الفصل الثاني

ما الذي لا يعد قيادة؟

إذا كان من المرجح — كما افترضنا في الفصل الأول — أن لدينا تعريفات للقيادة مختلفة على نحو ملحوظ، فكيف سنتمكن من التمييز بين القيادة والإدارة؟ يقدم هذا الفصل وسيلة لفعل ذلك. كُتبت الكثير من المؤلفات في مجال أبحاث القيادة بأسلوب يفرق بين القيادة والإدارة كأنواع مختلفة من السلطة — أي سلطة شرعية — مع كون القيادة تمثل في الأغلب فترات زمنية أطول ورؤية أكثر استراتيجية وحاجة إلى حل المشكلات المستجدة. ولعرض هذا الأمر بأسلوب آخر، يمكن القول إن هذا الاختلاف متأصل جزئيًّا في سياق كل من المفهومين: الإدارة هي التعبير المكافئ لمصطلح «شوهد من قبل »، في حين تأتي القيادة كتعبير مكافئ لمصطلح «لم يشاهد من قبل قط». وإذا كان ما عرضناه صحيحًا، فإنه عندما تتولى منصب المدير، سَيُطْلَبُ منك أن تتولى تنفيذ العملية اللازمة — إجراءات التشغيل القياسية — لحل المشكلة التي حدثت من قبل. وعلى النقيض، عندما تكون قائدًا، سَيُطْلَبُ منك أن تُسهل صياغة استجابة مبتكرة للمشكلات المستحدثة أو المستعصية.
الإدارة والقيادة، كنوعين من السلطة مُتَجَذِّرَيْنِ في الفارق بين اليقين وانعدامه، يمكن أن نربط أيضًا بينهما وبين تصنيف ريتل وويبر للمشكلات كمشكلات «بسيطة» وأخرى «مستعصية»؛ حيث من الممكن أن تكون المشكلة «البسيطة» معقدة، ولكنها قابلة للحل عن طريق اتخاذ إجراءات تدريجية، ومن المرجح أن تكون قد حدثت من قبل. بمعنى آخر، توجد درجة محدودة من عدم اليقين، ومن ثم فهي مصاحبة للإدارة. تشبه المشكلات البسيطة الألغاز إلى حد بعيد؛ حيث عادة ما تجد حلًّا لها. إن دور المدير (العلمي) هو توفير المنهج المناسب لحل المشكلة، وقد تشمل أمثلة ذلك، جداول مواعيد القطارات، أو بناء محطة نووية، أو تدريب قوات الجيش، أو التخطيط لجراحة في القلب.
أما المشكلة المستعصية فهي أكثر تعقيدًا من المشكلة البسيطة؛ أي إنه لا يمكن إزالتها من النطاق الذي حدثت به أو حلها دون التأثير على البيئة المحيطة. علاوة على ذلك، لا توجد علاقة واضحة بين السبب والنتيجة، ومثل هذه المشكلات عادة ما تكون عسيرة. على سبيل المثال: محاولة تطوير خدمة الصحة العامة على أساس منهج علمي (بفرض أنها مشكلة بسيطة)، قد تقترح إمداد الجميع بالخدمات والأدوية التي يحتاجونها بناءً على احتياجاتهم الطبية فقط، ولكن، في حالة السكان كبار السن الذين يحتاجون إلى تدخل طبي متزايد للحفاظ على حياتهم، وتناقص الموارد المالية لتمويل هذا التدخل الطبي، سنجد أننا أمام زيادة غير محدودة في الطلب ومستوى محدود من الموارد الاقتصادية، ولهذا السبب لن يمكننا استخدام حل علمي أو طبي أو ترويض مشكلة تطوير خدمة الصحة العامة. خلاصة القول، لن يمكننا أن نمد الجميع بكل شيء، وعند مرحلة ما سيجب علينا أن نتخذ قرارًا سياسيًّا بشأن من يحصل على ماذا وعلى أي أساس. وتعتبر هذه المشكلة المزمنة مثالًا جيدًا على المشكلة المستعصية. إذا فكرنا في خدمة الصحة العامة على أنها «خدمة المرض العامة »، فسنتمكن من فهم المشكلة بطريقة مختلفة؛ لأنها سلسلة من المشكلات البسيطة: إن علاج الساق المكسورة أمر مكافئ للمشكلة البسيطة؛ فهناك حلول علمية له، وهناك أيضًا متخصصون طبيون في المستشفيات يعرفون كيفية علاجها. ولكن إذا دخلت (معذرة، زحفت) إلى أحد المطاعم طالبًا علاج ساقك المكسورة، فستتحول المشكلة لتصبح مستعصية؛ لأنه من غير المرجح أن تجد أيًّا من الموجودين بالمطعم لديه المعرفة أو الموارد اللازمة لعلاجها. ومن ثم، يصبح تصنيف المشكلات شخصيًّا لا موضوعيًّا؛ إن تحديد نوع المشكلة التي تواجهك يعتمد على موقعك وقتها وعلى مقدار ما يتوافر لديك من معلومات.
