الفصل الثاني

منشأ خرافة الزنجي

كانت مصر قد فقدت استقلالها منذ قرن من الزمن عندما زارها هيرودوت؛ فقد احتلَّها الفرس في عام ٥٢٥ق.م. وظلت منذ ذلك العهد تحت سيطرة الأجانب؛ فقد جاء بعد الفرس المقدونيون تحت قيادة الإسكندر، والرومان تحت قيادة يوليوس قيصر (٥٠ق.م.)، والعرب في القرن السابع، والأتراك في القرن السادس عشر، والفرنسيون بقيادة نابليون، ثم الإنجليز في أواخر القرن التاسع عشر.

كانت مصر مهدَ الحضارة طوال عشرة آلاف سنة بينما كانت بقية العالم غارقةً في ظلمات الوحشية. ومع أنها لم تَعُد تقوم بهذا الدور بعد أن دمَّرَتها عمليات الاحتلال المتتالية إلا أنها ظلَّت مع ذلك تُلقِّن لأمد طويل شعوبَ البحر الأبيض المتوسط، الفتية (الإغريق والرومان وغيرهم) التنويرَ الحضاري. وقد ظلت طوال التاريخ القديم الأرض الكلاسيكية التي تحجُّ إليها شعوب البحر الأبيض المتوسط لتنهل من منابع المعرفة العلمية والدينية والأخلاقية والاجتماعية … إلخ، التي كانت أقدم ما اكتسب البشر من معارف في تلك المجالات.

وهكذا قامت على التوالي حول كافة شواطئ البحر الأبيض المتوسط حضاراتٌ جديدة استفادت من إسهامات عديدة هيَّأها لها الموقع الجغرافي للبحر الأبيض المتوسط الذي كان ملتقًى حقيقيًّا في خير موضع في العالم. وقد تطورت تلك الحضارات ماديًّا وتقنيًّا بفضل العبقرية المادية للهندو-أوروبيِّين: الإغريق والرومان.

وفي القرن الرابع تقريبًا نفدَت الشحنة الوثنية التي كانت تدفع تلك الحضارة الإغريقية-الرومانية، وتدخَّل عنصران جديدان: المسيحية وغزوات البرابرة في أنحاء أوروبا فتولَّدت عنهما حضارة جديدة، هي ذات الحضارة التي تعتريها اليوم، بدورها، أعراضُ الإنهاك. وقد ورثت هذه الحضارة كافة ضروب التقدم التقني التي توصَّلت إليها البشرية وأصبحت مُجهزةً تقنيًّا بما فيه الكفاية في القرن الخامس عشر للانطلاق نحو استكشافِ العالم وفتحِه.

وهكذا وصل البرتغاليون إلى أفريقيا منذ القرن الخامس عشر عن طريق المحيط الأطلسي، فأقاموا أول اتصالات حديثة للقارة مع الغرب، لم تتوقف منذ ذلك العهد.

ماذا وجدوا في هذا الطرف الآخر من أفريقيا؟ وما هي الشعوب التي التقَوا بها، أكانت هناك منذ العهود القديمة أم كانت قد هاجرَت حديثًا؟ وكيف كان مستواها الثقافي ودرجة تنظيمها الاجتماعي والسياسي، أي باختصارٍ، ما هي الدرجة التي كانت حضارتها قد بلغت؟ ما هي الانطباعات التي كان بوسعهم استخلاصها من احتكاكهم بتلك الشعوب؟ وما هي الفكرة التي كان بوسعهم التوصل إليها بخصوص قدراتها الذهنية واستعداداتها التقنية؟ وما هي طبيعة العلاقات الاجتماعية التي نشأت على أثر ذلك بين أوروبا وأفريقيا؟ وفي أيِّ اتجاه تطورت هذه العلاقات باستمرارٍ؟

سيوفر الرد على مختلف هذه الأسئلة التفسير الكامل للأسطورة الراهنة حول الزنجي البدائي.

وتستلزم بالطبع الإجابة على هذه الأسئلة الرجوع إلى مصر في الفترة التي وقعت فيها تحت نير الأجانب.

