفضل توسُّع الإمبراطوريات الضخمة مثل إمبراطوريات فارس، والإسكندر، وروما. كانت الهند على الحدود الشرقية لبلاد فارس واليونان على حدودِها الغربية؛ وجاورت روما بلاد فارس من الشرق وبريطانيا من الغرب. لذلك تمكَّنَت الثقافات التي كانت معزولةً في السابق بعضها عن بعض من أن تلتقي. حتى في حقبةٍ سابقة، وصلَت قصص الزهد الهنديِّ إلى الفلاسفة اليونانيِّين الأوائل، وكانت مصدرَ إلهام لممارسات الكلبيِّين، الذين اعتقَدوا أن الطريق الوحيد للسعادة الحقيقية يكمنُ في التخلِّي عن جميع الممتلكات والعيشِ في فقرٍ كامل. وفي القرون اللاحقة (خاصة بعد أن صار السفر عبر البحر أسهل) أصبح هذا النوع من الاتصال أكثرَ شيوعًا. وساعد التحضُّر أيضًا في حدوث انصهارٍ بين ديانات مختلفة. فلم يعُد كافيًا أن يتمسَّك شعبٌ ما بالآلهة التي كانت لديه منذ آلاف السنين: فقد كان مطلوبًا آلهة جديدة، وفلسفات جديدة لتسويغِ عبادتها.

نتَجَت عن ذلك حقبةٌ من الإيمان الديني المتشدِّد والجدل الفكري المتطرِّف الذي يجعل العالمَ الحديث، الذي يبلغ عُمرُ أكبرِ خمس ديانات فيه الآن أكثرَ من ألف عام، يبدو بالمقارنة جامدًا. دخلَت الهندوسية والبوذية الإمبراطوريةَ الفارسية. ووصلَت معتقداتُ الشرق الأوسط إلى روما، مثل الطائفة العشائرية للإله ميثرا وعبادة الإلهة المصرية إيزيس (كانت الأخيرة سيئةَ السمعة لأنه كان يُزعَم أن طقوس اعتناقها كانت تتضمَّن ممارسة الجنس الشعائري). وأصبح رجلٌ يدعى إيل جبل من مدينة حِمْص السورية إمبراطورًا في القرن الثالث، وأحلَّ عبادة إله الشمس الخاصِّ ببلاد الشام محلَّ عبادة الإله جوبيتر القديمة، ورَكَّب حجرًا نيزكيًّا أسودَ من مسقط رأسه ليكون حجرَ الأساس لأكبر معبدٍ في روما. في الاتجاه الآخر، انتشرَت جماعةُ أتباع الفلاسفة اليونانيين في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وكانت اليهودية من الديانات الأخرى التي انتقلَت من الغرب إلى الشرق. ربما بقي بعضُ اليهود بالقرب من مياه بابل بعد نفيِهم هناك في القرن السادس قبل الميلاد؛ وبالتأكيد كان يوجد مجتمعٌ يهودي راسخ في العراق في أوائل القرن الأول الميلادي، عندما اعتنق ملكُ مقاطعة حدياب الشمالية، وزوجته، ووالدته الديانةَ اليهودية كلٌّ على حِدَة. سنة ٧۰ ميلادية، انضمَّ إلى يهود العراق يهودٌ آخَرون ممن كانوا يفرُّون شرقًا من الجيوش الرومانية التي نهبَت القدس وهدمَت هيكلها. وأصبحت بابل (المنطقة التي كانت تقع فيها بابل يومًا ما، والتي احتفظَت باسمها: فالمدينة نفسُها كانت مُدَمَّرة بحلول هذا الوقت) مَعقِلَ الديانة اليهودية. وتصل تقديراتُ عدد السكان اليهود في العراق إلى مِليونَي نسمة في سنة ٥۰۰ ميلادية؛ ربما نحو أربعين بالمائة من تعداد سكانها.

كُتبت أقدمُ الكتب المندائية المقدسة الباقية بلُغة قريبة جدًّا من تلك التي استخدمَها العلماء اليهود الذين جمَعوا التلمود البابلي، أحد أهمِّ مجموعات الشريعة اليهودية، والذي جُمِّع بين القرنَين الثالث والخامس الميلاديَّين. تُظهر الكتب المندائية اهتمامًا باليهودية ومعرفةً وثيقة بممارساتها، ولكنها تُظهِر أيضًا الكثيرَ من العداء. فقد اتبع المندائيون يوحنا المعمدان لكنهم يكرهون إبراهيم. وهم يرفضون رفضًا تامًّا ممارسة الختان؛ وهي ممارسةٌ ميَّزَت اليهود عن البابليين حتى أثناء النفيِ اليهودي في بابل. ويُقدس المندائيون يوم الأحد، وليس السبت. وتدور أسطورةُ ميرياي حول امرأةٍ يهودية تترك ملَّتَها من أجل الزواج من رجلٍ مندائي. كان اليهود والمندائيون يعرف بعضُهم بعضًا لكنهم كانوا غُرَماء.

لم تكن المندائية الديانةَ الوحيدة التي تأثَّرَت بشدةٍ باليهودية: فالعديد من مِلَل المسيحية تأثرَت بها أيضًا. وحاول البعضُ الالتزام بالشريعة اليهودية مع اتباع يسوع، بينما كان البعض الآخر أكثرَ عدائية. على سبيل المثال، قبِلَت جماعةٌ مسيحية منشقَّة تُسمى المرقيونية، تأسَّسَت في المنطقة التي هي حاليًّا شمال تركيا في نحو سنة ۱٤٤ ميلادية، أن الأحداثَ المذكورة في الكتاب المقدَّس العبراني (الذي يُطلِق عليه المسيحيون العهدَ القديم) كانت صحيحة، ولكنها كانت صادمةً لبعضٍ منهم. لماذا، على سبيل المثال، ينْهى الربُّ آدمَ عن أن يأكل من شجرة المعرفة في جنة عدن؟ لماذا يطلب من إبراهيم أن يقتل ابنه؟ لذلك اعتقدوا أن الربَّ المذكور في ذلك الكتاب هو في الواقع إلهٌ أدنى، لا يستحقُّ العبادة. وكان العالم المادي الذي خلقه هذا الإلهُ الأدنى شيئًا يجب الهروب منه بما في ذلك جسد الإنسان وغرائزه؛ فقد كان نخبةُ المرقيونيين غيرَ متزوجين وليس لديهم أطفال. لم تتضمَّن الكتبُ المرقيونية المقدسة سوى إنجيلِ لوقا ورسائلِ بولس، وحتى تلك جرى تغييرُها نوعًا ما. على سبيل المثال، حُذِف اسم إبراهيم في كل مكان كان يظهر فيه تقريبًا؛ لأن إبراهيم لم يكن فقط على استعدادٍ لقتل ابنه، بل أيضًا عاشرَ خادمته وسمح لفرعون بمعاشرةِ زوجته.

في تلك البيئة — حيث كَثُر عددُ اليهود، وانتشرت الجماعات المسيحية، ونُحِّيَت الدياناتُ القديمة لتَحُلَّ مَحلَّها أيديولوجياتٌ جديدة — استعدَّ رجل يُدعى باتيك لتقديم قُربان لأحد الآلهة القديمة في معبدٍ بإحدى المدن جنوبَ المكان الذي تقع فيه بغداد حاليًّا. كان يمكن أن يكون أمرًا دمَويًّا، مثل ذبح ماعز أو شاة ربما، وبعد ذلك قد يحصل على جزءٍ من اللحم ليأكُلَه. لكنه فجأةً سمع صوتًا خارقًا للطبيعة يخبره ألا يأكلَ اللحم مرةً أخرى. وألا يُمارس الجنس. ولا يشرب الكحول. كان ذلك نحو سنة ۲۱٥ ميلادية.

كان الزهد مسألةً مشتركة في الأديان الجديدة في الشرق الأوسط. ربما كان هذا في جانبٍ منه انعكاسًا للتأثير الهندي أو ردَّ فعلٍ للانغماس في الملذات الذي اتَّسمَت به الأديان القديمة (فسوريا، حيث كانت المعابد الوثنية يومًا ما تُئوي عاهراتٍ مقدَّسات، كانت أيضًا البلدَ الذي عاش فيه قديسٌ مسيحي على قمة عمود لمدة ثلاثين سنة دون أن ينزل مرةً واحدة). وكانت توجد فلسفةٌ وراء إنكار الذات أيضًا. فقد كان المجتمعُ متقدمًا تكنولوجيًّا؛ ففي القرن الثاني الميلادي، رسم بطليموس خريطةً للعالم استُخدِمَت بعد ذلك أكثرَ من ألف عام، وكتب جالينوس كتابًا طبيًّا استُخدِم حتى القرن التاسع عشر. ومع ذلك، كان لا بد من تنظيف البالوعات يدَويًّا، وكانت أمراضٌ مثلُ التيفود شائعة، وقد تتطور الجروح بسهولة إلى غرغرينا. كان ضعف الجسد والقذارة في تناقضٍ غريب مع الإنجازات الفكرية المدهشة. وحيث إنه في ذلك الوقت لم يكن مفهومًا بشكل عام أن الفكر له أيُّ صلة بالمخ (أدرك جالينوس ذلك، لكن أرسطو كان يظنُّ أن المخ موجودٌ فقط لتصريف الحرارة من الجسم)، كان من السهل افتراضُ أن العقل، أو الروح، يمكن أن تعيش دون فوضى الجسد.

غالبًا ما كان يُطلَق على الديانات، التي كانت تأمر أتباعها بمعاقبة الجسد أو إخضاعِه حتى يتحرَّر العقل، تسميةُ «الغنوصية»، وكان يوجد العديد من هذه الدِّيانات في هذا الوقت. اكتشف باتيك أن طوائفَ متشددةً كثيرة قد نشأَت مؤخرًا في الأهوار العراقية. وكان المندائيون إحدى تلك الطوائف، لكن ربما لم تكن قواعدُهم صارمةً بما يكفي لباتيك. (على الرغم من أنه ربما كان المندائيون نباتيِّين في مرحلةٍ ما من تاريخهم، فلم يُفضلوا الامتناعَ عن الزواج أبدًا.) تلاءمَت طائفةٌ قريبة على نحوٍ أفضل مع التعليمات التي أعطاه الصوت إياها. ولم يقتصر الأمرُ على الامتناع التامِّ عن أكل اللحوم، أو ممارسة الجنس، أو شُرب الكحول، بل كانوا أيضًا يجتنبون الفنَّ والموسيقى. وعلاوة على ذلك، حاوَلوا أن يتَّبِعوا بصرامةٍ كلًّا من الشريعة اليهودية والأناجيل المسيحية. كان يبدو أن كل عائلة كانت تمتلك قطعةَ أرض تزرع فيها الخضار والفاكهة ليأكلَها أفرادُها. فيما بعدُ أطلق عليهم الكُتَّاب اسم المُغتَسِلة، التي تعني في اللغة العربية «مَن يغتسلون»، بسبب ممارستهم للتعميد في أنهار الأهوار. كان المُغتَسِلةُ هم مَن انضمَّ إليهم بالفعل باتيك وزوجتُه الحامل، وبعد ذلك بوقتٍ قصير وُلِدَ طفلُهما الوحيد. وأطلقا عليه اسمَ ماني.