علاوة على ذلك، فإن الكثير من المشكلات التي تتعامل معها خدمة الصحة العامة — السمنة، وإدمان المخدرات، والعنف — ببساطة لا تعتبر مشكلات صحية، ولكنها عادة ما تكون مشكلات اجتماعية شديدة التعقيد تستشري في القطاعات والمؤسسات الحكومية المختلفة وفيما بينها، لذا فإن محاولات حلها عن طريق إطار مؤسسي واحد من المقدر لها أن تبوء بالفشل في أغلب الأحيان؛ لأنه — في واقع الأمر — غالبًا لا توجد «نقطة توقف» في المشكلات المستعصية — أي النقطة التي تُحل المشكلة عندها (على سبيل المثال: لن نواجه مشكلة الجريمة مرة أخرى لأننا حللناها) — وعادة ما ينتهي بنا الأمر مضطرين بالاعتراف بأننا لن نستطيع حل المشكلات المستعصية. عادة ما نربط بين القيادة وعكسها؛ أي القدرة على حل المشكلات، التصرف بحزم ومعرفة ما الواجب فعله، ولكننا لا نعرف كيفية حل المشكلات المستعصية، ولهذا السبب بالتحديد علينا أن نكون حذرين للغاية أثناء قيامنا بأفعال حازمة؛ لأننا لا نعرف تحديدًا ما الذي علينا فعله. إذا عرفنا ما علينا فعله، فستكون المشكلة بسيطة وليست مستعصية، ولكن الضغط الواقع علينا لنتصرف بحزم عادة ما يقودنا إلى محاولة حل المشكلات كما لو كانت مشكلات بسيطة. عندما ظهر الاحترار العالمي للمرة الأولى كمشكلة، ركزت محاولات علاجه على حل المشكلة عن طريق العلم (استجابة بسيطة)، الذي تجلى في تطوير الوقود الحيوي، ولكننا ندرك الآن أن الجيل الأول من الوقود الحيوي قد جرد العالم من كمية كبيرة من موارد الغذاء؛ لذا فإن ما بدا أنه حل أصبح يمثل مشكلة جديدة. مرة أخرى نقول إن هذا مثال جيد على ما سيحدث إذا ما حاولنا حل المشكلات المستعصية؛ فستظهر مشكلات أخرى لتتراكم على المشكلات الأصلية. لذا يمكننا أن نحسن الوضع أو نجعله يتفاقم — يمكننا أن نقود سياراتنا ببطء وبوقود أقل أو بسرعة وبوقود أكثر — ولكننا قد لا نتمكن من حل مشكلة الاحترار العالمي، إلا أنه بإمكاننا أن نتعلم التعايش مع عالم مختلف عن الذي ألفناه وأن نستفيد منه قدر المستطاع. وبعبارة أخرى، لا يمكننا أن نبدأ من جديد وأن نصوغ مستقبلًا مثاليًّا، على الرغم من أن الكثير من المتطرفين السياسيين والدينيين قد يرغبون في أن نفعل ذلك.
«العمل الجماعي» أمر ذو أهمية كبيرة في هذا السياق؛ لأنه يعني أهمية التعاون لعلاج المشكلات المستعصية. قد تحظى المشكلات البسيطة بحلول فردية، بمعنى أن الأفراد يدركون على الأرجح كيفية التعامل معها، ولكن حيث إن المشكلات المستعصية تُحدد جزئيًّا بغياب الحل من جانب القائد، ينبغي على القائد الفردي أن يطرح النوع الصحيح من الأسئلة لإشراك الجماعة في محاولة للتوصل إلى تسوية بشأن المشكلة، بمعنى أن المشكلات المستعصية تحتاج إلى تحويل السلطة من الفرد إلى الجماعة؛ لأن مشاركة الجماعة هي وحدها ما يمكن أن يعطي الأمل في حلها. إن حالة عدم اليقين المصاحبة للمشكلات المستعصية تتضمن فكرة أن القيادة، كما أُعرفها، ليست علمًا بل فنٌّ؛ أي فن إشراك المجتمع في مواجهة المشكلات الجماعية المعقدة.
تشمل أمثلةُ المشكلات المستعصية تطويرَ استراتيجية للنقل، أو الاستجابة لظاهرة الاحترار العالمي، أو الاستجابة للسلوكيات المعادية للمجتمع، أو نظامًا للصحة العامة. والمشكلات المستعصية ليست بالضرورة متأصلة في أطر زمنية أطول من المشكلات البسيطة؛ لأنه غالبًا ما تتحول إحدى القضايا التي تبدو مشكلة بسيطة إلى مشكلة مستعصية (مؤقتة) عن طريق التأخر في اتخاذ قرار بشأنها. على سبيل المثال: الإجراءات التي اتخذها الرئيس كنيدي أثناء أزمة الصواريخ الكوبية اعتمدت على طرح أسئلة على مساعديه المدنيين تطلبت بعض الوقت للتفكير في الأمر، على الرغم من ضغط مستشاريه العسكريين لتقديم حلول فورية. إذا عمل كنيدي بنصيحة الصقور الأمريكيين لكُنَّا شهدنا مجموعة ثالثة من المشكلات بخلاف المشكلات المستعصية والبسيطة؛ مشكلة «حرجة»، كان من المحتمل أن تصل في هذه الحالة إلى حرب نووية.