وقد شَهِد على الأرجح انتشارُ الزنوج في القارة الأفريقية مرحلتَين رئيسيَّتَين:

فمن المعترف به عمومًا أن الجفاف الذي أصاب الصحراء انتهى قبل الميلاد ﺑ ٧٠٠٠ سنة تقريبًا. وكانت أفريقيا الاستوائية لا تزال على الأرجح منطقةَ غابات كثيفة للغاية بحيث لم تكن تجتذب البشر. ولذا فإن الزنوج الذين كانوا آخرَ مَن عاشوا في الصحراء هجروها متَّجهين نحو أعالي النيل، فيما عدا بضع بُقَع ربما ظلت تائهةً في بقية أنحاء القارة لأنها اتجهت نحو الجنوب أو صعدَت نحو الشمال.١ وربما وجد الأولون في أعالي النيل سكانًا زنوجًا كانوا مقيمين هناك أصلًا. وعلى أي حال فقد تولَّدت أقدمُ ظاهرة تحضُّر عرفها العالم من خلال التأقلم التدريجي مع ظروف الحياة الجديدة التي فرضَتها الطبيعة على مختلف السكان الزنوج. وقد تطورت هذه الحضارة التي تُسمَّى مصرية في عهدنا، تطورت على مدًى طويل في مهدها الأول ثم انحدرت ببطء مع امتداد وادي النيل لينتشر إشعاعها حول حوض البحر الأبيض المتوسط. واستغرقت دورة الحضارة هذه، وهي أطول الدورات في التاريخ، حوالي عشرة آلاف سنة، وهو متوسط بين التقدير الزمني الطويل (هيرودوت ومانيتون اعتمادًا على بيانات الكهنة المصريين، الذين يُرجعون تلك الحضارة إلى ١٧ ألف سنة)، والتقدير القصير للحديثين الذين تعيَّن عليهم الاعتراف بأن المصريين كانوا قد اخترعوا التقويم في عام ٤٢٤٥ق.م. مما يفترض آلاف السنوات من التطور للتوصل إلى مثل هذه التصورات.

وبوسع المرء أن يُدرك ببساطة أن الزنوج انتشروا من جديد تدريجيًّا داخل القارة وشكَّلوا نَوَيات أصبحت فيما بعدُ مراكز حضارات قارية (يتناولها بالدراسة الفصل الخامس).

وظلت تلك الحضارات الأفريقية معزولةً أكثر فأكثر عن بقية العالم، ومالَت إلى التقوقع نتيجة للمساقة الشاسعة التي تفصلها عن سُبل الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وعندما فقدَت مصر استقلالها، كان انعزال تلك الحضارات تامًّا.

ولما كان الزنوج قد أصبحوا على أثر ذلك منفصلين عن وطنهم الأم الذي اجتاحه الأجانب، وانغلقوا على أنفسهم في إطار جغرافي يحتاج إلى جهد أقل للتأقلم، وحظوا بظروف اقتصادية مواتية؛ فقد اتجهوا نحو تطوير تنظيمهم الاجتماعي والسياسي والمعنوي، أكثر من اتجاههم نحو البحث العلمي النظري الذي ما كانت البيئة تُبرره، بل وتجعله مستحيلًا. ولما كان التأقلم في الشريط الضيق لوادي النيل الخصب يتطلب تقنيةً علمية في الري وإقامة السدود، وحسابات دقيقة للتنبؤ بفيضانات النيل، واستخلاص العواقب الاقتصادية والاجتماعية لذلك، فقد أصبح اختراع علم الهندسة ضرورةً مادية لتحديد المِلكيات بعد فيضانات النيل التي كانت تُزيل الحدود، كما تطلبت شرائح الأرض المسطحة تحويل المعزقة التي تعود إلى العصر الحجري-الزنجي الجديد إلى محراث قام الإنسان بجرِّه ثم أحلَّ محلَّه البهائم. وبقدر ما كان كل ذلك أمرًا لا غِنى عنه بالنسبة للزنجي المستقر في وادي النيل، بقدر ما كان لا يلزم في ظل ظروف الحياة الجديدة داخل القارة.

ولما كان التاريخ قد أخلَّ بتوازن الزنجي فيما مضى مع البيئة، فقد توصَّل إلى توازن جديد مختلف عن الأول من حيث غياب التقنية التي لم تَعُد ذات أهمية حيوية، على عكس التنظيم الاجتماعي والسياسي والمعنوي.

كما أن الزنجي تخلَّى تدريجيًّا عن اهتمامه بالتقدم المادي نظرًا لأن الموارد الاقتصادية كانت مؤمَّنةً خلال وسائل لا تستدعي اختراعات متواصلة.

