الفصل الأول

ما القيادة؟

(١) مقدمة

ما القيادة؟ حسنًا، بالرغم مما يقرب من ثلاثة آلاف عام من التأمل وما يزيد على القرن من البحث «الأكاديمي» في القيادة، فيبدو أننا لم نقترب من اتفاق على المعنى الأساسي لها، فضلًا عن إمكانية تعلمها أو قياس تأثيراتها أو التنبؤ بها. ولا يمكن أن يرجع ذلك إلى قلة الاهتمام بهذا الموضوع أو قلة المواد المتعلقة به؛ فحتى ٢٩ أكتوبر ٢٠٠٣، كان هناك ١٤١٣٩ كتابًا تتناول موضوع «القيادة» معروضة للبيع على موقع «أمازون دوت كوم دوت يو كيه» الإلكتروني. وفي غضون ست سنوات فقط من ذلك التاريخ، تضاعف هذا العدد أربع مرات ليصل إلى ٥٣١٢١ كتابًا، وهناك دليل واضح على أنه خلال فترة قليلة من الزمن سيفوق عدد الكتب التي تتناول القيادة عدد من يقرءون هذه الكتب. وسنلتمس لك العذر إذا ما اعتقدت أن الزيادة في المعلومات تقود إلى فهم أفضل. فمع الأسف، يبدو أننا نتسبب في إضفاء تباين أكبر بكثير على مفاهيمنا حول تعريف القيادة ، وكذلك أننا أبعد من «الحقيقة» المتعلقة بهذا التعريف عما كنا عليه قبل الشروع في نشر هذه الأفكار الكثيرة. ويمثل الشكل ١-١ في الحقيقة رحلتي الخاصة في الكتابات المنشورة عن القيادة؛ فعندما بدأت أقرأ في الكتابات المنشورة عن القيادة عام ١٩٨٦ تقريبًا، كنت قد شغلت بالفعل عدة مواقع قيادية؛ لذا ففي تلك المرحلة كنت قد قرأت القليل، ولكني استقيت كل ما فهمته عن القيادة من جامعة الحياة. بعد ذلك، وبينما كنت أواصل قراءة المزيد، أدركت أن كل ما أعرفه من «حقائق» سابقة كان مبنيًّا على أسس غامضة، لذا قَلَّ فهمي مع زيادة معرفتي. وكان عام ٢٠٠٦ صعبًا: فقد قرأت مئات — إن لم يكن آلافًا — من الكتب والمقالات، وخلصت إلى أن سقراط كان محقًّا عندما قال إن الحكمة لا تأتي إلا عندما تكتشف مقدار جهلك. وأعتقد أنني الآن على طريق التعافي، وقد تجاوزت بداية هذا الطريق بالاستنتاج الآتي: «جوهر» القيادة في أبسط صوره — مثل قائد فرد — يهمل الأتباع، ودون أتباع لا يمكن أن تكون قائدًا. والحق أن ذلك يمكن أن يكون أبسط تعريف للقيادة وهو: «أن يكون لديك أتباع.»
fig1
شكل ١-١: القيادة: المعرفة والفهم.
إذن، كيف سنتناول هذا الموضوع؟ إن أهمية تعريف القيادة لا تكمن ببساطة في وضع منظومة مصطلحات لها، إلى جانب أن الأمر ليس لعبة من ألعاب السفسطة؛ والحقيقة أننا لسنا بحاجة فعلًا إلى أن نتفق على تعريف (على الرغم من أن المؤسسات ينبغي على الأرجح أن تتفق على تعريف)، ولكن ينبغي علينا على الأقل أن نتمكن من فهم موقع كل منا بالنسبة للآخر، بحيث يستطيع كل منا إدراك وفهم الحجج التي يسوقها الآخر. وبادئ ذي بدء، فإن الكيفية التي نعرف بها القيادة لها دلالات حيوية على الكيفية التي تعمل — أو لا تعمل — بها المؤسسات، وعلى تحديد من نكافئ ومن نعاقب. قبل حوالي ٥٠ عامًا، وصف دابليو بي جالي القوة بأنها «مفهوم خلافي في الأساس »؛ فجالي يرى أن هناك الكثير من المفاهيم — مثل القوة — تدور «بين مستخدميها نزاعات واختلافات لا تحصى حول الاستخدام الصحيح لها»، حتى إن هذه الاختلافات صار من المتعذر حلها. فمثلًا، من الوارد أن تؤدي مناقشة هل كان بوش — أو بلير — قائدًا «جيدًا» إلى سخونة في النقاش بدلًا من بصيص أمل غالٍ في التوصل إلى اتفاق بين أطراف النقاش، الذين يقدمون تعريفات مختلفة لمفهوم القيادة «الجيدة».