المشكلة الحرجة، أي الأزمة، تكون جلية بطبيعتها دون الحاجة إلى توضيح، وتحتاج إلى وقت قصير للغاية لاتخاذ قرار بشأنها والإجراء اللازم حيالها، وعادة ما تكون مصحوبة بنوع من الاستبداد. في الواقع لا يظهر هنا أي نوع من عدم اليقين بشأن ما يجب فعله، على الأقل في سلوك القائد الذي يكون دوره اتخاذ الإجراء الحاسم المطلوب؛ أي توفير حل للمشكلة وألا ينخرط في إجراءات التشغيل القياسية (الإدارة)، إذا كانت ستتسبب في تأخير اتخاذ القرار، أو طرح الأسئلة وطلب المساعدة الجماعية (القيادة).

عند تحول الأزمات إلى مشكلات حرجة ، فإنني أعتقد أننا سنكون بحاجة إلى صُنَّاع قرار حازمين في قراراتهم وفي قدرتهم على علاج الأزمات. ولأننا نقدر دائمًا الأشخاص الذين يجيدون التصرف وقت الأزمات (ونتجاهل الأشخاص الذين يكونون مديرين جيدين بحيث لا يكون هناك سوى القليل النادر من الأزمات)، فسرعان ما يتعلم القادة البحث عن الأزمات (أو يعيدون تشكيل المواقف لتصبح في صورة أزمات). لا شك أن القائد قد يظل غير متيقن من أن الإجراء مناسب للموقف أو أن عرض الموقف كأزمة أمر مقنع، ولكن عدم اليقين هذا لن يكون ظاهرًا لأتباعه. تشمل الأمثلة على هذا الأمر الاستجابة الفورية لحادث قطار مروع، أو تسرب إشعاعي من أحد المفاعلات النووية، أو هجوم عسكري، أو أزمة قلبية، أو إضراب عمال أحد قطاعات الصناعة، أو الفصل من العمل، أو فقدان أحد الأقارب، أو هجوم إرهابي على غرار تفجيرات ١١ سبتمبر أو ٧ يوليو في لندن.
تعتبر أنواع السلطة الثلاث تلك — السيطرة والإدارة والقيادة — بدورها، طريقة أخرى لافتراض أن دور المسئولين عن اتخاذ القرار هو إيجاد الحل والمنهج والسؤال المناسب لعلاج المشكلة، بالترتيب. ولا يُقصد بهذا أن يكون الأمر تصنيفًا متمايزًا بل وسيلة استكشافية لمساعدتنا على فهم السبب وراء قيام المسئولين عن صنع القرار باتخاذ إجراءات بطرق تبدو غير مفهومة للآخرين. لهذا، لا أفترض أن منهج اتخاذ القرار الصحيح يعتمد على التحليل الصحيح للموقف — لأن هذا قد يُنتج منهجًا حتميًّا — ولكني أفترض أن صناع القرار يميلون إلى إضفاء طابع شرعي على إجراءاتهم لإقناع الآخرين بأهمية الموقف. خلاصة الحديث، البنية الاجتماعية لإحدى المشكلات تضفي الشرعية على استخدام نوع معين من السلطة.
لنأخذ الحالة المالية العامة خلال فترة الركود الاقتصادي التي بدأت عام ٢٠٠٨ مثالًا، حيث انخرطت الكثير من الدول في جدل حول أي المصروفات العامة يجب توفيرها، وأيها يجب أن يستمر، إن وجدت. وبالفعل، ظهر السياسيون من كل حدب وصوب مرتدين عباءة القادة لينزلوا العذاب بقطاعات الدولة المبذرة التي تضيع إيرادات الضرائب هباءً. ولكن هذا جعلهم يخطئون الحقيقة، وهي سبب الأوضاع القائمة، وقد كان سبب المشكلة هو المصرفيين الاستثماريين المبذرين لا موظفي القطاع العام شديدي التقتير! علاوةً على ذلك، يبقى الحال دائمًا هو أن الشخص أو المجموعة ذات السلطة نفسها ستتنقل بين أدوار السيطرة والإدارة والقيادة تبعًا لتصنيفها — وصياغتها — للمشكلة على أنها حرجة، أو بسيطة، أو مستعصية، أو حتى كونها مشكلة واحدة تتنقل بين أنواع المشكلات الثلاث. في الواقع، فإن هذا التنقل — الذي عادة ما ينظر إليه خصوم صانع القرار على أنه تضارب في المواقف — ضروري للنجاح عند تغير الموقف، أو على الأقل تغير نظرتنا له. ويعتمد التفسير المقنع للمشكلة جزئيًّا على وصول صناع القرار إلى أنواع بعينها من السلطة وتفضيلهم لهذه الأنواع، وهنا تكمن مفارقة «القيادة»؛ إذ تبقى القيادة أصعب الطرق، وسيحاول صناع القرار تجنبها بأي طريقة.
يشير مفهوم «السلطة» إلى أننا بحاجة إلى التفكير في كيفية اتفاق مختلف أساليب القوة وأنواعها مع تصنيف السلطة موضوع البحث. من بين الأساليب المفيدة لأغراضنا نجد تصنيف إتزيوني لأنواع الإذعان ، الذي يفرق بين كل من الإذعان الجبري والحسابي والطبيعي، حيث يقترن الإذعان الجبري أو الإذعان البدني بالمؤسسات «الشاملة» مثل السجون والجيوش، في حين يقترن الإذعان الحسابي بالمؤسسات «الراشدة» مثل الشركات، أما الإذعان الطبيعي فيقترن بالمؤسسات أو المنظمات القائمة على القيم المشتركة مثل الأندية والجمعيات المهنية. يتفق تصنيف الإذعان هذا اتفاقًا جيدًا مع تصنيف المشكلات: تقترن المشكلات الحرجة عادة بالإذعان الجبري، وتقترن المشكلات البسيطة بالإذعان الحسابي والمشكلات المستعصية بالإذعان الطبيعي، حيث لا يمكنك أن تجبر الناس على اتباعك عند علاج المشكلات المستعصية؛ لأن طبيعة المشكلة نفسها تحتاج إلى أن يكون الأتباع راغبين في المساعدة.
يمكن تخطيط هذا التصنيف على طول العلاقة بين محورين، كما يظهر في الشكل ٢-١، أحدهما رأسي يمثل تزايد عدم اليقين في حل المشكلة — في سلوك الأشخاص في موقع السلطة — والآخر أفقي يمثل ازدياد الحاجة إلى التعاون لحل المشكلة.
fig2
شكل ٢-١: تصنيف المشكلات والقوة والسلطة.