بينما كان ماني يكبر، كان يمرُّ بمرحلةِ تمرُّد. لم يكن تمرده متعلقًا بالجنس أو الكحول. وإنما غضب من القيود المفروضة على الفن. فقد كان فنانًا موهوبًا وكان يتوق إلى التعبير عن أفكاره بصورةٍ مرئية وكذلك بالترانيم الموسيقية. كان المندائيون، الذين كانوا يعيشون بالجوار في الأهوار، مَصدرًا للإلهام؛ فعلى الرغم من رفضهم ليسوع، الذي أُعجِبَ به ماني، استحسَن موسيقاهم واقتبس واحدةً من ترانيمهم. ومع ذلك، فمِن نَواحٍ أخرى، وجد أن قواعدَ طائفته مُفرِطةٌ في التساهل. وقال إن الامتناع عن اللحوم لم يكن كافيًا. فقد كان قتلُ الخضروات وأكلُها قاسيًا على النباتات، بل كان بإمكانه سَماعُ شجرة التين تبكي على الثمار التي قُطِعَت من أغصانها. واشتكَت ينابيعُ المياه العذبة، على حد قوله، عند استحمام المغتسِلة فيها؛ لأنهم كانوا يُلوثون المياه. (على ما يبدو كان أتباعه في السنوات اللاحقة يغتسلون ببولهم بدلًا من الماء.) في النهاية زعم ماني أنه تلقَّى وحيًا جديدًا؛ سَردًا لمعركة كونية بين النور والظلام.

figure
رسمٌ حديث لماني، مؤسِّس من القرن الثالث لديانةٍ نافسَت المسيحية المبكرة، أدَّى تقسيمه للكون بين الخير والشر إلى ظهور مصطلح «المانوي». سبقه المندائيون وتأثر بهم.

فبحسب القدِّيس أغسطينوس، الذي اتبع تعاليم ماني بعضَ الوقت قبل أن يُصبح مسيحيًّا، قال ماني إن الكون يحتوي على «كُتلتَين متعارضتَين، وكِلتاهما غيرُ محدودة»؛ إحداهما صالحة، والأخرى شريرة. «كان الشر … نوعًا من المادة، كتلة عديمة الشكل، بشعة … نوعًا من عقلٍ شرير يتغلغلُ في المادة التي يُسمونها الأرض.» وكان الشرُّ مصدرًا لكل الظلام في الكون، بما في ذلك كسوف الشمس وخسوف القمر وتعاقُب الليل والنهار. وعند ماني، أن تعاقب الليل والنهار كان دلالةً على معركة مستمرَّة بين النور والظلام. وحتى يومنا هذا، نتحدث عن «المنظور المانوي للعالم» بحيث يعني ذلك المنظورُ الذي يقسم العالم إلى قُوى الخير وقُوى الشر. («ماني تشاي» كانت العبارة التي يصرخ به أتباعُ ماني باللغة الآرامية: وهي تعني «ماني حي». لذلك صار يُطلق على أتباعه اسم المانويين.)

كان المانَويُّون المستنيرون دينيًّا يرَون أن الدعوة الأسمى هي تحرير الروح من قيود المادة. أما عند الملتزمين حقًّا — «الشيوخ»، كما كان يُطلق عليهم (تُستَخدَم الكلمة ذاتُها، «شيخ» باللغة العربية، مع الكهنة المندائيين) — فكان هذا يعني الامتناعَ نهائيًّا عن إنجاب الأطفال، وتناول الفاكهة فقط، والتكفير عن قطفِ تلك الفاكهة. كان إهدار الماء خطيئة. وكانت مسألةُ قتل الحيوانات مسألةً لا يمكن تصورُها. فالمانوي المتزمِّت لن يقتل ذُبابة. وورد في إحدى الصلوات المانوية: «دع [البلد] … الذي تنبعث منه رائحةُ الدماء يتحول إلى بلدٍ يأكل فيه الناسُ الخضروات.» ومع ذلك كان الدين يُقدم أيضًا فرصةً للخلاص للأشخاص الذين أرادوا اتباع ماني دون مراعاةِ جميع مبادئه؛ ففي نهاية الأمر، كان يتعيَّن أن يرتكبَ شخصٌ ما خطيئةَ قطف الثمار ليأكلَها الشيوخ. وأبرأَ الشيوخُ أتباعهم من هذه الخطيئة بهضمِ طعامهم وَفْق طقسٍ صارم، كان الهدفُ منه تحريرَ نُتَفِ الضوء المحتبِسة داخل الطعام. كان هذا الهيكل المكوَّن من الشيوخ والأتباع يعني أن للدِّين أشخاصًا يتقشَّفون تقشفًا مِثاليًّا وقادرون على طلب الشفاعة من الله نيابةً عن الطائفة بأسرِها، مما يترك لأتباعهم حريةَ العيش حسب اختيارهم؛ بشرط أن يعتنوا بالشيوخ ويُوقِّروهم. وكما سنرى، لا تزال بعض العقائد في الشرق الأوسط تستخدم هذا الهيكل حتى يومنا هذا.

في نحو سنة ۲٤۰ غادَر ماني الأهوار والمجتمع الذي نشأ فيه وسافر شرقًا إلى عاصمة الإمبراطورية الفرثية. كان شخصيةً مميزة بمعطفه المتعدِّد الألوان، وبِنطاله المقلَّم، وحذائه العالي الرقبة. وبمساعدة الروابط الأرستقراطية لعائلته والموقف العامِّ للفرثيِّين تجاه الدين، القائم على عدم التدخُّل، كاد ينجح في أن يتبنَّى الإمبراطورُ قضيَّته؛ لكنه أُعدِم بسببِ جهوده. ومع ذلك، استمرَّت ديانتُه في الانتشار. وعندما اتَّجه أتباعُه شرقًا من إيران، اعتمَدوا على الرسومات البوذية لشرح رسالتهم. وصُور ماني على أنه «بوذا النور». وأُقيمَت مملكةٌ مانوية وسط الإيغور في آسيا الوسطى. وفي القرون اللاحقة، ازداد عددُ المانويين في الصين، حيث اشتهروا برفضِهم أكْلَ اللحوم. وكانت عبارة «عبدة الشيطان النباتيِّين» هي الطريقة التي وصَفَتهم بها السلطاتُ في مرسومٍ سنةَ ۱۱٤۱. وأدى الاضطهادُ الرسمي إلى تشرذم أعدادهم، لكن ربما ظلُّوا باقين في جنوب الصين حتى مطلع القرن العشرين. في الواقع، يبدو أن ماني لا يزال يُعْبَد، بمحضِ الصدفة، في مكانٍ واحد في الصين اليوم: ففي معبدٍ في شرق الصين، يعود تمثال بوذا ذو اللحية والشعر الأملَس إلى الوقت الذي بنى فيه المانَويُّون المعبد؛ والأرجح أنه كان في الأصل تمثالًا لماني.

في الغرب، كان تبجيلُ يسوع من تعاليم المانوية وكانت منافسًا جادًّا للمسيحية المبكِّرة. وكاد مانويٌّ يُدعى سيباستيانوس أن يُصبح إمبراطورًا لروما في منتصف القرن الرابع، ولو كان ذلك قد حدث، لَكان تاريخُ العالم سيختلف تمامًا. بدلًا من ذلك، اختفت المانوية إلى حدٍّ كبير في أراضي الإمبراطورية، حيث أصبحت المسيحيةُ دينَ الدولة في روما، وبدأَت السلطات الرومانية في قمع العقائد المنافِسة. صمَدَت المانوية وقتًا أطولَ بين المسلمين، وتولَّى المانويون مَناصبَ مركزيةً في الحكومة، حتى قرَّر الخليفة المهديُّ في القرن الثامن أن أتباعها أصبحوا أقوياءَ أكثرَ من اللازم، وصَلَبَ أعدادًا كبيرة منهم. وعرف العالِم المسلم ابن النديم، الذي ترك روايةَ حياة ماني التي يستند إليها ما ورد أعلاه، بعضَ المانويين في بغداد في القرن العاشر، لكن لا يبدو أنهم عاشوا أكثرَ من ذلك بكثيرٍ في ظل الحكم الإسلامي.

ومع ذلك، تركَت المانوية أثرًا ممتدًّا في الحضارة الأوروبية. إذ توجد بعضُ الأدلة على أن المسيحيين شعَروا بالحاجة إلى محاكاةِ التقشف غير المسبوق لرجال ونساء ماني الورِعين. واستلهامًا من اعتقادهم أن الشرَّ كان يتخلَّل المادة وأنها كانت سجنًا للروح، حاولَت النخبةُ المانوية تثبيط كلِّ الدوافع الجسدية، وحَذا حذْوَهم النسَّاكُ المسيحيُّون، فحرَموا أنفسَهم من النوم، وأكلوا العُشب والفاكهة فقط، وخَصَوْا أنفسهم في بعض الأحيان. وكانت الرَّهبنةُ المسيحية قويةً بوجه خاص في مصر، حيث كانت أديرةٌ مانوية بالفعل قد أُنشِئَت. وكان القديس أغسطينوس، الذي كان مؤمنًا إيمانًا قويًّا بالخطيئة الأصلية ومدافعًا عن العفَّة، مانَويًّا وشعَر بالحاجة إلى مقاومة دعوتها. باختصار، قد لا يزال الزهد والرهبنة في المسيحية الحديثة مَدينين لماني.

أما المندائيون فليسوا مانويين ولا مغتسلة. وعلى عكس هاتين المجموعتَين، فإنهم يرفضون المسيحَ ويعتقدون أن الزواج وإنجابَ الأطفال واجباتٌ أخلاقية. لكن مِن نواحٍ أخرى، لديهم العديدُ من الأشياء المشتركة مع المانويين. فهم يرفضون إبراهيم ويؤمنون أن الجسد سجنٌ للروح. ويؤمنون بمَلاك من نور، هو هيبل زيوا، يُصارع الظلام دائمًا. ويعتقد المندائيون أنَّهم شراراتٌ من النور الكوني التي انفصلَت عنه وأصبحَت مُحاصَرةً في وطنٍ مادي. وعندما تتحرَّر بالموت من سجونها الجسدية، يمكن لشراراتِ الضوء هذه أن ترتقيَ مرةً أخرى إلى النور العظيم الذي أتَت منه يومًا ما. لذلك في الجنازات، قد يُخاطب الكاهن المندائيُّ روحَ رجل ميت على النحو التالي: «لقد تركت وراءك الفساد والجسد النتن الذي وجدتَ نفسك فيه، مسكن الأشرار، المكان الذي كلُّه خطايا، عالم الظلام، والكراهية والحسد، والفتنة، المسكن الذي تعيش فيه الكواكب، جالبة الأحزان والأسقام.» ويعتقد المندائيون أن الطريقة التي يأكل بها الكاهن وجبةً مقدَّسةً في جنازةِ عضو متوفًّى من المؤمنين بعقيدتهم يمكن أن تُحدِث فرقًا في مصيرِ ذلك الشخص في الحياةِ الآخِرة. هذه كلُّها أفكار وممارسات كانت مألوفةً لأتباع الديانة العراقية الأخرى، المانوية. لذلك فإن المندائيين حلقةُ وصل ليس مع تاريخ الشرق الأوسط القديم فحسب، وإنما أيضًا مع تاريخ المسيحية.