لذلك، لسنا بحاجة إلى الاتفاق على التعريف، ولكننا بحاجة إلى أن نعرف ماهية التعريفات. وربما نبدأ بالنظر فيما تقوله أشهر الكتب في المسألة. فالعديد من هذه الكتب يدور حول سير ذاتية أو سير أشخاص؛ فهي تربط القيادة «بالشخص» الذي يُنْظَرُ إليه على أنه القائد. ويعرِّف آخرون القيادة بأنها عملية؛ ربما يقصد بها الأسلوب الذي يتبناه القادة، أو عملية «تشكيل معنى» («عملية تشكيل معنى للمعلومات غير المفهومة والمتناقضة.» وفقًا لما قاله ويك)، أو لعلها ممارسات القادة. ويعرِّف البعض القيادة بأنها مجرد التفكير فيما يفعله من لديهم السلطة، وذلك هو المنهج الوظيفي. يكون التعريف غالبًا قريبًا من تعريف القوة المشتق من الفكرة الأصلية لويبر ودال عن القوة (ومن ثم القيادة) بأنها القدرة على جعل شخص ما يفعل شيئًا لم يكن ليفعله في ظروف أخرى. ويميل هذا المنهج إلى قصر فكرة القيادة على تحريك جماعة أو مجتمع لتحقيق غرض ما، وهذا هو منهج النتائج. وسوف نعود إلى بعض هذه المناهج، ولكن بعيدًا عن السمات المتنوعة لهذه التعريفات؛ فقد زادت — ولم تقلِّلْ — من تشوشنا. يبدو أن القيادة لها الكثير من التعريفات المختلفة إذن، وعلى الرغم من وجود بعض أوجه التشابه بين هذه التعريفات، فإن التعقيدات تقوض أغلب المحاولات لتفسير السبب في وجود الاختلافات. ومع ذلك فإن التباينات تبدو وكأنها تدور حول أربعة مجالات مختلف عليها؛ تتمثل في تعريف القيادة بأنها «موقع وظيفي» أو «شخص» أو «نتيجة» أو «عملية».

لا يشمل هذا التصنيف الرباعي جوانب القيادة كافة، ولكن من المفترض أنه يشمل جزءًا كبيرًا من تعريفاتنا للقيادة. والأكثر من ذلك أن هذا النمط ليس تصنيفًا هرميًّا؛ أي إنه لا يعطي لأحد التعريفات أهمية أكبر من التعريفات الأخرى، بل إنه — على العكس من المنهج التوافقي — يستند فيه كل تعريف على أسس ربما تكون متعارضة. ففي واقع الأمر، ربما نضطر إلى أن نحدد شكل القيادة الذي نتحدث عنه بدلًا من أن نحاول أن نزيل الاختلافات. إلا أنه من الممكن أن تتضمن هذه النماذج التجريبية للقيادة عناصر مشتركة بين أشكال القيادة الأربعة. ومن ثم، يصبح أمامنا أربعة بدائل رئيسية هي:
  • القيادة باعتبارها «موقعًا وظيفيًّا»: هل «المنصب» الذي يحتله «القائد» هو ما يجعله قائدًا؟

  • القيادة باعتبارها «شخصًا»: هل «الشخصية» التي يتحلى بها «القائد» هي ما يجعله قائدًا؟

  • القيادة باعتبارها «نتيجة»: هل «النتائج» التي يحققها «القائد» هي ما يجعله قائدًا؟

  • القيادة باعتبارها «عملية»: هل «الكيفية» التي يُسيِّر بها «القائد» الأمور هي ما يجعله قائدًا؟

تشكل هذه الجوانب أنماطًا مثالية ، وذلك استنادًا إلى تأكيد ويبر على أنه لا توجد حالة تجريبية «حقيقية» في صورة نقية، إلا أن ذلك يساعدنا بالتأكيد في فهم ظاهرة القيادة على نحو أفضل — وكذلك ما يصاحبها من تشوش وتعقيدات — لأن القيادة يختلف معناها من فرد إلى آخر. إذن، يمثل هذا الكتاب نموذجًا استكشافيًّا؛ أي محاولة براجماتية لفهم العالم، وليس محاولة لتقسيم العالم إلى أقسام «موضوعية» تعكس ما نتبناه على أنه الواقع. ولسوف أشير، بعد أن بحثت هذه المناهج الأربعة المختلفة لتناول القيادة، إلى أن هذه الاختلافات تفسر أسباب عدم التوصل إلى اتفاق واسع النطاق حول تعريف القيادة وأسباب أهمية ذلك لممارسة القيادة وتحليلها.

