الفصل الخامس

الإنسان في المجتمع الرأسمالي

تمهيد

لا يُمكننا أن نبحث في الصحة العقلية بحثًا له معنًى إذا نَظرْنا إليها كصفة معنوية مُجرَّدة لمجتمَع وهمي مُجرَّد لا وجود له في الواقع. إذا أردنا أن نبحث الآن في حالة الصِّحَّة العقلية عند الرجل المُعاصر المُتشبِّع بالثقافة الغربية، وإذا أردنا أن نعرف أي العوامل في طريقة حياته يؤدِّي إلى المرض وأيها يؤدِّي إلى الصحة، وَجَب علينا أن ندرس أثر الظروف المُعيَّنة — التي تُحيط بطريقة إنتاجنا والتي تُحيط بنظامنا الاجتماعي والسياسي — في طبيعتنا البشرية؛ كما يجب علينا أن نتصوَّر شخصية الرجل العادي الذي يعيش ويعمل في ظل هذه الظروف. ولن يكون لدينا أساس نبني عليه حُكْمَنا على صحة العقل وسلامته عند الإنسان في العصر الحديث إلَّا إذا حدَّدنا الصفات الاجتماعية لشخصيته في صورة عامة مَهما تكن هذه الصورة ساذجة أو ناقصة، وسأُطلق على هذه الصورة اسم «الشخصية الاجتماعية».

وأعني بالشخصية الاجتماعية مجموع الخصائص التي يشترك فيها أكثر الأفراد في ثقافة واحدة مُتميِّزة عن الخصائص الفردية التي يختلف فيها فرد عن فرد في قوم ينتمون إلى ثقافة واحدة. وليست الشخصية الاجتماعية مجرد مجموع الخصائص التي نجدها عند أكثر الناس في ثقافة من الثقافات، وإنَّما تهمنا منها وظيفتها التي تُؤدِّيها والتي سوف أشرع الآن في معالجتها.

يسير العمل في كل مجتمع بطُرق مُعيَّنة اقتضتها ظروف خارجية. وتشمل هذه الظروف طُرق الإنتاج والتوزيع التي تعتمد على المواد الخام، والوسائل العملية في الصناعة، والجو، وعدد السكان، والعوامل السياسية والجغرافية، والتقاليد والمؤثرات الثقافية التي يتعرَّض لها المجتمع. وليس هناك «مجتمع» بوجه عام، وإنَّما هناك نظم اجتماعية مُعيَّنة يسير العمل فيها بطرق مختلفة. ومع أنَّ هذه النظم الاجتماعية تتغيَّر خلال التطوُّر التاريخي، إلَّا أنَّها ثابتة نسبيًّا في أي فترة تاريخية مُعيَّنة. ولا يُمكن أن يعيش المجتمع إلَّا بالعمل في حدود نظامه المُعيَّن. إنَّ أعضاء المجتمع — أو طبقاته المختلفة — لا بُدَّ أن يسلكوا سلوكًا يُمكِّنهم من أداء وظائفهم بالمعنى الذي يتطلَّبه النظام الاجتماعي. ووظيفة «الشخصية الاجتماعية» أن تُشكِّل نشاط أعضاء المجتمع بحيث لا يكون سلوكهم عبارة عن قرارات يُصدرونها عن وعي باتباع النظام الاجتماعي أو عدم اتباعه، وإنَّما يكون عبارة عن «إرادة العمل طبقًا لما ينبغي لهم أن يعملوا» وأن ترتاح في الوقت ذاته نفوسهم إلى العمل وفقًا لمتطلبات الثقافة السائدة. وبعبارة أخرى وظيفة الشخصية الاجتماعية أن تُشكِّل النشاط البشري وتُوجِّهه في حدود مجتمع مُعيَّن من أجل استمرار هذا المجتمع في أداء وظيفته.

فالمجتمع الصناعي الحديث — على سبيل المثال — لم يكن ليُحقِّق أهدافه لولا أنَّه جمع كل ما عند الأفراد الأحرار من نشاط للعمل بدرجة لم يسبق لها مثيل. في هذا المجتمع يُوجِّه المرء إلى بذل القسط الأوفر من نشاطه في العمل، وفي الخضوع للنظام، والمواظبة إلى حدٍّ غير مألوف في أيَّة ثقافة أخرى من الثقافات. ولم يكن بالإمكان للمجتمع الصناعي الحديث أن يُؤدِّي وظيفته لو أنَّ كل فرد فيه أخذ يُقرِّر لنفسه يوميًّا وهو راعٍ لما يُقرِّر أنَّه يُريد أن يعمل، ويُريد أن يُحافظ على المواعيد، إلى آخر ذلك؛ لأنَّ مثل هذه القرارات التي تصدر عن وعي تُؤدِّي إلى استثناءات أكثر مِمَّا يُطيقه سير عجلة المجتمع سيرًا هينًا هادئًا. ولا يُجدي لحسن سير العمل في المجتمع الصناعي الحديث استخدام التهديد والقوة؛ لأنَّ الأعمال المُتنوعة في هذا المجتمع لا يُمكن أن تتم إلَّا بالعمل الحر لا بالعمل الإجباري. إنَّ «ضرورة العمل، والمواظبة، والنظام، لا بُدَّ أن تتحوَّل إلى دافع داخلي لتحقيق هذه الأغراض. ومعنى ذلك أنَّ المجتمع لا بُدَّ له من إنتاج شخصية اجتماعية تكمن فيها هذه الدوافع».

ولا تتكوَّن الشخصية الاجتماعية من عامل واحد فحسب، وإنَّما هي نتيجة التفاعل بين العوامل الاجتماعية والمذهبية. ولمَّا كان العامل الاقتصادي أقل من غيره تغيرًا وأقرب العوامل إلى الثبات، كانت له الغلبة في هذا التفاعل. وليس معنى هذا أنَّ الدافع إلى الكسب المادي هو القوة الدافعة الوحيدة في الإنسان، بل وليس معناه أنَّه أشد هذه القوى أثرًا. وإنَّما معناه أنَّ الفرد والمجتمع يهتمون أولًا بالبقاء، ولا يُمكنهم أن يبحثوا عن إشباع الحاجات البشرية المُلِّحة الأخرى إلَّا بعد الاطمئنان إلى البقاء. والبقاء يعني أنَّ الإنسان لا بُدَّ أن ينتج، أي لا بُدَّ له من أن يحصل على الحد الأدنى من الطعام والمأوى الضروريين للبقاء، والأدوات التي تتطلَّبها عمليات الإنتاج، مهما تكن هذه العمليات ساذجة بدائية. وطريقة الإنتاج بدورها تُحدِّد العلاقات الاجتماعية التي تقوم بين أفراد المجتمع. وهي التي تُحدِّد طريقة العيش ووسائله. ولست بهذا أغض من شأن الآراء الفلسفية والسياسية والدينية، فهي عندما تجد طريقها إلى الشخصية الاجتماعية، يكون لها أثرها في هذه الشخصية وفيما تتميَّز به من صفات.

ولأذكر في هذا الصدد مرة أخرى، وأنا أتحدَّث عن بناء المجتمع الاقتصادي والاجتماعي وأثره في تكوين الشخصية الاجتماعية، أنِّي إنَّما أتحدَّث عن طرفٍ واحد فقط في العلاقة المتبادلة بين النظام الاجتماعي والإنسان، أمَّا الطرف الآخر الذي لا مناصَ من بحثه فهو طبيعة الإنسان، التي تصوغ بدورها الظروف الاجتماعية التي يعيش فيها. ولا نستطيع أن نفهم العملية الاجتماعية إلَّا إذا بدأنا بمعرفة حقيقة الإنسان، خصائصه النفسية وخصائصه الفسيولوجية، وإلَّا إذا بحثنا في العلاقة بين طبيعة الإنسان وطبيعة الظروف الخارجية التي يعيش فيها، والتي لا بُدَّ له من السيطرة عليها إذا كان لا بُدَّ له من البقاء. وقد ذكرنا فيما سلف ما يكفي القارئ معرفته عن طبيعة الإنسان.

ونخلص مِمَّا تقدم إلى أنَّ الظروف الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الصناعي الحديث التي تُكوِّن شخصية الرجل المعاصر، والتي يرجع إليها اضطراب صحته العقلية، هذه الظروف تتطلَّب إدراك العناصر التي تُميِّز أسلوب الإنتاج الرأسمالي، كما تتطلَّب فهم المجتمع الذي يقوم على أساس الملكية في عصر صناعي. ولا بُدَّ من عرض موجز لهذه النواحي لكي تكون أساسًا لما يتلوه من تحليل الشخصية الاجتماعية للإنسان في المجتمع الغربي المعاصر.

أثر الرأسمالية في تكوين الشخصية

(أ) رأسمالية القرنين السابع عشر والثامن عشر

إنَّ النظام الاقتصادي الذي ساد بلاد الغرب خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر هو الرأسمالية. وبرغم ما انتاب هذا النظام من تَغيُّرات داخلية، فقد احتفظ بسمات عامَّة لازَمَته طوال تاريخه، وأهم هذه السمات:

  • (١)

    تمتُّع الفرد بِحُرِّيَّته السياسية والقضائية.

  • (٢)

    بَيْع هؤلاء الأفراد المُتحرِّرين — عُمَّالًا ومُوظَّفِين — عملهم لصاحب رأس المال في سوق العمل بطريق التعاقُد.

  • (٣)

    وجود سوق للسلع تُحدِّد الأسعار وتنظِّم تَبادُل المنتَجات.

  • (٤)

    ذيوع الاعتقاد بأنَّ الفرد إنَّما يعمل ليُحقِّق لنفسه ربحًا، مع الإيمان — برغم ذلك — بأنَّ التَّنافُس بين الأفراد يُحقِّق أكبر نفعٍ للمجموع.

وبرغم امتداد هذه المُميِّزات في النظام الرأسمالي إلى القرنين التاسع عشر والعشرين، فقد طرأ عليها شيء من التعديل أوْجَد أَوجُهًا للخلاف لا تقلُّ أهمية عن أُوجُه التشابه. ولمَّا كان اهتمامنا بتحليل أثر البناء الاجتماعي والاقتصادي المُعاصر في الإنسان، فلا مناصَ لنا من البحث في صفات النظام الرأسمالي في القرنين السابع عشر والثامن عشر أولًا، ثمَّ البحث في هذه الصفات بعد ذلك في القرن التاسع عشر، مع بيان أَوجُه الخلاف بينها وبين ما تطوَّر إليه المجتمَع والإنسان في القرن العشرين.

ولا مفرَّ عند الكلام عن القرنين السابع عشر والثامن عشر من ذكر صفتين تتميَّز بهما هذه الفترة الأولى من نظام الرأسمالية؛ الأولى: أنَّ الفنون العملية والصناعات كانت في بدايتها؛ إذا قورنت بتقدُّمها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. والثانية: أنَّ عادات العصور الوسطى وآراءها وثقافتها كانت لا تزال ذات أثر كبير على الوسائل الاقتصادية التي سادت هذه الفترة. فكان — مثلًا — مِمَّا يُنافي الدين والأخلاق أن يُحاول أحد التُّجَّار أن يجتذب الزبائن من غيره بتخفيض الأسعار أو بغير ذلك من الوسائل، فتلك شراهة تُفيد فردًا وتضرُّ أفرادًا.

وفي ذلك العصر تشكَّك الناس في قيمة الآلة؛ لأنَّها تُهدِّد الناس بِحِرمَانهم من العمل، فالآلة — كما قال كلبير — «عدو العمل.» ويقول منتسكيو: «إنَّ الآلات التي يقلُّ بسببها عدد العُمَّال أدوات قاتلة هدَّامة.» وهذه الاتجاهات تستند إلى مبادئ كان لها أثرها في حياة الإنسان عدة قرون. وأهم هذه المبادئ أنَّ المجتمع والاقتصاد يقومان من أَجْل الفرد، ولا يوجد الفرد من أجلهما، ولا يكون التقدُّم الاقتصادي صحيحًا إذا كان يُؤذِي أي طائفة في المجتمع؛ لأنَّ العقيدة السائدة كانت تدعو إلى ضرورة التوازن الاجتماعي، كما تقول بأنَّ أي اختلال في هذا التوازن يؤدِّي إلى ضرر المجموع.

(ب) رأسمالية القرن التاسع عشر

أمَّا في القرن التاسع عشر فقد تغيَّر هذا الاتجاه، وفقد الكائن البشري الحي مكانته المركزية وأهميته في النظام الاقتصادي، وحلَّ محله في المكانة والأهمية العمل والإنتاج. ولم يُصبح الإنسان «مقياس كل شيء» في المحيط الاقتصادي. وبات العنصر المُميِّز لرأسمالية القرن التاسع عشر استغلال العامل. وكان من القوانين الطبيعية أو الاجتماعية أن تعيش مئات الألوف من العُمَّال مُهدَّدة بخطر الموت جوعًا. وكان صاحب رأس المال لا يُخالف المبادئ الخُلقية إذا هو استغل العامل الذي يستأجره إلى أقصى حدٍّ في سبيل تحقيق الأرباح. ولم يكن هناك إحساس بضرورة التماسك البشري بين صاحب رأس المال ومن يستغلهم من العُمَّال، بل كانت شريعة الغاب هي السائدة في عالم الاقتصاد. وانحلَّت جميع القيود التي وضعتها القرون السالفة. يبحث صاحب رأس المال عن زبونه، ويُحاول أن يُضارب زملاءه في أسعار السلع التي يتَّجرُ فيها ما أمكنه ذلك. وباستخدام الآلة البخارية ازداد تقسيم العمل، وتضخَّمت المشروعات؛ مِمَّا أفقد العامل إدراكه للعمل إدراكًا كافيًا، كما أفقده الاهتمام به أو إتقانه. وأمسى المبدأ العام في ظل هذا النظام الرأسمالي ألَّا يأبه الفرد إلَّا بكَسبه الخاص، ظنًّا منه أنَّ في ذلك سعادة المجموع ويا سوء ما ظنَّ!

وكذلك كانت السوق في القرنين السابع عشر والثامن عشر تتحكَّم في أسعار السلع ولكن كانت تخضع لقيود من الأخلاق. بحيث لا ترتفع عن الطاقة الاقتصادية للأفراد، ولكنَّها أمست في القرن التاسع عشر حرة لا تتقيَّد بأي شرط. وقد يعتقد الفرد أنَّه يعمل في ذلك طبقًا لما تُمليه عليه مصلحته الشخصية، في حين أنَّه في الواقع يخضع لقوانين السوق والجهاز الاقتصادي الذي يسود المجتمع، ويُؤيِّده الجميع وإن لم يكن قانونًا مُدوَّنًا مكتوبًا. فأصبَحْنَا نرى صاحب رأس المال يتوسَّع في عمله، لا لأنَّه يُريد ذلك، وإنَّما يتوسع في عمله لأنَّه مضطر إلى ذلك اضطرارًا؛ لأنَّه إن توانى في توسُّعه تخلَّف عن غيره وقضى على عمله جنون السوق. فصاحب رأس المال في هذا مُسيَّر لا مُخيَّر؛ وقد أخذت صفة الاضطرار هذه تتزايد شيئًا فشيئًا حتَّى بلغت أقصى حِدَّتها في القرن العشرين.

وكأنَّ للسوق حياة خاصة، وكأنَّ من حقِّها أن تتحكَّم في الإنسان، ومن المؤسف أن يكون الأمر كذلك أيضًا في عصرنا الحاضر فيما يتعلَّق بالعلوم والفنون العملية. فالعالم لا يختار مُشكلاته التي يبحث فيها، وإنَّما تفرض المشكلات عليه نفسها. كما أنَّ المُنتِج لا يختار ما ينتجه وإنَّما يفرض الإنتاج عليه نفسه فرضًا. فنحن مدفوعون بنظام ليس له غرض أو هدف يتجاوز النظام نفسه، نظام يجعل الإنسان تابعًا لا متبوعًا.

وسأعود مرة أخرى إلى الحديث تفصيلًا عن هذا الوجه من أوجه عجز الإنسان عند تحليل الرأسمالية المعاصرة. غير أنِّي أُريد أن أؤكِّد هنا أهمية السوق الحديثة باعتبارها الإدارة الرئيسية في توزيع الإنتاج العام؛ لأنَّ السوق هي أساس تكوين العلاقات البشرية في المجتمع الرأسمالي.

إذا كانت ثروة المجتمع تُعادِل الحاجات الحقيقية لجميع أفراده لم تنشأ مشكلة توزيع الثروة؛ فإنَّ كل فرد يستطيع أن ينال من مجموع الإنتاج بمقدار ما يحتاج أو ما يريد، ولم تَعُد هناك حاجة إلى تنظيم، إلَّا أنَّ قصدنا بالتنظيم المعنى «الفني» للتوزيع. غير أنَّا إذا ابتعدنا عن المُجتمَعات البدائية ما وَجَدْنا قَطُّ هذه الحالة في تاريخ البشر منذ بدايته حتَّى عصرنا الحاضر. فلقد كانت الحاجات دائمًا أكثر من مجموع الإنتاج، ومن ثَمَّ كان لا مناصَ من تنظيم توزيع الإنتاج: كم مِنَ الناس؟ ومَنْ منهم؟ يجب أن يشبع حاجته؟ وأي الطبقات تظفر بأقل مِمَّا تحتاج؟ وفي أكثر المجتمعات تقدُّمًا فيما مضى كانت القوة هي الحَكَم في ذلك؛ إذ كانت لطبقات خاصة القوة التي تُمكِّنها من امتلاك خير إنتاج المجتمع لنفسها، كما تُمكِّنها من تكليف الطبقات الأخرى بالعمل الثقيل القذر مع نصيب أقل من الإنتاج، وكانت القوة غالبًا ما تفرضها التقاليد الاجتماعية والدينية، تلك التقاليد التي كان لها على الناس نفوذ سيكولوجي يجعل التهديد باستخدام القوة المادية أمرًا لا ضرورةَ له.

السوق الحديثة أداة لتنظيم التوزيع، وقيامها يجعل تقسيم إنتاج الجماعة طبقًا لخطة مرسومة أو خطة عرفية أمرًا غير ضروري. وهي بذلك تستغني عن ضرورة استخدام القوة في المجتمع. إلَّا أنَّ امتناع استخدام القوة — بطبيعة الحال — أمر ظاهري أكثر منه حقيقة واقعة. فالعامل الذي لا مناص له من قبول الأجر الذي يُقدَّم له في سوق العمل مضطر إلى قبول شروط السوق؛ لأنَّه لا يستطيع العيش بأيَّة وسيلة أخرى. ومن ثمَّ فإنَّ حرية الفرد مسألة وهمية إلى حدٍّ كبير. فالفرد يُدرك أنَّه ليست هناك قوة خارجية ترغمه على إبرام عقد من العقود، ولكنَّه لا يكاد يُدرك أنَّ للسوق قوانين تعمل من خلفه وتتحكَّم فيه. ومن ثمَّ فهو يعتقد أنَّه حرٌّ، في حين أنَّه في واقع الأمر ليس كذلك. بَيْد أنَّ طريقة التوزيع الرأسمالية بواسطة السوق هي — بالرغم من ذلك — أفضل من أيَّة طريقة أخرى ابتدعها مجتمع طبقي حتَّى يومنا هذا؛ لأنَّها أساس لحرية الفرد السياسية النسبية التي تتصف بها الديمقراطية الرأسمالية.

ووظيفة السوق الأساسية تتوقَّف على المُضارَبة بين أفراد كثيرين، يُريد كل منهم أن يبيع سلعته في سوق السلع، كما يُريد أن يبيع عمله أو خِدْماته في سوق العمل والأشخاص. وهذه الضرورة الاقتصادية التي تُحتِّم المضاربة أدَّت — وبخاصةً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر — إلى أن يسلك الأفراد في حياتهم وعلاقاتهم مسلكًا يتفق وهذا الاتجاه. فباتت رغبة التفوُّق على المنافِسِين من الدوافع القوية للفرد في مسلكه، وانقلبت بذلك رأسًا على عَقِب صفة من صفات عهد الإقطاع، وهي أنَّ لكل فرد في النظام الاجتماعي مكانة تقليدية ينبغي له أن يقف عندها وأن يقنع بها. فكان النظام الاجتماعي في العصور الوسطى على كثير من الاستقرار. ثمَّ ظهرت بعد ذلك حركة اجتماعية مناقضة لم يسمع بها أحدٌ من قبلُ، حركة يُجاهد فيها كل فرد من أجل الوصول إلى أعلى مكانة، على الرغم من أنَّ قلة من الناس هي التي استطاعت أن تبلغها. وفي هذا النضال في سبيل النجاح انهارت القواعد الاجتماعية والخُلُقية للتماسك البشري وانحصرت أهمية الحياة في التقدُّم في سباق التنافس.

وخَصِيصة أخرى من خصائص طريقة الإنتاج الرأسمالية هي أنَّ الهدف من كل نشاط اقتصادي في ظل هذا النظام هو «الكسب». وقد خلق هذا الدافع، وأقصد به حب الكسب، حالة من الاضطراب الفكري؛ إذ أصبحنا نؤمن بأنَّ كل نشاط اقتصادي لا يكون ذا مغزًى إلَّا إذا انتهى بالكسب؛ أي إذا ربح المرء أكثر مِمَّا أنفق في عملية الإنتاج. إنَّنا لا نعمل لتحقيق فائدة تعود على المجتمع، ولا للذة العمل، وإنَّما نعمل لكسب المال الذي نحتاج إليه لسد نفقات الحياة أو لصيانة أدوات الإنتاج أو لزيادة الثراء. ولا يهم صاحب رأس المال البتَّةَ إن كان لما ينتجه فائدة للمستهلك أو ضرر به. وليست الرغبة في زيادة الكسب في كل الأحيان جشعًا فحسب، بل قد تكون لحب التوسُّع في العمل وتيسير إدارته.

والمفروض بطبيعة الحال أن يتناسب دخل الفرد وما يبذل من مجهود أو ما يُقدِّم من خدمات. غير أنَّ التطوُّر الاقتصادي الحديث يَفصِل فصلًا تامًّا بين قيمة الدخل ومقدار المجهود. ويستطيع صاحب رأس المال أن يُحقِّق مكاسبه دون أن يؤدِّي البتةَ عملًا من الأعمال. والمفهوم أنَّ استبدال الدخل بالمجهود عمل إنساني عادل، ولكنَّه في ظِلِّ التقدُّم الاقتصادي الحاضر نستطيع أن نحصل على مزيد من المال لمجرد امتلاك رأس المال دون بذل مجهود أو أداء عمل. وأوضح مثال لذلك مالِك المشروع الصناعي الذي لا يُقيم في محل عمله ولا يَمُد إليه يدًا، ولا يحضر أيَّة عملية من عملياته. إنَّ هذا المالك يكسب المال من رأس ماله ومن عمل الآخَرِين دون أن يُنفق أي جهدٍ بنفسه. ومن هؤلاء الرأسماليين مَنْ يُبرِّر لنفسه هذا الكسب من الناحية الخُلقية بزعم أن ما يتقاضاه من مال زائد إنَّما هو مقابل مخاطرته بالمساهمة بماله الأصلي، أو مقابل تقتيره على نفسه وحرمانه من الإنفاق على متعه في سبيل توفير رأس المال الذي يُسهم به في المشروع الاقتصادي، ولكن هذه التعِلَّات لا تُغيِّر من الحقيقة الواقعة وهي أنَّ رأس المال يجلب لصاحبه الربح دون جهد شخصي أو عمل مُنْتِج. بل إنَّ أولئك الذين يعملون فعلًا ويُؤدُّون الخدمات بأنفسهم لا يتناسب دَخْلُهم وما يبذلون من جهد. فكسب المُعلِّم ضئيل إذا قيس إلى كسب الطبيب، بالرغم من أنَّ وظيفته الاجتماعية لا تقلُّ أهمية عن وظيفة الطبيب، وجهده الشخصي لا يقصر عنه. كما أنَّ عامل البناء لا يكتسب إلَّا جزءًا ضئيلًا بالقياس إلى ما يكتسب المهندس المعماري أو مدير المباني، في حين أن ما يَبْذُل من جهد شخصي أكبر وأضخم إذا نظرنا إلى المخاطر والمتاعب التي يُلاقيها في عمله.