•••

من المرجَّح أن عدد المندائيين أقلُّ من مائة ألف في العالم كلِّه، وحتى سنة ۲۰۰۳ كان معظمُهم يعيش في العراق. ليس كلهم متديِّنين، كما اكتشفت عندما التقيتُ للمرة الثانية بأحد المندائيين، هذه المرة في مقهًى في مانهاتن، سنة ۲۰۰۹. كانت نادية قطَّان في زيارةٍ للولايات المتحدة قادمةً من بريطانيا، التي منحَتها حقَّ اللجوء. وعلى الرغم من أنها قد غادرَت العراق، بقيت، على حدِّ تعبيرها، «عراقية متشددة. فنحن أناسٌ عمليون، ولسنا مهتمِّين بالإبهار. وأنا عاطفية وانفعالية، ولستُ مثلَ الأوروبيين.» وبسبب نشأتها في عائلة يسارية في ضواحي بغداد، رأت نادية نفسَها عراقيةً أولًا ومندائية ثانيًا. وكان لديها أصدقاءُ من دياناتٍ مختلفة كثيرة، ولم يكن والداها شديدَي الالتزام. تابعَت قائلةً: «لم يُعلِّماني شيئًا عن الدين، فقط القواعد الأخلاقية: ألا أكذب، وألا أسرق، وأن أتذكر دائمًا أنني امرأة.»

لم تكن الكتب المندائية المقدَّسة متاحةً لنادية لتقرَأها، حيث كان الكهَّان يحتفظون بها في معبد يُسمى «مَنْدي». ولم تكن عائلتها تُصَلِّي، وفي بيتهم في بغداد، الذي وصفَته لي، كان من اللازم أن يتمتَّع المرءُ بعينٍ ثاقبة ليُلاحظ أيَّ شيء يُميزهم عن غيرهم من عائلات الطبقة الوسطى العلمانية العراقية. كان ما تُلاحظه العين لأول وهلة هو غيابَ الأشياء، وليس وجودَها. فالجدران لم تكن مُزيَّنةً بآياتٍ قرآنية، ولا بأيِّ صورةٍ للكعبة المشرفة في مكة مع آلاف الحجاج الذين يرتدون ملابسَ بيضاء وهم يطوفون بها، ولا بصورةٍ مرسومة للإمام الحسين (التي يميل الشيعةُ إلى امتلاكها). وبنظرة فاحصة، قد يرى الزائرُ المميِّز المزيدَ من الأدلة على المندائية. إذ كانت صورةٌ متوارية عن الأنظار «للدرفش» معلَّقةً على حائط غرفة المعيشة. وكانت أرْديةُ وأحزمة التعميد البيضاء الخاصة بالعائلة، التي كانت تُستخدَم في عمليات التغطيس المقدَّسة في مياه نهر دجلة، مُخزَّنةً في خِزانةٍ مُطهرة من كلِّ دَنَس، جاهزة للمناسبات النادرة عندما يحتاجون فيها إليها.

نشأَت نادية في بغداد، لكنَّ عائلتها لم تنتقل إلى هناك إلا في سبعينيات القرن الماضي. قبل ذلك كانوا يعيشون في بلدةٍ صغيرة في جنوب العراق تسمى «سوق الشيوخ». وكان والد نادية مدرسًا هناك، وكان لديه متجرُ ذهبٍ صغيرٌ كعملٍ جانبي. وعندما عادت العائلة إلى هناك لحضور الأعياد المندائية، عاشت نادية تجرِبةَ ممارسة دينها حقًّا كما ينبغي، وقَضَت الوقتَ مع جَدَّيها المتدينَين. وفي صورةٍ قديمة أرَتْنيها نادية، رأيت جدَّها: مُحاطًا بأطفال يرتدون ملابسَ غربية، كان رجلًا مُسنًّا ذا لحيةٍ طويلة ويرتدي كوفيةً باللونَين الأحمرِ والأبيض. ولم يكن يأكل اللحمَ إلا إذا كان مأخوذًا من حيوانٍ ذكَرٍ لا تشوبه شائبة، ذُبِح مولِّيًا وجهَه إلى الشمال ثم نزف دمُه حتى جف، ولم يسمح إلا لزوجته بإعداده. كانت بجواره في الصورة: امرأةٌ متديِّنة بالقدْر ذاتِه، ترتدي ملابسَ سوداء بالكامل وتضع حِجابًا على شعرها. كان حدَّادًا ومارسَت هي الطبَّ الشعبي، حيث كانت تُعالج أمراض العيون التي قد يُصاب بها المزارعون المحليُّون خلال موسم حصاد الأرز. عندما زارَت نادية هذين الجدَّين، قيل لها إنها إذا كانت في فترة الحيض، فعليها الجلوسُ على طاولةٍ منفصلة. كان هذا تطبيقًا صارمًا لقاعدة مشتركة بين كلٍّ من البابليين القدماء واليهود (في بابل كان الرجل الذي يمسُّ امرأةً حائضًا يصبح نجسًا لمدة ستة أيام). لكن مع نادية انتهى هذا الأمر. فقد رفضَت، وفي النهاية توقَّف جَدَّاها عن الشكوى من انتهاكها للقواعد.

كان هذان الزوجان قد وصلا إلى سوق الشيوخ سنة ۱۹٤۹. قبل ذلك كانا يعيشان في الأهوار العراقية، تلك المتاهة الشاسعة من الجزُر الصغيرة، وأحواض القصب، والجداول الضحلة التي تحدُّ البلدة من جانبها الشرقي. يتألَّف غالبيةُ السكان من قبائلَ مسلمةٍ مستقلةٍ بشدة. وقد عاش هناك الرحَّالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر في خمسينيات القرن الماضي ووصَفَها بأنها «عالم مكتملٌ بذاته»، مع أدنى حدٍّ من التدخُّل من الخارج. كان مفتونًا بالقبائل، التي وجد بينها مزيجًا غريبًا من التسامح (على سبيل المثال، تقبُّل النساء المسترجلات اللائي كنَّ يُعاشرن نِساءً أُخريات) والصلابة (كانت القوانين المنظِّمة للطهارة صارمةً لدرجة أن الرجل قد يرى ابنَه ينزف حتى الموت ولا يلمسه خشيةَ أن يتنجَّس عقائديًّا).

يذكر ثيسيجر بإيجاز المندائيِّين الذين عاشوا جنبًا إلى جنب مع المسلمين في الأهوار. ويُعلق على لِحاهم الطويلة، وأغطيةِ الرأس ذات المربَّعات باللونَين الأحمرِ والأبيض، والمشغولات الفِضية، وعادة تربية البط، التي كان المسلمون المحليون يعتبرونها حيواناتٍ نجسة. من يعرف: ربما التقى ثيسيجر بجَدِّ نادية من الأم، الذي عمل لحساب زعماء القبائل في تصليح الأسلحة من أجل رحلات صيدهم. أخبرتني نادية: «كان يمكنه فكُّ بندقية وإعادةُ تجميعها.» كان جدها من جهة والدها يصنع قواربَ صغيرةً وبسيطة يستخدمها السكان المحليون للتنقل، إذ كان التنقلُ في أنحاء الأهوار في الماء أيسرَ منه على الأرض. كانت هذه القوارب تُسمى «بيليم»، وهي كلمة ذاتُ جذور سومرية.

figure
التقط ويلفريد ثيسيجر هذه الصورة سنة ۱۹٥۰ لعربٍ من الأهوار العراقية يستخدمون «البيليم»، وهو نوعٌ من القوارب التي يعود تاريخها إلى العصر السومري، للتنقُّل عبر الأهوار، التي كانت معزولةً للغاية لدرجة أنه أطلق عليها «عالم مكتمل بذاته». الصورة مُهداة من متحف بِيت ريفرز.

يُطلَق على أحد الأعياد المندائية اسمُ «الأيام البيضاء» وهو إحياءٌ لذِكرى الأيام الخمسة التي يعتقد المندائيون أن العالم قد خُلق فيها. أثناء طفولةِ نادية، كان هذا العيد في شهر أبريل (لا يحتوي التقويمُ الديني المندائي على سنواتٍ كبيسة؛ لذلك تنتقل تواريخُ أعياده بشكلٍ طفيف جدًّا من سنةٍ شمسية إلى أخرى)، وأخذها والداها هي وشقيقُها عائدَين إلى مسقطِ رأسهما للاحتفال مع العائلة الكبيرة. وصفَت لي نادية منازلَ البلدة الصغيرة، التي كان بعضها يتمتَّع باللون البُنِّي ذاتِه الذي تتَّسم به الحقول والأنهار، وكان البعض الآخر مصنوعًا من البوص. عاش مندائيُّو البلدة معًا في منطقةٍ واحدة. كان الأطفال يلعبون في الطريق ويتنقَّلون من منزلٍ إلى آخَر طلبًا للطعام أو الحلوى. ولو حالفَهم الحظ، فربما كانوا يتحصَّلون على ما يختصُّ به المندائيون، وهو بطُّ المالارد البرِّي المحشوُّ بالقرفة والحبَّهان، والبصل المفروم، والمكسَّرات، والزبيب، المسلوق بالليمون المجفَّف والكركم. وللسيطرة على الأطفال، كان الكبار يُحذِّرونهم من أنهم إذا أساءوا التصرُّف، فإن فُرسان الصحراء المتوحشين سيُمسكونهم ويخطفونهم.

figure
رجل مندائي صوَّره ويلفريد ثيسيجر في الأهوار العراقية، وهو يضع القار على قارب، مثلما كان جَد نادية يفعل يومًا ما. الصورة مُهداة من متحف بِيت ريفرز.

تُعَدُّ الأيام البيضاءُ عيدًا بهيجًا، لكن رأس السنة المندائية عيدٌ ديني يتَّسم بجانبٍ أكثرَ رعبًا. إذ يُقال إن الشرَّ يجوب الأرض مدةَ ستٍّ وثلاثين ساعةً في هيئةِ روح أنثى تُسمَّى روها. وتماشيًا مع التقاليد، حاوَل والدا نادية إجبارَها على البقاء في المنزل في هذا الوقت، ولكن دون جدوى. قالت لي: «لم آخُذ الأمر على محمل الجِد. لكن قيل لي إن روها قد تتمثَّل في هيئة دبور، أو نحلة، أو شجرة، أو طائر وتُحاول إيذائي. أو قد تصدمني سيارة. لقد كان الخروج من المنزل في ذلك الوقت نذيرَ شؤم.» حتى في منزلها العَلماني، لا يزال هذا المقدَّس/المحرَّم تحديدًا يتمتَّع ببعضِ القوة.