(٢) تعريف القيادة

(٢-١) القيادة كموقع وظيفي

من المتعارف عليه ربط القيادة بموقع مكاني في المؤسسات على اختلاف أنواعها، سواء أكانت رسمية أم غير رسمية. لذلك، يمكن القول إن القيادة هي النشاط الذي يمارسه شخص ما يحتل موقعًا وظيفيًّا على هرم رأسي — عادة ما يكون رسميًّا — يتيح له الموارد اللازمة ليقود. إنهم هؤلاء الناس الموجودون «فوقنا»، أو الذين يجلسون «على قمة الهرم»، أو «يرأسوننا» وما إلى ذلك؛ أي إنهم في الواقع يظهرون ما يمكن تسميته «القيادة المسئولة ». تلك هي الكيفية التي عادةً ما ننظر بها إلى الرؤساء على قمة التسلسل الهرمي، سواء أكانوا مديرين تنفيذيين أم جنرالات عسكريين أم مديري مدارس أو ما شابه. إن هؤلاء الناس يمارسون القيادة، من موقعهم الوظيفي، على شبكات واسعة من المرءوسين، ويميلون إلى قيادة أي تغيير من أعلى المنظومة. كلمة «يقود» تحمل أيضًا إشارات إلى كل من الافتراضات الآلية عن الكيفية التي تدار بها المؤسسات والإجبار الذي يستند إليه أصحاب السلطة في ممارستهم القيادة؛ فالقائد العسكري يمكنه أن يصدر حكمًا بالإعدام، والقاضي يمكنه أن يسجن الناس، والمدير التنفيذي يمكن أن يعاقب أو يفصل الموظفين، وهكذا.

هناك جانب آخر مرتبط بهذا الهيكل الوظيفي الهرمي، ويظهر هذا الجانب في الهيكل الموازي للسلطة والمسئولية. فما دام القائد هو «المسئول»، يمكن القول بناءً على ذلك إنه يضمن تنفيذ ما يريد. ولكن فيما قد «يطلب» أحد القادة الرسميين الطاعة من مرءوسيه — وينالها بطبيعة الحال، من بين أشياء أخرى ينالها، نتيجة لعدم توازن الموارد — فإن هذه الطاعة غير مضمونة على الإطلاق. والحقيقة أن المرء يمكن أن يقترح أن السلطة تتضمن احتمالًا مناقضًا للبديهة؛ أي إن الأمر يتعلق بالأتباع بقدر ما يتعلق بالقادة. وبالفعل يمكن للمرء أن يجادل بأن السلطة لا تكون سببًا لأي فعل يصدر من المرءوسين بقدر ما تكون نتيجةً له، وبذلك يمكننا القول إنه إذا ما فعل المرءوسون ما طلبه منهم القادة، فعندها — وعندها فقط — يمكن القول إن القادة أقوياء وذوو سلطة. أما إذا لم يكن الوضع كذلك، فلا يمكننا تفسير «التمرد»، وهو عصيان في منظومة عسكرية، لا يحدث إلا عندما تكون لدى المرءوس القوة ليقول «لا» ولديه الشجاعة أيضًا لتحمل العواقب.