إنَّ ما يُميِّز توزيع الدخل في النظام الرأسمالي هو انعدام التناسب المتوازن بين جهد الفرد وعمله من ناحية وما يناله من تقدير اجتماعي أو تعويض مادي من ناحية أخرى. وهذا الاختلال في التوازن — في المجتمعات الفقيرة — يؤدي إلى تَبايُن شنيع بين حياة التَّرَف وحياة المَسْغبة؛ تَبايُن لا تسيغه المعايير الخلقية الرفيعة. ولا تهمني كثيرًا الآثار المادية لهذا التباين، وإنَّما تهمني آثاره الخلقية والنفسية. ومن هذه الآثار الحط من قدر العمل والجهد والمهارة البشرية. ومنها الجشع في إشباع الرغبات بدرجة لا تقف عند حدٍّ؛ ذلك لأنَّ الكسب إذا كان يتحدَّد بما يبذل المرء من جهد، فهو على كل حال كسب محدود لأنَّ الجهد محدود، ومن ثمَّ كانت رغبات المرء محدودة. أمَّا إذا كان الدخل لا يتناسب مع المجهود، فإنَّ الرغبات لا تعرف لها نهاية ولا غاية؛ لأنَّ إشباعها يتوقَّف على الفرص التي تُتِيحها السوق، ولا تتوقَّف على ما يملك المرء من قدرات. وشبيهٌ بهذه الحال الفرق بين الرغبات البدنية وغير البدنية. فالرغبة في تناول الطعام — مثلًا — تخضع لنظام الجسم الفسيولوجي، لها درجة من التشبُّع تقف عندها إلَّا في الحالات المَرَضية الاستثنائية. في حين أنَّ الطمع وشهوة الحكم والسلطان وما إليهما من الرغبات التي لا تتصل بالحاجات الفسيولوجية، ليس لها ضوابط. ومن ثمَّ كانت في تَزايُد مستمِر، شديدة الخطر على صاحبها.

وقد كانت رأسمالية القرن التاسع عشر رأسمالية «خاصة»، صاحبها فرد لا جماعة في أكثر الأحيان. كان الفرد يرى الفرصة أمامه فينتهزها، ويقوم بعمل اقتصادي، ويبحث عن وسائل جديدة، ويظفر بالملكية، ملكية أدوات الإنتاج ومواد الاستهلاك على حدٍّ سواء، ويستمتع بما يملك، وكان هذا الاستمتاع بالمِلْك بِغَض النظر عن المُضارَبة والبحث عن الكسب؛ صفة أساسية من صفات الطبقة الوسطى والطبقة العليا في القرن التاسع عشر. ويهمنا أن ننوه بهذه الصفة؛ لأنَّ الإنسان اليوم — فيما يتعلَّق بمتعة الملك والتوفير — يختلف تمام الاختلاف عن أسلافه. فبعدما كانت رغبة التوفير والتملُّك فيما مضى من مُميزات الطبقة العليا، باتت اليوم من أهم صفات الطبقات المتخلِّفة والدنيا، وهي صفة أكثر شيوعًا في أوربا منها في أمريكا. كانت هذه الصفة قديمًا من صفات الطبقة العليا، فتحوَّلت خلال التطوُّر الاقتصادي إلى صفة عتيقة، لا يحتفظ بها إلَّا أقل الجماعات تطوُّرًا، يتميَّز صاحبها بضيق الخيال، والبخل، والرِّيبة، والقلق، وبرودة العاطفة، والعناء، والغرور، بدلًا من أن يتميَّز بالروح العملية، والاقتصاد، والحرص، والثبات، والنظام والإخلاص.

ومن سيئات النظام الرأسمالي كذلك انحلال المبدأ القديم، مبدأ التماسك الاجتماعي بين الأفراد والطبقات، وقد حلَّ الاستغلال محل هذا التماسك. فقد كان للسيد في المجتمع الإقطاعي حق إلهي يُخوِّل له أن يُطالب الخاضِعِين لنفوذه بمختلف الخدمات. بيد أنَّه كان في الوقت ذاته — بحكم العُرف والمألوف — مسئولًا عن رعاياه، وعن حمايتهم، وإمدادهم بالحد الأدنى لوسائل العيش. وكان الاستغلال الإقطاعي جزءًا من نظام عام يسوده تبادل الالتزامات الإنسانية، ومُبادَلة المنافع والخدمات، يخضع لقواعد معروفة وقيود مُعيَّنة. أمَّا الاستغلال كما تطوَّر في القرن التاسع عشر فكان يختلف عن ذلك كل الاختلاف. كان العامل — أو على الأصح عمله — سلعة يشتريها صاحب رأس المال، لا يختلف عن أيَّة سلعة أخرى في السوق، سلعة يستخدمها المشتري إلى أقصى حدٍّ مُستطاع. وما دامت هذه السلعة تُشترى بثمنها المناسب في سوق العمل، فليس هناك إحساس بالتبادل، أو بأيَّة مسئولية تقع على عاتق صاحب رأس المال سوى مسئوليته عن دفع الأجور. فإذا كان هناك مئات الألوف من العُمَّال بغير عمل، على حافة الجوع المميت، فذلك نصيبهم في الحياة، ومن شأنهم وحدهم، وهو نتيجة لانحطاط مواهبهم، أو ذلك هو قانون الطبيعة الذي لا يُمكن تعديله. فليس الاستغلال من فرد لفرد، وإنَّما هو استغلال لشخصية معنوية. وقانون السوق هو الذي يحكم على المرء بالعمل بأجر زهيد، ولا يرجع انخفاض الأجور إلى سوء نية صاحب العمل أو إلى جشعه. لا يوجد في هذا النظام مسئول أو مُذْنِب، وليس هناك من يستطيع تغيير الظروف، فإنَّ قوانين المجتمع من حديد وعلى المرء أن يُجابهها.

أمَّا في القرن العشرين فقد اختفى إلى حدٍّ كبير هذا النوع من الاستغلال الذي عُرِف في القرن التاسع عشر لأسباب عدة. غير أنَّ هذا يجب ألَّا يعمينا عن تلك الحقيقة التي سادت في القرن العشرين كما سادت في القرن التاسع عشر، وهي أنَّ الرأسمالية تقوم على أساس المبدأ الذي يسري في كل المجتمعات الطبقية، وهو «استخدام الإنسان للإنسان».

فصاحب رأس المال في العصر الحديث يستخدم العمل. وهو يستغل غيره من الناس من أجل كسبه الخاص، وإن يكن هذا الاستغلال يتستر وراء قوانين اجتماعية مُستحدَثة لم يكن لها وجود فيما مضى. ربما تحسَّنت العلاقات الإنسانية بين أصحاب رءوس الأموال والعُمَّال، غير أنَّ هذه العلاقات الإنسانية والمعاملات البشرية شيء وفكرة الاستخدام أو الاستغلال الأساسية شيء آخر لا علاقة لها بطريقة المُعاملة، من حيث الرأفة أو القسوة، وإنَّما تتعلَّق بحقيقة أساسية أخرى، هي خدمة فرد لآخر لمصلحة المخدوم دون الخادم، بل إنَّ فكرة الاستخدام للإنسان قد لا تكون باستغلال فرد لآخر، وإنَّما باستغلال المرء لنفسه. فالحقيقة في كلتا الحالتين واحدة، وهي أنَّ الفرد — وهو كائن بشري حي — لا يكون غاية في حدِّ ذاتها، بل يُمسي أداة للمصالح الاقتصادية التي تخص غيره، أو تخصه، أو تخص عملاقًا معنويًّا هو الجهاز الاقتصادي.

وعلى هذا الرأي اعتراضان ظاهران: أولهما أنَّ العامل في العصر الحديث حرٌّ في قبول أو رفض التعاقد مع صاحب العمل، ومن ثَمَّ فهو في علاقته الاجتماعية به مُشارك مُتطوِّع، وليس «شيئًا» جامدًا لا إرادة له يخضع لتصرفات غيره. والرد على هذا الاعتراض هو أنَّ العامل يجد نفسه إزاء شروط لا مفر له من قبولها، وليس له حق الاختيار وهو على أي الحالين — راضيًا أو مُرغمًا — يُسْتَخدم أو يُسْتَغل لأغراض رأس المال لا لأغراضه الخاصة، ويُنْتِج ما يُريده صاحب رأس المال لا ما يُريده هو برغبة منه وإلا استغلقت عليه أبواب الكسب.

والاعتراض الثاني هو أنَّ الحياة الاجتماعية في شتَّى صورها — حتَّى في صورتها البدائية — تتطلَّب قدرًا مُعيَّنًا من التعاون الاجتماعي، بل ومن الخضوع والنظام، وإنَّ الفرد عليه — في نظام الإنتاج الصناعي المُعقَّد — أن يُؤدِّي وظيفة خاصة مُعيَّنة، وإلَّا اختلَّ نظام الإنتاج. وقد يكون هذا القول صادقًا في ظاهره، ولكنَّه يتجاهل الفرق بين التعاون المُتبادَل، والتعاون الذي يتم عن طريق التسلُّط من جانِب والخضوع من جانِب آخر. ففي المجتمع الذي لا يكون لفرد فيه نفوذ على غيره، يؤدِّي الفرد وظيفته على أساس تبادُل المعونة. ليس لأحد أن يأمر أحدًا غيره، إلَّا بمقدار ما تقتضيه ضرورة التعاون والمحبة والصداقة، أو الترابط الطبيعي. كالذي نلمسه فعلًا في العلاقة بين الزوج وزوجته في الحياة العائلية. فهو نوع من العلاقة لا يخضع لقدرة الرجل على إصدار الأمر لزوجته، كما كانت الحال في المجتمع الأبوي القديم، وإنَّما يخضع لمبدأ التعاون والتبادل. وشبيه بذلك العلاقة التي تنشأ بين الصَّدِيق والصَّدِيق، فكل منهما يُؤدِّي للآخر خِدمة، فيها تعاون وليس فيها تأمُّر. في هذه الضروب من ضروب العلاقات الإنسانية لا يُفكِّر المرء في التسلُّط على غيره برأي، ولا يدفعه إلى مساعدته إلَّا الشعور المتبادَل بالمحبة والصداقة أو مجرد التماسك البشري الذي لا بُدَّ منه لحفظ كيان المجتمع وقيام بنائه. والجهد الإيجابي الذي يبذله المرء ككائن بشري في سبيل استثارة حب غيره وصداقته له وعطفه عليه، ذلك الجهد هو الذي يكفل تقديمه العون له حينما يكون في حاجة إلى العون. وليس الأمر كذلك في العلاقة بين صاحب العمل والعامل، فقد اشترى صاحب العمل خِدْمات العامل بالأجر يدفعه له. ومَهما تكن معاملته إنسانية، ففيها تأمُّر من ناحية واحدة وخضوع من أخرى، لقاء شراء صاحب العمل وقت العامل لعدة ساعات كل يوم.

ويُشير مبدأ استخدام الإنسان للإنسان إلى قيمة من القيم الأساسية للعلاقات البشرية، القيم التي ينبني النظام الرأسمالي على أساسها. فالقاعدة في هذا النظام هي أنَّ «رأس المال يستخدم العمل.» أو بعبارة أخرى أنَّ «الماضي المتجمِّد يستخدم الحاضر الحي.» فليس المال — مهما يكن — سوى مادة ميتة وليس العمل سوى قوة حيَّة. وفي سُلم القيم في المجتمع الرأسمالي يكون رأس المال أعلى درجة من العمل، والأشياء المُتراكمة أرفع من مظاهر الحياة. فرأس المال يستخدم العمل، ولا يمكن للعمل أن يستخدم رأس المال. ومن يملك المال يتأمَّر على الرجل الذي لا يملك سوى حياته، ومهارته البشرية، وحيويته، وقدرته الإنتاجية المبدعة. «فالأشياء» أعلى من الناس، والصراع بين رأس المال والعمل أبعد مدًى من أن يكون صراعًا بين طبقتين، وأشد من أن يكون نضالًا من أجل نصيب أوفر من منتجات الجماعة. إنَّما هو صراع بين مبدأين من مبادئ القيم؛ بين عالم الأشياء وتجميعها، وعالم الحياة وقدرتها على الإنتاج.

ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بمشكلة الاستغلال والاستخدام التي قدَّمنا فيها الكلام، مشكلة «السُّلطة» عند إنسان القرن التاسع عشر، وهي مشكلة أبعد غورًا وأشد تعقيدًا. إنَّ أي نظام اجتماعي تتأمَّر فيه مجموعة من السكان على مجموعة أخرى — وبخاصة إذا كانت المجموعة المُتحكِّمة هي الأقلية — يجب أن يقوم على إحساس قوي بالسُّلطة، وهو إحساس يزداد شدة في المجتمع الأبوي الذي تكون فيه مكانة الذكور أعلى من مكانة الإناث، كما تكون فيه قيادة المجتمع للرجل دون المرأة. ولمَّا كانت لمشكلة السُّلطة أهمية كبرى بالنسبة لإدراكنا للعلاقات البشرية في أي نوع من أنواع الجماعة، وحيث إنَّ النظرة إلى السُّلطة قد تغيَّرت من أساسها من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، فإنِّي أودُّ أن أبدأ مناقشة هذه المشكلة بالإشارة إلى التفرقة في مدلول السُّلطة. فهي نوع من العلاقة بين الأدنى والأعلى، وهذه العلاقة على صورتين؛ إحداهما «معقولة» والأخرى «غير معقولة».

وإليك مثالًا لما أعْنِي. إنَّ العلاقة بين الأستاذ والطالب، وبين السيد والعبد، ترتكز على أساس استعلاء أحدهما على الآخر. بيد أنَّ مصالح الأستاذ والطالب مُشترَكة، فالأستاذ يُسَرُّ لتقدُّم تلميذه، فإن فشل عدَّه فشلًا لكليهما. أمَّا السيد فيجب أن يستغل العبد بقدر ما يستطيع، ومصلحته تَتعارَض مع مصلحة العبد. فاستعلاء الأستاذ على الطالب يختلف عن استعلاء السيد على العبد. هو في الحالة الأولى عون للطالب، وفي الثانية استغلال للعبد. هذا إلى أنَّ الهُوَّةَ بين الأستاذ والطالب تضيق تدريجًا، ويأخذ تسلُّط الأستاذ في التلاشي شيئًا فشيئًا. أمَّا الهوة بين السيد والعبد فتتسع كلما طال أمدها.

ويختلف الشعور النفسي كذلك في الحالتين. فهو في الحالة الأولى مَحبَّة وإعجاب أو اعتراف بالجميل، وفي الثانية نُفور وعداوة. ولكنَّها العداوة التي يُخفيها العبد مكبوتة في نفسه أحيانًا إبقاءً على حياته. وقد تنقلب في ظاهرها إلى شعور كاذب بالإعجاب، يُبديه العبد على غير وعْي منه لِمَا يدور في باطنه، وذلك حتى لا يحس الخجل من تبعيته لسيده. وقد تسمع العبد أحيانًا يصف سيده بالعقل والحكمة وحُسن المُعامَلة سترًا لموقفه الذليل منه. وهو نوع من الإعجاب «غير معقول» ينطوي على بُغض دفين يزداد في نفسه اضطرامًا يومًا بعد يوم. في حين أنَّ الشعور بالتَّبعِيَّة والخضوع في حالة السُّلطة «المعقولة» — كما هي الحال بين الأستاذ والطالب — يخف تدريجًا حتَّى يزول.

هذان النوعان من السُّلطة قد يبلغان حد التطرُّف وقد يعتدلان، وهما يتداخلان في بعض الأحيان، كالعلاقة بين عامل المصنع ورئيسه، أو بين الفلاح وابنه. وتتميَّز الشخصية الاجتماعية التي سادت في القرن التاسع عشر بامتزاج السُّلطة المعقولة فيها بالسُّلطة غير المعقولة. فقد اتَّصف المجتمع بقيامه على سُلم من مختلف الدرجات، ولكنَّه يختلف عن السلم الذي ساد نظام الإقطاع، والذي يقوم على أساس القانون الإلهي والتقاليد؛ إذ يستند إلى ملكية رأس المال، من يملكه يستطيع الشراء، ومن ثمَّ يتحكَّم في عمل من لا يملكه، وعلى هؤلاء الطاعة وإلَّا ماتوا جوعًا. فكانت الطاعة فضيلة والعصيان رذيلة.

ويُلاحَظ أنَّ السُّلطة المعقولة سارت جنبًا إلى جنب مع السُّلطة غير المعقولة. فمنذ عصر الإصلاح الديني والنهضة الأوربية بدأ الإنسان يعتمد على عقله كمرشد له في عمله وفي أحكامه. وأخذ يعتز بأنَّ له معتقداته الخاصة، ويحترم سلطة العلماء والفلاسفة والمُؤرِّخِين، الذين عاونوه على تكوين أحكامه والتشبث بمعتقداته الخاصة. وتَنبَّه الضمير الخلقي والعقلي وأصبحت له صفة ظاهرة في القرن التاسع عشر. وربما لم تَهْدِه نزاهة ضميره إلى ضرورة المساواة في الحكم على مختلف الشعوب، المُلوَّن منها وغير المُلوَّن، وربما لم تَهْدِه إلى المساواة التامة بين أبناء الطبقات الاجتماعية الأخرى، ولكن الإنسان بات على أيَّة حال مُرهَف الإحساس في التمييز بين الخطأ والصواب.

ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بِتنبُّه الضمير العقلي والخُلُقي صفة أخرى من صفات شخصية القرن التاسع عشر، وهي الاعتزاز بالنفس. ويتضح هذا الاعتزاز من اهتمامه بلباسه، ومن إحساسه بالتحرُّر من تسلُّط الطبيعة عليه، ومن تحكُّمِه فيها إلى حدٍّ كبير. كما يتضح من تحرُّره من خرافات العصور الوسطى وقيودها. بل لقد استطاع الإنسان في القرن الذي يقع بين عامي ١٨١٤ و١٩١٤م أن يعيش في فترة من أهدأ ما عرف التاريخ من فترات. وأحس المرء بفرديته، لا يخضع إلَّا لقانون العقل، ولا يتبع إلَّا ما يُصدره لنفسه من قرارات.

وخلاصة ما تقدم أنَّ شخصية الإنسان في القرن التاسع عشر كانت في صميمها تقوم على أساس المُضاربة والمنافَسة، وحُب الجمع، والاستغلال، والتسلُّط، والاعتداء، والفردية. وتختلف رأسمالية القرن العشرين في صفاتها عن ذلك في كثير من الاتجاهات. فقد حلَّ الاستهلاك والتسويق محل الاستغلال والجمع، والتعاون المشترَك محل المضاربة، والدخل الثابت المضمون محل زيادة الكسب، والمساهمة في المشروعات وتوزيع الثروة بين عدد كبير من الأفراد محل الرأسمالية المُركَّزة الاستغلالية. كما حلَّت محل السُّلطة المباشرة — معقولة كانت أو غير معقولة — السُّلطة الخفية التي لا يملكها فرد، سلطة الرأي العام وسلطة السوق (إذا استثنينا ما ظهر في روسيا وفي ألمانيا من سلطة مباشرة غير معقولة). وحلَّت حاجة المرء إلى التكيُّف بالمجتمع والتجانس مع أفراده واسترضاء الناس محل الضمير الفردي المستقل. وحلَّ إحساس المرء المطرد بعجزه — إحساسًا لا شعوريًّا في كثير من الأحيان — محل الإحساس بالاعتزاز والفخر.

ويجب ألَّا ننسى أنَّ الصفات التي ذكرناها هي صفات أبناء الطبقة الوسطى في القرن التاسع عشر، أمَّا العامل والفلاح فقد كانَا على خلاف ذلك. وقد بدأت هوة الخلاف في مقومات الشخصية بين طبقة وطبقة في الزوال في القرن العشرين وخاصةً بين سكان المدن.

وقد كانت عيوب الإنسان في القرن التاسع عشر وثيقة الصلة بخصائص شخصيته الاجتماعية. فكان الاستغلال وجمع الثروة يُسبِّب الآلام البشرية ويُؤدِّي إلى الحط من كرامة الإنسان، كما كان سببًا في استعمار إفريقيا وآسيا بقصد استغلال ما فيهما من ثروة طبيعية، بل وسببًا في استغلال طبقة العُمَّال في أوربا ذاتها بغير رأفة دون اعتبار للقيم الإنسانية. كما أنَّ الخضوع للسلطة غير المعقولة — وهو إحدى الظواهر المرضية في القرن التاسع عشر — أدى إلى كَبْت الأفكار والمشاعر الطبيعية التي كان يحرم المجتمع إظهارها. وأشد أعراض الأمراض الاجتماعية وضوحًا في هذا القرن الكبت الجنسي الذي كثيرًا ما كان ينتهي بالمرء إلى الجنون كما كان يعتقد فرويد.

ولمَّا تنبَّه الإنسان إلى ضرورة الإصلاح في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، بدأ بمحاولة علاج أعراض هذه الأمراض الاجتماعية الرئيسية. فظهرت الاشتراكية مؤكِّدة في كل صورها — من الفوضوية إلى الماركسية — ضرورة إلغاء الاستغلال وتحويل العامل إلى رجل حرٍّ له قَدْره وله احترامه. وآمن الناس أنَّه بالقضاء على المتاعب الاقتصادية، وبتحرير العامل من سيطرة رأس المال، يُمكن أن تثمر كل جهود القرن التاسع عشر الإيجابية، ويُمكن أن تختفي كافة الشرور الاجتماعية. كما آمن فرويد في ذلك الوقت أيضًا أنَّه إذا خفَّ الكبت الجنسي قلَّت حوادث الجنون والأمراض العقلية المختلفة. وآمن الأحرار أنَّ التحرُّر التام من السُّلطة غير المعقولة يُبشِّر بعهد جديد. وهذا العلاج الذي يصفه الأحرار والاشتراكيون وعلماء التحليل النفساني من الأمراض البشرية — برغم ما فيه من أوجه الخلاف — يُلائم عِلة القرن التاسع عشر عامة. إذ من الطبيعي جدًّا أن يتوقَّع المرء من القضاء على الاستغلال والمتاعب الاقتصادية، ومن تخفيف الكبت الجنسي، والتخلُّص من السُّلطة غير المعقولة، من الطبيعي جدًّا أن يتوقَّع المرء من هذا عهدًا جديدًا فيه مزيد من الحرية ومن السعادة والتقدُّم، مِمَّا لم يعهده في القرن التاسع عشر.

وبعدما انقضى نصف قرن من الزمان تحقَّق كثير من آمال المُصلِحِين في القرن التاسع عشر. فإذا نظرنا إلى الولايات المتحدة — وهي أكثر الأمم تقدُّمًا من الناحية الاقتصادية — وَجدْنا أنَّ الاستغلال الاقتصادي قد اختفى إلى درجة يذهل لها ماركس نفسه. فالطبقة العاملة لم تعد مُتخلِّفة في موكب التقدُّم الاقتصادي للمجتمع؛ إذ قد أصبح لها نصيب لا بأس به في الثروة القومية، وإذا لم تقع كارثة غير منظورة فلن تشقى بالفقر الجماهير في الولايات المتحدة لجيل أو جيلين بعد اليوم. ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتخفيف من المتاعب الاقتصادية ما طرأ من تغيير محسوس في حقوق العامل السياسية والإنسانية، فبات شريكًا اجتماعيًّا في الإدارة عن طريق النقابات، وأُحسنت معاملته إلى درجة قصوى، وكاد أن يتساوى الرئيس مع المرءوس. وكذلك خفَّت حدة السُّلطة التي لا تقوم على أساس من العقل، فتغيَّرت العلاقة حتَّى بين الابن وأبيه. وسَرَت «روح التعاون» في الصناعة وفي الجيش، وخفَّ الكبت الجنسي إلى درجة كبيرة وبخاصة بعد الحرب العالمية الأولى.

