مقدمة

طبعة عام ١٩٥٤م
أصبح من المعتاد في أيامنا هذه أن نطرح على أنفسنا كافة أنواع الأسئلة؛ ولذا يتعين أن نتساءل هل كانت دراسة القضايا التي يعالجها هذا الكتاب ضرورية؟ إن النظرة السطحية للأوضاع الثقافية في أفريقيا السوداء، تكفي وحدها لتبرير مثل هذه الدراسة. ولو أننا سلَّمنا بما تقوله الدراسات الغربية، لكان من العبث أن نتوغل في أعماق الغابات المدارية للبحث عن حضارة واحدة قد تكون في نهاية المطاف من صنع الزنوج. فعلى الرغم من الشهادات القاطعة التي قدَّمتها الحضارات القديمة: حضارات إيفه (IFÉ) وبنين وحوض التشاد، وغانا، وكافة الحضارات المسماة الحضارات السودانية الجديدة (مالي، جاوو … إلخ) والزامبيز (مونوموتابا) والكونغو في أغوار خط الاستواء، فإن الحضارتَين الإثيوبية والمصرية كانتا، حسب مزاعم بعض العلماء الغربيِّين، من صنع أُناس بِيض، أسطوريِّين، اختفوا من الوجود وتركوا بعد ذلك المجالَ للزنوج لمواصلة الأشكال والتنظيمات والتقنيات … إلخ، التي ابتكرها هؤلاء البِيض.
ولن يكون تفسير تواجد حضارة أفريقية منطقيًّا ومقبولًا، وجادًّا، وموضوعيًّا، وعلميًّا — في زعمهم — إلا إذا توصَّلنا، عن أي طريق كان، إلى ذلك الأبيض الأسطوري الذي لم يهتمَّ أحد إطلاقًا بتبرير قدومه واستقراره في تلك المناطق. وبوسعنا أن نُدرك بكل يُسر كيف اقتضى الأمر من العلماء أن يتوصلوا في نهاية استدلالاتهم واستنباطاتهم المنطقية والجدلية إلى فكرة «البِيض ذوي البشرة السوداء»١ الرائجة على نطاق واسع في أوساط المتخصصين بأوروبا. وهذا النوع من النظريات لن يُكتب له البقاء بالطبع لأنه يفتقر تمامًا إلى أي أساس حقيقي. ولا يمكن تفسيره إلا من خلال التحيز المستأثر بأصحابه، وإن تظاهر بالموضوعية والتفكير المتروِّي.

على أن جميع هذه النظريات «العلمية» المتعلقة بالماضي الأفريقي حققت غرضها تمامًا: فهي نفعية وعملية. فالحقيقة تتمثل فيما يكون مفيدًا. والمفيد هنا والهدف بالنسبة للمستعمر هو دفع الزنجي إلى الاعتقاد، تحت ستار العلم، بأنه لم يكن في يوم من الأيام مسئولًا عن أي شيء ذي بال، ولا حتى عمَّا يوجد لديه. وهكذا يصبح التخلي والعدول عن أي طموح قومي أمرًا يسيرًا لدى المترددين، ويتم تعزيز ردود الفعل الدافعة إلى الخضوع لدى مَن عانوا من قبل من الاغتراب. ولذا يوجد العديد من المُنظِّرين في خدمة الاستعمار، برعوا جميعًا في الترويج لأفكارهم وتدريسها على نطاق الشعب، أولًا بأول.

واستخدام التبعية الثقافية كأداة للسيطرة قديمٌ قِدمَ العالم ذاته؛ فقد لجأ إليه كلُّ شعب، في كل مرة غزا فيها أراضيَ شعب آخر. ومن الجدير التنويه بأن أحفاد الغاليين الذين استخدم يوليوس قيصر هذا السلاح ضدهم هم الذين يُوجِّهونه اليوم ضدَّنا.