إن القيود التي يفرضها ربط القيادة بموقع في تسلسل هرمي تتلاشى عندما ننتقل إلى النظر إلى القيادة من المقدمة، وهو منهج أفقي تكون فيه القيادة لا علاقة لها في الأساس بالتسلسل الهرمي، وعادة ما تكون مؤسسة بشكل غير رسمي من خلال شبكة أو هرم متغير (يتسم بالمرونة والانسيابية). وقد تتجلى القيادة «من المقدمة» في العديد من الصور، وعندما تندمج مع القيادة في موقع المسئولية، قد تصبح في المرتبة قبل الأخيرة في قاع الهرم. فمثلًا في النظم العسكرية، يظهر هذا النوع من القيادة في أوساط من يحملون رتبة العريف، الذين قد يتمتعون بنوع ما من السلطة الرسمية، ولكنهم ربما يُؤَمِّنُون موقعهم في التعامل مع الجنود العاديين — أتباعهم — من خلال القيادة من المقدمة . وبالفعل، فإن قدرات القيادة عند قادة المستوى الأدنى ربما تكون فارقة في تحديد مستوى نجاح أو فشل الجيوش. وربما يكون في القول المأثور عمن يحملون رتبة الرقيب بأنهم «العمود الفقري للجيش» الكثير من الحقيقة.
وبشكل أعم، على الرغم مما سبق، قد نفهم نموذج القيادة من المقدمة من قائد في مجال الموضة؛ أي قائد يحتل موقع الصدارة بين أتباعه، سواء أكان ذلك من خلال الملابس أو الموسيقى أو الثقافة أو نماذج العمل أو أي شيء آخر. يرشد هؤلاء القادة الجماهير من أتباع الموضة دون أن يكون لهم عليهم أي سلطة رسمية. لكن القيادة من موقع الصدارة تشمل أيضًا هؤلاء الذين يوجهون الآخرين، سواء أكانوا مرشدين مهنيين يبينون الطريق أم حتى ببساطة من يعرفون أفضل طريق للتوجه إلى مكان اتفقت عليه مجموعة من الأصدقاء في جولة يوم الأحد. ويوضح كل من هذين النوعين مفهوم القيادة من خلال دورهما في المقدمة، لكن ليس بالضرورة أن يكون أي منهما له مكانة مؤسسية رسمية في تسلسل هرمي. وربما قد نعيد دراسة الأصل الذي اشتقت منه كلمة القيادة في اللغة الإنجليزية؛ وذلك لنلقي الضوء على هذا الجانب. والأصول التي اشتقت منها كلمة القيادة Leadership في اللغة الإنجليزية هي الكلمة الألمانية القديمة Lidan وتعني يذهب، والكلمة الإنجليزية القديمة Lithan ومعناها يسافر، والكلمة الإسكندنافية القديمة Leid التي تعني استكشاف الطريق في البحر.
والقيادة من المقدمة قد تظهر أيضًا في شكل إضفاء الشرعية على سلوكيات ممنوعة. على سبيل المثال، قد نفكر في الطريقة التي تسبب بها عداء هتلر العلني والعام في إضفاء الشرعية على تعبير أتباعه عن معاداتهم السامية. ومرة أخرى، تُطرح فكرة أن أفعالًا مثل الانتحار أو السلوكيات غير الاجتماعية مثل الكتابة على الحوائط تعطي «الإذن » ﻟ «القادة في المقدمة» ليتبعهم الآخرون، ولذا فغالبًا ما يكون هناك فيض من الأفعال المتشابهة التي تتوالى سريعًا، كما لو أن السلوك الاجتماعي يعمل كالوباء.

القيادة في هذا البعد الذي يقوم على المكانة تختلف من ثم تبعًا لمدى تنظيمها بشكل رسمي أو غير رسمي، ومدى تأسيسها أفقيًّا أو رأسيًّا. وتنطوي القيادة في موقع المسئولية على درجة ما من المركزية في الموارد والسلطة، وقد تنطوي القيادة بالمسئولية، في بعض الظروف، على شيء يقترب من القيادة دون سلطة. لكن هل يعني ذلك ضمنيًّا أن شخصية القائد أقل ارتباطًا بهذا الأمر من الخلفية التي يعمل هذا القائد وفقًا لها؟

(٢-٢) القيادة القائمة على الشخص

إن شخصيتك هي التي تحدد إن كنت قائدًا أم لا. وهذا بالطبع يتوافق مع منهج السمات التقليدي؛ أي شخصية القائد أو سمته. وقد نعد الكاريزما أفضل مثال على هذا النوع، إذ ينجذب لها الأتباع بسبب «الجاذبية» الشخصية لصاحب هذه الكاريزما. والمفارقة أنه عندما بُذِلَ جهدٌ كبيرٌ لاختزال القائد المثالي في جوهره — السمات أو الكفاءات أو السلوكيات الجوهرية للقائد — قلل هذا الاختزال من قيمة القائد في الوقت ذاته، بل إن الأمر بدا كما لو أن عالمًا في القيادة تحول إلى طاهٍ وانخرط في تقليص قائد شهير ليصل به إلى مكوناته الأساسية بوضعه في قِدر على النار وتسخينه. وفي النهاية، يمكن تحليل ما تبقى من عملية الطهو هذه لتقسيم المواد المكونة لهذه البقايا إلى مجموعة من المركبات الكيميائية المتنوعة. لكن، على الرغم من أن بعض البقايا الكيميائية قد تمتلك هذه القدرة بالتحديد (على سبيل المثال: غالبًا ما يُلام الهيروين على «تضليل» الناس وإيقاعهم في المحظور)، فإن سؤال «ما القيادة؟» لا إجابة له لأنه من غير الممكن تحليل القادة في غياب الأتباع أو السياقات.

هناك حجج تكميلية أو مناقضة يمكن أن تقام أيضًا لتعريف القيادة بوجه عام على أنها ظاهرة جماعية وليس فردية. في هذه الحالة، عادة ينتقل التركيز من قائد شخصي رسمي إلى العديد من القادة غير الرسميين. وقد نفكر — على سبيل المثال — في الكيفية التي تحقق بها المؤسسات أي شيء، بدلًا من أن تقلق بشدة حول ما قال الرئيس التنفيذي إنه يجب إنجازه. ولهذا يمكننا أن نتعقب دور قادة الرأي غير الرسميين في إقناع زملائهم بالعمل بشكل مختلف أو بالعمل بكد أكثر أو بالتوقف عن العمل وهكذا. وسنعود إلى الحديث عن هذا الأمر في الفصل ٧.