إذن فقد بات المجتمع أصح مِمَّا كان عليه في القرن التاسع عشر. وقد شرع الإنسان يسلك طريق التقدُّم لا تعوق مسيره بخطًى حثيثة إلى الأمام سوى بعض الحكومات التي تنشأ هنا وهناك بين الحين والحين وتفرض نفوذها بالتحكُّم والتسلُّط، كالذي حدث في إيطاليا الفاشية، وألمانيا الهتلرية، وروسيا السوفيتية في بعض فترات تاريخها، فهي تُشبه — في كثير من الوجوه — الطور الأول من أطوار الرأسمالية، حينما كان العُمَّال يُستَغلُّون استغلالًا اقتصاديًّا لا هوادة فيه من أجل تضخُّم رأس المال وازدياد النفوذ السياسي اللازم لدوام الاستغلال. وهنالك من الباحثين من لا ينظر نظرة التفاؤل التي سادت في القرن التاسع عشر ومُستهل القرن العشرين، وهؤلاء يعتقدون أنَّ تحقيق آمال القرن التاسع عشر لم ينته إلى النتيجة المُرتَقبة. والواقع أنَّه بالرغم من الرفاهية المادية، والتحرُّر السياسي والجنسي، ما فتئ العالم في منتصف القرن العشرين أشد مرضًا مِمَّا كان عليه في القرن التاسع عشر. وكما قال أدلاي ستيفنسن في خطاب له بجامعة كولمبيا عام ١٩٥٤م: «لم نعد في خطر العبودية، ولكنَّا في خطر من أن نتحوَّل إلى أفراد آليين.» ليست هناك سلطة مباشرة تتحكَّم فينا، ولكنَّا نخضع لسلطة جديدة، معنوية غير شخصية، هي ضرورة التجانس مع بقية أعضاء المجتمع. في ظل هذه السُّلطة الجديدة، سلطة التجانس، لا نخضع لفرد بعينه، ولا نصطرع مع أصحاب السُّلطة والنفوذ، ولكنَّا لا نملك لأنفسنا عقائد خاصة بنا، ينعدم عند الإنسان الشعور بفرديته، بل ويكاد ألَّا يكون لديه إحساس بذاته. هذه هي عِلة القرن العشرين، وهي تختلف عن علة الإنسان في القرن التاسع عشر. وإذا لم نتدارك أنفسنا انتهينا إلى جنون مُحقَّق. وسوف أُحاول أن أُشخِّص أعراض هذه العلة فيما يلي من صفحات عندما أُعالج الشخصية الاجتماعية للرجل الغربي في القرن العشرين.

(ج) مجتمع القرن العشرين

(١) التطوُّر الاجتماعي والاقتصادي

حدثت في النظام الرأسمالي فيما بين القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين تطوُّرات أساسية في الطرق الفنية للصناعة، وفي بناء المجتمع الاقتصادي والاجتماعي. كما حدثت كذلك تطوُّرات أساسية في صفات الإنسان. وقد ذكرنا من قبل بعض الفروق التي حدثت بين رأسمالية القرن التاسع عشر ورأسمالية القرن العشرين، وهي فروق في طريقة الاستغلال، وفي السُّلطة، وفي الدور الذي لعبته الملكية. وسأُعالج فيما يلي من بحث تلك السِّمات الاقتصادية والاجتماعية في الرأسمالية المعاصرة التي تُعتبر أساسية في عصرنا الحاضر، حتَّى إن امتدَّت جذورها إلى القرن التاسع عشر أو إلى ما قبل ذلك.

ولنبدأ بذكر حقيقة سلبية: إنَّ الصفات الإقطاعية في المجتمع الغربي المُعاصر آخذة في الاختفاء، ومن ثمَّ فإنَّ صفات المجتمع الرأسمالي الخالص باتت أشد بروزًا منها فيما سلف. وقد تلاشت آثار الإقطاع في الولايات المتحدة بدرجة أشد مِمَّا حدث في غربي أوربا. فالرأسمالية في الولايات المتحدة ليست أقوى وأكثر تقدُّمًا في الولايات المتحدة منها في أوربا فَحَسْب، وإنَّما هي كذلك النموذج الذي تتطوَّر الرأسمالية الأوربية على غِراره. وهي نموذج لأوربا، لا لأنَّ دول الغرب تُحاول تقليدها فحسب، ولكن لأنَّها أكثر صور الرأسمالية تقدُّمًا، بعدما تحرَّرت من بقايا الإقطاع وقيوده. إنَّ الميراث الإقطاعي — بغض النظر عن صفاته السلبية الواضحة — له صفات إنسانية مُتعدِّدة لها جاذبية قُصوى إذا قورنت بما يترتَّب على الرأسمالية الخالصة من صفات اجتماعية. وإذا كان أهل أوربا ينقدون انعدام العنصر الإنساني في حياة الناس في الولايات المتحدة، فإنَّما مَردُّ ذلك إلى ما بقي في أوربا من القيم الإقطاعية الإنسانية العتيقة. وهو ضرب من نقد الحياة الحاضرة باسم الماضي أخذ في الاختفاء في أوربا ذاتها. والفرق بين أوربا والولايات المتحدة في هذا الشأن ليس إلَّا الفرق بين رأسمالية قديمة ولون جديد من الرأسمالية. بين رأسمالية لا تزال تعلق بها بعض آثار الإقطاع، ورأسمالية خالصة.

وأوضح تغيُّر حدث ما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين هو التغيُّر في طريقة العمل، هو زيادة استخدام الآلة البخارية، والمحركات التي تدور بطريقة الاحتراق الداخلي، والكهرباء، وبداية استخدام الطاقة الذرية. ويتميَّز هذا التطوُّر بإحلال العمل الآلي تدريجًا محل العمل اليدوي، والذكاء الآلي محل الذكاء البشري. ففي عام ١٨٥٠م كان الإنسان يقوم بما يساوي ١٥٪ من العمل، ويقوم الحيوان بما يساوي ٧٩٪ منه، والآلة بما يُساوي ٦٪، وسوف تكون النسبة في عام ١٩٦٠م بناءً على تقدير المختصين كالآتي: ٣٪ للإنسان، ١٪ للحيوان، ٩٦٪ للآلة. وسوف تطرد الزيادة في استخدام الآلات الأوتوماتيكية التي لها «ذهنها» الخاص، والتي لا بُدَّ أن تُحدث تغييرًا أساسيًا في عملية الإنتاج بأسرها.

والتغيُّر الفني في طريقة الإنتاج يتسبَّب عن زيادة تركيز رأس المال، كما يُسبِّب بدوره زيادة هذا التركيز، ويتناسب تضاؤل عدد الشركات الصغرى وأهمية هذه الشركات تناسبًا طرديًّا مع زيادة عدد المؤسسات الاقتصادية الكبرى.

وبتضخُّم شركات الإنتاج يزداد عدد الموظفين في هذه الشركات. فبينما كانت الطبقة الوسطى التي تتألَّف من الفلاحين وأصحاب المهن الحرة تُكوِّن فيما سلف نحو ٨٥٪ من جملة الطبقة الوسطى، باتت هذه الطبقة اليوم تُؤلِّف ٤٤٪ من الجملة فقط. وزادت نسبة الطبقة الوسطى الجديدة من ١٥٪ إلى ٥٦٪. وهذه الطبقة الوسطى الجديدة هي التي تتألَّف من مُديري الأعمال الذين ارتفعت نسبتهم من ٢٪ إلى ٦٪، ومن أصحاب المهن ذوي المرتبات الذين ارتفعت نسبتهم من ٤٪ إلى ١٤٪، ومن البائعين وقد ارتفعت نسبتهم من ٧٪ إلى ١٤٪، ومن عُمَّال المكاتب الذين ارتفعت نسبتهم من ٢٪ إلى ٢٢٪، وقد زادت الطبقة الوسطى الجديدة في جملتها من ٦٪ إلى ٢٥٪ من مجموع القوى العاملة ما بين عام ١٨٧٠م وعام ١٩٤٠م، في حين أنَّ العُمَّال المأجورين قد هبط عددهم من ٦١٪ إلى ٥٥٪ من القوى العاملة في نفس هذه الفترة. أو كما يقول ملز في إيجاز: «لقد قلَّ عدد الأفراد الذين يتناولون الأشياء بأيديهم، وزاد عدد من يتناولون شئون الناس ويشتغلون بالأرقام والرموز.»

وبازدياد أهمية المشروعات الكبرى حدث تطوُّر آخر له خطورته، وذلك هو ازدياد الفصل بين الإدارة والملكية. فكلما تضخَّم المشروع ازداد عدد المُساهمين فيه نسبيًّا، واشتد الفصل بين ملكية الأسهم وإدارة المشروع، كما قلَّت نسبة الإسهام للفرد الواحد. أمَّا كيف تُراقب الإدارة سير المشروع بالرغم من أنَّ أعضاءها لا يعلمون إلَّا جانبًا يسيرًا منه فمشكلة اجتماعية سيكولوجية سنُعالجها فيما بعد.

وتطور أساسي آخَر حَدَث فيما بين القرن التاسع عشر والرأسمالية المعاصرة، وهو ازدياد أهمية السوق المحلية. إنَّ دولابنا الاقتصادي بِأسْرِه يقوم على أساس مبدأ الإنتاج الكبير والاستهلاك الضخم. وقد كان الاتجاه العام في القرن التاسع عشر هو التوفير، وعدم التورُّط في الإنفاق الذي لا يُعوَّض في الحال. أمَّا النظام الحالي فعلى نقيض ذلك تمامًا. فكل امرئ يقع تحت إغراء كثرة الشراء، بل وقبل أن يتوفَّر لديه ثمن ما يشتريه. والحاجة إلى الاستهلاك تقع تحت تأثير ضغط الإعلان وجميع الوسائل السيكولوجية الأخرى. ويسير هذا التطوُّر جنبًا إلى جنب مع ارتفاع الوضع الاقتصادي والاجتماعي لطبقة العُمَّال. هذه الطبقة في الولايات المتحدة، وفي أوربا كذلك، تُسهم في زيادة الإنتاج؛ ومرتَّب العامل، ومزاياه الاجتماعية، تسمح له بمستوًى من الاستهلاك لم يكن ليحلم به أحد منذ قرن مضى، وقد ارتفع نفوذ العامل الاجتماعي والاقتصادي إلى هذه الدرجة عينها، لا فيما يتعلَّق بالمُرتَّب والمزايا الاجتماعية فحسب. ولكن كذلك فيما يتعلَّق بالدور الإنساني والاجتماعي الذي يلعبه في المصنع.

وتتلخَّص أهم العناصر التي تتميَّز بها رأسمالية القرن العشرين في اختفاء صفات الإقطاع، واطراد الزيادة في الإنتاج الصناعي زيادة ثورية، واشتداد تركيز رأس المال، وتضخُّم العمل والحكومة، وازدياد عدد الناس الذين يشتغلون بالأرقام وبالإشراف، والفصل بين الملكية والإدارة، ونهوض الطبقة العاملة اقتصاديًّا وسياسيًّا، واتباع طرق العمل الحديثة في المصنع وفي المكتب.

ولننظر الآن إلى هذه العناصر الجديدة من زاوية أخرى. إنَّ اختفاء العوامل الإقطاعية معناه اختفاء السُّلطة غير المعقولة. فلا يفضل الجار جاره بالميلاد، أو بإرادة الله، أو بالقانون الطبيعي، فقد أمسى الناس جميعًا أحرارًا متساوِين، لا يستغل أحدهم الآخر أو يتأمَّر عليه بحق طبيعي. فإن تأمَّر فرد على آخر فذلك لأنَّ الآمر قد اشترى من المأمور عمله أو خدماته في سوق العمل. وهما برغم هذا التأمُّر حُرَّان متساويان، يُمكنهما أن يتعاقدَا وأن يفضَّا ما بينهما من تَعاقُد. ومَهما يكن الأمر بشأن السُّلطة غير المعقولة، فقد باتت السُّلطة المعقولة فكرة عتيقة كذلك. فمتى كانت السوق والتعاقد تنظم العلاقات، لم تعد ثمَّة حاجة لمعرفة الخطأ والصواب، أو الخير والشر. أو حاجة إلى من يرشد إلى ذلك فتكون له الكلمة العليا على غيره من المسترشدين. كل ما تجب معرفته هو أنَّ الأمور فيها «عدالة» — فالتبادل عادل وعجلة الأمور تدور في يُسْر، وكل شيء يؤدِّي وظيفته.

ومن الحقائق الأخرى ذات الأثر الحاسم في حياة الإنسان في القرن العشرين، التي تُسيطر عليه وتتحكَّم فيه، الإنتاج الضخم الذي يكاد أن يبلغ حد الإعجاز. وقد بات الإنسان يتسلَّط على قُوًى أشد بألوف المَرَّات من القوى التي أمدَّته بها الطبيعة من قبل. فالبخار، والزيت، والكهرباء، أمست في خدمة الإنسان. وهو يعبر المحيطات والقارات في ساعات؛ وهو يطير في الهواء مُتغلِّبًا على قانون الجاذبية؛ وهو يقلب الصحراوات إلى أراضٍ خصبة، ويُسْقط الأمطار بعلمه بعدما كان يدعو الآلهة أن تُسقطها.

وقد أدَّت معجزة الإنتاج إلى معجزة الاستهلاك. فلم تعد هناك حواجز تقليدية تحوُل دون أن يشتري المرء ما يُعْجَب به. ليس عليه إلَّا أن يحصل على المال. والمال يتوفَّر لعدد من الناس يأخذ في الازدياد يومًا بعد يوم، بقدر يُمكِّنهم من شراء الأحجار الجميلة الزائفة إن لم يستطيعوا شراء الأحجار الكريمة، ويُمكِّنهم من الحصول على السيارات الصغيرة إن لم يستطيعوا الحصول على السيارات الكبيرة، ويُمكِّنهم من شراء الأزياء الرخيصة التي تُشبه الأزياء الثمينة، والتبغ الذي يُدخِّنه أصحاب الملايين كما يُدخِّنه العُمَّال. لقد أضحى كل شيء في متناول اليد، يُمكن شراؤه ويمكن استهلاكه. وإنَّها لمعجزة لم تحدث لأي مجتمع سبق.

ومن سمات هذا العصر كذلك أنَّ الناس يتجمَّعون ويعملون معًا. تراهم يتزاحمون في العربات وفي القطارات وفي المكاتب والمصانع. كل منهم جزء من كل؛ يتدفَّقون إلى أعمالهم صباحًا، ويعودون إلى بيوتهم مساءً، يُطالعون الصحف عينها ويستمعون إلى الإذاعات ذاتها، ويُشاهدون الصور المتحركة نفسها، سواء منهم من ارتفع في سُلم المجتمع أو من كان في أسفله، وسواء منهم الذكي والغبي، والمُتعلِّم وغير المُتعلِّم، إنَّهم يُنْتِجون معًا، ويستهلكون معًا، ويستمتعون معًا، كلهم يسير قُدمًا لا يقف بُرهة یُسائل فيها نفسه إلى أين المسير؟

أي نوع من الرجال إذن يحتاج هذا المجتمع الحديث؟ وما هي الشخصية الاجتماعية التي تُلائم رأسمالية القرن العشرين؟

إنَّ مجتمع القرن العشرين بحاجة إلى رجال يتعاونون في يُسر في مجموعات كبيرة، رجال يطمعون في زيادة الاستهلاك، أذواقهم مُتَّحِدة مُتساوية، ومن السهل التأثير فيهم والتنبُّؤ برغباتهم.

مجتمع القرن العشرين يحتاج إلى رجال يشعرون بالحرية والاستقلال، لا يخضعون لأي سلطان، أو مبدأ، ولكنَّهم — برغم هذا — يُحبُّون أن يُؤْمَروا، وأن يصدعوا بما يُؤْمَرون به، وأن يُسايروا عجلة الاجتماع بغير احتكاك. وهنا نتساءل: كيف يمكن إرشاد الإنسان بغير قوة، وكيف يُمكن أن يُقاد بغير قائد، وأن يُسْتَحث لغير هدف، اللهم إلَّا إنْ كان الهدف أن يكون دائمًا على أهبة، وأن يؤدِّي وظيفته فحسب، وأن يسير قدمًا لا يلتفت يمينًا أو يسارًا؟

(٢) تطوُّر صفات الشخصية الاجتماعية

(أ) التفكير بِالْكَم وبالرمز

عند تحليل الشخصية الاجتماعية للإنسان المعاصر ووصف هذه الشخصية، يستطيع الباحث أن يُعالج الموضوع من زوايا مختلفة، كما يفعل عندما يُحلِّل شخصية الفرد. وتختلف هذه الزوايا في عمق التحليل في ناحية من النواحي، أو تتفق في عمقها ولكنَّها تتجه اتجاهات متباينة، يختارها الباحثون طبقًا لاهتماماتهم.

وقد اخترت في التحليل التالي فكرة «الانفصال» أو وحشة الإنسان في العالم الذي يعيش فيه وضعف ارتباطه به، واتخذت هذه الفكرة نقطة البداية التي يتفرَّع عنها تحليل الشخصية الاجتماعية المعاصرة؛ وذلك أولًا لأنَّ هذه الصفة تمس أعمق أعماق الشخصية الحديثة، وثانيًا لأنَّها أنسب الأفكار لبداية البحث إذا اهتم الباحث بالتفاعل بين البناء الاجتماعي الاقتصادي المعاصر وبناء الشخصية للفرد العادي.

ويجب أن نُقدِّم موضوع «الانفصال» بالتحدُّث عن إحدى الصفات الاقتصادية الأساسية للرأسمالية، وأقصد بها صفة التفكير بالكميات وبالرموز الرقمية.

كان الصانع في العصور الوسطى ينتج السلع لمجموعة من الزبائن صغيرة ومعروفة نسبيًّا. وكانت حاجته إلى الكسب الذي يسمح له بالعيش على المستوى اللائق بمكانته الاجتماعية، كانت هذه الحاجة هي التي تُحدِّد سعر ما ينتج من سلع. وكان بالتجربة يعرف تكاليف الإنتاج، ولا تتطلَّب منه هذه العملية إعداد الميزانية أو إمساك دفاتر الحساب إلَّا بصورة في غاية البساطة. وكذلك كان الفلاح المزارع فيما يختص بإنتاجه، لا يعرف التفكير بالكميات أو بالرموز المجردة. أمَّا مشروعات العمل الحديثة فعلى نقيض ذلك تتوقَّف على الموازنة المالية ولا يُمكن أن تعتمد على الملاحظة المحسوسة المباشرة، كما كان يفعل الصانع في العصور الوسطى في حساب مكسبه. فالمواد الخام، والآلات، وتكاليف العمل، والإنتاج، تُقوَّم بالمال، وتقارن وتوازن. وكل عملية اقتصادية يجب أن تحسب حسابًا عدديًّا دقيقًا. ولا يستطيع مدير العمل — إلَّا بواسطة الميزانية، والمقارنة الدقيقة بين العمليات الاقتصادية مُقدَّرة تقديرًا عدديًّا — أن يحكم إن كان عمله مكسبًا مفيدًا، وإلى أي مدى يبلغ الكسب والفائدة.

وهذا التحوُّل من المحسوس إلى المجرد قد تطوَّر تطوُّرًا كبيرًا، ولم يقتصر على كشوف الميزانية وتعداد كل عملية اقتصادية في مجال الإنتاج. فرجل الأعمال في العصر الحديث لا يتعامل بألوف الجنيهات فحسب، بل يتعامل كذلك مع ألوف الزبائن، والألوف من حمَلة الأسهم، وألوف العُمَّال والموظَّفِين. وقد أصبح كل هؤلاء أجزاء من آلة ضخمة تنبغي إدارتها، كما ينبغي حساب شئونها. وليس الفرد في هذه الآلة الضخمة سوى رقم من الأرقام أو وحدة مُجرَّدة لا حياة فيها. وعلى هذا الأساس تُحسب العمليات الاقتصادية، وتخطط الاتجاهات، وتصدر القرارات.

ولا تجد اليوم أكثر من عشرين في المائة من السكان العاملِين يعملون لحساب أنفسهم، أمَّا الباقي فيعمل لغيره. وتتوقَّف حياة الفرد من هؤلاء على شخص آخر يدفع له أجره أو راتبه. بل لعلَّه من الأصح أن نقول إنَّ حياته تتوقَّف على «شيء» آخر لا على «شخص» آخر؛ لأنَّ العامِل يُعيَّن ويُفصل طبقًا لنظام من النظم، مديروه أجزاء من المشروع بحكم عملهم لا بحكم أشخاصهم، وليسوا أفرادًا أحياءً ذوي اتصال شخصي بالرجال الذين يستخدمون. ودعنا في هذا الصدد لا ننسى حقيقة أخرى، وهي أنَّ التبادل في المجتمع الذي سبق النظام الرأسمالي كان إلى حدٍّ كبير تبادلًا بين السلع والخدمات، أمَّا اليوم فالعمل يُكأفا بالمال. فالمال هو الذي ينظم دولاب العلاقات الاقتصادية، والمال تعبير رقمي مُجرَّد عن قيمة العمل؛ أي إنَّنا نتبادل كمًّا بنوع. وإذا استثنينا المزارعين، لم نجد أحدًا يستطيع العيش أكثر من بضعة أيام دون أن يحصل على مال أو ينفق مالًا؛ لأنَّ المال هو الرمز الرقمي الذي يُمثِّل العمل المحسوس.

ومِمَّا يزيد من الرمزية والتجريد في حياتنا العملية المبالغة في تقسيم العمل في نظام الإنتاج الرأسمالي الذي نعيش في ظله. إنَّ تقسيم العمل بوجه عام موجود في أكثر النظم الاقتصادية المعروفة، وحتَّى في الأوساط البدائية نجد هذا التقسيم قائمًا بين الجنسين، الذكر والأنثى. ولكن الإنتاج الرأسمالي يتميَّز بالدرجة القصوى التي تطوَّر إليها هذا التقسيم. أمَّا في اقتصاد العصور الوسطى فقد كان هناك تقسيم للعمل بين الإنتاج الزراعي والعمل الصناعي في دائرتين كبيرتين. ولم تتفتت هاتان الدائرتان من دوائر الإنتاج بالتقسيم الداخلي الدقيق. فكان النجَّار الذي يصنع المقعد أو المائدة يصنعهما كاملين. وحتَّى إن قام له تلاميذه ببعض العمل التحضيري فقد كان يُسيطر على عملية الإنتاج، ويُشرف عليها بأكملها من قطع الأخشاب إلى إخراج القطعة المطلوبة في صورتها النهائية. أمَّا في الصناعة الحديثة فالعامل ليس على صلة بالإنتاج كله في أيَّة مرحلة من مراحله. إنَّه يشتغل بأداء عمل معين يتخصَّص له، وقد يتنقَّل أثناء العمل من وظيفة إلى أخرى، ولكنَّه لا يتصل بالإنتاج كعملية كاملة يُحيط بها من جميع أطرافها. وهو في الأغلب يزداد تخصُّصًا وانحصارًا في اتجاه معين كلما ثابر على العمل. ويُمكن تعريف وظيفة العامل الصناعي الحديث بأنَّها الاشتغال بطريقة آلية في عمل لم تُخْتَرع له بعد الآلة التي تُؤدِّيه، أو عمل المجهود البشري فيه أقل في تكاليفه من استخدام الآلات. والشخص الوحيد الذي له علاقة بالإنتاج الكامل هو المدير. بيد أنَّ الإنتاج بالنسبة إليه ليس سوى فكرة مُجرَّدة، وأهم ما يأبه به قيمة الإنتاج التبادلية في السوق. في حين أنَّ العامل الذي يُدرك الإنتاج إنتاجًا محسوسًا ملموسًا لا يشتغل به قط كعملية كلية.