وقد كتب يوليوس قيصر يقول: «في مواجهة المآثر الفريدة لقواتنا، لجأ الغاليون إلى اختراعات من كل نوع، فهم ماهرون وحاذقون للغاية في محاكاة وصنْع كلِّ ما يتم إطْلاعهم عليه» (قيصر، حرب الغال، الكتاب الثالث، الفقرة ٢٢).

ومن الواضح هنا أن الغازي الروماني كان يُنكر على الغاليِّين المتمردين أيَّ قدرة على الإبداع، وهو أرفع قيمةً بالنسبة للإنسان، ولا يعترف لهم إلا بالقدرة على المحاكاة التي تعتبر من الصفات الدنيا.

ونحن نواجه في الوقت الراهن وضعًا مماثلًا في أفريقيا وفي كافة البلدان المستعمرة. ويتضح من ذلك مدى خطورة تعرُّفنا على ماضينا ومجتمعنا وأفكارنا من خلال المؤلفات الغربية وبلا عقلية نقدية.

وفي مواجهة هذا الموقف العام من جانب الغزاة، كان من المتوقع أن يحدث ردُّ فعل طبيعي للدفاع عن النفس من جانب الشعب الأفريقي، يرمي بالطبع إلى وضع حدٍّ للإساءات اليومية التي نتعرض لها من جرَّاء تلك الأسلحة الثقافية الماضية التي يستخدمها المحتل. ولم تكن هناك طريقتان للتعامل معها؛ فبناء على ما جاء من قبل، فإن هذه النظريات زائفة أصلًا لأنها لا تسعى للتوصل إلى الحقيقة. ولو حرصت إحدى هذه النظريات على ذلك لحرمتها التربية الغربية الزائفة منذ أجيال متعاقبة من القوة اللازمة للتوصل إلى الحقيقة.

وعليه يصبح من الضروري أن يعكف الأفارقة على دراسة تاريخهم وحضارتهم لكي يتعرفوا على أنفسهم على نحوٍ أفضل، ويتوصلوا من خلال الدراية الحقيقية بماضيهم إلى جعل تلك الأسلحة باليةً ومثيرة للسخرية، وغير فعَّالة بالتالي. غير أن هذه الفكرة التي كان من المفترض أن تكون مسألةً دارجة وشائعة لا تزال أبعد عن أن تكون مسألةً مفروغًا منها بالنسبة لكافة الأفارقة، وهناك عدة اتجاهات في هذا الصدد يمكن التمييز بينها:

  • أولًا: الكوزموبوليتيون أدعياء العلم ودعاة الحداثة: يضم هذا الفريق كلَّ الأفارقة الذين يفكرون على النحو التالي: إن التنقيب في أطلال الماضي للتوصل إلى حضارة أفريقية ليس سوى مضيعة للوقت إزاء الطابع المُلح للمشاكل القائمة، وهو موقف عفا عليه الزمن. وعلينا أن نقطع صلتنا بكل هذا الماضي المشوَّش والهمجي واللحاق بالعالم الحديث الذي تندفع تقنياته بسرعة الإلكترونات. والعالم في طريقه إلى التوحد، وعلينا أن نكون في طليعة التقدم. وسيحلُّ العلم في القريب العاجل كافةَ المشاكل الكبرى بحيث تصبح تلك المشاغل المحلية والثانوية غير ذات موضوع. ولا مجال لأن تكون هناك لغاتٌ تُعبر عن ثقافة ما سوى لغات أوروبا التي أثبتَت أصلًا قدرتها على ذلك، مما يعني أنها قادرة على نقل الفكر العلمي الحديث وأنها عالمية فعلًا.