وفي كل الأحوال، فإن القيادة وفقًا لهذا المعيار تُعَرَّف في البداية على أساس «من» القائد أو القادة (سواء أكان بشكل رسمي أم غير رسمي)، وقد يكون مثل هذا المنهج مرتبطًا بعلاقة عاطفية بين القائد وأتباعه أو بين القادة. وفي أكثر أشكال هذا النوع شططًا، تجعل هذه العلاقة العاطفية الأتباع في «الجماعة» غير قادرين على التمييز بين الأفعال الجيدة والسيئة.

على الرغم من الاعتقاد الغربي الذي ينظر إلى الأبطال على أنهم أيقونات للقيادة، فليس من الواضح على الإطلاق أن مثل هذه الأمثلة توجد بشكل منعزل اجتماعيًّا. على سبيل المثال: ربما يدعي نيوتن أنه «قاد» اكتشاف الجاذبية، لكن الأمر في حقيقته أن هذا الاكتشاف كان نتيجة لعمل جماعي قام به روبرت هوك وإدموند هالي بالإضافة إلى نيوتن. وقد نرغب أيضًا في التمييز بين القيادة كوسيلة والقيادة كغاية. على سبيل المثال: خط التجميع في المصانع هو «الوسيلة التي» يُقاد بها العمال للقيام بعملهم. لكن الغايات لا تنتجها الآلات؛ إنما يُشَكِّلُها القادة البشر الحاضرون وإن كانوا غير ظاهرين. ومن ثم، ما مدى أهمية غايات — نتائج — القيادة؟

(٢-٣) القيادة القائمة على النتائج

قد يكون من الملائم أكثر أن نتبع المنهج المعتمد على النتائج حيث إنه بدون النتائج — أي الغرض من القيادة — لن تحظى القيادة بالكثير من الدعم. قد يكون هناك الآلاف من الأفراد الذين «من المحتمل» أن يكونوا قادة عظامًا، لكن إن لم تُدْرَكْ هذه الاحتمالية، وإن لم تكن نتائج هذه القيادة مقبولة، فسيكون من العسير منطقيًّا أن نصف هؤلاء بأنهم «قادة» — إلا عند وصفهم بأنهم قادة «فاشلون» أو «نظريون» — أي أشخاص لم يحققوا بالفعل سوى أقل القليل أو لم يحققوا أي شيء. على الجانب الآخر، هناك ميل إلى التركيز على النتائج على أساس أنها المعيار الرئيسي للقيادة وأنها تُنسب للقادة: على سبيل المثال: بما أن الشركة حققت زيادة في الأرباح قدرها ٢٠٠٪ — وهو ما كان هدفها الرئيسي — فيجب أن نكافئ القائد بما يتناسب مع ذلك. لكن هناك موضوعين آخرين في حاجة إلى المزيد من التوضيح؛ الأول: لماذا وكيف ننسب النتائج الجماعية التي حققتها مؤسسة ما لأعمال القائد بمفرده؟ والثاني: بافتراض أن بإمكاننا أن نربط عَرَضيًّا بين الاثنين — أي المؤسسة والقائد — فهل تلعب الطرق التي تتحقق بها النتائج أي دور في تحديد مدى وجود القيادة؟