وليس من شكٍّ في أنَّه لا يُمكن بغير التفكير بالكميات والرموز أن يقوم الإنتاج الكبير في العصر الحديث. بيد أنَّ التفكير المجرد بالكميات وبالرموز — في مجتمع بات النشاط الاقتصادي فيه أهم ما يشغل الإنسان — قد تجاوز دائرة الإنتاج الاقتصادي وشمل موقف الإنسان من الأشياء، ومن الناس، بل ومن نفسه.

ولكي نفهم فكرة التفكير الرمزي المُجرَّد عند إنسان العصر الحديث ينبغي أن ندرك أولًا وظيفة هذا اللون من ألوان التفكير عامة. من الواضح المعروف أنَّ الفكر المُجرَّد في حد ذاته ليس حديثًا في تاريخ الإنسان، وأنَّ ازدياد القدرة على صياغة التعابير المُجرَّدة صفة من صفات التقدُّم الثقافي للجنس البشري. فإن أنا تحدَّثت عن «المائدة» فأنا أستعمل تعبيرًا مُجرَّدًا، ولا أُشير إلى مائدة بعينها بكل خصائصها المحسوسة، وإنَّما أُشير إلى نوع «المائدة» الذي يشتمل على كل الموائد المحسوسة التي يُمكن وجودها. وإن أنا تحدَّثت عن «الإنسان» فأنا لا أتحدَّث عن هذا الشخص أو ذاك، بكل خصائصه المحسوسة وصفاته الفردية، وإنَّما أتحدَّث عن نوع «الإنسان» الذي يشمل كل الأفراد. أو بعبارة أخرى أقوم بعملية تجريد وانتقال من المحسوس إلى المعنوي المُجرَّد، وتقدُّم التفكير الفلسفي والعلمي إنَّما يقوم على أساس زيادة القدرة على هذا التجريد. والتخلِّي عن التجريد معناه العودة إلى الطريقة البدائية في التفكير.

وهناك نوعان من العلاقة التي تنشأ بين الفرد وأي شيء من الأشياء. يستطيع الفرد أن يُنشئ العلاقة بين نفسه وبين الشيء بكل خصائصه المحسوسة، فيبدو له بكل صفاته الخاصة به، فريدًا في نوعه لا يتَّفق غيره معه في مجموع هذه الصفات. ويستطيع أن يُنشئ العلاقة بين نفسه وبين هذا الشيء في صورته المُجرَّدة، فلا يلتفت إلَّا إلى الصفات التي يشترك فيها هذا الشيء مع الأشياء الأخرى التي من نوعه، وبذا يُبرز بعض الصفات ويهمل بعضها الآخر. والعلاقة الكاملة المُنتجة بشيء من الأشياء تشمل هذين النوعين من أنواع العلاقات، فيراه الرائي في صورته الفردية كما يراه في صورته العامة، أو يراه محسوسًا كما يراه مُجرَّدًا.

وفي الثقافة الغربية المعاصرة تلاشت هذه العلاقة ذات الوجهين، ولم تبق إلَّا العلاقة التي ترمز إلى الصفات المُجرَّدة للأشياء والناس وحدها، مع إهمال العلاقة بين الفرد والأشياء محسوسة مُتفرِّدة. وبدلًا من تكوين الآراء المُجرَّدة عندما تكون ضرورية ونافعة، ترانا نُجرِّد كل شيء، بما في ذلك أنفسنا. إنَّ الحقيقة الملموسة للناس والأشياء التي نستطيع أن نُنشئ العلاقة بينها وبين حقيقة أشخاصنا تتوارى لتحل محلها الحقائق المُجرَّدة، أو الأشباح التي يتمثَّل فيها مختلف الكميات ولا يتمثَّل فيها مختلف الأنواع.

فمن المألوف جدًّا أن نتحدَّث عن جسر أو عن ساعة أو عن سيجار، قيمته كذا من الجنيهات أو القروش كوصف أساسي للشيء يصفه به الصانع والمستهلك على السواء. فإذا قلت مثلًا: إنَّ هذا الجسر قيمته كذا من الجنيهات. استبعدت من تفكيرك فائدته وجماله، أي استبعدت صفاته المحسوسة، وتحدَّثت عنه كسلعة من السلع، صفتها الأساسية قيمتها التبادلية، معبر عنها بالكمِّ، أي بالمال، وليس معنى هذا — بطبيعة الحال — أنَّ المُتحدِّث لا يأبه بفائدة الجسر أو بجماله، وإنَّما معناه أنَّ قيمته المحسوسة «أو منفعته» في المحل الثاني بالنسبة إلى قيمته المجردة، أي قيمته التبادلية.

وبعبارة أخرى إنَّنا نتصل بالأشياء كسلع، أو مجسدات لقيم تبادلية، وليس ذلك فقط عندما نشتري أو نبيع، وإنَّما كذلك عندما ننظر إليها بعدما يتم التبادل الاقتصادي. فالشيء حتَّى بعد شرائه لا يفقد صفته كسلعة بهذا المعنى، إذ يحتفظ دائمًا بقيمته التبادلية. فالمرء قد يشتري بيتًا يسكنه أو سيارة يركبها. بَيْد أنَّه طالما يملك البيت والسيارة لا تبرح ذهنه فكرة ارتفاع الثمن أو هبوطه. ولا ينصرف ذهنه إلى فائدة البيت أو السيارة انصرافًا كليًّا. وإنَّما يسُرُّه أن يسمع أنَّ سعرهما قد ارتفع في السوق، ويسوءُه أن يسمع أنَّ سعرهما قد هبط. وقد يبيع السيارة مثلًا بعد استخدامها بعام أو عامين في حين أنَّها لم تزل نافعة لمجرد ارتفاع سعرها في السوق؛ أي إنَّه لا يستنفد نفعها.

ويحدث هذا التجريد أيضًا عند التفكير في الظواهر التي ليست سلعًا تُباع في السوق، ككارثة فيضان نهر من الأنهار مثلًا، فتنشر الصحف خبر الكارثة مشفوعًا بتقدير الخسائر بالجنيهات. ولا يشغل الأذهان إلَّا التقدير الكمي المُجرَّد للكارثة، بغضِّ النظر عن الآلام البشرية المحسوسة التي ترتَّبت عليها.

ومن العجيب أنَّ هذه النظرة التجريدية التي تُقرِّر الأمور بالكم، أو بالمال، تتجاوز الأشياء إلى الناس، فترانا ننظر إلى الفرد باعتباره تجسيدًا لقيمة كمية مالية، فنقول: هذا الرجل يملك مليونًا من الجنيهات (أو بالتعبير الإنجليزي «يُساوي» مليونًا من الجنيهات). ونحن بهذه الصفة لا نتحدَّث عنه كإنسان محسوس من البشر، وإنَّما نتحدَّث عنه كفكرة مُجرَّدة، يُمكن التعبير عن حقيقته برقم من الأرقام. وقد تقرأ في صحيفة من الصحف نعيًا كهذا: «وفاة صانع أحذية» والواقع أنَّ «رجلًا» قد مات، رجلًا له صفات بشرية معينة. وله آماله وآلامه، وله زوجه وأطفاله. حقًّا إنَّه كان يصنع الأحذية، أو على الأصح كان يملك ويدير مصنعًا يقوم فيه العُمَّال على الآلات التي تصنع الأحذية، غير أنَّا حينما نقول: «إنَّ صانع أحذية قد مات.» نُعبِّر عن الحياة البشرية الغنية المحسوسة في صيغة مُجرَّدة للوظيفة الاقتصادية.

وهذا التجريد الفكري نلمسه كذلك في عبارة كهذه: «أنتج المستر فورد عددًا من السيارات.» أو كهذه: «هذا القائد غزا قلعة من القلاع.» أو حينما يبني امرؤ لنفسه بيتًا فيقول: «بنيت بيتًا»، وإذا وضعنا في اعتبارنا الواقع الملموس عرفنا أنَّ المستر فورد لم يصنع السيارات، وإنَّما وجَّه إنتاجها الذي قام به آلاف العُمَّال. ولم يَغزُ القائد القلعة، وإنَّما قام الجند بالغزو حينما كان يجلس هو في مقرِّ رئاسته يُصْدِر الأوامر، ولم يبنِ الرجل بيتًا. وإنَّما دفع المال لمهندس قام بالرسم، وللعُمَّال الذين قاموا بالتنفيذ الفعلي. ولست أذكُر هذا كله للإقلال من شأن عمليات الإدارة والتوجيه، وإنَّما أذكره لكي أُبيِّن أنَّ معالجة الأشياء بهذه الطريقة يُفقدنا النظرة السليمة لما يتم فعلًا في الواقع المحسوس، ويحملنا على أن ننظر النظرة التجريدية التي نرى بها عملًا واحدًا — هو التمويل، أو إصدار الأوامر، أو تصميم الرسم — كأنَّه عملية الإنتاج المحسوسة بأسْرها، أو كأنَّه القِتال، أو البناء، أو ما إلى ذلك.

وإليك مثالًا آخر من التجريد في ميدان آخر؛ ذلك هو تسعير الشهادات، فيُقال مثلًا: إنَّ حامل الدكتوراه يتقاضى كذا في العام الواحد. كأنَّ للعلم قيمة تبادلية في سوق الأشخاص. وقد امتدَّت التعابير المادية إلى القيم المعنوية، فنقول مثلًا: إنَّ رأس مال زيد من الناس ثقة الناس فيه. فنُعبِّر عن صفة بشرية ممتازة كالثقة في صيغة تتجرَّد عن هذا المعنى السامي، ونُعاملها كأنَّها نَقْد مُتداوَل في السوق.

وهذا التجريد في التفكير يتزايد مع تطوُّر التاريخ. فالإنسان كان في قديم الزمان فردًا في قبيلة، وكانت القبيلة هي «العالم»، وكانت مركز الكون في أعين أفرادها. كل ما ليس فيها مُظلم وليس له وجود مستقل. وفي القرون الوسطى اتسع نطاق الكون، فشمل الأرض والسماء والنجوم. بَيْد أنَّ الأرض كانت هي المركز والإنسان هو الغرض من الخليقة. فكان لكل شيء مكانه المُحدَّد، كما كان لكل فرد مركزُه المُعيَّن في المجتمع الإقطاعي. ثمَّ تفتَّحت آفاق جديدة بحلول القرنين الخامس عشر والسادس عشر. ففقدت الأرض مكانتها وأصبحت تابعًا من توابع الشمس، واكْتُشِفت قارات جديدة، وممرات بحرية جديدة، وأخذ النظام الاجتماعي الجامد في التحلُّل شيئًا فشيئًا، وبات كل شيء وكل امرئ في حركة دائبة. وبرغم ذلك فإنَّ الطبيعة والمجتمع حتَّى نهاية القرن التاسع عشر لم يَفقِدَا ما تميَّزَا به من محسوسية وتحديد. ولم يفتأ العالم الطبيعي والاجتماعي عند الإنسان قابلًا للتناول، ولكن بتقدُّم التفكير العلمي، والمكتشفات الفنية العملية وانحلال القيود التقليدية، بدأت محسوسية الدنيا وتحديدها تفقد وجودها، فالصورة الكونية الجديدة، والطبيعيات النظرية، والموسيقى الحديثة، والفن التجريدي؛ كل ذلك يُشير إلى أنَّ محسوسية الدنيا وتحديدها قد بدأت في التلاشي من فِكْر الإنسان، فلم نعد مركز الكون، ولم يعد الإنسان الهدف الأسمى من الخليقة، ولم نعد بعد اليوم سادة العالم الذي بوسعنا أن نتناوله وأن ندركه إدراكًا شاملًا. بل لقد أمسى الإنسان ذرة، أو أمسى لا شيء، تائهًا في فراغ الكون، لا يرتبط ارتباطًا محسوسًا بأي شيء. وأصبحنا نتحدَّث عن قتل الملايين، وعن إبادة ثُلث سكان العالم لو نشبت حرب ثالثة، ونتحدَّث عن ملايين الجنيهات كقرض وطني، وعن آلاف السنوات الضوئية كمسافات بين الكواكب، وعن السفر في الفضاء، وعن الأقمار الصناعية. وعشرات الألوف من البشر يعملون في مشروع واحدٍ، ومئات الألوف يعيشون في مئات المدن. فأنَّى للفرد أن يحس بهذا العالم إحساسًا مباشرًا؟!

إنَّ المقاييس التي نتعامل بها أرقام وتجريدات، تتجاوز حدود التجربة الحسية. وكل معاييرنا أضخم من أن نتحكَّم فيها بحواسنا وبمقاييسنا البشرية. وفكرتنا عن العالم أبعد مدًى عن إمكانيات أعيننا وآذاننا.

ولذلك أهمية خاصة فيما يتعلَّق بتطوُّر وسائل التخريب الحديث. يستطيع الفرد الواحد في الحرب الحديثة أن يقتل مئات الألوف من الرجال والنساء والأطفال. وهو يستطيع ذلك بمجرد الضغط على زرٍّ من الأزرار. وقد لا ينفعل انفعالًا عاطفيًّا للعمل الذي يقوم به؛ لأنَّه لا يرى ولا يعرف الشعوب التي يعمل فيها القتل والفتك. وكأنَّ ضغطه على الزر وموت الناس عمليتان لا علاقة لإحداهما بالأخرى. وقد يكون مُحرِّك الآلة المدمِّرة المُتسبِّب في قتل الألوف من البشر، أضعف من أن يصفع أحدًا من الناس، بَلْه أن يقتل رجلًا؛ لأنَّه إنسان عاجز بطبيعته، وذلك لأنَّه عندما يصفع غيره يُثير فيه الموقف الملموس وخزًا في ضميره. وهو عندما يقتل الآلاف بالضغط على الزرِّ لا يحدث مثل ذلك؛ لأنَّ عمله وهدفه ينفصلان عن نفسه، ويتجرَّد عنهما. وكأنَّ عمله ليس له، وكأنَّما للعمل حياته ومسئوليته الخاصة.

إنَّ العلم، والعمل، والسياسة، قد فَقدت كل الأُسس والنِّسَب التي تترجمها إلى معانٍ بشرية. إنَّنا نعيش في أرقام وفي رموز مُجرَّدة. ليس هناك محسوس ولا واقع. وكل شيء مُمكن واقعيًّا وخلقيًّا. والخرافة العلمية لا تختلف عن الحقيقة العلمية. وابتعد الإنسان عن كل موضع مُحدَّد يستطيع أن يقف فيه مشرفًا ومدبرًا لحياته وحياة المجتمع. إنَّ القوى التي خلقها الإنسان بنفسه أصلًا تزيد من إبعاده يومًا بعد يوم. وفي هذه الدوامة المريعة يقف الإنسان في تيهٍ من الفكر، يحسب الحساب ويعد العدد، ويشغل ذهنه بالرموز المُجرَّدة. وهو يزداد بُعدًا عن الحياة المحسوسة الملموسة.

(ب) الانفصال

إنَّ ما قدَّمت من بحث في طريقة التفكير بالرمز المُجرَّد يؤدِّي بنا إلى الموضوع الأساسي، وهو أثر الرأسمالية في تكوين الشخصية، أو ما أُسمِّيه «بالانفصال»؛ أي بعد الإنسان عن الاتصال المباشر المحسوس بالحوادث والأشياء.

وهذه الظاهرة النفسية تجعل المرء يُحس بأنَّه غريب في هذه الدنيا، بل غريب عن نفسه. لا يشعر أنَّه مركز العالم، أو أنَّه خالق لعمله، مُتحكِّم فيه. فقد باتت أعماله وما يترتَّب عليها سيدة عليه، مُتحكِّمة فيه، يُطيعها، بل يُقدِّسها وربما يعبدها. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المعبود عملًا، أو حكومة، أو دولة، أو طبقة، أو حاكمًا فردًا، أو اتجاهات ذاتية غير معقولة؛ لأنَّ الشخص الذي تدفعه شهوة السلطان لا يشعر بنفسه ككائن بشري له ثروته النفسية ومداه الذي لا يُحَد. وإنَّما يُمسي عبدًا خاضعًا لميل قوي في نفسه يُنفِّس عنه في أهداف خارجة عنه تملك عليه نفسه ولا يملكها. ومن أمثلة هؤلاء من يعشق المال فيجعل منه وثنًا معبودًا له. وليس المصاب بالنورستانيا بهذا المعنى سوى شخص يشكو «الانفصال»، أعماله تتحكَّم فيه وليست ملكًا له، وقد يكون مخدوعًا فيحسب أنَّه يعمل ما يُريد، والواقع أنَّه مدفوع بعوامل تنفصل عن نفسه، وتعمل من وراء ظهره، إنَّه غريب عن نفسه، كما أنَّ غيره غريب عنه. وهو لا يتصل بنفسه ولا يتصل بغيره كما هم في الواقع، ولكن في حالة مُنحرفة من أثر القوى اللا شعورية التي تفعل فعلها فيهم. والشخص المجنون هو الشخص «المنفصل انفصالًا مُطلقًا»، الذي فقد نفسه تمامًا كمركز تتجمَّع فيه خبراته الخاصة، وفقد إحساسه بذاته ككائن مستقلٍّ له كيانه الخاص الذي لا يتوقَّف على شيء سواه.

إنَّ عبادة الأوثان، وحب الغير حب عبادة، وتقديس الزعماء، والعبادة الوثنية لميول خارجة عن النفس لا تستند إلى عقل، كعبادة المال، كل هذه ظواهر تشترك في عملية الانفصال. وفي كل هذه الحالات لا يحيا المرء حياته باعتباره الحامل الإيجابي لقواه الشخصية وثروته النفسية الذي يُؤثِّر ولا يتأثر، وإنَّما يحيا حياته باعتبارها «شيئًا» ناقصًا مفتقرًا، غير مكتفٍ بذاته، مُعتمدًا على قوى خارجة عن نفسه خلع عليها مادته الحيوية.

والانفصال ظاهرة قديمة تختلف صورته من ثقافة إلى ثقافة. وهو في مجتمعنا الحديث يكاد أن يكون شاملًا كاملًا. فهو يتغلغل في العلاقة بين الإنسان وعمله، وبينه وبين الأشياء التي يستهلكها، وبينه وبين الدولة، وبين غيره من الناس، بل وبينه وبين نفسه. فقد خَلَق الإنسان عالمًا من الأشياء التي صنعها بنفسه ولم يكن لها وجود من قبل. وأنشأ أداة اجتماعية مُعقَّدة تُدير الآلة العملية الفنية التي أوجدها. ومع ذلك فإنَّ هذا الذي خلقه الإنسان كله يرتفع عنه ويبتعد منه. فهو لا يحس نفسه خالقًا، ومركزًا لهذه المخلوقات، بل خادمًا لوثنٍ صنعه بيديه. وكلَّما قويت وتضخمت القوى التي يطلقها زاد شعوره بالعجز ككائن بشري. إنَّه يُواجه القوى الخارجية التي أوجدها مُجسَّدة في أشياء خلقها بنفسه، ثمَّ فصلها عن نفسه، إنَّه إنسان تملكه مخلوقاته. ولا يملك نفسه.

ماذا يحدث «للعامل» في هذا النظام؟ يقول أحد الباحثين الثقاة في شئون الصناعة ما يلي: «في الصناعة يتحوَّل الشخص إلى ذرة اقتصادية تُنفِّذ ما تُمليه عليها الإدارة. وكأنَّها تقول له مكانك هنا لا تبرحه. وعلى هذه الصورة ينبغي أن يكون وقوفك أو جلوسك. حرِّك ذراعك كذا بوصة في مدى نصف قطر طوله كذا في مدى كذا من الزمن.»

«العمل يمعن في التكرار وعدم الحاجة إلى التفكير فيه، وذلك كلَّما انتزع المُخطِّطون والمُدبِّرون والمُديرون الفنيون من العامل حقَّه في التفكير وحرية الحركة. إنَّ الحياة تُنكر على صاحبها، وحاجة المرء إلى السيطرة، وإلى الخلق والإبداع، وإلى التطلُّع البعيد، وإلى التفكير المستقل، مكبوتة مُعطَّلة. والنتيجة الحتمية لذلك إمَّا أن يَفرَّ العامل أو يُقاتل، أن يتبلَّد حسه أو يلجأ إلى الهدم والتحطيم، وفي ذلك تراجع وتقهقر في تطوُّر نفسية الإنسان.»

ولا ينجو مُدير العمل من داء الانفصال. حقًّا إنَّه يُدير المشروع ككلٍّ، ولا يُدير جزءًا من العمل فحسب. بيْد أنَّه ينفصل عن الإنتاج كشيء نافع محسوس، فهو عنده كميات وأعداد. وليس له من هدف إلَّا أن يستخدم رأس المال الذي يسهم فيه غيره استخدامًا مُربحًا، تهمه مصلحة المالك ولا تُهِمُّه مَصلحة المستهلِكِين. وذلك بالرغم من أنَّ مدير العمل الحديث الذي يتقاضى راتبًا على إدارته يختلف عن المدير القديم الذي كان يملك ويُدير في آنٍ واحد، فهو لا يهتم بمقدار الربح الذي يتناوله المساهمون بمقدار اهتمامه بالكفاية الإنتاجية وبالتوسُّع في المشروع. وجدير بنا هنا أن نُنوِّه إلى أنَّ المديرين — في المشروعات الحديثة — المسئولين عن علاقات العُمَّال بالإدارة وبالعمل، وعن البيع والتوزيع — أي المسئولين عن التعامل مع الناس عُمَّالًا كانوا أو عملاء — أهم نسبيًّا من المديرين المسئولين عن الناحية الفنية في الإنتاج.

والمُدير والعامل — كغيرهما — يتعاملان مع عمالقة وهمِيِّين: عملاق المشروع الذي يُنافس غيره من المشروعات، وعملاق السوق المحلية والدولية، والعملاق المُستهلك الذي يجب إغراؤه واجتلابه بكل الوسائل، وعملاق النقابات، وعملاق الحكومة. ولكل عملاق من هؤلاء العمالقة حياته الخاصة وهو يُحدِّد نشاط المدير ويُوجِّه نشاط العامل والمُوظَّف والكاتب.