قد يعتبر هذا التصنيف بديهيًّا للكثير من الناس، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نظل غير قادرين على إحداث هذا التغيير؟ للإجابة عن هذا السؤال، أرغب في التحول إلى النظرية الثقافية، واستطلاع ما يدعوه البعض «الحلول المتسقة».

(١) الثقافة وإدمان الاتساق

قالت ماري دوجلاس : إننا من الممكن أن نصنف أغلب الثقافات على أساس معيارين منفصلين: التشابك والتجميع . يتعلق «التشابك» بأهمية أدوار وقواعد ثقافة ما، بعضها يكون صارمًا للغاية، مثل البيروقراطية الحكومية، ولكن بعضها الآخر فضفاض وحر للغاية، مثل الأندية غير الرسمية. أما «التجميع» فيتعلق بأهمية المجموعة في الثقافة؛ بعض الثقافات تتمحور كاملة حول المجموعة، مثل فريق كرة القدم، في حين تركز ثقافات أخرى أكثر على الفردية، مثل حشد من رواد الأعمال. عندما توضع تلك النقاط على مصفوفة مكونة من مربعين × مربعين، نحصل على الشكل ٢-٢.
fig3
شكل ٢-٢: أربع طرق رئيسية لتنظيم الحياة الاجتماعية.

عندما تجسد إحدى الثقافات كلًّا من «التشابك المرتفع» و«التجميع المرتفع»، سنشهد تسلسلًا هرميًّا صارمًا، مثل الذي يوجد في الجيش، حيث تكون المجموعة أهم من الفرد. وعندما تظل الثقافة معنية أكثر بالجماعة ولكنها تفتقر إلى الاهتمام بالقواعد والأدوار — أي «منخفضة التشابك» — نرى ثقافات مساواة تعتنقها المؤسسات التي تكون فيها الجماعات مقدسة والبحث عن إجماع الرأي أمرًا ضروريًّا. عندما يظل «التشابك» منخفضًا ويقابله عدم اهتمام ﺑ «التجميع»، نشهد ثقافات فردية؛ عالم رواد الأعمال، الاختيارات العقلانية، والسياسيين المحبين للسوق الذين يعتبرون أي فكرة عن الجماعة أو القواعد عامل تثبيط لا داعي له للفعالية والحرية. الفئة الأخيرة هي فئة الجبرية، وفيها لا يوجد بعد جماعي، والأفراد المنعزلون بعضهم عن بعض يرون أن سلطة القواعد والأدوار لا تقدرهم حق قدرهم.

كما ذكرنا من قبل، تميل تلك الثقافات إلى أن تكون داعمة لذاتها وثابتة من الناحية الفلسفية. بمعنى آخر، يرى مناصرو التسلسل الهرمي العالم من خلال منظار التسلسل الهرمي، مثل هذه المشكلات تُرى كأدلة على غياب القواعد الكافية أو عدم فرض تنفيذ تلك القواعد من جانب مجموعة أو مجتمع. ومن جانبهم، يرى المناصرون للمساواة المشكلة ذاتها على أنها مشكلة متصلة بضعف الجماعة؛ فالأمر لا يتعلق كثيرًا بالقواعد وإنما يتعلق أكثر بالمجتمع الذي يتضامن على نحو أكبر يكفي لحل المشكلة. قد يكون إيمان المناصرين للفردية بهذا الأمر ضعيفًا، فالمشكلة — من وجهة نظرهم — من الواضح أنها مشكلة فردية تتلخص في أن على الأفراد أن يتحملوا مسئولية مواقفهم بقدر أكبر. أما المناصرون للجبرية، فقد استسلموا؛ لأن جميع القواعد تقف ضدهم ولا تحاول أي مجموعة مساعدتهم للخروج من مأزقهم.

تكمن المشكلة الآن في أنه بوجود مثل هذه الأشكال الداخلية — أو المتسقة — من التفاهم، سيبرع العالم في التعامل مع المشكلات الحرجة أو البسيطة لأننا على دراية بكيفية حلها وأن الطرق التي اتبعناها من قبل نجحت في حلها، حيث يستطيع أنصار الفردية أن يحلوا مشكلة انبعاث الكربون من السيارات؛ وهي مشكلة بسيطة ذات حل علمي، ولكنهم لا يستطيعون حل مشكلة الاحترار العالمي؛ وهي مشكلة مستعصية. يستطيع المناصرون للمساواة مساعدة المجرمين السابقين على العودة مرة أخرى ليكونوا مواطنين صالحين في المجتمع؛ وهي مشكلة بسيطة، ولكنهم لا يستطيعون حل مشكلة الجريمة؛ وتلك مشكلة مستعصية. ويمكن لمناصري التسلسل الهرمي أن يحسنوا من آلية فرض تنفيذ القوانين التي تحارب الاحتيال بغرض الحصول على الخدمات الاجتماعية؛ وهي مشكلة بسيطة، ولكنهم لا يستطيعون حل مشكلة الفقر؛ وهي مشكلة مستعصية. مما لا شك فيه أن المشكلات المستعصية لا تعرض نفسها على الناس ليقوموا بحلها من خلال هذه الأساليب المتسقة؛ لأنها تقع خارج نطاق الثقافات والمؤسسات المتنوعة وعبر العديد منها، بل لأننا حصرنا أنفسنا في تفضيلاتنا الثقافية وأدمناها وأصبح من الصعب علينا أن نخطو خارج عالمنا لنرى شيئًا مختلفًا، وكما قال بروست : «لا تقوم رحلة الاستكشاف الحقيقية على البحث عن مناظر طبيعية جديدة، بل على الحصول على عينين جديدتين.»