    وهذا الفريق الذي يشمل أنماطًا مختلفة هو الأجدر بالتحليل لأنه يضم الأفراد الذين يعانون أكثر من غيرهم من الانسلاخ الثقافي. ومن الواضح أن الاندماج هو المخرج الوحيد في رأيهم. ويرجع موقفهم — عندما يكونون مخلصين — إلى قِصَر نظر ثقافي أو إلى العجز عن اقتراح حلول ملموسة وصالحة للمشاكل التي يتعين حلُّها لكي يكفَّ الاندماج عن أن يكون ضرورةً ظاهرية؛ إنهم يُنكرون وجود تلك المشاكل وطابعها الموضوعي، مما يُذكِّرنا بموقف النعامة. والواقع أن هذا الموقف ليس في صميمه سوى «محلك سر» خطير لأنه يُوهم بالتقدم بخطوات عملاقة، ويُخفي الميل إلى التقليل من قيمةِ كلِّ ما هو نابع منَّا. وهذا السُّمُّ الثقافي الذي يجري تسريبُه إلى العقول منذ نعومة الأظافر بكل مهارة، أصبح جزءًا لا يتجزَّأ من جوهرنا، وهو يتجلَّى في كافة الأحكام التي تصدر عنَّا.

    وربما كان هؤلاء الأشخاص منطقيِّين مع أنفسهم، ولتوفرت لديهم حجةٌ قوية في صالح موقفهم لو أنهم تبيَّنوا موقفًا مشابهًا لموقفهم لدى المتحضرين للغاية الذين أصبحوا بمثابة القبلة بالنسبة لهم، أي لو أنهم وجدوا لدى الأوروبيِّين الغربيِّين ذلك الازدراء والإنكار لقِيَمِهم الغابرة لكي يصبحوا من أنصار الحداثة. ولكن الأمر على عكس ذلك تمامًا؛ إذ إن هؤلاء المتحضرين للغاية أحرص الناس، أيًّا كانت توجُّهاتهم السياسية أو الفلسفية، على الحفاظ على ثقافتهم القومية. وهكذا يتبين لنا أن «الحداثة» ليست مرادفًا لقَطْع الصلة مع منابع الماضي الحية. وعلى العكس فإن «الحداثة» تعني «إدماج عناصر جديدة» لبلوغ نفس مستوى الشعوب الأخرى. ولكن «إدماج عناصر جديدة» يفترض تواجد وسط يتقبل هذا الإدماج، أي مجتمع مستند إلى الماضي، لا إلى أجزائه التي ذَبُلَت ولكن إلى الجزء الحي والقوي من الماضي الذي تتمُّ دراستُه بما فيه الكفاية لكي يتمكن أيُّ شعب من التعرُّف على نفسه من خلاله. فتجميد الروح القومية لشعبٍ ما في حدودِ ماضٍ خلَّاب لا خطورة منه — لأنه مُزَوَّر بما فيه الكفاية — يُشكِّل أحد الأساليب الكلاسيكية للسيطرة. ولكن إذا كان الغرض الذهاب إلى مدًى أبعد، وإذا كان المطلوب محوَ شعبٍ ما للحلول محلَّه في غضون عدة عقود، فيجب التوصل إلى تفتيت مجتمعه، أي دفع النخبة — أو مَن تعتبرهم الجماهير من أفرادها — إلى المشاركة بطريقة إجرامية أو بريئة في تفتيت المجتمع وسحق النصيبِ الحيِّ من الماضي وترك القيم الأساسية التي كانت بمثابةِ لُحمةِ المجتمع (التاريخ، اللغات … إلخ) نهبًا للهلاك. ولذا يحرص الماركسيون الواعون على الحفاظ بالكامل على هذه العوامل وعلى تعزيزها باستمرارٍ، حتى وهُم في خضمِّ المعركة المريرة من أجل ضرورات الحياة الأساسية ومن أجل تولِّي السلطة السياسية لأنهم يُدركون أن نضالهم سيفتقد فعاليته لو أنهم لم يعملوا على حماية الثقافة الوطنية التي تُؤَمِّن بقاء المجتمع الذي يكافحون من أجله.