وتُنبِّهنا مشكلة الإدارة إلى ظاهرة من أهم الظواهر في الحياة الانفصالية، التي يستوحش فيها المرء في هذا الكون. وأقصد بها مشكلة البيروقراطية. ذلك أنَّ إدارة العمل الضخم وإدارة الحكومة تُسيِّرها بيروقراطية من الموظفين. والبيروقراطيون إخصائيون في إدارة الأشياء، وفي إدارة «الناس». ونظرًا لضخامة العمل الذي تتحكَّم فيه البيروقراطية، وما يترتَّب على هذه الضخامة من النظر إلى الأشياء والناس نظرتهم إلى الرموز والأعداد، كانت علاقة البيروقراطيين بالناس علاقة انفصال تامٍّ، لا علاقة اتصال مباشر. وليس الناس الذين يخضعون للإدارة إلَّا أشياء، لا ينظر إليهم البيروقراطيون نظرة حب أو بغض، وإنَّما ينظرون إليهم نظرة غير شخصية وغير إنسانية بتاتًا. فالمُدير البيروقراطي يفقد الإحساس في مجال نشاطه المهني، ويجب عليه أن يُعامل الناس كأنَّهم أرقام أو أشياء لا حياة فيها. وما دام اتساع المؤسسات، والمبالغة في تقسيم العمل تحول دون الفرد الواحد ورؤية الكل، وما دام التعاون التلقائي بين مختلف الأفراد والجماعات في داخل المشروع الصناعي معدومًا — ما دام الأمر كذلك فإنَّ تعيين المديرين البيروقراطيين أمر لا مندوحةَ عنه. وبدونهم ينهار المشروع في وقتٍ وجيزٍ، طالما كان العامل العادي لا يُؤدِّي من العمل إلَّا جانبًا يسيرًا منه، ولا يُدرك الهدف البعيد الذي يربط بين كل أجزاء العمل. فالمديرون البيروقراطيون إذن لا غنى عنهم، شأنهم في ذلك شأن أكداس الأوراق الخاصة بضبط العمل والتي يُشرفون على تدوينها. ولمَّا كان كل عامل أو موظف عادي يحس عجزه، فهو يشعر بالدور الحيوي الذي يقوم به البيروقراطيون فيوليهم احترامه وتقديره، بل ويكاد أن يرفعهم إلى مرتبة التقديس؛ لأنَّ عامة الناس تعتقد أنَّه لولا هؤلاء المديرون لتفتَّتت الأعمال وعمَّت المجاعات. وكما أنَّ السادة في العصور الوسطى كانوا يُعْتَبرون ممثلين لنظام إلهي، فكذلك البيروقراطيون في الرأسمالية الحديثة ليسوا أقل منهم قداسة، طالما كانوا لازمين لبقاء المجموع.

ويقول ماركس في تعريف البيروقراطي: إنَّه ينظر إلى العالم كميدان يصرف فيه نشاطه، لا كأفراد تربطه بهم صلة محبة وتَعاطُف. ومن الطريف أنَّ روح البيروقراطية لم تتغلغل في العمل والحكومة والإدارة فحسب، بل تغلغلت كذلك في نقابات العُمَّال وفي الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية الكبرى في إنجلترا وألمانيا وفرنسا. كما سار في روسيا كذلك نظام المديرين البيروقراطيين، وتميَّزوا كما تميَّزوا في غيرها من البلدان بروحهم الانفصالية وبوهن الرابطة بينهم وبين بقية الأفراد العامِلِين. وقد تستطيع روسيا أن تعيش في أمن وبغير فزع مَهما يكن نظام الحكم فيها، ولكنَّها لا يُمكن أن تعيش بغير نظام البيروقراطية الشامل، وهو النظام الذي يدعو إلى انفصال المدير عن عُمَّاله، وانفصال العُمَّال عن أهداف العمل.

تحدَّثت عن موقف العامل والمدير في النظام الرأسمالي الحديث، وأنا الآن أتساءل وما موقف «مالك» المشروع أو صاحب رأس المال من هذا النظام؟ إنَّ صاحب العمل الصغير لا يزال في موقفه شبيهًا بسَلَفه منذ مائة عام، إنَّه يملك ويُدير مشروعه الصغير، وهو على صلة بنشاطه التجاري أو الصناعي بأَسْره ومن جميع نواحيه، وعلى صلة شخصية بعُمَّاله وموظَّفيه. ولكنَّه يعيش في عالَم انفصالي من جميع الأوجه الاقتصادية والاشتراكية الأخرى. كما يخضع للضغط المُتزايد من جانب المُنافسِين الكبار له، ومن ثمَّ فهو لا يتمتَّع البتَّةَ بالحرية التي كان يتمتَّع بها سلَفه الذي يقوم بنفس عمله.

بيْد أنَّ ما يهمنا في الاقتصاد المُعاصر هو العمل الكبير، أو المؤسسات الضخمة. وفي هذا الصدد نتساءل: ما موقف «مالك» المؤسسة الكبرى مِن «ملكه»؟ إنَّه موقف يكاد أن ينفصل تمام الانفصال عن المِلك أو العمل. فالملكية لا تعدو أن تكون قطعة من الورق، تُمثِّل مبلغًا من المال يتراوح زيادة ونقصًا، لا يحمل تبعة مشروعه، فهو في الأغلب مُساهِم من المساهمِين فيه، وليست له بالمشروع أيَّة علاقة مباشرة محسوسة. وقد عبَّر عن هذا الموقف الانفصالي تعبيرًا صادقًا بيرل ومين في وصفهما لموقف حامل الأسهم إزاء المشروع الذي يُسهم فيه. ونُجْمِل ما ذَكرَا في كتابهما في النقاط الآتية:

  • (١)

    إنَّ المِلكية قد تحوَّلت من عامل إيجابي يدفع العامل إلى الفاعلية إلى موقف سلبي يدفعه إلى القابلية. فبدلًا من أن يُوجِّه المالك ملكًا واقعيًّا طبيعيًّا يكون مسئولًا عنه، نجد أنَّه لا يمتلك سوى قطعة من الورق تُمثِّل مجموعة من الحقوق والآمال التي تتعلَّق بمشروع من المشروعات، وهذه القطعة الورقية هي ما يُسمَّى بالسهم أو السند الذي كثيرًا ما يُودِعه صاحبه في مصرف من المصارف فلا تقع حتَّى عينه عليه. والمالك المُساهِم لا سلطان له على المشروع ولا يُسيطر إلَّا بقدر ضئيل جدًّا على الملكية الواقعية، التي نقصد بها أدوات الإنتاج، والتي ينبغي أن تنال منه اهتمامًا شديدًا. والمالك في الوقت نفسه لا يحمل مسئولية المشروع أو ما يتعلَّق به من أدوات. ونستطيع على سبيل التوضيح — مثلًا — أن نقول: إنَّ مَنْ يملك جوادًا يحمل مسئوليته، إذا عاش الجواد كان عليه إطعامه، وإن مات عليه دفنه. فأين مثل هذه المسئولية بالنسبة للأسهم والسندات؟

  • (٢)

    إنَّ القيم الروحية التي كانت تُصاحب الملكية فيما سَلَف، قد زالت عنها. كانت الملكية الطبيعية التي يُمكن لصاحبها أن يتحكَّم فيها تعود عليه بسعادة نفسية مُباشرة بغض النظر عن الدخل الذي تجلبه في صورة ملموسة. وكان في الامتلاك امتداد لشخصية المالك. أمَّا بعد ثورة الاقتصاد التعاوني فقد زالت عن صاحِب المِلكية هذه الصفة، كما زالت عن العامل من جراء الثورة الصناعية.

  • (٣)

    أصبحت قيمة ثروة الفرد تعتمد على عوامل خارجة بتاتًا عن نفسه وعن جهده. فهي تخضع لتصرفات الأشخاص المسئولين عن إدارة المشروع، الذين ليس للمالك عليهم سلطان. كما تخضع لتقلبات السوق.

  • (٤)

    إنَّ قيمة ثروة الفرد في تذبذب مستمر، فهي تتغيَّر بين لحظة وأخرى، ولا يُمكن أن يعرف المساهم لنفسه دخلًا ثابتًا مستقرًّا.

  • (٥)

    أصبحت ثروة الفرد في غاية السيولة يستطيع أن يُحوِّلها من صورة إلى أخرى في أي وقتٍ شاء.

  • (٦)

    تخرج الثروة تدريجًا من سلطان صاحبها. فكانت الأرض فيما مضى — مثلًا — تحت سلطان مالكها، يستغلها ويفيد منها، دون أن يعرضها في سوق البيع. أمَّا الثروة الحديثة فلا يستطيع صاحبها أن يفيد فائدة مباشرة منها إلَّا في السوق، فهو يرتبط بالسوق ارتباطًا لم يسبق له مثيل.

  • (٧)

    لم يبق لمالك الثروة الصناعية في النظام التعاوني إلَّا رمز الملكية، في حين أنَّ النفوذ والمسئولية والمادة، التي كانت في الماضي جزءًا لا يتجزَّأ من الملكية، قد انتقلت إلى مجموعة من الأفراد، يُديرون المشروع دون اتصال بالمُساهمِين أو بالعُمَّال، وكأنَّهم في حالة من العزلة والانفصال، وفي أيديهم وحدهم ينحصر التوجيه والسيطرة.

إنَّ المُساهم الحديث في مشروع من المشروعات ينفصل عن العمل كما بينَّا، فلا يكون البتةَ ذا سلطان عليه. إنَّما يُسيطر عليه مجلس إدارة تختاره جمعية عمومية قَلَّما يحضرها الأعضاء لقلة ما يملكون نسبيًّا من مجموع أسهم المشروع قلة لا تُشجِّعهم على الاهتمام بحضور الجمعيات العمومية.

وعملية «الاستهلاك» كعملية الإنتاج تتم كذلك بصورة انفصالية لا تتصل بحاجات المرء الطبيعية. فنحن نحصل على الأشياء؛ لأنَّنا نملك المال الذي نشتريها به لا لأنَّنا نحس الحاجة إليها. وقد ألفنا هذه الطريقة حتَّى حسبناها طبيعية، وهي في الواقع أبعد ما تكون عن ذلك. فالمال يُمثِّل العمل والمجهود في صورة مُجرَّدة. وقد لا يكون هذا العمل أو ذاك المجهود «عملي» أو «جهدي»؛ لأنِّي قد أستطيع الحصول على المال بالميراث، أو الحظ، أو الخداع، أو بأيَّة وسيلة أخرى، ولكنِّي حتَّى إن حصلت على المال «بجهدي» فإنِّي أحصل عليه بطريقة مُعيَّنة مُحدَّدة، وبنوع من الجهد مُعيَّن مُحدَّد لا يتغيَّر، يتفق وما عندي من مهارات وقدرات. في حين أنِّي في حالة إنفاق المال، يتحوَّل بين يديَّ إلى صورة مُجرَّدة للعمل، لا يتحتم عليَّ أن أستبدل به شيئًا بعينه، وإنَّما أستطيع أن أستبدل به أي شيء أريد. وأي جهد أو اهتمام من جانبي لا يُمكِّنني من الحصول على شيء إذا لم أملك المال. فإن ملكته استطعت — مثلًا — أن أحصل على صورة فنية رائعة، حتَّى إن لم يكن عندي أي تقدير للفن، واستطعت أن أشتري أجمل الأسطوانات الموسيقية والغنائية، حتَّى إذا لم يكن عندي أي ذوقٍ موسيقي، واستطعتُ أن أشتري مكتبة تضم خير الكتب لمجرد التفاخر بها دون الانتفاع منها، واستطعتُ أن أظفر بقسط من التربية والتعليم حتَّى إن لم أستخدمهما إلَّا كميزةٍ اجتماعية فحسب، بل إنِّي لأستطيع أن أُحطِّم الصورة الفنية أو أُمزِّق ما تحتويه المكتبة من نفائس الكتب، دون أن أخسر شيئًا غير المال؛ إذ إنِّي لا أفقد متعة فنية أو ذهنية. إنَّ مجرد امتلاك المال يُعطيني حق امتلاك شيء من الأشياء وحق التصرُّف فيه حسبما شئتُ، وليست هناك علاقة بين ما أشتريه وبين احتياجاتي الفعلية. إنَّ طريقة التملُّك آلية غير «إنسانية»، أمَّا الطريقة الطبيعية الإنسانية فهي أن تكون هناك رابطة بين ما أحتاج فعلًا وبين ما أحصل عليه، فلا يظفر بالغذاء والكساء إلَّا إنسان حيٌّ، ولا يظفر بالكِتاب إلَّا من يشعر بالحاجة إلى المزيد من المعرفة، ولا يملك الصورة الفنية إلَّا من يستطيع تذُّوقها والاستمتاع بها استمتاعًا فنيًّا. ولا يعنيني هنا أن أُبيِّن كيف نستطيع أن نُطبِّق هذا المبدأ في حياتنا العلمية. وإنَّما يعنيني أن أُنبِّه إلى أنَّ الطريقة التي نحصل بها على الأشياء تنفصل عن الطريقة التي نستخدمها بها ولا ترتبط بحاجاتنا النفسية.

وكيف نستخدم الأشياء بعد الحصول عليها بغضِّ النظر عن طريقة الحصول؟ إنَّ كثيرًا من هذه الأشياء لا نستخدمه البتة، بل ولا نزعم استخدامه. وإنَّما نحصل عليها لمجرد امتلاكها. وتكفينا الملكية التي ليس من ورائها نفعٌ. إنَّ أدوات المائدة الثمينة أو الأواني البلورية التي لا نستخدمها بتاتًا خشية انكسارها، والبيت الضخم الذي يحوي غرفًا كثيرة لا نسكنها. والعربات الزائدة عن الحاجة، والخدم الزائدون، والتُّحف؛ هذه كلها أمثلة كثيرة من متعة الامتلاك بدلًا من متعة الانتفاع. ومَهما يكن من أمرٍ فقد كان حب الملكية لذاتها أشد وأكثر شيوعًا في القرن التاسع عشر. أمَّا اليوم فنحن نستمد أكبر قسط من المتعة من امتلاك الأشياء التي تُسْتَخدم أكثر مِمَّا نستمدها من الأشياء التي تُقتنى. وذلك — على أيَّة حال — لا يُغير من هذه الحقيقة الأساسية، وهي أنَّنا حتَّى في حالة المتعة بالأشياء التي تُستخدم لا نفقد لذة الشعور بالمكانة التي نكتسبها بسبب الامتلاك. فالعربة والثلاجة الكهربائية وجهاز التلفزيون لها فائدة مظهرية فوق فائدتها الحقيقية، فهي تُضفِي على صاحبها نوعًا من المكانة في المجتمع.

كيف نستخدم الأشياء التي نحصل عليها؟ دعنا نبدأ بالطعام والشراب، إنَّا نأكل الخبز الذي لا طعم له ولا يُغذِّي لمُجرَّد أنَّه «أبيض» أو «طازج» أو من محل كذا المشهور، لكي نوهم أنفسنا بالثراء والامتياز عن كافة أفراد الشعب. إنَّنا في الواقع نشبع بالوهم وقد لا تكون لأبداننا صلة فسيولوجية حقيقية بالطعام الذي نتناوله. إنَّنا نَستبعد من عملية الاستهلاك لذاته التي تهمنا قبل كل شيء؛ الاستمراء والتغذية الحقيقية لأبداننا. وكثيرًا ما يهمنا في الشراب اسم المصنع الذي ينتجه؛ (أي الماركة) أكثر مِمَّا يهمنا طعمه. إذا كانت صورة الإعلان جذابة وعبارته مغرية أقبلنا على تناول الشراب المُعلن عنه. وإذا شاعت بين أفراد الشعب عادة مُعيَّنة، كشرب الكوكاكولا، تناولنا منها مجاراة للعادة الشعبية، دون اعتبار للطعم أو استمراء الشراب. والأمر أسوأ من ذلك عندما نستهلك الأشياء التي ليست لها حقيقة إلَّا الخيال الذي تُصوِّره لنا حملة الإعلان، كمعجون الأسنان أو بعض العطور أو الصابون الذي يزعم صانعوه أنَّه يُطرِّي الجلد ويُكسبه الليونة والنعومة.

وأستطيع أن أسوق من الأمثلة ما لا نهاية له. ولكن الأمر أوضح من أن أتبسَّط فيه أكثر من ذلك. ولست أريد إلَّا أن أُؤكِّد المبدأ الأساسي، وهو أنَّ عملية الاستهلاك يجب أن تكون عملية إنسانية محسوسة لها صلة باحتياجاتنا البدنية والنفسية، باعتبارنا أشخاصًا محسوسين، حسَّاسين، لدينا شعور وعندنا حكم؛ ولإحساسنا، وحاجاتنا الجثمانية، وتذوقنا الجمال دخل فيها. يجب أن تكون عملية الاستهلاك تجربة بشرية منتجة لها معناها. بيد أنَّ ثقافتنا تخلو من كل ذلك فالاستهلاك عندنا أساسًا هو إثارة الأوهام إثارة مصطنعة ثمَّ إشباع هذه الأوهام. هو عملية وهمية منفصلة عن ذواتنا الحقيقية المحسوسة.

وهناك وجه آخر من أوجه الفصل بين نفوسنا على حقيقتها والأشياء التي نستهلكها، يجب التنويه عنه. إنَّنا محوطون من كل صوب بأشياء لا نعلم مثقال ذرة عن كُنْهها وأصلها. إنَّ التليفون والراديو والفوتوغراف وكل الأدوات المُعقَّدة الأخرى ألغازٌ بالنسبة إلينا كما هي بالنسبة إلى رجل من ثقافة بدائية، نعرف كيف نستخدمها؛ أي نعرف أيَّ زرٍّ نضغط عليه، غير أنَّا لا ندري شيئًا عن المبادئ التي تسير على أساسها هذه الأدوات إلَّا في الحدود الغامضة التي تعلَّمناها في المدرسة. وكذلك تنفصل عنَّا ولا تتصل بنا الأشياء التي لا تقوم على أُسس علمية معقدة. فنحن لا نعرف كيف يُصنع الخبز، أو كيف يُنسج القماش، أو كيف يُصنع الأثاث، أو الأواني الزجاجية. إنَّما نحن نستهلك — كما ننتج — دون أيَّة علاقة محسوسة بالأشياء التي نتناولها. إنَّنا نعيش في عالم من الأشياء، كل علاقتنا بها أنَّنا نعرف كيف نتناولها أو كيف نستهلكها، ولا نعرف كيف تدور أو كيف تُصنع.

إنَّ طريقتنا في الاستهلاك تنتهي بنا حتمًا إلى نَهَم لا يشبع، وجشع لا يقنع؛ ذلك لأنَّ أشخاصنا المحسة الحقيقية ليست هي التي تستهلك الأشياء محسوسة على حقيقتها. إنَّما نحن نُحاول أن نشبع وهْمًا — كحب التظاهر — بوهم مصدره الإعلانات المزيفة التي تعزو إلى الأشياء صفات ليست من صميمها في شيء. وهل نستطيع أن نشبع وهمًا بوهمٍ، وخيالًا بخيال؟! من أجل هذا تلحُّ علينا الحاجة إلى المزيد من الأشياء والمزيد من الاستهلاك. من الحق أنَّه ما دام مستوى معيشة العامة أدنى من المستوى اللائق للعيش عيشة كريمة، فلا بُدَّ أن تكون هناك حاجة حقيقية إلى زيادة الاستهلاك. ومن الحق أيضًا أنَّ الحاجة إلى زيادة الاستهلاك تُصبح من الضرورات كلَّما تقدَّم الإنسان في ثقافته وحضارته، وكلَّما تهذَّبت احتياجاته فرغب في طعام أفضلَ، وفي الأشياء التي لها متعة فنِّية، وفي اقتناء الكتب، وما شابه ذلك. غير أنَّ ما عندنا من شهوة عارمة للاستهلاك يفقد كل علاقة صحيحة بحاجات الإنسان الحقيقية. كان الإنسان في أول أمره يهدف من وراء زيادة الاستهلاك وتحسين نوعه إلى أن يَحْيا حياة أسعدَ وأكثر إرضاءً لنفسه. فكان الاستهلاك بذلك وسيلة لغاية، هي السعادة. أمَّا اليوم فقد بات هدفًا لذاته. وازدياد حاجاتنا زيادة مطردة تُرغمنا على مضاعفة ما نبذل من جُهد، وتحملنا على الاعتماد على هذه الحاجات، وعلى الناس، وعلى النظم، التي نحصل على هذه الحاجات بعونها. يقول ماركس في هذا الصدد: «إنَّ كل فرد يسعى إلى أن يخلق حاجة جديدة عند غيره من الناس، لكي يُرغِمه على نوع جديد من أنواع الخضوع، أو على لون جديد من ألوان المُتعة، يؤدِّي في النهاية إلى خرابه الاقتصادي … وكلَّما كثُرت السلع الاستهلاكية ازداد عدد الأشياء المنفصلة عن طبيعته، والتي لا غنى له عنها، والتي من أجل ذلك تسوده وتستعبده.»

إنَّ إنسان اليوم يشتد ولعًا بازدياد قدرته على شراء أشياء أفضل مِمَّا لديه وأكثر مِمَّا عنده، وأحدث مِمَّا يملك. إنَّه جشع للاستهلاك لمجرد الاستهلاك. حتَّى لقد باتت عملية الشراء والاستهلاك هدفًا نُرغَم على تحقيقه إرغامًا ولا يستند إلى عقل أو تفكير، فهي غاية لذاتها، واهية الصلة بالأشياء المشتراة والمستهلَكة من حيث فائدتها ومتعتها؛ لأنَّ شراء أحدث الآلات، وآخر طراز من أي شيء في السوق، حلم يسعى إلى تحقيقه كل إنسان، حلم تتلاشى معه المتعة الحقيقية من استخدام الشيء والإفادة منه. ويكاد الإنسان الحديث أن يتصوَّر الفردوس مخزنًا عالميًّا ضخمًا تُعرض فيه كل المستحدَثات وآخِرُ الحيل، يتجوَّل فيه ويُلقي ببصره إلى هذه السلعة أو تلك وفي جيبه من المال ما يكفي لشراء ما يُريد، ويا حبَّذا لو كانت فرصة جاره أقلَّ من فرصته في ذلك.

كان من إحدى الصفات القديمة لمجتمع الطبقة الوسطى اتصال المرء بما يملك اتصالًا مُباشرًا. وقد زالت اليوم هذه الصفة إلى حدٍّ كبير، وخاصٍّ بالتوسُّع في نظام الشركات والمساهَمة. وكان هناك قديمًا إحساس خاص بالمحبة يقوم بين المرء وما يملك. وكان هذا الإحساس يتزايد يومًا بعد يوم، ومن دواعي فخره واعتزازه. وكان يُعْنَى بملكه أشد العناية، ويُؤلمه أن تنتهي علاقته بهذا الملك إذا لم يعد صالحًا للاستعمال. وقد خفَّت اليوم كثيرًا حِدَّة هذا الإحساس. إنَّما يُحب المرء في عصرنا هذا الجِدَّة والحداثة فيما يشتري، وهو على استعداد للتفريط فيه إذا ما ظهر في السوق ما هو أحدث منه. وما أفدح هذا الغرم على نفسية الإنسان!

إنسان العصر الحديث جشع فاغِرٌ فاه لابتلاع ما تعرضه السوق، يجمع منه ما استطاع ولا يكتفي بجمع ما يستغله ويُفيد منه فعلًا كما كان إنسان القرن التاسع عشر.