(٢) لماذا لا تستطيع الأساليب المتسقة حل المشكلات المستعصية في حين قد تنجح الأساليب الخرقاء في ذلك؟

إذا كانت الحلول ذات الشكل الوحيد (المتسقة) لا يمكنها سوى حل المشكلات الحرجة والبسيطة، فعلينا أن نفكر في كيفية حل المشكلات الثلاث بما يُطلَق عليه الحلول الخرقاء. في حقيقة الأمر، نحن بحاجة إلى تجنب طريقة المهندس المعماري البارع في حل المشكلات — البدء بورقة فارغة وإعادة تصميم المبنى المثالي من البداية — والنظر إلى الأمر من وجهة نظر العامل اليدوي الذي يقوم بالإصلاحات بنفسه. أو طبقًا للغة البسيطة نفسها التي يتحدثها الفيلسوف إيمانويل كانط، إننا بحاجة لأن نبدأ بإدراك أنه «نظرًا لافتقار البشر إلى الكمال، لم ينجز شيء مثالي أبدًا». دعونا نتناول الاحترار العالمي لنوضح هذا الأمر.

يلخص الشكل ٢-٣ الموضوع، حيث يعتبر مناصرو التسلسل الهرمي المشكلةَ نتيجةً للقوانين غير الملائمة وتطبيقها؛ المطلوب هو وجود اتفاق على غرار اتفاق كيوتو . ولكن قد يجادل مناصرو المساواة بأن القوانين ليست هي التي بحاجة إلى تغيير وتطبيق ولكن توجهاتنا العامة تجاه الكوكب هي التي تحتاج إلى تغيير؛ أي علينا أن نطور طرق حياة أكثر استمرارًا، لا أن نطيع القواعد بطريقة أفضل. ولكن من وجهة نظر مناصري الفردية، لم يستطع كلا البديلين فهم المشكلة، وبناءً على ذلك يكون الحل هو صياغة الحريات التي ستشجع رواد الأعمال على إنتاج المبتكرات التكنولوجية التي ستنقذنا. ومن وجهة نظر مناصري الجبرية، لا يوجد أمل؛ فنحن هالكون. المشكلة هنا تكمن في عدم تمكن أي من الحلول المتسقة من إنتاج تنوع كافٍ يعالج تعقيد المشكلة.
fig4
شكل ٢-٣: حلول متسقة (أحادية التوجه) لحل مشكلة الاحترار العالمي.
قد تسهل القوانين القيادة الآمنة، ولكنها قد لا تكون فعالة فيما يتعلق بإنقاذ الكوكب، ولا يمكننا بكل بساطة أن نترك مدننا المركزية ونذهب لنعيش في مجتمعات ذات اكتفاء ذاتي في الريف. وبالمثل، على الرغم من أن المبتكرات التكنولوجية ستكون ضرورية وأن ضغوط السوق قد تساعدنا، إلا أنه لا يمكننا أن نعتمد عليها لحل المشكلة. في الواقع، مشكلة الاحترار العالمي قد يتعذر حلها، إذ لا يمكننا العودة للبداية والمطالبة بعالم خالٍ من التلوث، وبسبب أن مختلف الاهتمامات معرضة للخطر بسبب اختلاف أساليب الحلول، وأن أقصى ما نتمناه هو اتفاق مفاوض عليه سياسيًّا للحد من الأضرار بأسرع وقت ممكن. وهذا يدعو إلى استجابة غير خطية بل ملتوية، لتجميع الحلول المتسقة — أو الخرقاء — معًا التي تمزج بين جميع أنواع التفاهم الثلاثة، وتستفيد من الإذعان الجبري لتساير التغير في تدفق الرأي والفعل العام. وكما يظهر في الشكل ٢-٤، إن ما نحتاج إليه بالفعل هو استخدام أطر العمل الثلاث لإحداث تقدم هنا، من خلال إفراد «مساحة للحلول الخرقاء».
fig5
شكل ٢-٤: حلول خرقاء لمشكلة الاحترار العالمي المستعصية.
fig6
شكل ٢-٥: أساليب خرقاء لحل المشكلات المستعصية.
حسنًا، كيف تبدو الحلول الخرقاء؟ يشير الشكل ٢-٥ إلى أن المكون المهم للحلول الخرقاء بالضرورة هو الجمع بين عناصر أنواع الثقافات الثلاث معًا: الفردية والمساواة والتسلسل الهرمي. في داخل كل نوع من أنواع الثقافات نجد أساليب — عند دمجها معًا — من شأنها فحص المشكلات المستعصية بدرجة تكفي لتحقيق بعض التقدم نحو إيجاد حل لها. دعونا نستعرض كلًّا منها على حدة، مع إدراك أن كل مشكلة مستعصية من المرجح أن تختلف عن الأخرى وأن الجمع بطريقة معينة بين الأساليب والموضوعات هو وحده الذي يستطيع حلها. بمعنى آخر، لا يعتبر هذا منهج «رسم بالأرقام» لضمان الحصول على حل، بل فنًّا تجريبيًّا قد ينجح أو لا.