    وبوسعِ أيِّ منتمٍ إلى هذا الفريق، لكي يقتنع بذلك، أن يلجأ إلى الاستدلال التالي، وهو ليس استدلالًا باهرًا، إلا أنه يتميز بقدرته على الوصول بنا إلى حقيقة مؤكدة: «بما أنني أضعُ كلَّ ثقتي في هؤلاء المتحضرين للغاية الذين أصبحَت أفكارُهم في مجموعها مرجعًا لي، فإن كلَّ فكرة صائبة تدخل في هذا النطاق تكون كذلك بالنسبة لي أيضًا. ولكنهم يُولون العنايةَ بكل دقة لتاريخهم ويمجدونه كلَّ يوم بينما يبذلون كلَّ جهدٍ لتزوير تاريخي بكل دأبٍ. فبوسعي إذن أن أستنتج من موقفهم هذا أن هناك أهميةً لا تُقدَّر بثمن لأن يعرف أيُّ شعب تاريخَه الحقيقي». يجب ألَّا تقوم الإنسانية على انزواء البعض لصالح البعض الآخر، فالتنكُّر مبكرًا للثقافة الوطنية ومن طرف واحد، بغيةَ تبنِّي ثقافة طرف آخر واعتبار ذلك تبسيطًا للعلاقات الدولية وتوجُّهًا نحو التقدم، معناه الانتحار. فأين هو ذلك الساذج الذي بوسعه أن يعتبر نفسه اليوم «جول فيرن» وأن يتنبأ، على طريقة رينان بالأوضاع في عام ألفين وبالتقدم الذي سيُحرزه العلم والمجتمع حتى ذلك الحين، وأن يتنبأ بالتالي بالطابع المرحلي لكافة مشاغلنا؟٢ بيد أنهم ينسَون فقط أن الشعب الذي لا يُدرك تمامًا أن السبيل التاريخي الوحيد المؤدي إلى قمم الكمال هذه، وإلى هذا العهد الإنساني الذي لا لون له، سيخاطر بأن يضلَّ الطريق ويكون غائبًا في تلك المرحلة عن محفل «الأمم».

    وهكذا يتضح لنا أنه لا يمكن أن نشارك هذا الفريق في موقفه الذي ينفي فعاليته وجدوى النضال ضد الانسلاخ الثقافي، أي إنكار وجود تلك الثقافة بينما يتوقف عليها ثلاثة أرباع مسلكنا.

    ولا غرابة في ألَّا تتكون أغلبية هذا الفريق من العلماء. ويتعين بالطبع على أفريقيا أن تستوعب الفكر العلمي الحديث بأسرع ما يمكن؛ بل يجب أن نتوقع منها أكثر من ذلك، فالتغلب في هذا المجال على التأخر الذي تراكم منذ عدة قرون يتطلب منها أن تخوض مسرح التباري الدولي وأن تُسهم في تقدُّم العلوم الصحيحة في كافة الفروع بمشاركة أبنائها أنفسهم. بيدَ أنه يجب ألَّا نكون واهمين: فهذا التطور لن يتحقق بالكامل إلا في اليوم الذي ستُصبح فيه أفريقيا مستقلةً تمامًا. فالسماح بتدريب كوادر تقنية بمعدلات فعالة في بلداننا التابعة سيكون بمثابة انتحار بالنسبة للنظام الاستعماري. وفي هذا الصدد يتم تمديدُ تنفيذ البرامج لفترة تكفي لكي يكون قد تمَّ في الوقت نفسه تغييرُ الوسط والنسبة بين عدد المستوطنين وأهالي البلدان الأصليِّين بحيث لا تعود أفريقيا ملْكًا للأفارقة. وفي كل مرة يدعونا فيها المستعمرون إلى التعاون معهم من أجل التقدم المشترك لشعبنا، يكون قصدُهم الخفي التمكنَ من الحلول محلَّنا. ولذا فإن جُلَّ ما يقدمونه ليس سوى سرابٍ واسعِ النطاق يُضلل شعبًا بأَسْره بتواطؤ البعض معهم. ونشهد، على أقصى تقدير، بزوغَ بعض الشخصيات اللامعة؛ غير أن أندريه سيجفريد سيُسارع بالقول بأنه لا يمكن الحكم على شعب بناء على إنجازات بعض الأفراد، متناسيًا بذلك إلى حدٍّ ما الأسسَ النظرية للفردية البرجوازية الغربية التي تنسب تقدُّمَ البشرية إلى بعض العبقريات.