الموضوع الأول — أن بإمكاننا أن نُرجع النتائج إلى ما قام به القادة — موضوع خلافي بدرجة كبيرة. فمن جهة، هناك العديد من الدراسات التي أُجريت من وجهة نظر سيكولوجية تقترح أنه من الممكن قياس تأثير القادة، لكنَّ الكُتَّاب الأكثر ميلًا إلى علم الاجتماع ينكرون عادة صحة مثل هذه المقاييس. لذا قد يكون لدينا دليل واضح على النجاح — أو الفشل — ونعرف من القائد في هذا الوقت، لكننا نادرًا ما نكون في موقف يسمح لنا بأن نقول، بشكل قاطع، إن أفعال القائد قد أدت مباشرة إلى تحقيق هذه النتائج (انظر روزنزويج فيما يتعلق بهذه القضية، وهي واردة في الجزء الخاص بالقراءات الإضافية). في أغلب الأحيان، يوجد عدد كبير من الناس والعمليات التي تفصل بين القائد وبين النتائج. وقد تطرح هذا السؤال: لماذا نركز في العادة على القادة لنحملهم المسئولية؟ يقول إميل دوركايم ، وهو عالم اجتماع فرنسي أصدر أعمالًا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إن الأتباع يرغبون بالفعل أن يكون قادتهم هم المهيمنون أصحاب السلطة. وهذا يخدم الأتباع بطريقتين منفصلتين لكن مرتبطتين: الأولى، يمكن أن يلقي كامل المسئولية عن القرارات الصعبة على كاهل القائد (ومن ثم يفسر هذا التفاوت الكبير فيما يحصل عليه القائد من مكافآت وما يحصل عليه الأتباع)، والطريقة الثانية، عندما يفشل القائد، فإن الأتباع يجعلونه كبش الفداء، ومن ثم يخلون مسئوليتهم. وأكثر الحالات تطرفًا التي تواجه مفهوم القيادة القائمة على النتائج، وبشكل خاص نتائج «العظماء»، هي الحالة التي طرحها تولستوي في رواية «الحرب والسلام»، التي يُشبه فيها القادة بالموجات التي تتشكل بمقدمة القارب أثناء إبحاره؛ حيث تكون دائمًا في المقدمة وتقود القارب نظريًّا، لكنها من الناحية العملية لا تقود، إنما يدفعها القارب (المؤسسة) ليس إلا.

ينقلنا هذا إلى الحديث عن الموضوع الثاني المتعلق بجوهر القيادة القائمة على النتائج وهو: هل العملية التي تتحقق النتائج من خلالها لها أهمية بالفعل؟ بالتأكيد، فإنه يُنْظَرُ إلى الشخص — الذي يتنمر في العمل أو في المدرسة، وينجح في «تشجيع» من يتبعونه على الإذعان له تحت وطأة التهديد بالعقاب — على أنه قائد وفق معايير القيادة القائمة على النتائج، شريطة أن يكون ناجحًا في إكراهه للآخرين وفيما يحققه من نتائج. لكن هذا المنهج الخاص بالنظر إلى القيادة على أنها تقوم على النتائج يعارض بعض وجهات النظر التي تميز بين القادة وفقًا للفارق المفترض بين القيادة — التي يفترض أنها ليست قسرية — وبين جميع أشكال الأنشطة الأخرى التي يمكن أن ننظر لها على أنها أفعال يقوم بها شخص «متنمر» أو «طاغية» أو ما إلى ذلك. بالفعل، تستخدم أغلب أوجه القيادة استراتيجيات تحفيزية قد ينظر إليها البعض — خاصة الخاضعين لهذه القيادة — على أنها أسلوب قسري. لذا فقد ينظر رجل دين صاحب كاريزما إلى أفعاله على أنها تعتمد ببساطة على إظهار الحقيقة لأتباعه، وهم لهم حرية الاختيار في اتِّبَاعه أو عدم اتباعه وفقًا لرغبتهم. لكن إن آمن الأتباع بأن عدم اعتناق مبادئ دينية سيؤدي إلى العقاب الأبدي والنار، فربما ينظرون إلى قيادتهم على أنها قسرية. وبالمثل، قد لا ينظر صاحب العمل إلى عقد العمل على أنه عقد إجباري حيث إن كلا الطرفين قد وقع عليه بمحض إرادته، لكن إن شعر الموظف أن الفشل في أداء العمل على المستوى المطلوب سيؤدي إلى «الفصل من العمل» — بما يصاحب ذلك من إحراج وتمييز وفقر مدقع — فقد يعتقد أن العقد إجباري. ومع ذلك، بالنسبة لمن ينظرون إلى القيادة على أنها هادفة في المقام الأول وتركز على النتائج، فإن العملية التي تتحقق عن طريقها هذه النتائج أو حتى مسألة ما إذا كان القائد مسئولًا عنها قد تكون غير مهمة.

بالطبع، ليس بالضرورة أن تقتصر القيادة القائمة على النتائج على القادة المتسلطين أو غير الأخلاقيين، بل على العكس، يمكن أن يجسدها أيضًا الأشخاص العمليون جدًّا الذين بلا شك ليسوا من أصحاب الكاريزما لكنهم فعالون جدًّا في إنجاز الأشياء. قد لا يُلَاحَظُ أغلب ما يقومون به من عمل، لكنه قد يكون أيضًا مهمًّا في الحفاظ على وتيرة عمل المؤسسة، وهذا الشكل من القيادة قد يرتبط بمخاطبة مصالح الأتباع وليس علاقاتهم العاطفية.