وقد تم الالتقاء مع أوروبا في ظل ذلك الوضع الحضاري الجديد. فعندما بدأ البحارة التجار الأوائل البرتغاليون والهولنديون، والإنجليز، والفرنسيون، والدانماركيون، والبراندبورجوازيون في إقامة وكالات تجارية على الساحل الغربي لأفريقيا في القرن الخامس عشر، كان التنظيم السياسي للدول الأفريقية مساويًا في مستواه للتنظيم السياسي لدول هؤلاء البحارة التجار، بل وأرقى منه في كثير من الأحوال. كانت النظم الملكية دستورية وتشمل مجلسًا للشعب تمثَّل فيه مختلف الفئات الاجتماعية، ولم يكن الملك الزنجي — كما لم يصبح أبدًا — طاغيةً يتمتع بسلطات لا حدود لها، على عكس ما أشاعَته الأساطير، وكان الشعب يتولَّى تنصيبَه في بعض الحالات، من خلال رئيس وزراء يُمثِّل الرجال الأحرار. وكانت مهمته تتمثل في خدمة الشعب بحكمة وكانت سلطته تتوقف على مدى احترامه للدستور القائم (انظر الفصل الخامس).

وكان النظام الاجتماعي والأخلاقي على نفس المستوى من الكمال، ولم تَسُدْ في أي مكان العقلية السابقة على المنطق بالمعنى الذي قصده ليفي-برول، ولا توجد حاجة هنا للرد على هذه الأطروحة التي تبرَّأ منها صاحبها قبل وفاته … وعلى العكس كان التطور التقني أقلَّ تقدمًا مما كان عليه في أوروبا للأسباب المذكورة آنفًا. ومع أن الزنجيَّ كان أولَ مَن اكتشف الحديد، إلا أنه لم يصنع المدفع، وكان سرُّ البارود معروفًا لدى الكهنة المصريين الذين كانوا لا يستخدمونه إلا للأغراض الدينية أثناء الطقوس الدينية الخاصة بأوزيريس (انظر: أبحاث فلسفية حول المصريين والصينيِّين، بقلم م. دي باو).

وبناء على ذلك كان من السهل التغلب على أفريقيا من وجهة النظر التقنية، فأصبحت بذلك فريسةً مغرية بالنسبة للغرب المزوَّد بأسلحة نارية وسفن قادرة على قطع مسافات طويلة.

وعليه، فقد شجَّع ازدهار أوروبا الاقتصادي في عهد النهضة على غزو أفريقيا الذي تحقق بسرعة. وتم الانتقال من مرحلة الوكالات الساحلية إلى مرحلة الاستيلاء عن طريق اتفاقيات دولية بين الدول الغربية، أعقبها غزو الداخل بواسطة السلاح، تحت اسم إخماد الفتن وإقرار السلام.

وكان قد تم اكتشاف أمريكا في بداية هذه المرحلة على يد كريستوف كولومبوس فانصبَّ فائض القارة الأوروبية القديمة في القارة الجديدة. واحتاجت زراعة الأراضي البكر إلى أيدٍ عاملة رخيصة. وبدَت أفريقيا المجردة من وسائل الدفاع، خيرَ مستودع بشري ملائم يتعين اغتراف تلك الأيدي العاملة منه بأقل التكاليف والمخاطر. وهكذا أصبحت النِّخاسة الحديثة المقصورة على العبيد من الزنوج، ضرورةً اقتصادية قبل ظهور الآلة البخارية، وظلت قائمةً حتى منتصف القرن التاسع عشر.

وأدَّى ذلك الانقلاب في الأدوار، الناجم عن العلاقات التقنية الجديدة، إلى علاقات قائمة، على الصعيد الاجتماعي، بين السيد الأبيض والعبد الزنجي. وكانت ذكرى مصر الزنجية التي أنشأت الحضارة في العالم قد اندثرت منذ العصور الوسطى، نتيجةً لنسيان التقاليد القديمة التي تم إخفاؤها في المكتبات أو دُفنت تحت الأطلال. وقد تلاشَت تلك الذكرى أكثر فأكثر على مدى القرون الأربعة التي استغرقَتها تلك العبودية.