وبالإضافة إلى العيد السعيد والعيد المُخيف، لدى المندائيِّين عيدٌ حزين أيضًا. ففي اليوم ذاتِه الذي يُحيي فيه المسلمون الشيعةُ ذِكرى عاشوراء — يوم الحِداد على وفاة الحسين، حفيدِ النبي، وإخفاقهم في مُساعدته — يندبُ المندائيُّون أيضًا، ويُحضِّرون وجبةً خاصة من حساء الشعير المقشور، يُطلَق عليها اسم «أبو الحارث». بل إنهم ينضمُّون أحيانًا إلى مواكب الشيعة. لديهم تفسيرات مختلفة لما يُحيون ذِكراه بالضبط في ذلك اليوم — كان كلُّ ما تعرفه نادية «أنه إحياءٌ لذكرى وقتٍ مُفعَم بالتوتر» — لكن بعض المندائيين يعتقدون أنه إحياءٌ لذِكرى غرَق جنود فرعون في البحر الأحمر. وبينما يعتبر اليهودُ هذه الحادثةَ سببًا للاحتفال، فإن المندائيين — لسبب لا يعرفونه هم أنفسُهم — أصبحوا يتعاطفون مع المصريين. (كانت أيام حدادٍ كتلك شائعةً سابقًا في جميع أنحاء الشرق الأوسط. فقد اعتاد البابليون على تعنيفِ أنفسِهم مرةً كل عام بسبب تخلِّيهم عن جسدِ نبيٍّ وثَني، وهي فَعلةٌ اعتقدوا أنها تسبَّبَت في الطوفان العظيم.)

حضَرَت نادية وعائلتها أيضًا مع بقية الطائفة لتقديم الدعم المعنوي للرجال المندائيين الذين كانوا يُحاولون دخول الكهنوت. كانت مراسمُ الانضمام عمليةً شاقة. فمَن يطمح لهذا الأمر يتعيَّن عليه أن يقضيَ سبعةَ أيام في كوخ من القصب دون طعام أو نوم. حينها يحتاج إلى دعم أفراد الطائفة: حيث يقف بعضُهم خارج الكوخ يقرعون الطبول ويهتفون للتأكُّد من بقائه مستيقظًا، وتزغرد النساء. ويبقى «الجنزيبرا»، وهو ما يُعادل أُسقُفًّا مندائيًّا، مع الشخص المتطلِّع للانضمام إلى الكهنوت وينقش إحدى وعشرين كلمةً مؤثِّرة بعصاه المصنوعةِ من خشب شجر الزيتون على أرض الكوخ الترابية: فهي سرِّية للغاية بحيث لا يمكن الجهرُ بها، وعندما يتعلَّمها يكنس الجنزيبرا الغبار لضمان عدم تمكُّن أيِّ شخص آخر من قراءتها. ولإكمال التلقين يجب على الشخص المتطلع لذلك أن يأكل وجبةً شعائرية، مُتبِعًا مجموعةً معقَّدة ودقيقة من التعليمات. ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا، يجب أن يُطلق لحيتَه وأن يلتزم بقواعد الطهارة الصارمة.

لكن يوجد مستوًى أعلى من القداسة والمعرفة، متاحٌ فقط لأولئك الذين عُيِّنوا في رُتبة الجنزيبرا، مثل الشيخ ستار. وهذا منصبٌ لا يستطيع أيُّ رجل حيٍّ منْحَه في التقاليد المندائية. ويجب إرسالُ رسول إلى الحياة الآخرة لطلبِ الإذن بذلك. حيث يبحث مَن يرغب في تولِّي منصب الجنزيبرا عن شخص على وشك الموت ويُخبئ زجاجةً من الزيت المقدَّس في جيب الثوب المزيَّن بالذهب والفِضة الذي يجب على المندائيِّين المحتضَرين ارتداؤه. ويجب أن يقول الكاهن: «أحضرتُها إليك، وأنت ستحملها إلى أباثر.» ويكتمل الطقس بعد وفاة الرسول ووصول روحه إلى أباثر، ديَّان الأموات، الذي يتلقَّى منه تأكيدًا لطلب المتطلع إلى منصب الجنزيبرا.

يمكن للرجال فقط الانضمامُ للكهنوت المندائي، ويمكن للرجال فقط الزواجُ من غير المندائيات مع الاستمرار في نقل الدِّين إلى أطفالهم. وتُحرَم المرأة التي تتزوج من الخارج من التعميد، ولا يُمكنها أن تُعَمِّد أطفالها. ارتأتْ نادية أن عدم المساواة هذه بين الجنسَين لم تكن الروحَ الأصلية للمندائيِّين. وللتأكُّد من ذلك، رجَعَت إلى الكتب المندائية المقدَّسة؛ فبدلًا من أن تكون حوَّاءُ مخلوقةً من ضِلَع آدم، كما ذُكر في سِفْر التكوين، تقول النسخة المندائية إنهما خُلِقا معًا. وقالت لي: «أنا متأكدة أنه في وقتٍ ما، كان يمكن للنساء المندائيات أن يُصبِحن كاهنات، وليس الرجال فحسب.» كانت على حق؛ ففي كتاب يوحنا، غيَّرَت امرأةٌ يهودية دينَها إلى المندائية وأصبحَت كاهنة. (وبالمثل، في بابل القديمة، كان بإمكان النساء أن يعملن كاهنات. وبالإضافة إلى ذلك، بلغَت النساء أحيانًا مناصبَ سلطة عَلمانية في الشرق الأوسط القديم. فقد كان للبحرية الفارسية القديمة أميرال أنثى — تُدعى أرتميسيا، في القرن الخامس قبل الميلاد — وفي القرن الثالث الميلادي، كان لمدينة تدْمر مَلِكةٌ قوية، اسمها زنوبيا.)

•••

إن أهمَّ طقس مندائيٍّ على الإطلاق هو التعميد. وتقول إحدى وجهاتِ النظر عند المندائيين إنهم انتهَجوا هذه الممارسةَ من أتباع يوحنا المعمدان اليهود الفارِّين شرقًا من الاضطهاد الروماني؛ وثَمة رأيٌ آخَر يقول إنه ربما كان التغطيسُ في مياه نهر دجلةَ ممارسةً قديمةً في العراق ذاتِه، كما كان في مصر. ومن المؤكد أن التقاليدَ المُصاحِبة للطقس هي تقاليدُ مندائية بصورة مميزة. وكما كان يفعل الكهنة لأطفال العراق في عصورِ ما قبل المسيحية، عندما وُلِدت نادية قرأ قَسٌّ النجومَ واستخدمَها لاستنباط برجٍ لها. وعندما بلَغَت السابعة عشرة من عمرها، استخدم كاهنٌ آخر في بغداد ذلك البرجَ ليختار اسمًا سِريًّا لها، ألا وهو «مِلواشة». وبينما كانت جالسةً القُرفُصاءَ في مياه نهر دجلة، مرتديةً حزامًا حول خَصرِها، وخاتمًا من أوراق الآس في إصبعها، وثوبًا أبيضَ يُغلف رأسها وجسمها، غمَرَها في الماء ثلاثَ مرات، ورسم علامةً على جبهتها بالماء ثلاث مرات، وجعلها تبتلعُ ماء النهر ثلاث مرات، وتوَّجَها بنَبْتة الآس، وصلَّى عليها، وسمَّاها. قالت لي: «سيكون هذا اسمي في الدين، طوال حياتي وما بعد ذلك.»

figure
نادية (أقصى اليمين) تستعدُّ لتعميدها في بغداد عام ۱۹۹۱. إنها ترتدي الحجاب بسبب قَداسة المناسبة، وتحمل غُصنًا من نبتة الآس. خلف المجموعة، صورة تُظهِر تعميدًا قيد التنفيذ. الصورة مُهداة من نادية قطان.

كانت أربعةُ جوانبَ من هذا الطقس مألوفةً لأي بابليٍّ في الألفية الأولى قبل الميلاد. الأول هو اللغة التي يؤدَّى بها. وقد تعرَّفتُ على هذه اللغة عندما ذهبتُ لفحص الكتب المندائية المقدسة المحفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس. وبسبب حالة الكتب المهترئة، استغرق الأمرُ بعض الإقناع قبل أن يسمح لي الموظفون بالاطلاع على أحدِها. وبينما كنتُ أقلب في صفحاته، فكَّرت في أن الكاتب المندائي الذي نسَخها بعنايةٍ كبيرة في القرن السابع عشر، تاركًا مسافةً بين أسطره وكاتبًا كلَّ حرف بمهارة، كان سيُصاب بالفزع عندما يراني أقرؤها. فلم يكن مسموحًا سوى للمندائيين المنضمين للكهنوت أن يطَّلعوا على هذه النصوص.

ربما كان الكاتب يشعر بمزيدٍ من الفزع عند رؤية الغلاف الجلدي للمجلَّد، المختوم بشعارِ زهرة زَنْبق، والذي كان أمينَ المكتبة الملَكية الفرنسية قد وضَعه على الكتاب عندما دخل مجموعة الملك لويس السادس عشر. فالكهنة المندائيون لم يستخدموا أبدًا المنتجات الحيوانيةَ مثل الجلد لتجليد كتبهم — وهو أثر، كما يقول بعض العلماء، من زمنٍ كان يحظر فيه دينُهم اللحومَ تمامًا. كانوا يستخدمون قماشَ الشيت مادةً للتجليد، أو ينقشون الصفحاتِ على الخشب أو حتى يحفرونها بمادةٍ حمضية على الرصاص. كانت الكلمات ذاتُ الزوايا الحادَّة التي انحدَرَت من اليمين إلى اليسار عبر الصفحة مكتوبةً بخطٍّ غريب بالحبر الأسودِ على الورق الليفي السميك: لعينِي غيرِ المدرَّبة، كانت مشابهةً للُّغة العربية ولكن مع بعض الأحرف الإضافية وعددٍ أقلَّ من النقاط التي تُميز الأبجدية العربية. كانت هذه تحديدًا لهجةً مندائية من اللغة الآرامية، لغة العراق قبل العربية.

افترض الكتَّابُ المسلمون الأوائل، علمًا منهم بأن الآرامية قد سبَقَت لُغتهم، وهي العربية، أن الآرامية كانت قديمةً قِدَم العالم ذاتِه وأن آدم تحدَّث بها بعد هُبوطه من الجنة. في الواقع، عندما ظهرَت بابل لأول مرةٍ قبل أربعة آلافِ عام، كانت لُغتها الرسمية هي السومرية، التي حلَّت محلها تدريجيًّا لغةٌ تُسمى الأكادية؛ ويمكننا أن نُخمن أنه لبعض الوقت كانت الأكادية تُعتبر شيئًا مثل العامية؛ لأن قصيدةً هَزْلية عمرها أربعةُ آلاف عام تتذمَّر مما حدث عندما عُثر على الشاعر، عندما كان صبيًّا، يتحدَّث الأكادية في المدرسة (بالإضافة إلى كسره لكلِّ القواعد الأخرى): «قال مُراقب الباب: «لماذا خرجت دون إذني؟» وضربَني. وقال مُراقب الإبريق: «لماذا أخذتَ ماءً دون إذني؟» وضربني. وقال المراقب السومري: «لقد تحدثتَ بالأكادية!» وضربني.» لم تصبح الآرامية اللغةَ اليومية للمدينة إلا في القرون الأخيرة من وجود بابل. ويتحدث أيضًا المندائيون في إيران شكلًا من أشكال اللغة الآرامية، ولا تزال لغةٌ وثيقةُ الصلة بها، تُكتب بخطٍّ مختلف ولكن مُشابه، تُستخدَم بين المسيحيين في شمال العراق.