ومن الحالات المدعومة جيدًا حالة بنجامين فرانكلين الذي لا يبدو أن نجاحه المبكر قد ارتكز على إعلان رؤية إلزامية أو إثارة مشاعر الأتباع ليسموا فوق مصالحهم الشخصية لتحقيق المصلحة العامة. على العكس، كانت قيادة فرانكلين البراجماتية تنبع من العثور على حلول عملية للمشكلات البارزة التي ترتبط بمصالح، لا مشاعر، الآخرين. لكن هؤلاء الذين حشدهم فرانكلين لم ينخرطوا ببساطة في عملية تبادلية معه، وفقًا لما يمكن فهمه من نظريات الصفقات المتعلقة بالقيادة؛ لأنه — على سبيل المثال — عند التشجيع على تطوير الشرطة والقطاع الصحي والعملة الورقية ورصف الطرق والإنارة ودوائر الإطفاء التطوعية وغير ذلك في ولاية فيلادلفيا، كانت مهارة فرانكلين تكمن في إقناع زملائه بحل مشكلاتهم العملية الخاصة. وهنا نقطة مهمة وهي وضوح قيادة فرانكلين. فعلى الرغم من وضوح النتائج، فإن اليد التي ضمنت تحقيق هذه النتائج لم تكن واضحة. وفي الحقيقة، لو أن فرانكلين توفي في وقت مبكر من حياته المهنية، فلربما لم يكن ليظهر الكثير من عمله وتفاعلاته غير الظاهرة ولما كان سَيُعَدُّ قائدًا عظيمًا.

لهذا يمكن أن تشمل القيادة القائمة على النتائج أشخاصًا يتمتعون بشخصية كاريزماتية وظاهرين و«مهندسين اجتماعيين» غير ظاهرين تمامًا، والأكثر من ذلك، قد تشتمل على مناهج يمكن أن تتراوح بين «ما حققناه»، فيما يتعلق بالأهداف التي أنجزت والغايات المضمون تحقيقها وما إلى ذلك، إلى «ما سبب وجودنا هنا؟» وهي فلسفة هادفة أو معنية بالهوية سنناقشها فيما بعد. لكن، كما سبق أن اقترحت، لا يقبل الجميع فكرة أن أهم ما في الأمر هو النتائج، بل بالأحرى هو الوسائل، ومن ثم فهل التركيز على العمليات التي يُتَعرَّف من خلالها إلى القيادة يقدم منظورًا مختلفًا تمامًا؟

(٢-٤) القيادة القائمة على العملية

هناك افتراض أن الأشخاص الذين نصفهم ﺑ «القادة» يتصرفون بشكل يختلف عَمَّنْ ليسوا بقادة — ويتصرف البعض «مثل القادة» — لكن ما الذي يعنيه هذا؟ قد يعني ذلك أن السياق مهم، أو أن القادة يجب أن يكونوا قدوة، أو أن خصائص الاختلاف تبدأ مبكرًا في حياة الأفراد حتى إن القادة «بالفطرة» يمكن أن يُلَاحَظُوا في ساحات المدارس أو في الملاعب الرياضية. لكن ما الذي تختلف فيه هذه «العملية»؟ هل القادة هم من نزعم تحليهم بالقدرة على تقديم أداء يُحتذى به وذلك لتجنب أي تلميح بالرياء؟ وعندما يتطلب الأمر من الأتباع التضحية أو أنماطًا سلوكية جديدة، فهل يكون القائد القدوة هو الأكثر نجاحًا؟

ربما، لكن يجب التفكير في مثالين استثنائيين يناقضان هذا النوع النموذجي؛ الأول: الرقيب الأول في الجيش الذي يعمل على تأمين الأتباع سواء أكانت سلوكياته تعد نموذجًا يُحْتَذَى به أم لا. وقد نجادل بأن الرقيب الأول ذا السلوك الجبري الذي يصرخ في المجندين خلال طوابير العرض ليس قائدًا «حقًّا»، لكن إن أنتجت عملياته القيادية جنودًا مدربين، فهل نستنتج من ذلك أنه نظرًا لأن الأسلوب الجبري متأصل في الجيش، لا يمكن أن تظهر القيادة فيه؟ أم أن ما يهم في عملية القيادة الشرعية يعتمد على الثقافة المحلية؟ بمعنى أن الجنود يتوقعون أن يُجبروا، وأنهم على الأرجح لن يعتبروا محاولات رقبائهم أو ضباطهم للوصول إلى اتفاق عن طريق نقاش يعتمد على المساواة شكلًا من أشكال «القيادة»؟