هذا الفصل بين ما نستهلكه من أشياء وما تحس نفوسنا فعلًا بالحاجة إليه لا نلمسه في جمع السلع أو استهلاكها فحسب، ولكنَّا نلمسه كذلك في طريقة استخدامنا لأوقات الفراغ. وماذا نتوقَّع غير ذلك؟ إذا كان الإنسان يعمل دون اتصال حقيقي بما يعمل، وإذا كان يشتري السلع ويستهلكها دون أن تكون به حاجة حقيقية إنسانية إليها، إذا كان الأمر كذلك فكيف يتسنَّى للإنسان أن يستخدم وقت فراغه بطريقة إيجابية لها معنًى ومغزًى، فيؤدِّي من ضروب النشاط ما تدفعه إليه طبيعته وما ينبعث من داخل نفسه، لا ما يُفرض عليه فرضًا من خارجها؟ إنَّ إنسان العصر الحديث في فراغه — كما هو في عمله — يقف موقف المستهلك السلبي القابل الذي لا يتصل وما يستهلكه في هذا السبيل مع حاجات نفسه الطبيعية. إنَّه «يستهلك» المباريات الرياضية، والصور المتحركة، والصحف والمجلات، والكتب، والمحاضرات، والمناظر الطبيعية، والاجتماعات العامة، بنفس الطريقة التي يستهلك بها السلع التي يشتريها. يشاهدها، أو يستمع إليها لا لأنَّها تسد نقصًا يشعر به في دخيلة نفسه، ولكن للتظاهر والمباهاة، ولأنَّها حديث اليوم بين خاصة الناس وعامتهم. لا يسهم فيها إسهامًا إيجابيًّا، وإنَّما يقف منها موقف المُتفرِّج. فهو يُريد أن «يستوعب» كل ما يُمكن استيعابه، وأن يحصل على أكبر قسط من الملذات، ومن الثقافة، وما إلى ذلك، مُتمشيًّا مع روح العصر الذي يعيش فيه، لا مع نفسه وطبيعتها. إنَّه في الواقع ليس حرًّا في الاستمتاع بفراغه. إنَّما تتحكم في استهلاك وقت فراغه الصناعة، كما تتحكَّم في السلع التي يشتريها. يقوم له غيره بتوجيه ذوقه. وهو يُريد أن يرى وأن يسمع ما أعدَّته البيئة الاجتماعية لإرادة رؤيته وسماعه. فباتت أسباب اللهو صناعة كغيرها من الصناعات. يُرغم العميل على شراء اللهو كما يُرغم على شراء ردائه وحذائه. ويتحكَّم في قيمة اللهو نجاحه في السوق، ولا تتحكَّم فيه قاعدة من القواعد التي يُمكن قياسها بالمعايير الإنسانية.

إذا كان النشاط تلقائيًّا مُنتجًا فإنَّه يحدث في داخل نفسي شيء حينما أقرأ، أو حينما أشهد منظرًا من المناظر، أو أتحدَّث إلى صديق. وتراني أختلف بعد التجربة عنِّي قبلها، أمَّا في حالة المتعة التي لا تنبع من طبيعة النفس فإنَّه لا يحدث في داخل نفسي شيء ما. وأنا بعد هذا اللون من ألوان الاستمتاع كما كنت من قبل. إنَّني أستهلك هذا أو ذاك، ولكن شيئًا لا يتغيَّر في نفسي، ولا تبقى عندي سوى ذكريات لِمَا مرَّ بي تطفو على السطح ولا تصل إلى أغوار النفس السحيقة. ومن الأمثلة القوية لهذا الضرب من ضروب المتعة المستهلكة التقاط الصور الشمسية الذي أمسى من ألوان النشاط الشائعة الهامة في أوقات الفراغ. ويرمز لهذا النوع من أنواع المنع شعار كوداك وهو «اضغط على الزرِّ وستقوم لك الآلة بكل شيء بعد هذا.» هذا الشعار الذي عاون كثيرًا جدًّا منذ عام ١٨٨٩م على إشاعة هواية التصوير الشمسي. إنَّ المُصوِّر لا يكاد يفعل شيئًا، وليس عليه أن يعلم شيئًا. كل شيء يُعمل له، وليس عليه إلَّا أن يضغط على الزر. التصوير الشمسي تعبير قوي عن الإدراك البصري الذي لا يتصل بعيوننا وأنظارنا. إنَّه مجرد استهلاك لحب الاستهلاك. والسائح الذي يحمل آلة التصوير على كتفه مثالٌ حيٌّ لعلاقة المرء بالعالم علاقة منفصلة عن نفسه. فالسائح بانشغاله دائمًا بالتصوير لا يرى في الواقع شيئًا اللهم إلَّا إن كان عن طريق آلته. فآلة التصوير هي التي تُشاهد له. وهو لا يعود من رحلته بغير مجموعة من الصور الشمسية، التي يستبدلها بالخبرة الحية الشخصية التي كان بإمكانه أن يحصل عليها، لولا روح العصر الانفصالية التي بسَّطناها للقارئ في كافة صورها.

ولا يعيش إنسان العصر الحديث منفصلًا في عمله الذي يقوم به، وفي الأشياء والملذات التي يستهلكها فحسب، ولكنه ينفصل كذلك عن المُلِّمات والكوارث الاجتماعية التي تتحكَّم في حياتنا أفرادًا وجماعات. ويبدو عجز الإنسان الحقيقي إزاء القوى الاجتماعية التي تتسلَّط علينا بدرجة شنيعة في تلك الكوارث الاجتماعية التي يتكرر وقوعها بين الحين والحين بالرغم مِمَّا يُصيبنا منها من ألمٍ مبرح كلَّما وقعت، وأعني بهذه الكوارث الحروب العالمية والأزمات الاقتصادية الكبرى. ويُحاول الإنسان أن يُعد هذه الظواهر الاجتماعية من قانون الطبيعة، ولكنَّها في حقيقتها من صُنع الإنسان، وإن يكن ذلك عن غير قصدٍ أو علمٍ منه.

ولا نستطيع أن نُحمِّل فردًا بعينه أو هيئة بذاتها مسئولية هذه الكوارث الاجتماعية، وإنَّما هي نتيجة لا مفرَّ منها لطريقة الإنتاج الرأسمالية. إنَّ أكثر المجتمعات لها قوانين اجتماعية واضحة ثابتة تقوم على أساس السُّلطة السياسية أو التقاليد. غير أنَّ الرأسمالية — خلافًا لذلك — ليست لها مثل هذه القوانين، فهي تقوم على أساس أنَّ الخير العام يتحقَّق إذا كافح كل امرئ لنفسه في السوق، فذلك يُؤدِّي إلى نظام شامل ولا يُؤدِّي إلى شيوع الفوضى. ولسنا نُنكر أنَّ هناك قوانين اقتصادية، تتحكَّم في السوق، غير أنَّ هذه القوانين تعمل من وراء ظهر الفرد العامل، الذي لا تهمه إلَّا مصالحه الخاصة. ومن ثمَّ كانت تبعة ما يلم بالإنسان من محنٍ وكوارث تبعة مشتتة، لا تقع على كاهل فرد بعينه أو هيئة بذاتها.

ولا نستطيع أن نتجاهل أنَّ تطوُّر الرأسمالية قد برهن على أنَّ هذه الطريقة عملية إلى حدٍّ كبير … إلَّا أنَّه يهمنا في هذا الصدد أن نُؤكِّد أنَّ حكمنا بقوانين لا نتحكَّم فيها، بل ولا نُحب أن نتحكَّم فيها — وأقصد بها قوانين النظام الرأسمالي — مظهر قوي من مظاهر انفصال الشخصية عن النظم التي تسودها. ومن عجب أنَّنا نحن في أول الأمر الذين نضع نظمنا الاقتصادية والاجتماعية، ثمَّ نتخلَّى في الوقت نفسه عن مسئوليتها، عن قصد وفي حماسة، ونتركها تفعل فينا فعلها، واقفين منها موقف المُتفرِّج العاجز، مُترقِّبين — في أمل وفي جزع — ما يجلبه لنا المستقبل. إنَّنا نُجسِّد أعمالنا في القوانين التي تحكمنا، ثمَّ نترك هذه القوانين لتسمو عنَّا، وتستعبدنا وتسترِقَّنا! إنَّ الإنسان لم يَعُد يتحكَّم في عملاق الدولة أو عملاق النظام الاقتصادي. فالدولة والنظم الاقتصادية شاردة في مسيرها، وقادتها أشبه برجل يمتطي صهوة جواد جامح، يفخر بقدرته على البقاء على ظهر الجواد، وإنْ كان عاجزًا عن توجيهه الوِجْهة التي يريد.

ثمَّ ما علاقة الإنسان الحديث بأخيه الإنسان؟ إنَّها ليست العلاقة بين الإنسان والإنسان، وإنَّما هي علاقة بين فكرتين مُجرَّدَتَين، أو بين آلَتين حَيَّتين، تُحاول كل منهما أن تستخدم الأخرى أو أن تستغلها. فصاحب العمل يستخدم موظفيه، والبائع يستغل عُملاءه. وكل فرد بالنسبة إلى الآخر سلعة من السلع. وإنْ كان في مُعاملته إيَّاه شيء من المودة فلاحتمال الإفادة منه ذات يوم إنْ لم يكن ذا فائدة له في الوقت الحاضر. فالود في الواقع سطحي والمُجامَلة عابرة تُخفي تحتها هُوَّة سحيقة من الاستهتار وعدم الاكتراث. ويرى المُؤلِّف أنَّ هناك — أيضًا — قدرًا كبيرًا من الرِّيبة وانعدام الثقة، وحينما يقول فرد لآخر إنَّ فلانًا رجل طيب القلب فهو يبغي أن يبعث في نفسه الطمأنينة من ناحيته؛ لأنَّ الريبة في نيَّات الناس هي الشعور السائد بين الجميع، بل إنَّ الحب ذاته والعلاقة بين الجنسين تنبني على السطحية ولا تمتد جذورها إلى القلوب، فهي علاقة المتعة المتبادلة وليست علاقة الحب العميق.

وهذا الفصل الذي حدث بين الإنسان وأخيه الإنسان قد انتهى بفقدان تلك الروابط الاجتماعية العامة التي تميَّزت بها العصور الوسطى، كما تميَّزت بها أكثر المجتمعات التي سَبقَت النظام الرأسمالي. إنَّ المجتمع الحديث يتألَّف من أفراد، كل منهم غريب عن الآخر، تربطهم معًا مصالح ذاتية وضرورة نفعية، بيْد أنَّ الإنسان — برغم هذا — كائن اجتماعي، في حاجة قُصوى إلى المشارَكة وإلى المعاوَنة التي لا تستند إلى محض المنفعة، وبحاجة إلى الإحساس بأنَّه فرد في جماعة مُتماسكة مُتشابكة، أساسها الحب الخالص والتعاطُف والمودة. فماذا دَهَا هذه الاتجاهات الاجتماعية عند الإنسان؟ إنَّها تظهر في مجال العلاقات العامة، الذي ينفصل تمامًا عن مجال العلاقات الخاصة. فنحن في علاقاتنا الخاصة أنانيون، لا نتماسك ولا نتبادل المحبة. وقد تنشأ المحبة بين فرد وآخر، وقد يبدو التماسك بين اثنين. بيد أنَّ هذه المشاعر ثانوية. وليست من البناء الأساسي للعلاقات الاجتماعية. ولا صلة بين حياتنا الخاصة كأفراد وحياتنا الاجتماعية «كمواطنين». ففي ميدان المواطَنة يتجسَّد وجودنا الاجتماعي في الدولة. ونحن كمواطنِين نُظهر الشعور بالالتزامات والواجبات الاجتماعية، فندفع الضرائب، ونُدلي بأصواتنا في الانتخابات، ونحترم القانون، ونُضحي بحياتنا في حالة الحرب. وأي مثل للفصل بين الوجود الخاص والوجود العام أوضح من أنَّ الرجل الذي لا يُفكِّر في إنفاق عشرة جنيهات ينقذ بها غريبًا من براثن الحاجة، هذا الرجل عينه لا يتردَّد في المُخاطَرة بحياته حينما يكونان معًا جنديين في ساحة القتال في زيٍّ عسكري مُوحَّد؟ في هذا الزي العسكري تتجسَّد طبيعتنا الاجتماعية، وفي الزي المدني تتجسد طبيعتنا الأنانية.

سُئلت مجموعة من الأمريكان: أي الأمور تقلقكم وتزعجكم أكثر من غيرها؟ فأجابت الأكثرية العظمى بأسباب شخصية أو اقتصادية أو صحية، أو ما يُشبهها. ولم يُجب سوى ٨٪ من المجموعة بأنَّ أسباب القلق في نفوسهم ترجع إلى المشكلات العالمية بما فيها الحروب. وأجاب ١٪ فقط بأنَّ ما يُقلقهم هو الشيوعية أو تعرُّض الحريات المدنية للخطر. في حين أنَّ نصف هذه المجموعة تقريبًا يعتقدون أنَّ الشيوعية خطر جِدِّي، وأنَّ الحرب قد تقع وشيكًا. غير أنَّ هذه الاهتمامات الاجتماعية العامة ليست مِمَّا يحسون به إحساسًا شخصيًّا، ومن ثمَّ فهي ليست من أسباب الجزع، وإن كانت من أسباب التعصُّب الفكري إلى درجة قصوى. وجدير بنا هنا أيضًا أن نذكر أنَّ كل أفراد هذه المجموعة يعتقدون في الله، ولكن أحدًا منهم لا يشعر بالقلق أو الجزع على مصير روحه بعد الموت. إنَّ المشكلات العالمية الكبرى لا تتصل بنفوس الأفراد اتصالًا مباشرًا. ولا يُسبِّب لهم الهمَّ والقلق إلَّا الجانب الخاص من الحياة، ولا يزعج نفوسهم ذلك الجانب الاجتماعي العالمي الذي يربطنا بإخواننا في الإنسانية.

•••

هذه هي علاقة الإنسان بالإنسان، فما هي العلاقة بينه وبين نفسه؟ لقد سبق لي أن وصفتُ هذه العلاقة بالسُّوقية أو التجارة. في جو هذا النوع من أنواع العلاقات يحيا الإنسان حياته كما لو كانت شيئًا يُستخدم استخدامًا نافعًا في السوق. ولا يحياها كرجل عامل إيجابي فعَّال، أو كحامل للقوى البشرية. ولا رابطة بين هذه القوى وبين نفسه. هدفه أن يبيع نفسه صفقة رابحة في السوق. وإحساسه بذاته لا ينبثق من نشاطه كفرد مُحب مُفكِّر، وإنَّما ينبثق من الدور الاقتصادي الاجتماعي الذي يلعبه. ولو استطاعت الأشياء الجامدة أن تتكلَّم لأجابت الآلة الكاتبة عن سؤالنا لها: من أنت؟ بقولها: أنا آلة كاتبة، وأجابت السيارة بقولها: أنا سيارة، أو على الأخص من ذلك «أنا فورد، أو بويك، أو كادلاك». وإن أنت سألت رجلًا: من أنت؟ أجابك بقوله: «أنا صانع، أو أنا كاتب، أو أنا طبيب» أو على أحسن الظروف: «أنا رجل متزوج» أو: «أنا أب لطفلين». ويكون لجوابه هذا من المعنى ما لجواب الشيء المُتكلِّم. فهو يُعيِّن وظيفته التي يُؤدِّيها، وقِيمَته في المجتمَع الذي يعيش فيه، ولا يُعيِّن نفسه باعتبارها حياة لها ميولها ومشاعرها وإحساساتها. تلك هي الطريقة التي يحيا بها الفرد حياته، لا كإنسان، بحبه ومخاوفه ومعتقداته وشكوكه. وإنَّما هو يحيا حياته بتلك الصفة المجردة — مبتعدًا منفصلًا عن طبيعته الحقيقية — التي يُؤدِّي بها عملًا بعينه في النظام الاجتماعي. ويتوقَّف إحساسه بقيمته على نجاحه، أو على ارتفاع سعره في سوق العمل والمجتمع، يتوقَّف على قُدرَته على بيع نفسه صفقة رابحة، على قدرته على رفع سعره في السوق كلَّما مر به يوم من الأيام، أو بعبارة أخرى على اعتبار الناس له فردًا ناجحًا. إنَّه يعتبر جسمه وعقله وروحه رأس ماله الذي ينبغي له أن يسهم به في الحياة إسهامًا يعود عليه بالربح الوافر. إنَّ الصفات الإنسانية، كالصداقة، والمُجاملة، والشفقة، تتحوَّل إلى سلع تجارية، أو إلى مَبالغ في رصيد الشخصية ترفع ثمن هذه الشخصية في سوق الشخصيات. فإن فشل الفرد في الإسهام بنفسه إسهامًا مربحًا، أحس بأنَّه «إنسان فاشل»، وإن أفلح في مساهمته بنفسه أحس بأنَّه «إنسان ناجح». ومن الواضح أنَّ إحساسه بقيمته يتوقَّف دائمًا على عوامل خارجة عن نفسه، يتوقَّف على حكم السوق المُذبذب الذي لا يثبت على حال، والذي يُقدِّر قيمته كما يُقدِّر للسلع قيمتها، وفقًا لقانون العرض والطلب. وهو — ككل سلعة أخرى لا تُباع في السوق بثمن مرتفع — تافِه القَدْر في المجتمع، مَهما عظمت صفاته الشخصية والإنسانية التي ينفع بها الناس.

إنَّ الشخص الذي لا يُقدِّر في نفسه الصفات الإنسانية كما يُقدِّر صفاته التي يعرضها للمَبيع، أو الشخص الذي يفصل بين طبيعته وعمله، فيعيش غريبًا عن نفسه، يَفقِد كثيرًا من الإحساس بالكرامة الذي يتميَّز به الإنسان حتَّى في الثقافات البدائية. إنَّه يكاد يفقد كل إحساس بذاته، وكل شعور بنفسه كوحدة فريدة في نوعها لا تتكرَّر؛ لأنَّ إحساس المرء بذاته ينبثق من وضع خبرته وفكره وشعوره، وقراراته وأحكامه وعمله في خدمة نفسه لا في خدمة غيره. إنَّ «الأشياء» ليست لها ذوات، والأفراد الذين يتحوَّلون إلى أشياء لا يُمكن أن تكون لهم ذوات. وقد شبَّه إبسن انعدام الذاتية عند الإنسان الحديث بالبصلة التي تتكوَّن من قشرة تتلوها قشرة بغير لُبابٍ، فهو ظاهر بغير باطن، ولا يُمكن بذلك أن يكون سليم النفس أو صحيح العقل.

ولا نستطيع أن نُدرك هذه الصفة الانفصالية في الإنسان تمام الإدراك دون أن نتعرَّض في البحث لوجه آخر من أوجه الحياة الحديثة، وأقصد به التِّكرار الآلي في طريقة العيش. فنحن نحيا حياة رتيبة، ونكبت وَعْيَنا بالمشكلات الأساسية للوجود البشري. وإنِّي بهذه الإشارة إلى ما في الحياة من تكرار رتيب إنَّما أمسُّ مشكلة عامة من مشكلات الحياة الكبرى. إنَّ الإنسان لا بُدَّ له من كسب قُوتِه اليومي، ويقتضيه ذلك في أكثر الأحيان أن يُكرِّس له كل وقته وجهده، وينغمس في عمل رتيب لا مناصَ منه لتحقيق هذا الهدف. وترى الناس يبنون نظامًا اجتماعيًّا، وينشئون التقاليد، ويبتدعون العادات والأفكار التي تُعينهم على أداء ما لا بُدَّ من أدائه من واجبات، وعلى العيش مع الرفقاء بغير احتكاك. ومِمَّا تتميَّز به الثقافة كلها أنَّها تبني عالمًا مصطنعًا مِن خَلْقِ الإنسان، يعلو العالم الطبيعي الذي يعيش فيه. غير أنَّ الإنسان لا يُحقِّق ذاتيته إلَّا إن بقي متصلًا — كما بيَّنَّا من قبل — بحقائق وجوده الأساسية، إلَّا إن أحسَّ بجمال الحب وجلال التَّماسك، كما أحسَّ بمأساة عُزلته وجزئية وجوده. إنَّه إذا انغمس بكليته في العمل الرَّتيب وفيما رسمته الحياة من صور مُصطَنعة، وإذا لم يستطع أن يرى سوى المظهر الخارجي للعالم الذي صنعه الإنسان، ويحسه كل فرد إحساسًا مشتركًا لا تفرُّد فيه، إنَّه إذا فعل ذلك فَقدَ صِلته بنفسه وبالعالم وإدراكه لهما إدراكًا صحيحًا. ومن ثمَّ ينشأ في كل ثقافة صراع بين العمل الرتيب ومحاولة العودة إلى حقائق الوجود الأساسية. ومن وظائف الفن والدين أن يُعينا المرء في هذه المحاولة. وإن كان الدين نفسه قد أمسى عند كثير من الناس صورة جديدة من صور العمل الرتيب.

إنَّ الإنسان منذ تاريخه البدائي يُحاول أن يتصل بجوهر الحقيقة عن طريق الخلق الفني. والإنسان البدائي لا يقنع بالوظيفة العملية لآلاته وسلاحه، فتراه يسعى لتزيينها وتجميلها، متجاوزًا وظيفتها الفعلية. وأهم الوسائل الأخرى التي يتجاوز بها الإنسان رتابة العمل ويتصل عن طريقها بحقائق الحياة البعيدة — بالإضافة إلى الفن — ما نُسمِّيه «بالطقوس». وأنا أشير إلى الطقوس هنا بالمعنى الواسع للكلمة، كما نجدها في أداء الدراما الإغريقية مثلًا، ولا أشير إلى الطقوس بمعناها الأضيق. ماذا كانت وظيفة المسرحية الإغريقية؟ كانت المشكلات الرئيسية للوجود البشري تمثِّل في صورة فنية درامية، وكان المتفرِّج — ولم يكن كالمتفرِّج في عصرنا الحديث، قابلًا سلببًّا مستهلكًا — يُسهم في الأداء التمثيلي، وكان بذلك ينتقل من عمله الرتيب اليومي، ويتصل بنفسه ككائن بشري، وبجذور وجوده. كان يمس الأرض الصُّلبة بقدميه، ولا يقف مُعلَّقًا في الهواء، فيكتسب بذلك القوة التي يرتد بها إلى نفسه. وسواء كانت في أذهاننا الدراما الإغريقية، أو التمثيلية العاطفية في العصور الوسطى، أو الرقص الهندي الجماعي، وسواء فكَّرنا في الطقوس الدينية الهندية أو اليهودية أو المسيحية، فنحن في كل ذلك إنَّما نُعالج المشكلات الأساسية للوجود البشري بطرق مختلفة من التمثيل، و«بأداء» المشكلات عينها التي «تُفكِّر» فيها الفلسفة وعلوم الدين.

ماذا بقي من هذا التمثيل للحياة في الثقافة الحديثة؟ لا شيء، ولا يكاد الإنسان يخرج عن طوق التقاليد والأشياء التي صنعها بنفسه، ولا يُحطِّم شيئًا من رتابة العمل وتكراره تكرارًا مملولًا، إذا استثنينا مُحاولات تقوم بها بعض الجماعات الدينية وتُحاول أن تشبع بها حاجتها إلى الطقوس. والظاهرة الوحيدة التي تقرب من معنى الطقوس هي مساهمة المتفرج في مباراة رياضية، فهنا علاج لمشكلة أساسية من مشكلات الوجود الإنساني، وهي النضال بين الإنسان وما يتعرَّض له في حياته من نصر أو هزيمة على غير سُنَّة أو قانون، بَيْد أنَّ هذا الوجه من أوجه الوجود الإنساني بدائي محدود المَدى، يُحوِّل ثروة الحياة البشرية العريضة إلى جانب واحد دون الجوانب الأخرى.

حينما تنشبُ النار، أو تصطدم عربة بأخرى في مدينة كبيرة، يتجمَّع عشرات الناس للمشاهدة. وملايين الناس تجذبهم كل يوم أنباء الجرائم والقصص البوليسية. وهم يتوجَّهون إلى دُور الصور المُتحرِّكة التي لا يكاد يعدو ما يُعرض فيها من موضوعات الجريمة والعاطفة، ويهتمون أشد الاهتمام بما يُشاهدون. وليس كل هذا الاهتمام والانجذاب مُجرَّد تعبير عن انحطاط في الذوق والحساسية، وإنَّما هو تعبير عن تشوُّق بالِغ إلى تمثيل ظاهرة الوجود البشري عميقة الغور، تعبير عن الحياة والموت، وعن المعركة بين الإنسان والطبيعة، وعن الجريمة والعقاب. وبينما كانت المسرحية الإغريقية تُعالج هذه المشكلات على مستوًى فَنِّي ميتافيزيقي عالٍ، فإنَّ «المسرحية» أو «الطقوس» الحديثة ساذجة وليس لها أي أثر شفائي للنفس. إنَّ كل هذا الانجذاب إلى المباريات الرياضية، وإلى قصص الجريمة والعاطفة، يُبيِّن حاجتنا إلى تحطيم الروتين والحياة الرتيبة. بيْد أنَّ طريقة إشباع هذه الحاجة تُبيِّن الضعف البالغ فيما نُقدِّمه من حلولٍ.