(٣) التسلسل الهرمي

ﻫ ١: أسئلة لا إجابات

الخطوة الأولى هنا هي أن يعترف مناصرو التسلسل الهرمي بأن دور القائد يجب أن يتغير من تقديم إجابات إلى طرح أسئلة. على القائد إذن أن يبدأ أسلوبًا جديدًا يُعِدُّ الجماعة للمسئولية الجماعية. وفي واقع الأمر، فإن السبب هو أن المبدأ السائد في معسكر مناصري التسلسل الهرمي هو أن قائد التسلسل الهرمي وحده هو من يمتلك السلطة لتغيير مشاركته من إجابة الأسئلة إلى طرحها. ويتصل بهذا التحول في الأساليب من الخبير إلى المحقق مطلب يناسب المناصرين للتسلسل الهرمي تمامًا: علاقات لا هياكل.

ﻫ ٢: علاقات لا هياكل

عادة ما تفترض نماذج التغيير أنه إذا استمر الإخفاق على الرغم من وجود نموذج التغيير، فهذا لأن القائد لم يستطع تحريك الروافع بالترتيب الصحيح. ولكن تدل الاستعارة الميكانيكية تلك بدقة على سبب اعتبار القادة التغيير صعبًا؛ لأن السلطة ليست أمرًا يمكنك امتلاكه ولهذا لا توجد روافع يمكن تحريكها. إن السلطة علاقة، والتغيير يقوم على العلاقة بين القادة والأتباع: في حقيقة الأمر، الأتباع، وليس القادة وحدهم، هم من يضعون استراتيجيات التغيير أو يدمرونها؛ لأن المؤسسات أنظمة لا آلات.

ﻫ ٣: إعطاء الإذن

تظل سلطة القائد الرسمي التقليدية على حالها كمثبط خطير لحرية تصرف الأتباع: إذا لم يخبرك المدير بأن النقاشات المفتوحة والاختلاف في الرأي حول موضوعات العمل أمر مرحب به — ومن ثم يُثْبَتُ ذلك من خلال عدم معاقبة هؤلاء الذين شاركوا في المعارضة البناءة — فعندها، لن يكون هناك الكثير من الجدل، وسيترك المرءوسون مؤسستَهم لتغرق؛ لأنهم لم يحصلوا على الإذن لإنقاذ رئيسهم. لهذا السبب، يُنْظَرُ إلى الهرميين على أن لهم دورًا مهمًّا في الأساليب الخرقاء؛ لأنهم يجب أن يعطوا الإذن لتغيير المعايير.

(٤) الفردية

ف ١: انحراف إيجابي لا إذعان سلبي

يعتبر الفرديون هم من يحيدون غالبًا عن المعايير، وقد يكون هذا السلوك مهمًّا إلى حد بعيد. على سبيل المثال: في عام ١٩٩٠، ذهب جيري ومونيك ستيرنين إلى فيتنام من أجل المشاركة في الجمعية الخيرية «أنقذوا الأطفال». ولكن، تعجب آل ستيرنين؛ لأنهم وجدوا بعض الأطفال يحصلون على تغذية جيدة وسط حالة عامة من سوء التغذية. لقد أنتجت الثقافة الفيتنامية العامة حكمة تقليدية قديمة عن سوء التغذية؛ إنها نتاج المزج بين عدم الاهتمام بصيانة الصحة العامة وسوء توزيع الطعام والفقر وسوء حالة المياه. وعلى النقيض، نجد بعض الأطفال — ليسوا أطفالًا من الطبقة الاجتماعية العليا — ينالون قدرًا جيدًا من التغذية؛ لأن أمهاتهم — المنحرفات نحو الجانب الإيجابي — تجاهلن الثقافة التقليدية التي تقول إنه على الأمهات:
  • تجنب الطعام الذي يعتبر شائعًا/تتناوله الطبقة الدنيا، مثل الكابوريا والجمبري.

  • عدم إطعام الأطفال المصابين بالإسهال.

  • ترك الأطفال يُطعمون أنفسهم بأنفسهم، أو إطعامهم وجبتين غذائيتين فقط على مدار اليوم.

وبدلًا من ذلك قامت تلك الأمهات بما يلي:
  • استخدام الطعام الشائع/الذي تتناوله الطبقة الدنيا، والذي كان ذا قيمة غذائية عالية.

  • إطعام الأطفال المصابين بالإسهال، وهو أمر ضروري للشفاء.

  • إطعام الأطفال مرات كثيرة خلال اليوم (الأطفال الذين يُطعمون أنفسهم يُسقطون الطعام على الأرض فيصبح طعامًا ملوثًا، ولا تحتمل معدة الأطفال سوى قدر معين من الطعام في المرة الواحدة، لذا فإنه حتى إطعامهم مرتين في اليوم أمر غير صحيح).

بإيجاز، إن المشكلات داخل المؤسسات غالبًا ما تكون مشكلات قد تسببت فيها بنفسها، ولكن غالبًا ما نجد الحل جليًّا أيضًا، ولكننا نتعمد ألا نبحث عنه.