    وهكذا يصبح من الجليِّ أن قيام دول أفريقية مستقلة متحدة في إطار حكومة مركزية ديمقراطية، تمتدُّ من شواطئ البحر الأبيض المتوسط الليبية حتى رأس الرجاء الصالح، ومن المحيط الأطلسي حتى المحيط الهندي، هو وحده الذي سيُتيح للأفارقة إمكانيةَ الازدهار تمامًا وإثبات قدراتهم في مختلف مجالات الإبداع، وفرض احترامهم — بل وحبهم — والقضاء على كافة أشكال الرعاية الأبوية وطَيْ صفحة من صفحات الفلسفة، والإسهام في تقدُّم البشرية بإتاحة الفرصة للتآخي بين الشعوب الذي سيكون أيسر خاصة لأنه سيكون تآخيًا بين دول مستقلة بنفس الدرجة لا بين مسيطرين ومقهورين.

    ولذا فإن أنصار التقدم والحداثة بشكل مجرد الذين يتحاشَون إثارةَ القضية على هذا النحو والإشارة إلى أن التقدم الذي يبدو أنهم يُنشدونه ليس ممكنًا في ظل النظام الاستعماري الذي يعيشون فيه، لا يمكنهم أن يتغاضَوا عن أبعاد هذا الموقف الخطير الذي يتخذونه.

  • ثانيًا: المثقف الذي أهمل تحسين دراسته للماركسية: أو الذي درس الماركسية بسرعة وبشكل مجرد دون أن يفكر أبدًا في تطبيقها على الحالة الخاصة المتمثلة في الواقع الاجتماعي لبلده.

    وتنعت عناصر ذلك الاتجاه، موقفَنا بأنه إما رجعي أو برجوازي أو عنصري، أو نازي.

    والواقع أنهم يعتقدون أن النتائج التي تم التوصل إليها تفتقر إلى الواقعية، ويجدون مشقةً في الاعتراف بها.

    ويتعين أن نُعيدَ هنا إلى الأذهان ما كُتب مؤخرًا حول ضرورة أن يعرفَ أيُّ شعب تاريخَه وأن يحافظ على ثقافته القومية. وإذا كانت هذه الدراسة لم تتمَّ بعدُ فمن الواجب القيام بها. ولا يعني ذلك أن نختلق جملةً وتفصيلًا تاريخًا أجمل من تاريخ الشعوب الأخرى كي نُخدِّرَ الشعب معنويًّا خلال مرحلة النضال من أجل الاستقلال الوطني، ولكن أن ننطلق من تلك الفكرة البديهية، ألَا وهي أنَّ لكل شعب تاريخًا. فمما لا غِنى عنه لشعبٍ ما لكي يوجِّهَ تطوره، أن يكون على دراية بأصوله، أيًّا كانت. ولو تصادف أن كان تاريخنا أجمل مما كنَّا نتوقع، فلن يكون ذلك سوى تفاصيل مُفرِحة يجب ألَّا تُشعرَنا بالحرج ما دمنا نُقدِّم أدلةً موضوعية تُساند ذلك، وهو ما لن نتأخر عن القيام به هنا.

    ومع أن الأدلة الواهية التي ساقها مُنظِّرو النازية لا تصمد أمام أبسط التحليلات الموضوعية للوقائع، إلا أن العديد من الإخصائيِّين سيتصدَّون للوقائع المقدَّمة بحججٍ مراوِغة لن تفيَ بالمتطلبات الفكرية لأيِّ هاوٍ غير متخصص.

    وبوسعنا أيضًا أن نستشهدَ بلينين لكي يقتنع بذلك مَن يخشون اتخاذ موقف بورجوازي:

    «غير أنكم ترتكبون خطأ إذا استنتجتم من ذلك أنه بوسع المرء أن يُصبح شيوعيًّا دون أن يتمثل حصيلة المعارف الإنسانية. فمن الخطأ الاعتقاد بأنه يكفي استيعاب الشعارات الشيوعية واستنتاجات العلم الشيوعي دون استيعاب مجموع المعارف التي تُشكِّل الشيوعيةُ ذاتُها إحدى نتائجها.»