ويرتبط أثر «السوق» في كافة نواحي حياتنا الذي سبق لنا التحدُّث عنه ارتباطًا وثيقًا «بالحاجة إلى التبادل» التي أصبحت دافعًا أساسيًّا في حياة الإنسان المُعاصر. حقًّا، إنَّ الناس في الاقتصاد البدائي — الذي كان يقوم على أساس ساذج من تقسيم العمل — كانوا يتبادلون السلع بين أفراد القبيلة أو مع القبائل المجاورة. فالرجل الذي يُنتج القماش يُبادله بالحبوب التي يُنتجها جاره، وبالسكاكين التي يصنعها الحدَّاد. وكلما ازداد تقسيم العمل، ازداد تبادُل السلع، بيد أنَّ تبادُل السلع لم يكن — عادة — سوى وسيلة لغاية اقتصادية. أمَّا في المجتمع الرأسمالي فإنَّ التبادل غاية لذاته؛ ذلك لأنَّ التبادل ظاهرة إنسانية لا يعرفها الحيوان، وهو حاجة سيكولوجية عند الإنسان الحديث المُنفصل عن الطبيعة، وقد حلَّ حُبُّ التبادل محلَّ حُبِّ التملُّك. ترى الرجل يشتري السيارة — أو البيت — وفي نيته أن يبيعها عند أول فرصة تسنح له. والأمر الخطير هو أنَّ الدافع إلى التبادل يفعل فعله في ميدان العلاقات الشخصية بين الأفراد. فالحب كثيرًا ما يكون تبادلًا مرغوبًا فيه بين اثنين يحصل كل منهما فيه على أكبر قسط مِمَّا يتوقَّع بالنسبة إلى قيمته في سوق الشخصيات، وكل منهما عبارة عن «حزمة» تضم في ربطة واحدة نواحي عديدة من قيمته التبادلية، وتلك هي «شخصيته» التي تعني تلك الصفات التي تُعينه على أن يبيع نفسه في السوق بسعر مرتفع: شكله، وتعليمه، ودخله، وفرص النجاح أمامه، وكل امرئ يُحاول أن يبيع هذه الحزمة بأكبر قيمة يُمكنه الحصول عليها، بل إنَّ المرء لا يحضر حفلًا من الحفلات، ولا يتصل اتصالًا اجتماعيًّا على وجه العموم إلَّا لغرض تبادلي. فكل شخص يود أن يُقابل «حُزَمًا» أعلى سعرًا من حُزْمَته ولو قليلًا، بغية الاتصال واحتمال التبادل المُربح. الإنسان يرغب في التبادل بين مركزه الاجتماعي — أو بمعنًى آخر يرغب في التبادل بين نفسه — وبين غيره، وهو في سبيل ذلك يستبدل بأصدقائه القدامى وبعاداته ومشاعره أصدقاء وعادات ومشاعر جديدة، كما يستبدل سيارة بويك بسيارة فورد. وهذه الرغبة في التبادل ظاهرة من مظاهر تجرُّد المرء وانفصاله عن طبيعته، وهي من الصفات الاجتماعية للإنسان الحديث.

إنَّ عملية الحياة كلها تشبه في مسيرها الإسهام برأس المال إسهامًا مُربحًا. وحياتي وشخصي هما رأس المال الذي أُساهم به. إذا اشتريت قطعة من الصابون أو رطلًا من اللحم، فمن حقِّك شرعًا أن يكون المال الذي تدفعه مُقابلًا لقيمة الصابون أو اللحم الذي تشتريه. وقد امتدَّ هذا الحق إلى جميع أوجه النشاط الأخرى. فإذا قصدت مسرحًا توقَّعت أن يكون العرض متكافئًا مع المال الذي تدفعه. وأنت بذلك تُعادل بين شيئين لا يُمكن أن يُقاسَا بمقياس واحد. فإنَّ لذة الاستماع إلى الموسيقى لا يُمكن أن تُقوَّم بالمال، فالموسيقى ليست سلعة، وليس كذلك الاستماع إليها. والأمر شبيه بذلك عندما تقوم برحلة ترفيهية، أو تستمع إلى محاضرة، أو تُقيم مأدبة، أو ما شابه ذلك من نشاط يقتضي إنفاق المال. فالنشاط نفسه عَمَل منتج من أعمال الحياة، ولا يُمكن أن يُقاس بمقدار المال الذي يُنْفَق في سبيله. وتظهر كذلك الحاجة إلى قياس عمل حيوي بقدر كمِّي في مَيْلنا إلى التساؤل عمَّا إذا كان عَمَل من الأعمال يُساوي الوقت الذي يُنْفَق في سبيله. فالشاب يقضي ليلة مع فتاة، أو يزور صديقًا، وغير ذلك من الأعمال الأخرى التي قد تتطلَّب — وقد لا تتطلَّب إنفاق المال — إنَّ ذلك يدعونا إلى التساؤل عمَّا إذا كان هذا الضرب من النشاط يُساوي ما يُنْفَق في سبيله من وقت أو مال! وفي كل حالة من الحالات يُريد المرء أن يُبرِّر نشاطه في حدود معادلة يتبيَّن منها أنَّ الإسهام بالنشاط كان عملية مُربحة. حتَّى صحة المرء نفسها لا بُدَّ أن تُؤدِّي نفس الغرض. فالرجل الذي يتريَّض كل صباح ينظر إلى هذه الرياضة باعتبارها مُساهَمة طيبة لصحته، أكثر مِمَّا ينظر إليها كنشاط مُمتع لا يحتاج إلى تبرير. وقد عبَّر عن هذه النظرة تعبيرًا قويًّا بنتام في نظريته عن اللَّذَّة والألم. فهو يفرض أنَّ اللذة هي الهدف من الحياة، ويقترح نوعًا من الموازَنة يبيِّن في كل عملٍ يقوم به الإنسان إن كانت اللذة تفوق الألم أو تُغني عنه. فإن كان الأمر كذلك فالعمل يستحق الأداء. وعلى هذا فالحياة بِأسْرها عند بنتام شيء شبيه بالتجارة التي يجب أن تكون رابحة عند حساب المكسب والخسارة.

إنَّ النظرية التي بشَّر بها بنتام ماثلة في أذهاننا وإن كنَّا لا نعرف أنَّها مِن وَضْعه. وقد نشأ في ذهن الإنسان الحديث سؤال جديد، هو هذا: «هل تستحق الحياة أن يحياها الإنسان؟» ويتبع ذلك الإحساس بأنَّ حياة المرء «فاشلة» أو «ناجحة». وتقوم هذه الفكرة على أساس أنَّ الحياة مشروع يجب أن يكون رابحًا. والفشل يُشبه إفلاس تجارة الخسارة فيها أكثر من الربح. وهي فكرة لا معنى لها؛ فقد يكون المرء سعيدًا وقد لا يكون، وقد نُحقِّق بعض الأغراض وقد لا نُحقِّق بعضها الآخر، ومع ذلك فليست هناك مُوازَنة معقولة يُمكن أن يتبيَّن منها إن كانت الحياة تستحق أو لا تستحق العيش. إنَّ الحياة قد لا تستحق أن نحياها إذا نظرنا إليها من وجهة نظر الموازنة، فهي تنتهي حتمًا بالموت، وكثير من آمالنا فيها يخيب، وهي تقتضينا الآلام والجهود المضنية، فإذا نظرنا إليها نظرة موازنة فربما كان الأفضل للمرء ألَّا يولد البتةَ، أو أن يموت في المهد. ومن ناحية أخرى مَن ذا الذي يقول إن كانت لحظة واحدة من الحب، أو متعة التنفُّس والتنزُّه في صباح يوم مشرق واستنشاق النسيم العليل، من ذا الذي يقول إنَّ ذلك لا يُساوي كل الآلام والجهود التي تتطلَّبها الحياة؛ الحياة هبة نادرة لا تُقاس بمقياس آخر، وليست هناك إجابة معقولة لهذا السؤال: «هل الحياة تستحق العيش؟» لأنَّ السؤال نفسه غير معقول.

هذا النظر إلى الحياة كمشروع ناجح أو فاشل ينبهنا إلى دراسة ظاهرة حديثة شائعة، يدور اليوم حولها جدل كثير، وأقصد بها اطراد الزيادة في حوادث الانتحار. بم نُعلِّل شيوع هذه الظاهرة برغم ازدياد أسباب الرفاهية منذ القرن التاسع عشر؟

ليس من شكٍّ في أنَّ الدوافع إلى الانتحار مُعقَّدة مُتعدِّدة مُتنوِّعة. ففي الصين قد ينتحر المرء انتقامًا، وكذلك قد ينتحر الإنسان لاختلال ميزان العقل. وليس هذا الباعث أو ذاك هو السبب في الزيادة الملحوظة في نسبة الانتحار. إن دركهيم يرد الانتحار إلى ظاهرة يُسمِّيها «التحطيم». وهو يُشير بهذا التعبير إلى تحطيم كل الروابط الاجتماعية التقليدية، وإلى انهيار النظم الجماعية الحقيقية لتحل محلها الدولة. ويعتقد دركهيم أنَّ الناس في الدولة السياسية الحديثة ليسوا سوى «ذرات فردية مُبعثرة بغير نظام» وليس هناك ما يربط فردًا بآخر ربطًا أخويًّا صادقًا، وقد انعدمت روح الجماعة الخالصة. ومن ثمَّ كان من اليسير على الفرد أن يقطع صلته بالعالم بالقضاء على حياة نفسه. وهو تعليل نتَّفق فيه مع دركهيم، ونُضيف إليه أنَّ الملل والحياة الرتيبة التي تنجم عن الفصل بين المرء وعمله، بل ونفسه — مِمَّا فصَّلنا فيه القول من قبل — عامِل كذلك من عوامل الانتحار. وإحصاء حوادث الانتحار في السويد والنرويج وسويسرة والولايات المتحدة، وإحصاء المدمنين على الشراب، يُؤيِّد هذا الفرض الذي نفترضه. وهناك سبب آخر أهمله دركهيم كما أهمله غيره مِمَّن تعرَّض للبحث في أسباب الانتحار، وهو يتعلَّق بفكرة الموازنة في الحياة عامة، باعتبارها مشروعًا قد يكون فاشلًا وقد يكون ناجحًا. فإنَّ كثيرًا من حوادث الانتحار يرجع إلى الشعور بأنَّ «الحياة فاشلة»، وأنَّ «الحياة لا تستحق العيش بعد ذلك» فينتحر الفرد كما يُعلن التاجر إفلاسه عندما يزيد حساب الخسائر على حساب الأرباح، وحينما يفقد الأمل في تعويض الخسارة.

(ج) تطوُّرات أخرى في صفات الشخصية الاجتماعية

حاولت حتَّى الآن أن أُعطي صورة عامة عن انفصال إنسان العصر الحديث عن نفسه وعن غيره من الناس في عمليات الإنتاج والاستهلاك ونواحي النشاط المختلفة في أوقات الفراغ. وأودُّ الآن أن أُعالج أوجهًا أخرى من صفات المجتمع المُعاصر ترتبط ارتباطًا وثيقًا بظاهرة الانفصال، ويُقرِّبها إلى أذهاننا إبرازُها وحدها مستقلة لا تندرج تحت العنوان العام لظاهرة الانفصال.

التجانس، أو سلطة بغير صاحب

وأول هذه الأوجه التي أودُّ أن أُعالجها موقف الإنسان الحديث إزاء «السُّلطة» وقد بحثت فيما تقدَّم في الفرق بين السُّلطة المعقولة والسُّلطة غير المعقولة، أو السُّلطة التي تشجع وتدفع، والسُّلطة التي تشلُّ وتمنع. وذكرت أنَّ المجتمع الغربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان يتميَّز بامتزاج هذين اللونين من ألوان السُّلطة. والسُّلطة المعقولة وغير المعقولة كلاهما سلطة مباشرة صاحبها معروف. فأنت تعرف من يأمر ومن ينهي. الأب، والمُعلِّم، والرئيس، والملك، والضابط، ورجل الدين، والقانون، والضمير الخلقي، والله فوق كل ذلك. وقد تكون الأوامر والنواهي معقولة أو غير معقولة، صارمة أو لينة، وقد أُطيع وقد أعصي، غير أنِّي أعلم دائمًا أنَّ هناك سلطة، وأعلم لِمَن هي، وماذا تبغي، وما ينجم عن طاعتي أو عصياني لها.

وقد تغيَّرت صفة السُّلطة في منتصف القرن العشرين، فلم تَعُد سُلطة مُحدَّدة معروفة. وإنَّما هي سُلطة بغير صاحب. منفصلة عن الأشخاص، لا تُرى. ليس هناك من يأمر، شخصًا كان أو فكرة، بل ويكاد ألَّا يكون هناك قانون خلقي. بيْد أنَّا جميعًا — رغم هذا — نخضع لاتجاه واحد مثلما كان يخضع الناس في مجتمع تحكمه السُّلطة الشديدة. وباتت السُّلطة مشتتة في يد مجهول لا يملكها أحد بعينه. ما هو هذا المجهول؟ قد يكون المكسب، وقد يكون الضرورات الاقتصادية، وقد تكون السوق، أو الحس المشترك، أو الرأي العام، أو ما يفعل الفرد أو يُفكِّر فيه أو يشعر به. إنَّ قوانين السُّلطة التي لا صاحب لها — كقوانين السوق — لا تُرى، ولا يُمكن أن تُهاجم. من ذا الذي يستطيع أن يُهاجم شيئًا لا يُرى؟ ومن ذا يعصي شخصًا لا وجودَ له؟

إنَّ اختفاء السُّلطة المباشرة ملموس بجلاء في جميع ميادين الحياة في الوقت الحاضر. حتَّى إنَّ الآباء أنفسهم يفقدون السلطان الكامل على أبنائهم. ولمَّا كان الآباء صورة من روح العصر الحديث، قلَّما يكون لأحدهم ذاتية مستقلة، أو مبدأ أو عقيدة خاصة به يُخالف بها المجموع، بل ولا يؤمنون بضرورة اختلاف السلوك بين فرد وآخر، فهم يُحاولون أن يحملوا أبناءهم على التجانس مع الجماعة. ولمَّا كانوا أكبر سنًّا من أطفالهم فهم أقل اتصالًا «بالمستحدَثات»، ومن ثمَّ كان أطفالهم أقرب منهم إلى مجاراة العصر، وهم مرغمون على النزول عند إرادتهم. والأمر شبيه بذلك في شئون التجارة والصناعة. فالتاجر أو الصانع لا يُصدر أمرًا إلى عملائه، ولكنَّه يكتفي بالإيحاء إليهم وبإغرائهم بمختلف الحيل والوسائل. وقد تغلغلت الصورة الجديدة للسلطة في هيئات نظامية كالجيش الأمريكي مثلًا، فترى الحكومة تقوم بالدعاية للالتحاق بالجيش بمختلف ضروب الإغراء، ولا تلجأ إلى استخدام سلطتها المباشرة.

وحينما كان للسلطة صاحب معروف، كان هناك صراع بين الآمر والمأمور، وكان هناك عصيان، إن كانت السُّلطة غير معقولة. وفي النضال ضدَّ السُّلطة غير المعقولة، وفي صراع المرء مع أوامر الضمير، كانت الشخصية تتطوَّر، وكان إحساس المرء بذاته — بصفة خاصة — يتطوَّر كذلك وينمو. فكان الفرد يحس بذاته لأنَّه يشك؛ ولأنَّه يحتج، ولأنَّه يعصي. وحتَّى حينما يخضع ويشعر بالهزيمة يحس بذاته، بتلك الذات المدحورة. أمَّا إذا لم يكن المرء واعيًا بخضوع أو عصيان، كأن تتسلَّط عليه فكرة التجانس مع المجتمع ولا يجد لنفسه منها فكاكًا، وتتحكَّم فيه سلطة لا صاحب لها. حينئذٍ يفقد المرء إحساسه بذاته، ويُصبح مجرد «واحد» من آحاد متشابهة، وجزءًا من كل مُتَّسق لا شخصية له فيه.

وتبدأ عملية التكيُّف للمجتمع في سن مبكرة جدًّا؛ حيث يشعر الأطفال بانعدام الرئاسة عليهم، ويحسون بأنَّ سلطة تجانس المجتمع سلطة لا يملكها شخص بعينه، كما يحسون بانعدام فرديتهم وضرورة انصياعهم لمسلك المجموع. ومن الشذوذ أن ينعزل الطفل أو يتفرَّد، ومن عجب أن يفخر كل إنسان بأنَّه اجتماعي أو فرد في قطيع، بدلًا من أن يفخر بشخصيته المستقِلَّة المتميزة.

ومِمَّا يدعو إلى انفصال الشخص كذلك عن طبيعته صورة أخرى من صور توحيد المجتمع نجدها في عملية التسوية بين الأذواق والأحكام، فترى الناس يميلون جميعًا إلى تذوُّق قطع موسيقية بعينها وقراءة كتب بذاتها باعتبارها سلعة لها قيمة معروفة ولا ينبغي أن يتطرَّق إليها شكٌّ.

ومِمَّا يترتَّب على تكيُّف الفرد للمجتمع تكيُّفًا كاملًا أن ينعدم إحساسه بخصوصية حياته وبسرِّية ميوله واتجاهاته. نفسيته مُعرَّاة مكشوفة لا يسترها حجاب. تسمعه يتحدَّث عن مشكلاته الخاصة بغير حساب أو تمييز، لا تحجزه عن غيره فواصل خشية أن يُتْرَك وشأنه فيبقى وحيدًا منعزلًا وهو إحساس لا يُطيقه. يتحدَّث المرء إلى جاره وزميله في كل شأن من الشئون، حتَّى شئونه العائلية، لا يحبس في نفسه أمرًا مكتومًا، كأنَّه لا ينطوي على سرٍّ، وكأنَّه واحد مع غيره، ليس له استقلال ذاتي.

ويدل فن البناء الحديث على انعدام الحياة الخاصة للإنسان، أو عدم اعتبارها على الأقل، فنحن لا نُغلق أبواب حجراتنا — إنْ وُجِدَت هذه الأبواب — إطلاقًا، والبيوت يكشف بعضُها بعضَها إلى درجة كبرى.

وفي ظل هذا الميل نحو التوحيد بين الناس أجمعين، أصبحت الفضيلة — في حكم الأخلاق الجديدة — هي مُوافَقة المجتمع والتكيُّف له، والرذيلة هي اختلاف المرء عن غيره.

وأمسى المرء في المجتمع الحديث لا يُحقِّق لنفسه حياة خاصة إلَّا خِلسة وفي خفاء. فالشائع اليوم أنَّ المرء لا يُحقِّق ذاتيته بِتأمُّلاته وحيدًا منعزلًا، وإنَّما يُحقِّقها بالعمل مع الآخرين. ومعنى ذلك أنَّ المرء يُسلِّم نفسه لغيره، ويُصبح جزءًا لا يتجزَّأ من القطيع الذي يميل إلى الانخراط في سلكه. بل إنَّ الأطباء النفسانيين لَيَنصُحون مَرْضَاهم بألَّا يكونوا «انطوائيين» على حدِّ تعبيرهم، وأن يداوموا الاتصال بغيرهم. ومن لا ينصاع للقطيع يُعتبر مُصابًا بالنورستانيا وفي حالة شاذة تحتاج إلى علاج، أو تحتاج إلى ردع وعقوبة، فينبذه المجتمع.

ونحن نتساءل هل الناس سعداء حقًّا بهذا النظام؟ وهل هم راضون عنه كما يحسبون؟ إذا أخذنا في اعتبارنا طبيعة الإنسان، فلست أظن أنَّ الناس سعداء بهذا النظام. فهم يرون التوحيد والانسياق مع الجماعة واجبًا عليهم، ولكنَّهم يُحسون في الوقت نفسه أنَّهم يئدون في أنفسهم دوافع أخرى. فهذه الحياة المُوحَّدة المُتجانسة التي تنعدم فيها الفردية هي والسجن سواء، تنعدم فيها الذات، وتكتئب فيها النفوس.

إشباع الرغبات

ذكرت من قبل أنَّ السُّلطة التي لا صاحب لها والتوحيد الآلي بين الناس هُمَا إلى حدٍّ كبير نتيجة لطريقتنا في الإنتاج التي تتطلَّب سرعة التكيف للآلة، وطاعة المجموع، والذوق المشترك، والخضوع دون أن تُسْتَخدم القوة. وثَمة ظاهرة أخرى من ظواهر تقدُّمنا الاقتصادي الحديث — وأقصد بها الاستهلاك الكبير لقاء الإنتاج الكبير — كانت سببًا في خلق صفة جديدة في إنسان العصر الحديث، تتباين تبايُنًا قويًّا مع الصفات الاجتماعية لإنسان القرن التاسع عشر، وأعني بهذه الصفة شيوع المبدأ الذي يقول بوجوب إشباع كل الشهوات وإجابة جميع الرغبات التي تنشأ في نفس كل إنسان، فورًا وبغير توانٍ. ومسايرة لهذا المبدأ نشأ نظام البيع بطريقة التقسيط. كان الإنسان في القرن التاسع عشر يشتري ما يُريد، إذا توفَّر لديه المال اللازم. أمَّا اليوم فهو يشتري ما يُريد وما لا يُريد تحت الحساب. ووظيفة الإعلان هي إلى حدٍّ كبير إغراء الناس بالشراء وترغيبهم في اقتناء الأشياء. فالإنسان يعيش في دائرة، يشتري بالتقسيط، وبعدما ينتهي من دفع الأقساط يجد نفسه مضطرًّا إلى بيع ما اشتراه ليستبدل به طرازًا آخر أحدث منه.

وامتد إشباع الرغبات بغير حدود إلى السلوك الجنسي، وبخاصةً منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. وانتشرت آراء فرويد التي يُبشِّر فيها بعدم الكبت، والتي أساء الناس فهمها، فاعتقدوا أنَّ الصحة البدنية والنفسية لا تتوفَّر للفرد إلَّا إذا أشبع رغباته الجنسية ونفَّس عن غريزته بالاتصال الجنسي، بل إنَّ بعض الآباء ليُعينون أبناءهم على تحقيق رغباتهم هذه بصورة مُعقَّدة كثيرًا ما تُؤدِّي إلى العقد النفسية عند الآباء أنفسهم.

وأخذ الأدباء والكُتَّاب والعلماء يُنادون بإشباع الرغبات. ففي كتاب «العالم الطريف» لأولدس هكسلي الذي نقلته إلى اللغة العربية، يُشير الكاتب على المراهقِين «بألَّا يُؤجِّلُوا إلى الغد متعة يستطيعون الحصول عليها اليوم.» فإنَّ في ذلك مجلبة للسعادة. ويرى هكسلي في «العالم الطريف» أيضًا أنَّ الناس في العالم الجديد «يحصلون على ما يريدون، ولا يحتاجون قط ما لا يستطيعون الحصول عليه.» وفي نفس هذا الكتاب يرى الكاتب مُتأثِّرًا بمبدأ ضرورة إشباع الرغبات أنَّ «الحب» ينبغي ألَّا يدوم لفترة طويلة؛ لأنَّ الحب عنده رغبة جنسية قصيرة المدى يجب إشباعها فور الإحساس بها. وفي هذا العالم الجديد الذي يتخيَّله هكسلي «يحرص كل امرئ على عدم الإغراق في حب شخص واحد.» وليس في هذا العالم ما يُغري المرء بمقاومة أيَّة نزوةٍ من نزواته.