ولما كان الأوروبيون مغرمين بتفوقهم التقني الحديث، فقد نظروا منذ البداية بازدراء لكل العالم الزنجي الذي ما كانوا يتفضلون إلا بوضع أيديهم على ثرواته. وتوفرت عوامل عديدة لتهيئة الذهن الأوروبي تمامًا لتشويه شخصية الزنجي المعنوية واستعداداته الفكرية، ومنها الجهل بالتاريخ القديم للزنوج، واختلاف العادات والتقاليد، والأحكام المسبقة المتفشية بين الجنسين لتصورهما أنهما يتواجهان للمرة الأولى، وهذا علاوة على الضروريات الاقتصادية للاستغلال.

وهكذا أصبح «الزنجي» مرادفًا «للكائن البدائي الأدنى ذي العقلية السابقة على المنطق». ولما كان الكائن البشري حريصًا دائمًا على تبرير مسلكه؛ فقد ذهب إلى مدى أبعد من ذلك لإضفاء الشرعية على الاستعمار والنخاسة — لتسويغ وضع الزنجي الاجتماعي في العالم الحديث — فأنشأ أدبيات كاملة لوصف السِّمات الدنيا المزعومة التي يتميز بها الزنجي، وهكذا تمَّ تدريجيًّا إفسادُ عقول عدة أجيال أوروبية. وتبلور الرأي العام الغربي فأصبح يقبل بشكلٍ غريزي أن «الزنجي = إنسان أدنى» كما لو كان ذلك مسألةً مفروغًا منها.٢

وبلغت الوقاحةُ قمَّتَها بتصوير الاستعمار كواجب إنساني بالتذرع بالرسالة الحضارية التي تقع على عاتق الغرب الاضطلاع بها لرفع الأفريقي إلى مستوى البشر الآخرين. وهكذا أصبحت الرأسمالية مُطْلقةَ اليدين لممارسة أبشع أشكال الاستغلال تحت ستار مبررات أخلاقية.

وسيتم الاعتراف في أحسن الأحوال بمواهب الزنجي الفنية المرتبطة بحساسيته كحيوان أدنى، وذلك هو رأي الفرنسي جوبينو، سلف الفلسفة النازية الذي قرر في كتابه الشهير المعنون حول عدم التساوي بين الأجناس البشرية، أن الإحساس بالفن يَسْري في عروق الزنوج، ولكنه يعتبر في الوقت نفسه أن الفن مظهر أدنى للطبيعة البشرية، وبالأخص حاسة الإيقاع المرتبطة بالاستعدادات الانفعالية لدى الزنجي.

وفي نهاية الأمر أثَّر مناخ الاغتراب هذا بعمقٍ في شخصية الزنجي، وخاصة الزنجي المتعلم الذي أُتيحت له فرصة إدراك فكرة بقية العالم عنه وعن شعبه. وكثيرًا ما يفقد المثقف الزنجي ثقتَه في إمكاناته الذاتية وفي إمكانات جنسه، حتى إنه لن يكون من الغريب على الرغم من الإثباتات المطروحة في هذه الدراسة، أن يجد بعضنا مشقة في التسليم بأننا اضطلعنا حقًّا بالدور الأول في حضارة العالم.

وكثيرًا ما يظل زنوج ذوو مستوًى ثقافيٍّ رفيع ضحايا لهذا الاغتراب إلى حدِّ محاولة تقنين — بحسن نية — تلك الأفكار النازية المتعلقة بالازدواجية المزعومة بين الزنجي الحساس والانفعالي والخالق للفن، والأبيض المعتمد بالأخص على التفكير الرشيد٣ وهكذا، فقد عبَّر شاعر أفريقي زنجي — بحسن نية — عن ذلك في بيت شعر رائع الجمال:
«العاطفة زنجية والعقل إغريقي.»
(ليوبولد سيدار سنجور)