•••

مُنِحَت نادية اسمها الديني بعد دراسةِ كاهنها المتأنية للنجوم؛ وهذا هو الإرث المندائي الثاني من البابليين، الذين كانوا علماءَ فلَك متفانين. كان البابليون أولَ مَن قسَّم السماء إلى اثنَي عشَر برجًا، واختاروا الرقم اثنَي عشر ليتناسبَ مع عدد دورات القمر كلَّ عام. ورأى مُراقبو السماء المجتهدون في وقتٍ مبكر — بالتأكيد بحلول عام ۱٥۰۰ قبل الميلاد — أن بعض النجوم تتصرَّف على نحوٍ مختلف عن النجوم الأخرى. فقد كانت أكثرَ إشراقًا وتتحركُ عبر السماء بطريقةٍ مختلفة. وأطلق المراقبون على هذه النجوم اسم «لو-بات»، ويعني «الأغنام المتجولة». وتُرجم المصطلح إلى اليونانية ليصبح aster planetes، الذي يعني «النَّجم المتجوِّل»، والذي بدَوره أعطانا الكلمة الإنجليزية planet (أي كوكب).
اكتشف علماء الفلك البابليُّون خمسةَ كواكب؛ عُطارد، والزهرة، والمرِّيخ، والمشتري، وزُحَل (وليس أورانوس ونبتون، اللذَين كانا غيرَ مرئيَّين للعين المجرَّدة). ووضَعوا الشمس والقمر في هذه المجموعة أيضًا — ليُصبحوا سبعة — وأطلَقوا على كل واحدٍ اسمَ إله، مثل مردوخ، وعشتار، ونبو. ثم اخترعوا الأسبوعَ وجعَلوه مدَّةً تتكون من سبعة أيام، يومٌ لكلِّ إلهِ كوكب. (وببراعة، شكَّلَت الأيامُ السبعة رُبع دورةٍ قمرية أيضًا.) لقد وَرِثنا عن البابليِّين عادةَ تسمية الكواكب وأيام الأسبوع باسم الآلهة: عطارد، فينوس، بلوتو؛ Saturday السبت من Saturn زحل، وThursday الخميس من Thor ثور، وSunday الأحد وMonday الإثنين من sun الشمس وmoon القمر. وعند البابليِّين، كان يومٌ واحد من الأيام السبعة يُعتبر يومًا شرِّيرًا، يجب تجنُّب مُزاولة أي نشاط فيه؛ وقد يكون هذا أصل يوم السبت Sabbath الذي انتهجَته اليهودية.

ولأن الكواكب كانت آلهة، كان سلوكُها علامةً على نوايا الآلهة. وكانت النجوم أيضًا كائناتٍ إلهية. وكان المنجِّمون المهَرة الذين يُطلَق عليهم اسم «أومانو»، مثلهم مثل الكهنة المندائيِّين، ينصحون الملك بشأن النُّذُر التي كانوا يرَونها في السماء ليلًا وكيفية تجنُّب أي مرض تُنذر به. وكانوا يُصلون للنجوم («أيتها النجوم العظيمة، آلهة الليل … أيتها الثُّريَّا، والجوزاء والتنِّين») قبل التمعُّن فيها. في النهاية، تنبَّأ البابليون بشأن حياةِ الناس بِناءً على موضع الآلهة عند ولادتهم. على سبيل المثال، نجا لوحٌ من الطين يُخبرنا عن ولادة صبيٍّ يُدعى أرستقراطِس سنة ۲۳٥ قبل الميلاد: «في ذلك اليوم: القمر في بُرج الأسد، والشمس في برج الجوزاء على خطِّ طول ۱۲ درجة و۳۰ دقيقة، وكوكب المشتري (جوبيتر) في بُرج القَوس على خطِّ طول ۱۸ درجة. ويعني مكانُ كوكب المشتري أنَّ حياته ستكون منتظمة، وسيُصبح ثَريًّا، وسيكبر في السِّن، وستكون أيامُه عديدة.» لقد استمرَّ هذا التقليدُ آلافَ السنين: وفي الصفحات الخلفية للصحف الأوروبية والأمريكية اليوم توجد تنبُّؤات ربما كان سيتعرَّف عليها المنجِّمون البابليون القُدامى.

بيت القصيد، أن الكهنة المندائيِّين والجنزيبرا لديهم عادةٌ مماثلة متمثِّلة في إجراء الحسابات الفلَكية من أجل تحديد الساعات المناسبة للأنشطة المختلفة. فعندما يتزوج شخصان مندائيان، قد لا يُمارسان الجِماع حتى الوقت المناسب، الذي يُحدده مسبقًا الجنزيبرا من خلال مراقبة النجوم. وبعد ذلك يُعتبران غيرَ نظيفَين؛ وكما يقول المؤرخ اليونانيُّ من القرن الخامس هيرودوت، إن الأزواج البابليين اعتادوا أن «يغتسلوا عند بُزوغ الفجر. ولن يلمَسوا أيَّ أدوات منزلية قبل أن يغتسلوا.» (عند المندائيين، يُمثل الاغتسالُ طقوسَ التعميد. وعند البابليين، أيضًا، من المحتمل أنه كان يعني الاغتسال في النهر.)

لا يزال للرَّقْمَين سبعةٍ واثنَي عشَر أهميةٌ خاصة في الثقافة الغربية: فهناك السماء السابعة، ورقم الحظ سبعة، والحواريُّون الاثنا عشر، وفُرسان المائدة المستديرة الاثنا عشر، وآلهة جبل أوليمبوس اليونان الاثنا عشر. ولكن عند المندائيِّين، كان لكلٍّ من «السبعة» و«الاثني عشر» معناهما البابليُّ الأصلي، حيث يُشيران تحديدًا إلى النجوم والكواكب على أنها كائناتٌ خارقة للطبيعة وشبه إلهية. ففي كتاب يوحنا المندائي تظهر العبارة التالية: «أرسل إليه السبعة تحياتهم، وانحنى أمامه الاثنا عشَر.» فهم لا يزالون يؤمنون، كما كتَبَت الباحثةُ في المندائية إي إس دراور، أن «الكواكب هي مخلوقات الله، وفي كلٍّ منها رُوح.» في ثلاثينيات القرن الماضي، عرَفَت دراور شخصًا مندائيًّا يُدعى هرمز بار أنهار، قال لها: «أنا أعبد كلَّ «المِلكي»» أي الكائنات السماوية «لكن عبادتي الخاصة هي للشمس.» ويبدو أن هرمز اعتبَر الشمس نوعًا من الملائكة؛ فكلمة «عبادة» تُشير إلى أنها نوعٌ من الآلهة، لكنَّ المندائيِّين لا يعتبرون أنفسَهم وثنيِّين ويرفضون بشدةٍ أي إشارة إلى أنهم «عبَدة نجوم». وعلى عكس البابليين، لا يملك المندائيون معابد للشمس والقمر. ومع ذلك، فقد حافَظوا بوضوحٍ على العديد من العادات والمعتقدات البابلية فيما يتعلق بالنجوم والكواكب.

•••

في معمودية نادية، بينما كانت تقفُ في مياه نهرِ دِجْلة، كان من المفترض أن يبقى الاسم الذي قاله الكاهن لها سرًّا، وهذا هو الجانب الثالث من الطقس الذي يربط طائفتَها ببابل القديمة. فقد كانت السريةُ مَبدأً إرشاديًّا للمندائيين وللثقافات التي أتَوا منها. وعندما كان ابنُ وحشية يؤلف كتابَ «الفلاحة النبطية» في القرن التاسع الميلادي، مسجِّلًا المعرفة الزراعية لسكانِ ما قبل الإسلام، واجه العديدَ من العقَبات في بحثه؛ لأن الأنباط كان لديهم مجموعةُ قواعد صارمة خاصة بالسرية. وسُئل: «هل تريد معارضةَ طريقة شيوخنا وأجدادنا، ووعْظِهم لنا أن نُخفِيَ ديننا وعاداتنا؟» لذلك توصل إلى حل وسط: كان يُخبر القراء عن بعض «علم» الأنباط ولكن لا يُخبرهم شيئًا عن دينهم. وللتأكيد التامِّ على أنه لم يُفْشِ أسرارًا، يُخبرنا الكاتب أنه خلط بين الأكاذيب والحقائق لإرباك القارئ العادي. ويُعطي مثالًا على الشفرة التي صنَعها: يبدو أن عبارة «سيختفي الباذنجان مدةَ ثلاثة آلاف عام» تعني أنه كانت توجد ثلاثة أشهر من السنة لا ينبغي فيها أكل الباذنجان.

كانت إي إس دراور صديقةً حميمة للمجتمع المندائيِّ («أخت عزيزة في الإيمان»، كما دعاها أحدُ الكهنة المندائيين). ومع ذلك، لم تتمكَّن من رؤية نصوصِهم المقدَّسة إلا بعد تِسع سنوات من السؤال. وعندما وجَد رؤساءُ الكهنة في المجتمع أنها نجحَت في فكِّ شفرة بعضِ كتبهم المقدَّسة، انتابَهم، وَفْقًا لروايتها، «استياء وغضب. وقالوا إن هذه اللَّفائف تحتوي على «أسرار»، معرفة لا تُنقل إلا إلى الكهنة فقط عند التنصيب وليس للناس العاديِّين أو الغرباء على الإطلاق.» وأثناء قراءتها للمخطوطات، وجدَت أن صفحاتها الاستهلاليةَ كان منقوشًا عليها لعناتٌ على كل مَن كشَفها لغير المنتمين إليهم.

يُمكن الاطِّلاع على الكتب التي قرأتها دراور اليوم في قبوٍ تحت الأرض تابعٍ لمكتبة بودلي في أكسفورد. وفي تلك الكتب، وفي نُسَخ دراور المنشورةِ للأساطير الشفوية التي رواها لها المندائيُّون في ثلاثينيات القرن الماضي، اكتشفتُ المزيد عن أساطيرهم الأساسية وشخصياتها المدهِشة. ففيها كرون، جبل اللحم، الذي يبدو قليلًا مثل «جابا ذا هات»، شخصية سلسلة أفلام حرب النجوم؛ فكما كتبت دراور، «العالم المنظور كلُّه مستقرٌّ على مَلك الظلام هذا، وشكله يُشبه شكل قملة ضخمة.» وفيها إبراهيم، الذي يظهر بوصفه مندائيًّا فاشلًا تدفعه روحٌ شريرة للمغادرة وإنشاء مجتمَعِه الخاص. وفيها التنين أور، المكوَّنةُ بطنُه من النيران، ويجلس فوق محيطٍ من الزيت القابل للاشتعال. وتحتوي على بتاحيل «الذي يأخذ الأرواحَ لِتُوزَن ويُرسل أشباحه لجلب الأرواح من أجسادها.» كانت الشخصية المفضَّلة لديَّ هو الشيطانَ دنانوخت، وهو نصفُ رجل ونصف كتاب و«يجلس بجانب المياه بين العالمين، يقرأ.»