    إن الثقافة البروليتارية لا تنطلق بأكملها من حيث لا ندري، إنها ليست من ابتكار رجال يعتبرون أنفسهم إخصائيِّين في هذا المجال، هذا عبثٌ صِرْف لأن الثقافة البروليتارية يجب أن تظهر كتطور طبيعي لحصيلة المعارف التي توصَّلَت إليها البشرية (٢ أكتوبر ۱۹۲۰م).

    وهذه الأفكار العامة حول الثقافة البروليتارية تنطبق على الحالة الخاصة بكل شعب.

    ولنا أن نتساءل حول رأْي مثقَّفينا فيما يتعلق بموقف الصين الشيوعية التي تلفظ فكرةَ إحلال الحروف الفينيقية العالمية محلَّ كتابتها المعتمدة على الرموز، حرصًا منها على ثقافتها القومية.

    وبقدر ما يتعلق الأمر برفض أفكار مثل: الحضارة المصرية من أصل أبيض أو آسيوي أو أوروبي، كان يتعين — لتحاشي أيِّ التباس حول مضمون الكلمات — أن نلجأ إلى جُمل، مثل: لا إنها (أي الحضارة المصرية) تنحدر من أصل زنجي أفريقي. فلو أننا اكتفينا بتعبير «شعب أفريقي» لافتقرنا إلى الدقة: ولذا يجب ألَّا يجدَ القارئ في استخدام كلمة «زنجي» نيةً عنصرية؛ وليَرَ فيها فقط حرصًا من جانب المؤلف على التوضيح. فالعنصريون الواعون أو غير الواعين، هم أولئك الذين يُجبروننا على دحض كتاباتهم باستخدام مثل هذه العبارات.

  • ثالثًا: اللاقوميون الشكليون: إنهم أولئك الذين قد يسوءهم عنوان الكتاب «الأمم الزنجية والحضارة». والعنوان الأول الذي تبادر إلى ذهننا — وأصبح عنوانًا فرعيًّا نظرًا لطوله فكان «من التاريخ الزنجي-المصري القديم إلى القضايا الثقافية في أفريقيا السوداء اليوم» — ليس مُرضيًا بالطبع بقدر أكبر.

    وسرعان ما ينغمس البعض في سفسطة اقتصادية ليُثْبِتوا — أو بالأحرى ليلاحظوا — أنه من العبث التحدث عن الاستقلال القومي في هذا العصر المتميز بالاعتماد المتبادل في الاقتصاد. ولو كان هؤلاء مخلصين صادقين لبيَّنُوا بذلك أنهم لا يرَون بوضوح طبيعةَ ذلك بالاعتماد المتبادل. لقد انقضى بالطبع عهدُ الاقتصاديات القومية الصغيرة المنغلقة على نفسها، ومن الملاحظ أيضًا أنه توجد سوق دولية تتوفر فيها منتجات من كافة القارات بفضل اكتساب السرعة التي ضيَّقت المسافات، وتلك أفكار دارجة تتردَّد كلَّ يوم.

    ما هي المشكلة الاقتصادية التي يتعين أن تُعالجها دولة أفريقية قوية تنبسط أطرافها لتشمل كلَّ القارة تقريبًا وتمتد حدودها من الشواطئ الليبية للبحر الأبيض المتوسط حتى رأس الرجاء الصالح، ومن المحيط الأطلسي حتى المحيط الهندي؟ سيتعين عليها أن تبيع في السوق الدولية منتجاتها الفائضة وأن تشتريَ منها ما تفتقر إليه إلى حدٍّ كبير مع تحاشي الوقوع تحت ضغط أيِّ غول اقتصادي. ونظرًا لمدى القوة التي ستكتسبها هذه الدولة فإنها لن تكون تابعةً اقتصاديًّا للدول الأخرى بقدر ما لن تكون تلك الدول تابعةً لها. وهذا هو مفهوم الاعتماد المتبادَل الذي يجب أن نتمسك به: أن نتحاشى، مهما كان الثمن، أن نكون أتباعًا لآخرين بقدر ما لا يكونون تابعين لنا؛ لأن التبعية ستؤدي آليًّا إلى علاقات استعمار واستغلال من جانبٍ واحدٍ، وهكذا تكون فكرة قيام اتحاد فيدرالي يضمُّ كافة الدول السوداء في القارة مسألةً ضرورية للغاية.