وقد نشأ بذلك، شيئًا فشيئًا أدبٌ زنجيٌّ «استكمالي» أراد أن يكون طفليًّا وساذجًا وسلبيًّا ومستسلمًا وبكَّاءً. وهكذا أيضًا تُشكل الأعمال الفنية الزنجية الخلَّاقة الراهنة في مجموعها، والتي تلقَى تقديرًا كبيرًا من جانب الغربيِّين، تُشكل مع ذلك مرآةً تُتيح لهؤلاء فرصةَ التطلع لأنفسهم بفخرٍ لإيمانهم بتفوقهم، مع الاستسلام في الوقت نفسه لأحاسيسهم الأبوية. غير أن ردود الفعل ستكون مختلفةً تمامًا لو أن نفس هؤلاء المُحكِّمين وجدوا أنفسهم بصدد عمل فني زنجي ناجح تمامًا، لكنه خارج ذلك الإطار ومتحرر من الإحساس بالتبعية وعُقَد النقص، ويضع نفسه بالطبع في مستوى المساواة. وسيبدو مثل هذا العمل الفني على الأرجح وكأنه غرور، يُثير على الأقل غيظ البعض ويرى البعض الآخر أنه أمر لا يطاق.

إن ذكرى العبودية الحديثة، التي تعرَّض لها الجنس الزنجي وبرعوا في المحافظة عليها في أذهان الناس وبالأخص الزنوج، كثيرًا ما تؤثر في وعي هؤلاء بشكل سلبي. وعلى أساس تلك العبودية الحديثة العهد جرَت المحاولات، رغم كل حقيقة تاريخية بالطبع، لبناء الأسطورة التي تزعم أن الزنجيَّ كان على الدوام مستعبَدًا من جانب الجنس الأبيض الأرقى، أينما عاش معه، مما يُتيح له الفرصة لتبرير تواجد الزنوج في مصر أو في أراضي ما بين النهرين أو الجزيرة العربية منذ أقدم العصور، وبالحكم بأنهم كانوا من العبيد. وهكذا كتب شاعر آخر زنجي كبير، لعله أكبر شاعر في عصرنا، وهو إيميه سيزير قصيدةً عنوانها:

منذ أكاد، منذ عيلام، منذ سومر

يا سيد الطرق الثلاثة، أمامك رجل سار طويلًا،
يا سيد الطرق الثلاثة، أمامك رجل سار على اليدين، على القدمين، على البطن، وعلى العَجُز،
منذ أكاد، منذ عيلام، منذ سومر.

وكتب في قصيدة أخرى يقول:

الذين لم يخترعوا لا البارود ولا البوصلة،
الذين لم يستأنسوا لا البخار ولا الكهرباء،
الذين لم يستكشفوا لا البحار ولا السماء.٤

وعبر تلك التحولات في علاقات الزنجي مع بقية العالم، أصبح من الصعب يومًا بعد يوم، بل وحتى من الأمور التي لا يمكن قبولها بالنسبة لمن يجهلون عظمته السابقة — وبالنسبة للزنوج أنفسهم — أن هؤلاء كانوا أصلَ أول حضارة ازدهرَت على سطح الأرض، تدين لها البشرية بأساس تقدُّمها.

ومع أن الأدلة ستتراكم أمام أعين الإخصائيِّين، إلا أنهم لن يُبصروها إلا من خلال تلك الغمامة، ولن يُقدِّموا في كل الأحوال سوى تفسيرات خاطئة. وستُحاك نظريات لا يمكن تصديقها أبدًا، ولكنها ستبدو لهم على أي حال أكثرَ منطقية من الحقيقة الواردة في أهم وثيقة تاريخية تُثبت الدور الحضاري الأول للزنوج. وقبل التعرض لمناقشة التناقضات الجارية في العصر الحديث، والناجمة عن محاولات ترمي — بأي ثمن — إلى إثبات أن المصريين كانوا من أصل أبيض، فلنذكر مدى الدهشة التي اعترَت فولني، العالِم حسن النية الذي كان مُشبعًا بالأفكار المسبقة التي تعرَّضنا لها من قبل بخصوص الزنوج، عندما زار مصر بين عامَي ۱۷۸۳م و١٧٨٥م — أي في أوج عهد العبودية الزنجية — إذ أبدى الملاحظات التالية بخصوص الجنس المصري الذي انحدر من الفراعنة، ألَا وهم الأقباط:

«… وجوههم جميعًا منتفخة والعيون جاحظة والأنوف فُطْس والشفاه غليظة، إنهم بعبارة واحدة صورة للخلاسي الحقيقي، كنت أميل إلى أن أنسب ذلك إلى المناخ، حتى زرتُ أبا الهول، فأفادني مظهرُه بكلمة السرِّ. فعندما شاهدت هذا الرأس الزنجي في كافة سماته، تذكَّرت تلك الفقرة الجديرة بالملاحظة والتي أوردها هيرودوت: «وفي رأيي أن الكولخيِّين جاليةٌ من المصريين لأن بشرتهم سوداء وشعرهم مجعد مثلهم: أي إن قدماء المصريين كانوا زنوجًا حقيقيِّين من النوع السائد بين أهل أفريقيا؛ وبناء على ذلك يُفسَّر فقدان دمائهم لكثافة لونها الأول بامتزاجهم منذ عدة قرون بدماء الرومان والإغريق، مع احتفاظهم مع ذلك بسمات القالب الأصلي. بل ومن الممكن تعميم هذه الملاحظة على نطاقٍ واسعٍ والإقرار مبدئيًّا بأن التقاطيع نوع من البناء المتميز في العديد من الأحوال، لإقرار أو توضيح شهادات التاريخ حول الجذور الأصلية للشعوب …»»

وقد قدَّم فولني نموذجًا لفكرته هذه من خلال حالة النورمانديِّين الذين لا يزالون يُشْبِهون الدانماركيِّين حتى الآن بعد تسعمائة سنة من غزو نورمانديا، ثم استطرد قائلًا:

«ولكن لنَعُد إلى مصر، فما تُقدِّمه للتاريخ يُهيِّئ للعديد من الأفكار الفلسفية. إنه لأمر يستحق التأمل، عندما نرى الهمجية والجهل الراهنَين للأقباط الذين انحدروا من امتزاج عبقرية المصريِّين العميقة مع فكر الإغريق اللامع، ونتذكر أن هذا الجنس من السود الذي أصبح اليوم عبدًا لنا وموضعَ ازدرائنا، هو نفسه الذي ندين له بفنوننا وعلومنا بل وحتى استخدام الكلمة، ونتصور أخيرًا أنه تم فرض أكثر النظم العبودية بربرية وطُرحت قضية ما إذا كان السود يتوفر لديهم ذكاءٌ من النوع الذي يتميز به البيض، وذلك على يد شعوب تزعم أنها المُحِبَّة للحرية والإنسانية!» (أسفار في سوريا ومصر، بقلم م. س. ش. فولني، باريس، ۱۷۸۷م، المجلد الأول، من ص٧٤ إلى ٧٧).