قالت نادية إن سببَ السِّرية كان مرتبطًا بالإيمان بالسِّحر. «فبعض الناس يظنُّون أنهم إن أفصَحوا عن اسمِهم، يمكن استخدامُه في السحر الأسود. لكنني أثقُ بك.» وأردفَت، ضاحكةً: «ليس بإمكانك الوصول إلى كتب السحر الأسود.» والسحر هو حَلْقة الصِّلة الرابعة والأخيرة بين المندائيِّين المعاصرين والبابليِّين القُدماء. وتضمن كتاب «الفلاحة النبطية» عددًا ضخمًا من التعاويذ السحرية في قائمة التِّقنيات الزراعية. (تتضمَّن بعضُ الأمثلة ما يلي: تجنب البَرَد عن طريق وضع سُلَحفاة على ظهرها في منتصَف حقل، أو جعل ثلاث نساء حائضات يكشفن فُروجهن عند اقترابِ أي عواصفِ بَرَد لجعلِها تمضي في الاتجاه الآخر، باستخدام قوة دم الحيض الطاردة للشرور.)

في القرن السابع، قال الكاتب المسيحيُّ يوحنا ابن الفنكي (الذي كان يعيش بالقرب من المنطقة التي هي حاليًّا الحدود التركية العراقية) إن السحر كان أكثرَ شيوعًا في بلدته مما كان عليه في بابل القديمة. وفي ثلاثينيات القرن الماضي، كانت إي إس دراور مفتونةً ببقاء السحر في المجتمع العراقي. فقد كان السحَرة — من مُختلِف الأديان — يتنبَّئون بمستقبل الناس ويكتبون أيضًا تعاويذَ الحب. وكتبت عن تعويذة حديثة كان بإمكانها الحصولُ عليها بسهولةٍ من كتاب «الفلاحة النبطية»: «لمعالجة دمَّلِ بغداد … خُذ عصفورًا، واقتله، وضع جسده بحيث يلمس الدمُ الدافئُ الجديد القُرْحَ. ثم علِّق العُصفور. وبينما يجفُّ جسده، كذلك سيجفُّ الدمَّل ويختفي.»

كتبت دراور أن اليهود والمندائيِّين كانوا مشهورين بوجهٍ خاص بالتعاويذ. وفي الغالب كانوا يوزِّعون التمائمَ وتعاويذَ الحظِّ السعيد، لكنهم كانوا يستخدمون أحيانًا فنونًا سحريةً أكثرَ ظَلاميةً. تتضمَّن مجموعة دراور في مكتبة بودلي كتابًا عن «السحر الأسود»؛ أجازت دراور استخدامَ هذا المصطلح لأنه، على حدِّ قولها، حتى في اللغة المندائية وُصف هذا الكتابُ بأنه «شرير»، حيث احتوى على تعاويذَ لتدمير الزِّيجات، والإصابة بالمرض، وإلقاء اللَّعنات. تصفَّحت الكتاب ورأيت رسومًا توضيحيةً لجسم الإنسان، ومخطَّطات رقمية، ورموزًا غريبة، وحروفًا غيرَ مقروءة تتكرَّر مِرارًا وتَكرارًا، وكلها ملطَّخة بالحبر (ربما يُشير ذلك إلى افتقار الكاتب للمهارة؛ أو ربما بُلِّلَت الصفحات كجزءٍ من الطقس المعمول به، ففي بعض الطقوس السِّحرية في الشرق الأوسط، يُشرب الماء الذي لامسَ حبر كتابٍ مقدَّس بوصفه نوعًا من الطقوس). ويصف الكتابُ تمائمَ مصنوعةً من أجنحةِ خفافيشَ مكتوبٍ عليها بدمِ هدهد ودمِ ذئب مسعور؛ وللشخص الذي مَسَّه شيطانٌ في يومِ أحَد (يوم المندائيِّين المقدس)، يجب عمل مرْهم من لُعاب حِصان، ودمِ قرد وحمامة، وعصيرِ نَعْناع ورِجلة، وزيت زيتون وسمسم، ثم يُدَس في أنف الضحية.

من الواضح أن بعضَ هذه التعاويذ متوارَثٌ عبر الأجيال منذ العصر البابلي. واكتشفَت دراور لفافةً سحريةً مندائيةً معروضةً للبيع يمكن دفنُها بجوار قبرٍ في زمن الطاعون لتجنُّب انتشار المرض؛ بدأت بعبارة «باسم ليبات، سيدة الآلهة والرجال»، وهو تضرُّعٌ لإلهة الحب البابلية ليبات (المعروفة أيضًا باسم عشتار). حكى المندائيُّون الذين كانوا مُعاصرين لدراور أن الناس كانوا يستشيرون ليبات بشأن العرَّافين ويُناشدونها لإلقاء تعاويذِ الحب. وعثرَت أيضًا على تميمة مندائية حديثة مصمَّمة للتفريق بين المتحابِّين، وكان نصُّها كما يلي: «فلينفصل بيل عن بابل، ونبو عن بورسيبا.» كان نبو هو الإلهَ الذي سُمي الملك نبوخذ نصر تيمُّنًا به، وكانت بورسيبا خرابًا أكثرَ من ألفَيْ عام.

والتميمة الأكثرُ شيوعًا بين المندائيِّين اليوم هي «السكندولة»، التي كانت نادية تُعلقها على جِدار مطبخِها. أخبرتني أنها توضَع تحت وسادة أو فِراش الأطفال الصِّغار، وتوضَع أيضًا في سلَّة ملابسِ العَروس في يوم زِفافها. (تُستخدَم علاجاتٍ لعين الحَسود، في التقاليد الأوروبية، في السياقات ذاتها؛ حيث تُخبر قصيدةٌ إنجليزية تقليدية عروسًا أن ترتديَ «شيئًا مستعارًا» و«شيئًا أزرقَ اللون» في يوم زفافها.) وتتكوَّن السكندولة من قرصٍ دائري مصوَّر عليه أربعةُ حيوانات: أسد، وثعبان، وعقرب، ودبور. وتمثل هذه الحيواناتُ قُوى الظلام وتُستخدَم لتخويف الأرواح الشريرة. في مدينة أوروك جنوب العراق اكتشف علماءُ الآثار الألمان تميمة على شكلِ عقرب يعود تاريخُها إلى القرن الثالثَ عشَر قبل الميلاد. زُيِّنت بوابة عشتار بمدينة بابل بفسيفساء تُصور مخلوقًا شبيهًا بالثعبان بقائمتَين أماميَّتين كقوائم القطط؛ ربما لأن بإمكانه أن يستحضر القُوى الشريرة لكلٍّ مِن الأسد والثعبان.

كانت خالة نادية تكسب رِزقها في بغداد من إلقاء التعاويذ، كما أخبرَتني نادية. وكانت جُدران منزل هذه الخالة رقيقة، وعندما كانت نادية تلعب وهي صغيرةٌ هناك مع أبناء خالتها، كان بإمكانهم جميعًا سَماعُ الاستشارة في الغرفة المجاورة بين الخالة وزبائنها المختلفين. وكان الناس يأتون إليها في أشدِّ الحاجة إلى شيءٍ قد يُحسِّن حياتهم؛ غالبًا ما كانوا يريدون أن تتزوَّج بناتهم رجالًا أثرياء، وكانوا يأمُلون في أن تساعدهم تميمة. وفي مرةٍ طلبَت الخالةُ مساعدةَ نادية. وطلبَت من الفتاة أن تكتب بسرعةٍ على ورقٍ كلَّ ما يدور في رأسها، ثم أخذت قِطَع الورق وأعطتْها للعملاء بوصفها تعاويذَ سحرية. كانت خالة نادية تؤمن بتأثيرِ هذه الأشياء؛ لأنه في كثير من الأحيان يجد الزبائنُ بالفعل تحسنًا في حياتهم بعد ذلك.

كانت خالة نادية شخصيةً لطيفة ومحبوبة، مما يساعد في تفسير السبب في أن الناس كانوا يُفصِحون لها عن مكنوناتِ صدورهم. ونتيجةً لذلك، كان لديها نظرةٌ ثاقبة في كل طبقةٍ من المجتمع العراقي؛ بما يكفي لجذبِ انتباه الشرطة السرِّية. قالت خالة نادية: «لقد اختبَروني. أرسلوا فتياتٍ متخفِّيات جلَسن معي وتحقَّقن مما كنتُ أفعله بالضبط. قالوا لي إنني كنتُ بريئة لأنني فعلتُ كل شيء علانية.» ربما كانوا يُحاولون تحديد ما إذا كان أيُّ شيء تخريبيٍّ يحدث؛ لأن العرَّاف يمكن أن يكون في وضعٍ يسمح له بتجنيدِ المتآمرين. أو ربما كانوا يبحثون عن أدلةٍ على استخدام السحر الأسود (أي اللعنات؛ فقد اعتُبِرَت التمائمُ وقراءةُ الطالَعِ سحرًا أبيضَ غير ضار)، الذي ربما كان من شأن فاعلِه أن يتعرضَ للعقاب.

كانت خالة نادية لا تزال تُلقي التعاويذ في تسعينيات القرن الماضي، عندما كانت نادية تدرس اللغاتِ في جامعة بغداد وتعمل بدوامٍ جزئي في مطبعةٍ حتى تتمكَّن من دفع رسوم جامعتها. كانت تلك أوقاتًا صعبة؛ فبعد غزو العراق للكويت عام ۱۹۹۰، دمَّرَت العقوباتُ المفروضةُ من الأمم المتحدة اقتصادَه. وانخفض دخلُ الفرد بنسبة خمسة وثمانين بالمائة. وأصبحت الشوكولاتة نادرةً جدًّا لدرجة أن صديقة لنادية احتفلَت بتخرجها من الجامعة بإعطاء قطعة صغيرة من الشوكولاتة لكلِّ واحدة من صديقاتها؛ وأخذت نادية قطعتَها إلى المنزل وقسَمَتها مع أختها. تعيَّن على المدرسين في الجامعة قضاءُ نصف يومهم في العمل سائقي سياراتِ أجرة، حتى إن أحدهم كان يأخذ تلاميذه بالسيارة إلى الفصل؛ فقد كان بحاجةٍ إلى الأجرة ليُضيفها إلى راتبه الضئيل. وكان الأطفال يُرسَلون للبحث عن عملٍ بدلًا من الذَّهاب إلى المدرسة. حدث هذا، في بلدٍ كان لديه في يوم من الأيام ۳٥ مليار دولار من احتياطيِّ النقد الأجنبي، وكانت طبقته المتوسطة في عام ۱۹۹۰ تُشكل أكثرَ من نصف عدد السكان، وخفض نسبة الأمِّية بين مَن هم دون سنِّ الخامسة والأربعين إلى أقلَّ من عشَرة بالمائة.