المثال الاستثنائي الثاني خاص بالعميد البحري نيلسون ، وهو شخص ارتكز نجاحه العسكري في معظمه على مواقف متناقضة، حيث طالب مرءوسيه بالطاعة العمياء لقواعد البحرية، لكنه بشكل شخصي يخالف تقريبًا كل هذه القواعد. لكن نجاح نيلسون لم يكن ببساطة نابعًا من خرقه للقواعد، بل كان أيضًا نتيجة لتفاعله، وتحفيزه لأتباعه — والأهم تحفيزه مرءوسيه — من الضباط في ساحة المعركة أو ما أطلق عليه «عصبة الإخوة». لذا، على أحد الجوانب، قد يشتمل هذا المنهج المتعلق بالعملية على المهارات والموارد المحددة التي تحفز الأتباع: الخطاب المقنع والإجبار والرشوة والسلوك النموذجي والشجاعة وما إلى ذلك. والقيادة وفق هذا النمط هي بالضرورة مفهوم علاقات وليست مفهومًا يقوم على ما تتمتع به من مهارات. بمعنى أنه لا يهم إن كنت تعتقد أنك تتمتع بمهارات عملياتية عظيمة، إن كان أتباعك يخالفونك الرأي. لذا، قد يمكننا أن ندرك القيادة من خلال العمليات السلوكية التي تميز بين القادة والأتباع، لكن هذا لا يعني أن بإمكاننا ببساطة أن نعد قائمة بالعمليات باعتبارها صالحة لكل الأوقات والأماكن بلا استثناء. ففي النهاية، لا يمكن أن نتوقع من قائد روماني من القرن الثاني أن يتصرف بنفس طريقة تصرف سياسي إيطالي في القرن الحادي والعشرين (على الرغم من إمكانية هذا)، لكن يظل ثابتًا مسألة أن أغلب افتراضاتنا عن القيادة ترتبط بمحيطنا الثقافي وليس بشخص آخر، وهو الأمر الذي يثير جدلًا واسعًا تتجاوز حدوده هذه المقدمة البسيطة (انظر شوكار وآخرين في الجزء المتعلق بقراءات إضافية).
بالفعل، في حين قد تركز العديد من تفسيرات عملية القيادة على أفعال «الرجال العظماء»، فقد كانت هناك ولفترة طويلة نقطة محل خلاف كبير تتعلق بما إذا كان الرجال والنساء يتولون عملية القيادة بنفس الطريقة أم بطرق تتأثر جينيًّا أو ثقافيًّا بنوعهم. وفي حين كان أبطال توماس كارليل «الرجال» يحلون مشكلات أتباعهم (انظر الفصلين ٣ و٤)، فقد ترتبط القيادة في الحقيقة بدفع الأتباع إلى القيام بمسئولياتهم. حقًّا، قد لا ترتبط القيادة — بالنسبة لأغلب الناس — كثيرًا بأي شكل من أشكال البطولة، وهي على الأرجح سلسلة من ممارسات يومية «عادية» ليس أكثر، من خلالها تُبنى وتقوى العلاقات الاجتماعية ومن ثم رأس المال الاجتماعي، على الرغم من أن سمة «عادية» تقلل من المهارة والدقة المطلوبة لأداء هذه الأفعال المعقدة المبنية بدقة. وبالفعل، بالنسبة لمن لا يقدرون منا على أداء مثل هذه الأفعال، فهي تبدو أكثر كالمهارات الخفية للساحر؛ بسيطة في الظاهر لكن من العسير تفسيرها. لذا فإن القائد المثابر الذي — على سبيل المثال — يسأل باستمرار عن أحوال أسر أتباعه الصحية، أو من يحرص على التأكد من أن أتباعه ملتزمون بتوجيهات المؤسسة ومعدلات العمل المطلوبة منهم، هو من يبني شبكات العلاقات التي تفعِّل عمل المؤسسة.

ومن ثم، فليس كم القدرات القيادية التي يمكن أن تحشو بها سيرتك الذاتية هو ما يجعل منك قائدًا ناجحًا؛ لأن هذه الإمكانات حتمًا سَيُنْظَرُ إليها على أنها منزوعة السياق. فمثلًا ما الغرض من أن يكون لديك مستوى مرتفع من الكفاءة في الخطابة عندما يكون مطلوبًا منك القيادة في موقع لا يتطلب دورًا خطابيًّا؟ والقدرات، من ثم، غالبًا ما ترتبط بالفرد بشكل أساسي، لكن القيادة هي بالضرورة ظاهرة مرتبطة بالعلاقات: فمن دون الأتباع لا يمكن أن تكون قائدًا، بصرف النظر عن كم القدرات «الفردية» التي تتمتع بها. وبدلًا من ذلك، قد نضع في اعتبارنا أهمية «ممارسات» القيادة؛ أي ليس ما يتمتع به القائد، بل ما يفعله. لكن هل ينخرط القادة أيضًا في أنشطة قد لا تكون قيادية؟ هذا هو ما يدور حوله الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