١  ويتبين مما تم العثور عليه في الصحراء أن سكانها كانوا من الزنوج …
«فأجسام النساء ذوات عجيزات مكتنزة، كما يقول الإتنولوجيون، أو على حدِّ قول جان تمبورال «ذوات الأدبار الممتلئة واللحيمة»» (ث. مونود، المهارة، استكشاف في الصحراء الحقيقية، مطبوعات Je Sers، باريس، ۱۹۳۷م، ص۱۰۸).
«فلاحون، وربما فلاحون زنوج، وأعداد غفيرة من الأبقار وحقول دُخْن، وأوانٍ من الفخار ومياه جارية وصيد وفير وريف تكسوه الخُضرة وقوارب محكمة، كان كل ذلك جميلًا ولكنه لم يَدُم، كانت المرحلة الرطبة قد سبقَتها فترةٌ متصحرة، وقد راحَت تترك مكانها ببطء ليحلَّ محلَّها جفافٌ جديد … لقد استعادت «الصحراء» مملكتها من جديد فامتصَّت البحيرات وحققت النجيل وأزالت الريف.»
«وماذا عن أهالي الريف؟ كان الأمر سيئًا بالنسبة لهم، فجرَت بخصوصه مناقشاتٌ حادة في برلمانهم: هل يتعين عليهم أن يفنوا في مكانهم أو يهاجروا أو يتأقلموا. لم يُنادِ أحد بالانتحار، ولم يحصل التأقلم على صوت واحد، وتمت الموافقة على الخروج برفع الأيدي» (ث. مونود، المرجع السابق، ص۱۲۸).
إن الهياكل البشرية التي تعود إلى ما قبل التاريخ والتي وجدت في الصحراء من النوع الزنجي؛ إنه إنسان أسيلار، في جنوب الصحراء.
٢  جاء في قاموس لاروس الحديث المصوَّر (صفحة ٥١٦، طبعة ١٩٠٥م) التعريف التالي: «زنجي، زنجية (عن اللاتينية، نيجر: أسود) رجل/امرأة أسود الجلد. وهو الاسم الذي يُطلَق بالأخص على سكان بعض بلدان أفريقيا الذين يُشكِّلون جنسًا أسودَ أدنى ذكاءً من الجنس الأبيض المُسمَّى الجنس القوقازي.»
٣  «لو سلمنا مع الإغريق وأكفأ المحكمين في هذا المجال بأن الانطلاق والحماس هما حياة العبقرية الفنية، وأن هذه العبقرية تسوق، عندما تكون كاملة، إلى الجنون، فإننا لن نسعى إلى البحث عن سبب هذا الخلق في أيِّ شعور منظم وحكيم وفقًا لطبيعتنا، ولكن من خلال عمق تأجيج الأحاسيس باندفاعات طموحة ترمي إلى الجمع بين الذهن والمظاهر بغيةَ استخلاصِ شيءٍ مُرْضٍ أكثر من الواقع … وبناءً على ذلك يتمثل أمامنا ذلك الاستنتاج الدقيق للغاية، وهو أن المنبع الذي تدفَّقت منه الفنون غريب على الغرائز الحضارية. إنه كامن في دم الزنوج … وقد يُقال إنني أضع بذلك تاجًا جميلًا على رأس الزنجي المشوَّه، وإنه لشرف عظيم حقًّا نسبغه عليه بأن تجمع حوله جوقة عرائس الشعر المتناغمة إنه ليس شرفًا عظيمًا، فأنا لم أَقُل إن كافة ربات الفنون اجتمعت هنا معًا لغياب أنيلها المعتمدة على التفكير والتي تُفضل الجمال على العاطفة … فلو ترجمت له أشعار الأوديسة وبالأخص اللقاء بين أوليس وتوسيكا وهو آية الإلهام المتعقِّل، لغلبه النوم. فلكي ينطلق التعاطف لدى كافة الكائنات يتعين قبل ذلك أن يكون الذهن قد فَهِم، وذلك هو الأمر الصعب بالنسبة للزنجي … فالإحساس الفني لدى هذا الكائن، وهو أقوى من كل تعبير، سيظل إذن قاصرًا بالضرورة على أبأس الاستخدامات … ولذا تحتل الموسيقى لدى المخلوق الأسود المركز الأول بين كافة الفنون، وهو يفضِّلها لأنها تُداعب أُذُنَه عن طريق تتابع الحركات ولا تطالب الجزء المفكر من مخِّه بأي شيء، والزنجي يُحبُّها إلى حدٍّ كبير ويلتذُّ بها بإفراط، ولكنه يظل مع ذلك غريبًا عن تلك التوافقات الرقيقة التي تعلَّم الخيال الأوروبي من خلالها كيف يُهذِّب أحاسيسَه!»
«لقد جعلنا نحن من الفن بحكم عاداتنا المهذبة، شيئًا مرتبطًا بكل ما هو رفيع في تأملات الروح وإيماءات العلم، حتى إنه يغدو بوسعنا أن نمدَّ هذا الفن إلى الرقص من خلال التجريد وبذل بعض الجهد. وعلى النقيض من ذلك فإن الرقص بالنسبة للزنجي، هو والموسيقى مجالٌ لانفعالات لا يقوى على مقاومتها؛ وذلك لأن الحس هو كل شيء تقريبًا، إن لم يكن كل شيء في الرقص.»
«وهكذا يمتلك الزنجي إلى أقصى حدٍّ القدرةَ الحسية التي لا يوجد بدونها فنٌّ ممكن، وتعوزه في الوقت نفسه الاستعدادات الذهنية، مما يجعله عاجزًا تمامًا عن تنمية الفن بل وحتى عن تقدير ما يمكن أن يُنتجَه تطبيقُ ذكاء البشر من أعمال راقية. ويتطلب تهذيب قدراته أن يمتزجَ مع جنس ذي مواهبَ مختلفة.»
«والعبقرية الفنية، الغريبة أيضًا بالنسبة للأجناس الثلاثة الكبرى، لم تتفجر إلا بتزاوج البيض مع السود» (الكونت دي جوبينو، دراسة حول عدم التساوي بين الأجناس البشرية، المجلد الثاني، الفصل السابع، الطبعة الأولى ١٨٥٣–١٨٥٥م).
٤  لا يقلل ذلك أبدًا من إعجابي الشديد بالشاعر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