    ومن السهل أن نسترسل لكي نُثبت أن استقلال مستعمرة السنغال الصغيرة، وكوت ديفوار، وتوجو، وداهومي … إلخ، لن يكون إلا وهمًا لأنه سيتعين على هذه المستعمرات أن تخضع فورًا لكافة أشكال الضغوط الخارجية وستدور آليًّا، بفعل القوى الاقتصادية، في فلك إحدى الدول الكبرى، والحل الفيدرالي يقضي على مثل هذا الوضع.

    ويجري التساؤل أحيانًا حول ما يمكن أن نتصوره كأمم في أفريقيا. من السهل تطبيق تعريف ستالين للأمة على الإثيوبيِّين، والبامبارا، والوُلوف، والزولو، واليوروبا … إلخ. وتوجد في السودان، وكوت ديفوار، وتوجو، والسنغال، وغينيا، والنيجر، وكينيا، وجنوب أفريقيا، والسودان المسمَّى «الأنجلو-مصري» تَوَيات لأمم ستتعزز من خلال نضالها من أجل الاستقلال. ومن العبث أن نحاول اليوم تحديد ما هي بالضبط حدود هذه الأمم، وإن كان من الممكن أن نتنبأ من الآن لكل واحدة من تلك المناطق باللغات التي ستفرض نفسها — مع احتمال ضئيل في الوقوع في الخطأ — بينما لا يوجد مجال للشك في وحدة الثقافة والتاريخ والطابع النفسي، وإن كان الوسط الجغرافي يُمثِّل قدرًا من الوحدة. وستُحل المشكلة كما يتم ذلك الآن في الهند: أي إن الحدود الراهنة التي رُسمت من أجل تيسير الاستغلال الاستعماري، أو حسب المصادفات، ليست بالضرورة غير قابلة للتعديل وعلينا أن نُهيِّئ أذهاننا لكي تكون مستعدةً لقبول التغير في المستقبل.

    والواقع أن الشكليِّين يخشَون بكل بساطة ألَّا يكونوا مسايرين للأحداث، وينمُّ موقفهم هذا عن نوع من التعالي الفكري؛ ولو كان موقفهم متسقًا باتجاه مصلحة الشعب لقادهم إلى التقدمية، ولكن الوضع أبعد من أن يكون كذلك.

    وتشنُّ الأوساط الاستعمارية حملةً منسقة ضد القومية في البلدان الخاضعة وتسعى مقدمًا لإجهاضها في كل مكان، لأن الروح القومية، حتى وإن كانت شوفينيةً للغاية، لها عواقب خطيرة بالنسبة لتلك الأوساط؛ فهي تقضي على امتيازاتها وتأتي على سيطرتها كالسيل الجارف.

    ولذا، فبوسعنا أن نلاحظ أن مَن يُلقنوننا أن القومية قد تم تجاوزها هم:
    • (أ) قوميون بورجوازيون من الدولة المستعمرِة ناضلوا في بلادهم وحققوا تطلعاتهم ولكن القيام بعمل مشابه من جانبنا يقضُّ مضاجعهم. وقد يكون بوسعهم أن يقولوا لنا أيضًا: «ولكن ماذا سيحل بنا لو فعلتم نفس الشيء؟»
    • (ب) قوميون بورجوازيون من الدول المستعمِرة يجهلون حقيقةَ أنفسهم: فهم غير قادرين على التخلي عن فكرة وجوب احتفاظ الوطن الفرنسي بمستعمراته بطريقة أو أخرى. وهم يتساءلون أيضًا عن مصير فرنسا بدون ممتلكاتها: إنهم يتصورون أنه يمكن التوصل إلى شكل للاتحاد الفرنسي يكون قادرًا على البقاء ويبحثون عن صيغة بديلة. ولكي نُظهر على نحو أفضل شذوذَ ذلك الترابط بين دول مستعمِرة ومستعمراتها، فلنتصور تعميم ذلك في أفريقيا: سيكون معنى ذلك أن تظل مفتتة إلى الأبد بين فرنسا، وإنجلترا، والبرتغال، وإسبانيا، وجنوب أفريقيا تحت قيادة الدكتاتور مالان … إلخ. ولو كُتب النجاح للتستر على هذا التفتيت لأفريقيا تحت اسم التقدم والديمقراطية، لتحققت تلك الديمقراطية العالمية على حساب بلادنا، بمعنى أن تظل مقسَّمة ومستغَلة من جانب طرف واحد.