ف ٢: القدرة السلبية

في حين أن الهرميين لا يرتاحون في الغالب للغموض، يزدهر الفرديون في ظله. اعتبر الشاعر كيتس أن «القدرة السلبية» هي القدرة على أن تظل مرتاحًا لعدم اليقين، والمشكلات المستعصية بطبيعتها غير يقينية وغامضة، لذا فإن المهارة الحقيقية ليست في التخلص من حالة عدم اليقين ولكن أن تظل فعالًا في وجودها. باختصار، توفر القدرة السلبية الوقت والمساحة للتفكير في الأمور وعدم الانقياد وراء التصرف كرد فعل لأجندة شخص آخر أو أن تكون حازمًا؛ لكن مخطئًا. تتناول مقارنة شتاين بين اتخاذ القرار في مهمة أبوللو ١٣ الفضائية وفي جزيرة الأميال الثلاثة هذا الموضوعَ بشكل جيد في مواقف تكون فيها الخبرة ضرورية لمد يد المساعدة في المواقف العصيبة. وهكذا فإن «الأحداث الكبرى» التي ضربت أبوللو ١٣ وجزيرة الأميال الثلاثة — عندما «لم يعد العالم يبدو نظامًا عقلانيًّا ومنظمًا» — استثارت استجابات مختلفة من الأشخاص المسئولين عن اتخاذ القرار. تركت «الأحداث القدرية» التي ضربت مركبة أبوللو ١٣ الفضائية — الانفجار — رواد الفضاء دون طعام أو أكسجين أو طاقة أو ماء أو أمل، ولكن، بتجنب الإغراء الغريزي للقفز إلى الاستنتاجات، استطاع الطاقم الأرضي، من خلال تحليل متأنٍّ وواعٍ للمشكلات، ومن خلال إنشاء جهاز منقٍّ لغاز ثاني أكسيد الكربون مؤقت (نموذج مثالي على منهج العامل الذي يصلح الآلات بنفسه) أن يعيد المركبة بأمان إلى الأرض. وعلى النقيض، في أزمة جزيرة الأميال الثلاثة النووية عام ١٩٧٩، قادت «الأحداث الكبرى» المسئولين عن اتخاذ القرار إلى أن يتخذوا خطوات فورية جعلت الموقف يسوء أكثر دون قصد. في الواقع كان صناع القرار حازمين لكن مخطئين، حيث تسببوا في تفاقم الوضع، عندما أنكروا بعد ذلك أي أدلة تشير إلى أن المشكلة لم تحل. لذا فإن القدرة على تحمل القلق والتأكد من عدم تفاقمه (حيث يؤدي إلى الهلع) أو إنكار وجوده (حيث يؤدي هذا إلى عدم اتخاذ أي إجراء) نتج عنها تصرفات متباينة ناتجة عن حس المسئولية في هذين السيناريوهين.

ف ٣: معارضة بناءة لا موافقة مدمرة

وأخيرًا، يبرع الفرديون في مقاومة الدعوات التحذيرية التي يُطلقها كل من الهرميين ومناصري المساواة للانصياع للقوانين والمجموعة. ومنذ التجارب سيئة السمعة لميلجرام وزيمباردو عن الإذعان في الستينيات، ونحن نعرف أن أغلب الناس في معظم الوقت يخضعون للسلطة حتى وإن أدى هذا إلى إنزال الألم بأشخاص آخرين أبرياء، إذا كان المبدأ العقلي مقبولًا لدى الأتباع، فإنهم يكونون معفيين من تحمل المسئولية، وكل ما يقومون به هو إنزال الألم (المشاركة في الإيذاء) بصورة متزايدة. بعبارة أخرى، لا تكمن صعوبة مواجهة قادتنا للمشكلات المستعصية في عدم ضمان الموافقة، بل في ضمان المعارضة، فالموافقة من السهل الحصول عليها بواسطة المستبدين، ولكنها لا تستطيع علاج المشكلات المستعصية؛ لأنها غالبًا تكون مدمرة، والموافقة المدمرة هي قرين التبعية غير المسئولة، وهي إطار غير مناسب على الإطلاق لعلاج المشكلات المستعصية. إن ما نحتاجه حقًّا هو المعارضون البناءون الذين لديهم الاستعداد لأن يخبروا مديريهم بأن قرارهم خاطئ (مثلًا كما كان المارشال آلان بروك يفعل باستمرار مع ونستون تشرشل أثناء الحرب العالمية الثانية ). حسنًا، ماذا عن المناصرين للمساواة، لماذا نحتاجهم؟

(٥) مناصرو المساواة

م ١: ذكاء جماعي وليس عبقرية فردية

عادة ما نعزو النجاح والفشل إلى القادة الأفراد، ففي حقيقة الأمر، كلما ازدادت أهمية النجاح أو الفشل، ازدادت احتمالية قيامنا بهذا الأمر، حتى وإن كان الدليل المتوفر لدينا عن صلة الحدث بالفرد واهيًا. ولكن عندما نفحص كيفية حدوث النجاح أو الفشل، نجد أنه عادة ما يكون نتيجة لفعل اجتماعي وليس لفعل فردي. على سبيل المثال: أنقذ أرتشي نورمان ، رجل الأعمال الإنجليزي الذي كان يعمل في مجال البيع بالتجزئة، شركة أسدا من إفلاس وشيك عام ١٩٩١، وباعها لشركة وول مارت بمبلغ ٦٫٧ مليارات جنيه استرليني عام ١٩٩٩. لم يكمن خلف هذا النجاح الاستثنائي عمل فرد عبقري منعزل، ولكن عمل فريق موهوب يضم على مستوى مجلس الإدارة: جاستن كينج (المدير التنفيذي لسينسبري فيما بعد)، وريتشارد باكر (المدير التنفيذي لبوتس فيما بعد)، وآندي هورنبي (المدير التنفيذي لشركة إتش بي أو إس فيما بعد، ثم من بعدها بوتس)، وآلان ليتون (رئيس البريد الملكي فيما بعد). باختصار، قام نجاح شركة أسدا على الذكاء الجماعي وليس على عبقرية فردية. وهذا الأسلوب شديد الأهمية فيما يتعلق بالمشكلات المستعصية لأنها تحتاج إلى الاستجابات الجماعية من الأنظمة لا الأفراد؛ إن المجتمع هو من يجب أن يتحمل مسئوليتها ويجب ألا يلقي بها على عاتق القائد.