وفي يوم، خرَجَت خالة نادية من إحدى استشاراتها في إلقاء التعاويذ يعلو وجهَها تعبيرٌ مضطرب. سألتها نادية وأبناءُ خالتها عن الخطب. قالت: «أوه، إنها تلك العميلةُ التي غادرَت للتو. أرادت تميمةً لابنتها. تبلغ من العمر خمسةَ عشر عامًا فقط، لكن الأم تريد تميمةً لمساعدة ابنتِها في العثور على رجل ثريٍّ لتتزوَّجه. الجَدُّ مريض والأعمام عاطلون عن العمل. وعندما أخذت المرأةُ التميمة، أخبرتني أنها كانت تُزين ابنتها بمساحيقِ التجميل وتُرسلها للطَّرْق على باب الله. لذلك كنتُ أتساءل عما يمكن أن يعنِيَه ذلك.» كانت عبارة «الطَّرْق على باب الله» عبارةً قد يستخدمها العاملُ للإشارة إلى الوقوف في طابور مع العمال الآخرين الذين ينتظرون أن يستأجرَهم أحد. «وأدركتُ أنه لا بد أنها تُرسل ابنتها للعمل في الدعارة.»

لم يكن الفقراء واليائسون هم فقط مَن كانوا يريدون التعاويذ. فكذلك فعَل صدام حسين، كما قالت نادية. وبدأ حزبُ البعث بزعامة صدام حُكمه بقمعٍ وحشي للمعارضين السياسيين، ومن بينِهم المندائي الأشهرُ في العراق، عبد الجبار عبد الله. وُلد عبد الله في قرية في جنوب العراق عام ۱۹۱۱، وتمكَّن من السفر إلى أمريكا والدراسةِ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ كما عمل تحت إشراف ألبرت أينشتاين، الذي أُعجب كثيرًا بموهبةِ تلميذه حتى إنه أهداه قلمَه الباركر. كان عبد الله عالِمَ أرصادٍ جوية (وهو فرعٌ من العلوم يُناسب بوجهٍ خاص المندائيِّين، الذين ورثوا افتتانَ البابليين بالنجوم). عندما أطاح القوميُّ اليساري عبد الكريم قاسم بالنظام الملكي العراقي وتولَّى السُّلطة عام ۱۹٥۸، أصبح عبد الله أولَ رئيسٍ لجامعة بغداد. غير أنه كان شُيوعيًّا؛ وهو أمرٌ شائع في ذلك الوقت بين الأقليات في العراق، الذين اعتبَروا الأيديولوجية العلمانية للشيوعية بمنزلة وقايةٍ من التعصب الديني. لذلك عندما استولى حزبُ البعث المناهض للشيوعية على السلطة عام ۱۹٦۳، أرسل رجالًا لاعتقال عبد الله؛ واقتحَموا مكتبه في الجامعة، وأعلَنوا إقالته، واعتقلوه. ولكن فقط عندما استولَوا على قلم أينشتاين وكسَروه أمام عبد الله، انفجر في البكاء. أُطلق سراح عبد الله لاحقًا، وفرَّ إلى الولايات المتحدة، حيث تُوفي.

figure
كتاب مَدْرسي عبري وآلات كاتبة مترَّبة هي كلُّ ما تبقى تقريبًا في عام ۲۰۰۳ من يهود بغداد، الذين كانوا يُشكلون سابقًا ما يصل إلى ثلثِ سكان المدينة. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.

ومع ذلك، لم يكن صدَّام عدوًّا لجميع المندائيين؛ فقد استخدم أحدهم شاعرًا، وكذلك — بعدما رأى المؤامراتِ تُحاك في كلِّ مكان وخوفًا من أعداء خارقين وكذلك بشَريِّين — لجأ أيضًا إلى رئيس كهنة المندائيين في ذلك الوقت؛ من أجل أن يصنع له تعاويذَ للحماية. ربما بسبب تعاويذِ هذا الرجل — وشائعات لعنات المندائيين القوية — اعتنى صدام بالمندائيِّين. حتى إنه امتدَحهم بعضَ الوقت ووصَفَهم بأنهم رموزٌ للهُوية العراقية. ومثل القصور التي شيَّدَها على أنقاضِ بابل، ساعَد المندائيون في تعزيز فكرةِ أن العراق دولةٌ قومية ذاتُ تاريخ مشرِّف، وليس مقاطَعةً مقتطعة من الإمبراطورية العثمانية. فلم يُمثلوا تهديدًا سياسيًّا خطيرًا، ولم يكونوا أغنياءَ بما يكفي لاستهدافهم من أجل أموالهم. ومثل اليهود والمسيحيين، اعتُبِروا «أهل كتاب»؛ فقد اعتُبر أن المندائيين هم «الصابئة» المذكورون في القرآن الذين يستحقُّون تسامحًا خاصًّا (على عكس الوثنيِّين المشركين، الذين كان يجب محاربتُهم وقتلهم). حتى إن المندائيِّين اهتمُّوا بنشر أحدِ كتبهم المقدَّسة في عام ۲۰۰۱ مترجَمًا بالعربية الفُصحى، وهي صيغةٌ مصمَّمة لجعلها مقبولةً لدى القُرَّاء المسلمين. فقد عرَف المندائيون أنهم بحاجةٍ إلى أصدقاء في مناصبَ عُليا. كان تاريخهم يعجُّ بالمواجهات المروِّعة مع حكامٍ ظالمين. وعلى الرغم من أن أيديولوجيات القرن العشرين مثل الشيوعية والقومية العربية كانت تُبشر بالمساواة، فإن مصير يهود العراق أظهَرَ أن الحكومات، التي كانت الآن أكثرَ قوةً من أي وقت مضى، يمكن أن تُعاقب الأقليات بشكل لم يسبق له مثيل.

•••

في أربعينيات القرن الماضي، كان لا يزال أكثرُ من مائة ألفِ يهودي يعيشون في العراق. وفي عام ۲۰۰۳، عندما زُرت بغداد للمرة الأولى، رأيتُ أنه لم يتبقَّ منهم سوى القليل. في طريقٍ هادئ في حيٍّ قديم ببغداد، كان يوجد منزلٌ مُتْرِبٌ خالٍ؛ عندما طرَقتُ على الباب، ارتعشَت سِتارة في الجهة المقابلة. كان هذا مركزَ الجالية اليهودية في بغداد. من مظهره كان يبدو أنه هُجِر في عجَلةٍ نوعًا ما. في غرفة بالطابق العُلوي وجدتُ كتبًا مدرسية باللغة العبرية مكوَّمةً على الأرض. بجانبها دفتر حسابات، محشور بين الآلات الكاتبة القديمة. كان آخِر مُدْخَلٍ بتاريخ الحادي والعشرين من ديسمبر، ۱۹٦۹. ماذا حدث للجالية اليهودية القديمة في العراق، لدرجة أنه بحلول عام ۲۰۰۳ لم يتبقَّ منهم سوى كومةٍ من الكتب المدرسية المُتربة؟ طرحتُ هذا السؤال على موشى وإيفون خضوري في شقةٍ مريحة في لندن. في أربعينيات القرن الماضي، عندما كان نظام الحكم في العراق لا يزال مَلكيًّا، كان موشى وإيفون يعيشان في بغداد. وكما يتذكَّرانها، كانت مَدينة رفيقة باليهود. قالت إيفون: «في يوم السبت، كانت البنوك في بغداد تُغلِق أبوابها لممارسة الطقوس الخاصة بهذا اليوم؛ لأن جميع البنوك باستثناء بنكٍ واحد كانت مملوكةً لليهود. وكانت تجارة المنسوجات كلُّها يهودية. كنا ثلثَ سكان بغداد.» عاصرَ كِلاهما الأحداثَ المروعة في يونيو ۱۹٤۱ عندما أُطيح بالنظام الملَكيِّ مدةً وجيزة، ولمدة ثلاثة أيام، تعرَّض يهود المدينة للهجوم من الغوغاء الذين أثارتهم الدعاية المعادية للسامية التي تبنَّاها النازيُّون. سُميت هذه الأحداث باسم «الفرهود».

قال موشى: «المسلمون ليسوا أناسًا سيِّئين. فقد جاء النازيُّون إلى بغداد. وأثارت إسرائيلُ مشاكلَ كثيرة بين اليهود والمسلمين. لولا السياسة …»

قاطعَته إيفون قائلةً: «كان الدِّين هو المشكلة. ولم يكن يوجد سوى عددٍ قليل من الأشخاص اللطفاء.»

رغم ذلك، اتَّفق كِلاهما على أن أكثرَ من سبعِمائة يهودي قُتلوا أثناء أحداث «الفرهود». وعلى الرغم من عودة الأمور إلى طبيعتها بعد ذلك، بدخول القوات البريطانية المدينةَ لاستعادة النظام المَلَكي بالقوة، تدهورَ الوضع بعد تأسيس دولة إسرائيل سنة ۱۹٤۸ والانهيار النهائي للنظام المَلَكي سنة ۱۹٥۸. في السنوات التالية، أُدينَ العديد من اليهود، وشُنق بعضُهم؛ تسعةٌ منهم في يناير ۱۹٦۹، قبل بضعة أشهر من هجرِ مبنى مركز الجالية. وفُصل العديد منهم من وظائفهم الحكومية، وشهدوا مُصادرةَ ممتلكاتهم. بقي موشى حتى الستينيات وإيفون حتى أوائل السبعينيات. وكان يفتقد العراق أكثر مما كانت إيفون تفتقده. قال: «تريد ابنتي البحثَ عن الجذور. لم تعد توجد جذور. هُدمت المقابر وسُوِّيَت بالأرض. كلُّ تراثي موجودٌ هناك، لكن مجتمعاتنا ضاعت. أريد أن أشعر بالوطنية. ليس في إسرائيل. وليس في إنجلترا. فأنا عراقي. أشعر أنني تعرَّضت للسلب.»

حتى عام ۲۰۰۳، أفلتَ المندائيون من مصيرِ اليهود. لكن في السنوات العشر التالية، تغيَّرَت حظوظهم، وسمعَت نادية من عراقيٍّ يهودي منفي رأيًا كئيبًا يُقارن بين مصير الطائفتين وفقًا لتسلسلِ يومَي عطلتَيهما المقدَّستَين المختلفَين: «كان يومنا السبت، وأنتم الأحد. الآن سيلحق بكم ما حل بنا.»