    هناك إذن واجب علينا أن نؤدِّيَه إزاء أوروبا: علينا أن نساعدها على التحرر من العادات القديمة التي اكتسبَتها من خلال ممارستها للاستعمار، ودفعها إلى إدراك الوجهة الحقيقية لمصالحها التي لم تَعُد قادرةً حتى على تحديدها. فأوروبا وحدها ضعيفةٌ للغاية وفي حاجة إلى المساعدة للتوصل إلى ذلك. غير أنها لن تتأخر في الإقدام على هذا الأمر وعلى أسس ديمقراطية حقًّا في اليوم الذي ستقتنع فيه بأنها فقدت أفريقيا نهائيًّا؛ وعندئذٍ سيبدو الاتحاد الفيدرالي الأوروبي الحلَّ الوحيد بالنسبة لكل الذين كانوا يتساءلون حتى ذلك الوقت عن مصير بلادهم بدون مستعمرات.

  • رابعًا: قد يكون هناك فريقٌ مكوَّن من عناصر تعتقد أن النضال من أجل لقمة الخبز اليومية هو وحده المهم وأن كلَّ ما عدا ذلك ليس سوى هموم مثقفين ويجب أن نتحاشى الانشغال بقضايا زائفة. وبوسعنا حينئذٍ أن نذكر لهم مثالَ فيتنام الذي تعيَّن عليه أن يحلَّ هذه «القضايا الزائفة» في الأدغال حيث اقتضى الأمرُ تأسيسَ تعليم باللغة الدارجة من أجل تدريب الكوادر. ومن جهة أخرى يتضح من كلِّ ما جاء من قبل أن الاهتمام بالقضايا الثقافية هذه ليس إلا من أجل إكساب هذا النضال كلَّ فاعليته وتحويله إلى نضال من أجل الاستقلال الوطني.

    هذا المؤلف ليس «اختراعًا» حول قضايا معينة: فكل مَن أراد استخدام الماركسية كمرشد للتحرك على الساحة الأفريقية سيتوصل بكل تأكيد إلى نفس الاستنتاجات.

    ولكن، يجب أن أضع النقاط فوق الحروف: فإني حريص على أن أوضح أنني لا أُلمِّح إطلاقًا إلى صدق الدين الإسلامي أو الدين المسيحي. وأعتقد أن أيَّ أفريقي جاد يريد أن يكون فعَّالًا بالنسبة لبلده سيتحاشى اللجوء إلى أي انتقادات دينية؛ فالدين مسألة شخصية. فنحن هنا فقط بصدد مشاكل ملموسة يتعين حلُّها حتى يتمكن كلُّ مؤمن من ممارسة طقوس دينه بحُريَّة في ظل ظروف مادية أفضل. ولذا لن يكون من الأمانة أن يُقرأ هذا الكتاب بنيَّة خفيَّة تريد أن تعثر فيه على أي كلمة تسمح بنبذِه مع التصايح بأنه دعوة إلى الكفر.

١  انظر صفحتَي ١٥٣-١٥٤.
٢  لا يعني ذلك بالطبع أننا نقلِّل من شأن رينان وجول فيرن أو نعتبرهما من السذَّج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