م ٢: مجتمع المصير الواحد لا مجتمع جبري

يرجع الفضل إلى آن جلوفر، قائدة مجتمع محلية في برونستون، ليستر، المملكة المتحدة؛ في تحويل مجتمعها من مجتمع جبري إلى مجتمع «مؤمن بالقدر»، عندما حشدت جيرانها المحليين للاتحاد ومواجهة عصابة من الشباب تورطت في أفعال معادية للمجتمع وتحكمت في مجمع المساكن الحكومية بالترهيب. هذا الترهيب شل حركة المجتمع محولًا إياه إلى مجموعة مشتتة من الأفراد المنعزلين — مجتمع جبري — تؤرقهم جميعًا مشكلة العصابة ولكنهم لا يستطيعون القيام بأي شيء حيالها. وعندما أقنعت جلوفر مجموعة كبيرة من الناس بالخروج من منازلهم — كمجموعة — ومواجهة العصابة، رُدِعَت العصابة وطُرد أعضاؤها في آخر الأمر من الحي، وكان ما فعلته أمرًا يتخطى كونها شجاعة بدرجة تكفي لفعل أمر ما والرغبة في الإقدام على مخاطرة لن تكون سهلة، بل كان الأمر يرتبط بإدراك أهمية بناء رأس المال الاجتماعي لتغذية الهوية الجماعية التي أنتجت مجتمعًا قدريًّا.

م ٣: التعاطف لا الأنانية

وأخيرًا، الأسلوب الأخير لمناصري المساواة هو قدرتهم على وضع أنفسهم موضع الآخرين، وأن ينتجوا التعاطف الذي يسهل حدوث تفاهم بينهم وبين الآخرين، وهو الأمر الضروري لعلاج المشكلات المستعصية، ولكن كيف يمكننا أن نمتلك هذه القدرة؟ كانت إجابة جونز هي أن تصبح عالم الإنسانيات الخاص بمؤسستك، وأن تضع نفسك موضع من تقودهم لبعض الوقت لتجرب حياة من ترغب في إشراكهم في الجهد الجماعي؛ لأنك إن لم تستطع أن تفهم كيف ينظرون إلى المشكلة، فكيف سيمكنك تحفيزهم؟ يختلف هذا الأسلوب تمام الاختلاف عن طرقنا المعتادة للحصول على المعلومات عن كيفية سير العمل في مؤسساتنا؛ لأننا نعرف تمام المعرفة أن ما يقوله الموظفون في مجموعات التركيز أو في الاستقصاءات لا يعكس رؤيتهم الطبيعية للعالم. يعمل العديد من المديرين التنفيذيين وقادة المؤسسات فترات منتظمة بين الموظفين العاديين، ولكن الكثيرين غيرهم لا يفعل ذلك، ويفاجئون بأن قاعدة التسلسل الهرمي لم تعد تستجيب لهم بالطريقة التي توقعتها مجموعات التركيز أو آخر استقصاء للموظفين.

(٦) الخلاصة

يبدو أن تعقيد الكثير من القضايا المعاصرة يبرر أن التحول الذي حدث من المشكلات البسيطة والحلول المتسقة إلى الحلول الخرقاء مناسب أكثر لعلاج المشكلات المستعصية. ولكن، في حقيقة الأمر، الكثير من — بل معظم — المشكلات تكون بسيطة لا مستعصية وتحتاج فقط من الناس أن يقوموا بواجباتهم العادية، دون مساعدة من رؤسائهم ليتحكموا فيهم ويقوموا بإدارتهم. الخطر الحقيقي هو أننا أصبحنا أسرى لتفضيلاتنا الثقافية؛ فقد أدمن الهرميون السيطرة، وأدمن مناصرو المساواة القيادة التعاونية، وأدمن الفرديون التعامل مع جميع المشكلات كما لو كانت جميعها مشكلات بسيطة. في حقيقة الأمر، لقد أدمنا الاتساق، عندما يكون من الواجب علينا استخدام الأساليب الخرقاء عندما يثبت أن أساليبنا غير مناسبة للمهمة، وقد يفسر هذا سبب صعوبة التغيير في نظرنا؛ لأنه — على سبيل المثال — عندما تتعاون مؤسسات القطاع العام في شراكات لعلاج المشكلات المستعصية، مثل تعاطي الكحوليات أو السلوكيات المعادية للمجتمع، يفشل الشركاء المتباينون (أو يرفضون) تفويض بعضهم بعضًا لتولي القيادة. وبالمثل، عندما تحاول الدول أن تعالج المشكلات العالمية، مثل الاحترار العالمي، غالبًا ما يحبط مثبط المساواة ذاته التقدم نحو إيجاد حل. هناك طريقة لإعادة التفكير في أسلوب علاجنا لهذه المشكلات وهي إدراك أن الهرميين لديهم دور أيضًا ليلعبوه: القيادة الجماعية تحتاج إلى شخص ما أو كيان ما ليقودها. وكما اكتشفت ولاية كاليفورنيا ، عندما يتطلب الأمر أغلبية هامشية من هؤلاء الذين يصوتون لمصلحة زيادة الإنفاق العام، في حين يصوت ثلثا أعضاء المجلس التشريعي على زيادة الضرائب (أو وضع ميزانية)، في بعض الأحيان قد تكون المساواة زائدة عن الحد. ولكن، هل كان الأمر دائمًا على هذا الحال؟ هل كان القادة يستخدمون طرق قيادة مختلفة في الماضي؟ يجيب الفصل التالي عن هذه الأسئلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