•••

كانت بغداد في أوائل عام ۲۰۰۳ مكانًا يغلي بالرِّيبة والخوف. وبين وقتٍ وآخَر، كان المتظاهرون (الذين كانت تدفع لهم الحكومة، كما كان الجميع يعرف) يسيرون في الشوارع، وهم يهتفون بدَعمِهم لصدام. وفي مرةٍ ظنَّ حشدٌ من الرجال المتحمسين أنهم رأَوا جُنديًّا أمريكيًّا يختبئ في البوص الكثيف الذي يصطفُّ على ضفة نهر دجلة، الذي يجري عبر المدينة، وسحَقوا البوص بعِصيٍّ ثقيلة أثناء محاولتهم مطاردةَ الدخيل. لم تكن نادية مهتمةً بشن حملات مؤيدة أو معارضة لصدام. أرادت فقط الحفاظَ على سلامة شقيقها. فقد كان قد تلقى لتوِّه أوراقَ استدعاءٍ من الجيش العراقي؛ وكان سينضمُّ إلى القوة التي ستقاوم الغزوَ الذي قادته الولاياتُ المتحدة. وكانت تخشى أنه إنِ امتثل للتجنيد، فقد يُقتل. وإن لم يفعل، فإنه يُخاطر بعقوبةٍ وحشية: وهي قطع إحدى أذنَيه. وهكذا، في منزل عائلتهما الصغير في جنوب بغداد، تجادل الاثنان حول ما إذا كان ينبغي عليه الانضمامُ للجيش. كانت ترى ألا يفعل. كانت الشقيقة الكبرى ولم تكن مهتمةً بالامتثال للأفكار التقليدية للوداعة الأنثوية. كانت تعلم أنه إن أرادت إقناعه، فعليها أن تكون مُخيفة أكثرَ من صدام. قالت: «إذا تجاهلتَ تلك الأوراق، فسأدفع أيَّ رِشوة تحتاج إليها. وإذا أطعتَ الاستدعاء، فسأكسر ذراعَك.» فتراجع عن قراره.

أخبرتني نادية أنها لم تتعرَّض أبدًا للتمييز من المسلمين العراقيِّين. ففي المدرسة الْتقَت بتلميذٍ رفض أكل طعامها ووصفها بكلمة «نجس»، وهي كلمةٌ إسلامية تعني «غير طاهر». لكن بخلاف تلك المرة، كانت، على العكس تمامًا، تشعر أن كونها مندائية كان يعني أنها كانت تُعامَل بمزيدٍ من الاحترام. (كان هذا في منطقة الطبقة الوسطى في بغداد؛ أما في المناطق الريفية، فربما كانت الأمورُ مختلفة. فحتى الآن في سوق الشيوخ توجد مطاعمُ ومَقاهٍ ترفض خِدمة المندائيين لأنه يُعتقَد أنهم يُنجسون أدوات المائدة التي يأكلون بها.)

انخفضَت المعايير التعليمية خلال حقبة العقوبات، كما وصفَتها لي نادية، وأصبح المجتمع العراقي أكثرَ فظاظة؛ لكنها لم تبدأ في الشعور بالخطر إلا بعد الغزوِ الذي قادته الولايات المتحدة عام ۲۰۰۳. كانت تتورَّط في جِدالات في العمل. قال أحدُ الزملاء: «كان صدام تاجًا على رأسِنا والغُزاة «كفَّار»»؛ و«كفار» هي جمع كلمة «كافر»، وهي كلمةٌ تُضفي الشرعية على العنف ضد غير المؤمنين.

عندئذٍ ردَّت نادية: «أظن أنه كان مثلَ زوجَين من النعال. يمكنك وضعُه على رأسك إن أردت ذلك!»

مع مرور الوقت، وجدَت أن صعوبة الحفاظ على تظاهرها بالشجاعة تزداد. فقد وفَّر الصِّراع الكثيرَ من الفرص لِتفاقُم التعصب الدِّيني. أخبرتني نادية: «بدأنا نسمع عن أشخاصٍ يتعرَّضون للخطف، والسرقة، والقتل ببساطةٍ شديدة.» قُصف مقرُّ عملها، الصليب الأحمر، في أكتوبر ۲۰۰۳. واقترب العنف أيضًا من منزلها بعد أربعة أشهر. في الثامنَ عشر من يناير ۲۰۰٤، كانت في طريقها للمساعدة في جمعية خيرية دولية في بغداد عندما سمعَت دويَّ انفجار. لم تسمعه فحسب، بل شعرَت به؛ فقد اهتزَّت السيارة التي كانت تستقلُّها من قوة الانفجار. تذكَّرَت قائلة: «كانت السماء غائمة، وشعرتُ بشعور غريب بعد ذلك، كما لو أن شخصًا أعرفُه قد أصيب في الانفجار. لذلك اتصلتُ بهديل.» تعارفَت نادية وهديل، وهي امرأةٌ مسيحية، من خلال العمل معًا في مطبعةٍ في بغداد في التسعينيات. في عام ۲۰۰۳، عملَت هديل في السفارة الأمريكية وتمكَّنَت أيضًا من العثور على زوجِها المثالي؛ طبيب أسنان عراقي يعمل في الدنمارك. اشترَت نادية وأصدقاؤها الآخَرون لها خاتَم خطوبةٍ وضَعَته هديل في الإصبع ذاتِه الذي كانت تضع فيه الخاتمَ الذي قدَّمه لها خطيبها.

«اتصلتُ بمنزل هديل؛ فقال شقيقها الصغير إنها ذهبَت إلى العمل. اتصلتُ بهاتفها المحمول والهاتفِ المحمول الخاصِّ بصديقة كانت تذهب للعمل معها. لم أتلقَّ ردًّا. اتصلتُ بزميلها، وقال إنها لم تصل قَط إلى العمل. عندما عدتُ إلى المنزل اتصلتُ بأسرتها. فقالوا إنها اختفَت للتو. لاحقًا اتصلتْ بي والدة هديل — كانت تعرف أنني أعمل لدى الصليب الأحمر — وقالت: «أريدك أن تجلبي أخبارًا جيدةً عن ابنتي.» جاءت الأخبار، لكنها لم تكن جيدة. تبيَّن أن السيارة التي كانت تستقلُّها هديل كانت بها قنبلة مزروعة تحت مقعد السائق. وانفجرت وقُتل السائق؛ وأصيبت سيدتان أُخرَيان في السيارة. لكن لم ترد أيُّ أخبار عن هديل. أخذت نادية يومَ إجازة من العمل وتجوَّلَت في المستشفيات بحثًا عنها. لم تعثر على شيء. ولم تسمع أيَّ أخبار إلا في وقتٍ لاحق. قال المستشفى إنه من الصعب التعرفُ على الجثة. فقد كانت مصابةً بحروق شديدة. والشيئان الوحيدان اللذان لم يتعرَّضا للاحتراق كانا خاتَمَين على إحدى أصابعِها.

مضَت عائلة هديل قُدُمًا في إقامة حفل الزفاف على أي حال وغنَّوا الأناشيد الاحتفالية التقليدية وزغرَدوا. لكنهم فعلوا ذلك بعد أن دفَنوا العروس. «وقالوا: هذا ليس الزفافَ الذي أردناه.» لم أستطع تحمل رؤيتهم مرةً أخرى. لقد كانت مَضيعةً غير مُجدِية للحياة. أظن أن الناس يجب أن يكونوا على درايةٍ بهذه القصص قبل أن يذهبوا إلى الحرب.» شغَل الموتُ فِكر نادية وجعَلَها ترغب في الرحيل. «فكرتُ في أنني لا أريد أن أُقتَل مثل صديقتي. لا أريد أن أُحطم قلب والديَّ.»

لم تُصنِّف نادية نفسها مطلقًا من خلال دينها. قالت لي: «أرى نفسي أولًا إنسانة، وثانيًا عراقية، وثالثًا فقط مندائية.» لكن النزعة الإنسانية والوطنية لم تُساعداها في عِراقِ ما بعد الحرب، حيث برز المزيدُ من الولاءات المتأصِّلة. لم يكن الدينُ هو الشيءَ الوحيد الذي يُعرِّضها للخطر: وكذلك قدرتها على التحدث باللغة الإنجليزية، وحقيقة أنها لم تكن ترتدي الحجابَ ولا تنتمي إلى قبيلة. قالت: «أدركتُ قوة القبائل. ونحن، المندائيين، ليس لدينا قبيلة.» في الماضي، استخدم المندائيون التكتيك العريق المتمثِّل في إلحاق أنفسهم بقبيلةٍ ليس بوصفهم أعضاء ولكن بوصفهم تابعين، «مُلحَقين». وستوافق القبيلة على حمايتهم، لكن بما أنهم بَقُوا خارج القبيلة، لم يكن عليهم قَبولُ دينها. في الأهوال المروِّعة في العراق بعد عام ۲۰۰۳، كان لعائلة نادية قبيلةٌ تحميها، لكن، كما قالت: «لا توفر لتابعيها القَدْر نفسَه من الحماية الذي توفِّره لأفرادها». تعرَّض المندائيون للخطف، وتغييرِ الدين قَسرًا، والقتل. وبين عامَي ۲۰۰۳ و۲۰۱۱، وثَّقَت جماعةُ حقوق الإنسان المندائية ۱٧٥ جريمةَ قتلٍ و۲٧۱ حالةَ اختطاف. وفي عام ۲۰۰٤، أفادت الجماعة أن خمسًا وثلاثين عائلةً مندائيةً تعيش في الفلُّوجة أُجبِرَت على اعتناق الإسلام.

ركبَت نادية طائرةً تُغادر بغداد في الثامن عشر من مارس ۲۰۰٤. ولأول مرة خُتِمَت أوراقُ هُويَّتها؛ حيث لم يكن لديها جوازُ سفر ولم تكن قد ركبَت طائرةً من قبل. كان والداها قلِقَين عليها: إذا عاشت في الخارج بمفردها، فلن يتزوَّجَها أيُّ رجل بعد ذلك، هذا ما قلقا بشأنه. وجَدَت لندن مكلِّفةً جدًّا لدرجة أنها اضطُرَّت إلى رهنِ مجوهراتها لدفع الإيجار، وأذهلَتها «الثقافة الأكثر اعتدالًا». افتقدَت العراق وبحثَت بحنينٍ عن عِطر زهر البرتقال. وعندما كانت تذهب مع صديقاتها إلى حفلاتٍ موسيقية عراقية، كان اليهود العراقيون الذين كانوا قد غادَروا بغداد قبل أربعين عامًا يطرحون عليها أسئلةً راغبين في سَماع آخر الأخبار عن أماكنِهم المفضَّلة هناك.

وعلى الرغم من الحنين، تخلَّت عن أفكار العودة إلى الوطن. وقالت: «أحب المكان هناك، لكنني لا أستطيع أن أعيش فيه.» لم تكن آخِرَ مندائي يُغادر. فبعد عامَين من رحيلها، هرب رئيس الكهنة الشيخ ستار إلى أستراليا. وبحلول وقتِ كتابة هذه السطور، كان أكثرُ من تسعين بالمائة من المندائيِّين في العراق قد هاجروا أو قُتلوا. ولا يمكن للمرء أن يجد مجتمعاتهم باقيةً على حالها إلا في جنوبِ إيران. اعتقدَت نادية أن رحيل المندائيين كان خَسارةً للعراق. «كنا رُمانةَ الميزان، التي تُحافظ على تماسُك المجتمع العراقي. وعندما غادر المندائيون والأقليات الأخرى، اختلَّت الموازين.» وبعدَ ما رأيناه أنا ونادية باسترجاع تاريخ المندائيِّين، يمكننا الاتفاقُ على أنه بمغادرتهم، سقطَت بابل حقًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