ويؤدِّي عدم التقيُّد في إشباع الرغبات إلى نفس النتيجة التي يُؤدِّي إليها تلاشي السُّلطة المنسوبة إلى شخص بعينه، يُؤدِّي إلى إصابة النفس بالجمود والشلل، وإلى هدمها في نهاية الأمر. فإذا كنتُ لا أؤجِّل إشباع رغبة من الرغبات (والناس مُهيَّئُون لئلَّا يشتهوا إلَّا ما يُمكن الحصول عليه) فلن يقوم في نفسي صراع، أو تثور شكوك. لا أُقرِّر قرارًا في مفترق الطرق، ولا أبقى وحيدًا في عزلة مع نفسي؛ لأنِّي مشغول دائمًا، في عمل أو في لهو. لست في حاجة إلى أن أكون واعيًّا بنفسي كما هي في حقيقتها؛ لأنِّي منهمك دائمًا في الحصول على الملذات. ولست إلَّا مجموعة من الرغبات تثور ثمَّ تتحقَّق في حينها. وعليَّ أن أعمل لكي أُحقِّق رغباتي، وهذه الرغبات لا يبعثها ولا يُوجِّهها إلَّا الجهاز الاقتصادي السائد. وأكثر الشهوات — حتَّى الشهوة الجنسية — لا تتَّجه وجْهتها الطبيعية التي خُلِقَت بها. وإنَّما تستثار بطرق مصطنعة إلى حدٍّ كبير. ولا مفرَّ لنا من ذلك إذا أردنا للناس أن يخضعوا للنظام المعاصر فيكونوا «سعداء» ليس في نفوسهم صراع أو شك، ينقادون دون استخدام القوة.

وقد بُنِيَت أسباب اللهو على أساس إشباع الرغبة في الاستهلاك، والتقبُّل والأخذ والسلبية، دون الإيجابية أو العطاء. فالسِّلَع، والمَناظر، والأطعمة، والشراب، والسجاير، والمُحاضَرات والكتب، والصور المتحركة، كل ذلك يُستهلك ويُبتلع، كل ما في هذه الدنيا مُشتهًى، ولمَّا كان ابتلاع كل ذلك مستحيلًا من المستحيلات فلا مفرَّ من خيبة الأمل. وموقفنا إزاء هذا العالم موقف الطفل الرضيع، الذي لم يتم فطامه، يَتوق دائمًا إلى ثدي أمه، ولا يتجاوز قط مرحلة التناول والاستقبال.

ومن أجل هذا ترى الناس في قلق مستمر، يشعرون بالنقص وعدم الاكتفاء دائمًا. تنقضي أيامهم في هذه الدنيا دون إحساس صادق بمعنى الحياة، بسبب وقوفهم مَوقِف القابل لا مَوقِف الفاعل. وهم يعالجون هذه السلبية بسلبية أخرى تتمثَّل في الثرثرة المستمرة وفي «الكلام» الذي لا ينقطع، فبدلًا من أن يكون الكلام عملية منتجة كما كان في الماضي أصبح أداءً لا طائل وراءه، شأنه شأن السُّلطة، وشأن عملية الاستهلاك، كانَا فيما مضى وسيلتين من وسائل تعزيز الحياة، فباتَا مَقصدَين يهدف إليهما المرء لذاتهما.

حرية الكلام

اكتشف فرويد أنَّ المرء إذا أرسل أفكاره إرسالًا بغير قيد، وإذا أطلق المعاني التي تدور في نفسه على لسانه معنًى بعد معنًى بغير رابط، إذا فعل ذلك في حضرة مُستمِع ماهر، استطاع هذا المستمِع أن يكشف عن مشاعر المُتحدِّث الخفية، وعن آرائه اللا شعورية، دون أن يلجأ إلى تنويمه. أو إلى تحليل أحلامه، ودون أن يكون المُتحدِّث مجنونًا أو مخمورًا يتكلَّم بغير ضبط ودون وعي. يستطيع المُحلِّل النفساني الذي يستمع إليك وأنت تتكلَّم في حرية تامَّة أن يقرأ ما بين السطور — أو ما بين كلماتك — ويستطيع أن يفهمك فهمًا أفضل من فهمك لنفسك؛ لأنَّك أطلقت فكرك من قيود الرقابة على التفكير التي يُقيمها كل امرئ على نفسه. كان الغرض من «تداعي المعاني» الوصول إلى أغوار النفس لوصف العلاج لما يُعانيه صاحبها، غير أنَّه سرعان ما تدهور كوسيلة علاجية، كما تدهورت السياسة وأَمْسَت مجرد استهلاك للسلع، وتدهوَرَت الحرية ذاتها وأصبحَت تحقيقًا لرغبات الإنسان بغير ضابط أو رابط. وبدلًا من أن يكون «تداعي المعاني» وسيلة لإخراج الآراء الحبيسة في نفس المريض؛ تعبيرًا له معناه وله دلالته، تحوَّل إلى ثرثرة لا معنى لها، وأضحى أسلوبًا تافهًا من أساليب التحليل النفساني. وبات المُحلِّل النفساني مستمعًا عطوفًا، لا يُحلِّل على أساس علمي. وكثيرًا ما تسمعه في قراره يُكرِّر كلام المريض في صيغة لا تختلف كثيرًا عن الصيغة التي تفوَّه بها، دون أن يُحاول الشرح والتفسير. ويُبرِّر هذا العبث بأنَّه لا يود أن يتدخَّل في حرية المريض. واستغل بعض علماء النفس فكرة «تداعي المعاني» التي ابتدعها فرويد فيما أسموه الإرشاد السيكولوجي. وقد يقوم المرشد السيكولوجي بأي عمل إلَّا أن يُرشد المريض إرشادًا صحيحًا. بيْد أنَّ المُرشدين السيكولوجيين يلعبون دورًا كبيرًا كأطباء خاصين، وكناصحين في شئون الصناعة. وإنِّي لأرتاب أشد الريبة في قيمة هذا الإرشاد. فهو قطعًا ليس طريقة العلاج التي فكَّر فيها فرويد حينما ابتكر طريقة تداعي المعاني كأساس لفهم ما يُبطنه اللاشعور، وهو أقرب إلى أن يكون تخفيفًا من حدة التوتُّر الذي ينشأ عن الكلام الصريح في أمر من الأمور في حضرة مستمع عطوف. فإنَّ ما يُضمره المرء من أفكار — ما دام يحتفظ بها لنفسه — قد تُسبِّب له الانزعاج والهلع. غير أنَّ هذا الانزعاج نفسه قد ينتهي بصاحبه إلى نتيجة مُثمرة. فهو يُدير في ذهنه آراءه، ويُفكِّر، ويشعر، وقد يصل إلى فكرة جديدة تتولَّد عن هذا المجهود. في حين أنَّه إذا صرَّح بكل ما في نفسه، وإذا لم يسمح لأفكاره ومشاعره بالضغط عليه، لا يُهيِّئ لنفسه فرصة التفكير المبتكر. وما أشبه ذلك بالاستهلاك الذي لا يحول دونه حائل، فالإنسان في كلتا هاتين الحالتين يتحوَّل إلى وعاء فارغ تُصبُّ فيه المادة وتتسرَّب منه، دون أن يستبقي في داخله شيئًا، فليس من شدٍّ وجذب، وليس من هضم. ولا من نفس لها كيانها. كان فرويد يستهدف من تداعي المعاني استخراج ما يدور بنفس المريض تحت السطح، ويرمي إلى أن يعرف «من هو» المريض على حقيقته. بيد أنَّ الطريقة الحديثة التي يتكلَّم فيها الشخص مسترسلًا في حرية وإلى غير غاية في حضرة مُسْتَمِع عطوف، لا تُؤتي أيَّة ثمرة. الغرض من هذه الطريقة أن «ينسى» المرء من هو (بشرط أن يبقى لديه شيء من الذاكرة) وأن يزول عنه كل توتُّر، وبزوال التوتُّر يزول الإحساس بالنفس. والمرشد النفساني في هذه الحالة، يُعامل المريض كأنَّه آلة، إذا أَمدَدْتها بشيء من الزيت يسَّرت دورانها، وإذا أعطيته فرصة التعبير عن نفسه بكلام حرٍّ خفَّفت من عبء نفسه، وبخاصة إن كان من العُمَّال الذين ينتسبون إلى مؤسسة من مؤسسات العمل الكبرى التي لا ترتاح الأعصاب فيها أثناء العمل. هؤلاء يطمئنون إلى عطف المرشدين النفسانيين عليهم، كما يطمئنون إلى المزايا المادية وإلى معسول الكلام.

إنَّ طريقة الإرشاد السيكولوجي التي يسترسل فيها المريض في كلامه ليستمع إليه رجل غير فنِّي في طريقة التحليل، لهْوٌ وَعَبث. وليس هناك ما يُبرِّرها إلَّا أنَّها تُساير العصر الحديث الذي يُبيح «صراحة الكلام». بغير مانع، أو إحساس بالخجل أو إمساك. يتحدَّث المرء عن الحوادث المؤلمة في حياته بنفس البساطة التي يتحدَّث بها عن شخص آخر لا يهتم به اهتمامًا خاصًّا، أو كما يتحدَّث عن المتاعب العديدة التي سببَّتها له سيارته.

والواقع أنَّ علم النفس والعلاج النفساني في سبيل تغيير وظيفتهما تغييرًا شاملًا. كانت وظيفة علم النفس من أيام كاهنة دلفي التي كانت تُنادي الإنسان «بأن يعرف نفسه» إلى عهد العلاج بالتحليل النفساني لفرويد، أن نكتشف النفس وأن نفهم الفرد، وأن نصل إلى الحق الذي يتحرَّر معه الإنسان. أمَّا اليوم فوظيفة العلاج النفساني وعلم النفس والتحليل النفساني، أن تكون أداة نتناول بها الناس. يقول لك الإخصائي في هذا الميدان مَنْ هو الرجل «العادي»، وبالتالي يُعرِّفك بما ينقصك. وهو يبتدع الوسائل التي تعين المرء على التكيُّف للمجتمع، وعلى تحقيق السعادة، وعلى أن يكون إنسانًا عاديًّا. وتقوم الصحف والراديو والتلفزيون بقسط كبير من هذه العملية، وأروع ما حقَّقناه في تناول الإنسان من هذه الناحية هو علم النفس الحديث. إنَّ علماء النفس وأطباء العلاج النفساني وعلماء التحليل النفساني أصبحوا خطرًا على تقدُّم الإنسان، يُبشِّرون بالاسترسال في اللهو، وبالاندفاع في الاستهلاك. وبانعدام التفرُّد والذاتية المستقلة. لقد باتوا يدعون إلى تناول الناس كأنَّهم سلع متشابهة من صِنف واحد لا صلة بين الشخص وطبيعته.

العقل والضمير والدين

وما مصير العقل والضمير والدين في هذا العالم الذي يعيش فيه المرء عيشة منفصلة عن طبيعته؟ إذا نظرنا إلى الموضوع نظرة سطحية حكمنا بأنَّ الإنسان يتطوَّر وينمو في تفكيره وفي معتقداته وفي إحساسه بالحق وبالباطل. ففي البلدان الغربية تكاد لا تجد أُمِّيًّا يجهل القراءة والكتابة، والتعليم الجامعي في هذه البلاد يزداد يومًا بعد يوم، ويكاد كل امرئ أن يقرأ الصحيفة كل صباح، وأن يتحدَّث عمَّا يدور في جميع أنحاء العالم عن دراية ومعرفة. أمَّا فيما يختص بضمير الفرد فأكثر الناس يتصرَّف تصرُّفًا سليمًا في حدود دائرته الشخصية الضيقة. ويكاد الناس جميعًا — فيما يتعلَّق بالدين — أن يؤمنوا بالله، ويتوجَّه الكثيرون منهم إلى بيوت الله، ولكنَّه ظاهر من الأمر يُنافي ما يضطرم في دخائل نفوسهم.

وحينما نتحدَّث عن العقل يجب أن نُحدِّد أولًا معنى القدرة العقلية التي نشير إليها. وقد فرَّقنا من قبل بين الذكاء والعقل، وقلنا إنَّنا بالذكاء نعني القدرة على تناول الآراء بقصد بلوغ غاية عملية. فالشمبانزي الذي يضم عصًا إلى عصًا لكي يحصل على الموز المُعلَّق بسقف الغرفة؛ لأنَّ كل عصًا على حِدَةٍ أقصر من أن تصل إلى الموز، هذا الشمبانزي يستخدم ذكاءه. وكذلك نحن جميعًا نستخدم ذكاءنا حينما نُمارس أعمالنا. ونُفكِّر في طريقة أدائها. «الذكاء» بهذا المعنى يأخذ الأمور قضايا مُسلَّمًا بها كما هي، ويُؤلِّف بين شيء وآخر بقصد تيسير تناولهما. وهو أداة تُستخدم لأغراض البقاء البيولوجي. أمَّا العقل فيهدف إلى الفهم، وهو يُحاول أن يكتشف ما وراء السطح، وأن يبلغ النواة، ويصل إلى جوهر الحقيقة التي تُحيط بنا. وللعقل وظيفته، ولكنَّه لا يخدم بها الوجود المادي بمقدار ما يخدم الوجود العقلي والروحي. ومَهما يكن من أمر فإنَّ العقل في الحياة الفردية والاجتماعية، كثيرًا ما يُطلب للتنبؤ بما ينتظر حدوثه (وكثيرًا ما يتوقَّف التنبؤ على معرفة القوى التي تعمل في الخفاء، تحت السطوح الظاهرة)، والتنبؤ ضروري أحيانًا حتَّى للبقاء المادي.

والعقل يتطلَّب الاتصال والإحساس بالذات. أمَّا إن كان الفرد مجرد مستقبِل سلبي للانطباعات والأفكار والآراء، فهو يستطيع أن يُقارن بينها، ويستطيع أن يتناولها، ولكنَّه لا يستطيع أن ينفذ فيها. لقد استنبط ديكارت وجود نفسه كفرد من أنَّه يُفكِّر. إذ يقول: أنا أشك، فأنا إذن أُفكِّر، وأنا أُفكِّر فأنا إذن موجود. وعكس ذلك صحيح أيضًا. فأنا لا أستطيع أن أستخدم عقلي، إلَّا إن كنت موجودًا، وإلَّا إذا لم أفقد فرديتي في المجهول العام.

ويرتبط بذلك ارتباطًا وثيقًا انعدام الإحساس بالواقع، الذي تتميَّز به الشخصية المنفصلة عن طبيعتها. إنَّ وصف الإنسان المُعاصر بانعدام الإحساس بالواقع يُناقض الفكرة العامة الشائعة التي تزعم أنَّنا نتميَّز عن أكثر عصور التاريخ بازدياد واقعيتنا. بيد أنَّ واقعيتنا واقعية منحرفة. أي واقعيين هؤلاء الذين يلعبون بالأسلحة التي قد تؤدِّي إلى تحطيم المدنية الحديثة بأسْرها، بل إلى تحطيم الأرض وما عليها! إنَّنا إذا وجدنا فردًا يفعل ذلك ألقينا به في غيابة السجن لفوره، فإن ادَّعى بأنَّه واقعي وصفه الأطباء النفسانيون بالمرض العقلي. وبغض النظر عن ذلك، ليس من شكٍّ في أنَّ الإنسان الحديث يُبدي انعدامًا في واقعيته في كل أمر هام لدرجة تذهل لها العقول؛ فهو أبعد ما يكون عن الواقعية في معنى الحياة والموت، وفي السعادة والآلام، وفي الشعور والتفكير الجدي. إنَّه يغض الطرف عن واقع الوجود البشري كله ويستبدل به واقعية مصطنعة عتيقة بالية مُتحجِّرة، لا تختلف كثيرًا عن واقعية المتوحشين الذين يُضيعون أراضيهم وحرياتهم من أجل قطع من الزجاج البرَّاق. فهي واقعية لا تستند إلى عقلٍ.

وعامِل آخر في المجتمع المُعاصر سبقت الإشارة إليه يؤدي إلى هدم العقل أودُّ أن أُعيد القول فيه في هذا المقام. ليس هناك في الوقت الحاضر فرد واحد يقوم بعملية واحدة كاملة، وإنَّما يقوم بجزء منها فقط. وما دام حجم الأشياء، وتنظيم الجماعات، أضخم من أن يُدرك بكليته، فالشيء لا يُمكن أن يُرى في مجموعه. ومن ثَمَّ فإنَّ القوانين التي تتحكَّم في الظاهرة خفية لا تُرى. والذكاء يكفي لكي يتناول تناولًا صحيحًا جانبًا من وحدة كبرى سواء كانت الآلة أو الدولة، ولكن العقل لا ينمو إلَّا إذا ارتبط بالكلِّ، وعالج كليات يُخْضِعها لملاحظته وإدارته. وكما أنَّ آذاننا وأعيننا لا تُؤدِّي وظائفها إلَّا في حدود كمية معينة من الأطوال الموجية. فكذلك العقل مُقيَّد بما يُلاحظ ككل وفي حدود وظيفته في مجموعها. أو بعبارة أخرى، إذا تجاوز الحجم ضخامة معينة، فلا بُدَّ للمحسوس أن يتلاشى ليحل محله المُجرَّد، ومع التجريد يزول الإحساس بالواقع. وأول من أدرك هذه المشكلة أرسطو، الذي كان يرى أنَّ المدينة إذا تجاوزت في عددها ما نُسمِّيه اليوم بلدًا صغيرًا لا يُمكن العيش فيها.

وإذا لاحظنا نوع التفكير عند الإنسان الذي ينفصل في طرق حياته عن مطالب الطبيعة، أذهلنا فيه نمو ذكائه وتدهور عقله. فالإنسان المُنفصل يأخذ واقعه أمرًا مُسلَّمًا به. إنَّه يريد أن يأكله، وأن يستهلكه، وأن يمسَّه، وأن يتناوله، ولكنَّه لا يُكلِّف نفسه حتَّى أنْ يتساءلَ عمَّا وراء ذلك. أو لماذا تسير الأمور في هذا المجرى دون ذاك؟ وإلى أين تتجه؟ إنَّك لا تستطيع أن تأكل المعنى، ولا تستطيع أن تستهلك المغزى. ولا يُحب إنسان العصر الحاضر أن يرى أبعد من أنفه، فإن عرض له التفكير في المستقبَل طَمْأَن نفسه بقوله: «بعدي يكون الطوفان!» إنَّ غباء الإنسان قد تزايد منذ القرن التاسع عشر حتَّى اليوم بدرجة ملحوظةٍ، إذا نحن قصدنا بالغباء ما يُناقض العقل، ولم نقصد به ما يُناقض الذكاء. فبالرغم من أنَّ كل إنسان يقرأ الصحيفة اليومية كأنَّ قراءتها صلاة من الصلوات، إلَّا أنَّه لا يفهم معنى الحوادث السياسية ودوافعها الحقيقية؛ لأنَّ الذكاء يُعينه على إنتاج أسلحة يعجز عقله عن التحكُّم فيها. يعرف الإنسان كيف يصنع السلاح ولا يعرف لماذا أو لأي غرض. وهناك أشخاص كثيرون على درجة عالية من الذكاء، غير أنَّ مقاييسنا للذكاء لا تقيس إلَّا القدرة على الاستذكار، وعلى التصرُّف في الآراء تصرُّفًا سريعًا، ولكنَّها لا تقيس العقل. ولا يمنع ذلك أن يكون بيننا أفراد ذوو عقل ممتاز، تفكيرهم يبلغ في عمقه وشدته ما بلغه أي إنسان في تاريخ البشر. بَيْد أنَّ هؤلاء يُفكِّرون في عزلة عن التفكير العام للقطيع، ويُنْظَر إليهم بعين الريبة، بالرغم من حاجتنا إليهم في الأعمال الاستثنائية وفي تقدُّم العلوم الطبيعية خاصة.

إنَّ الذهن الآلي الجديد مثال حسن لما نعني بالذكاء. إنَّه يتناول الحقائق التي يُزوَّد بها، وهو يُقارن وينتقي، ويخرج في النهاية بنتائج أسرع وأقرب إلى الصواب مِمَّا يصل إليه الذكاء البشري، غير أنَّه يُشترط في ذلك كله أن تُزوَّد الآلة بالحقائق الأساسية منذ البداية. أمَّا ما لا يستطيعه الذهن الكهربائي فهو أن يبتدع، وأن يُدرك بالبداهة جوهر الحقائق التي تقع تحت ملاحظته، وأن يتجاوز الحقائق التي يُزوَّد بها. إنَّ الآلة تستطيع أن تُعيد ما يفعله الإنسان بذكائه، أو تزيد عليه، ولكنَّها لا تستطيع أن تدَّعي لنفسها العقل.

وكما أنَّ الحياة الحديثة قد تُنمِّي الذكاء ولكنَّها لا تُنمِّي العقل، فهي كذلك لا تُنمِّي الحس الخلقي؛ لأنَّ «الأخلاق» — على الأقل بمعناها في الديانات السماوية — لا تنفصل عن العقل. فالسلوك الخلقي يستند إلى القدرة على الحكم بالقيم على أساس من العقل. والسلوك الخلقي معناه الفصل بين الخير والشر، ثمَّ عمل الخير، وهذا الفصل من فعل العقل. واستخدام العقل يفترض وجود النفس المستقلة، وكذلك يفترض وجودها الحكم الخلقي والعمل الخلقي. ثمَّ إنَّ الأخلاق — سواء كانت مِمَّا يُوحي به الدين أو تُوحي به الإنسانية — تقوم على أساس أنَّ الفرد البشري لا يعلوه نظام أو شيء مُقدَّس، وعلى أساس أنَّ الهدف من الحياة هو الكشف عن حب الإنسان وعن عقله، وأنَّ كل نشاط بشري آخر يجب أن يخضع لهذا الهدف. وكيف يُمكن — على هذه الأُسس — أن تكون الأخلاق جانبًا هامًّا من الحياة، إذا أمسى الفرد فيها آليًّا، يخدم غاية مجهولة كبرى. وكيف يُمكن للضمير — فوق ذلك — أن ينمو، إذا كان أساس الحياة التوحيد بين الناس، والتسوية بين الجميع؟ والضمير بطبيعته لا يخضع لقاعدة التوحيد والتسوية والتجانس الكامل بين فرد وآخر. ويجب أن يكون باستطاعة الضمير أن يقول «لا» حينما يقول كل إنسان آخر «نعم»، ولكي يقول «لا» هذه يجب أن يكون على ثقة من صدق الحكم الذي يبني عليه خلفه مع الناس. وكلَّما اشتد خضوع الفرد لمسلك المجموع انخفض صوت ضميره، ولم يعمل طبقًا لما يُمْلِيه. فالضمير لا ينشأ إلَّا حينما يحس الإنسان بنفسه كإنسان، لا كشيء أو سلعة. و«للأشياء» التي نتبادلها في السوق قانون خُلقي آخرَ، هو «الإنصاف». والسؤال الذي نُوجِّهه في هذا الصدد هو هذا: هل يتم تبادل الأشياء بسعر معتدل، دون أن تتدخَّل الحيلة أو القوة في عدالة المقايضة؟ هذه العدالة، وليس مبدأ الخير والشر — هي المبدأ الخلقي الذي يسدد السوق، وهي المبدأ الخلقي الذي يتحكَّم في حياة الشخصية السوقية.

ومبدأ «الإنصاف» أو العدالة هذا يُؤدِّي — من غير شك — إلى نوع مُعيَّن من السلوك الخلقي، طبقًا لقانون العدالة لا يكذب المرء ولا يخدع، ولا يستخدم القوة، بل إنَّه لَيُهيئ لغيره ما يهيئ لنفسه من فُرَص. أمَّا أن يُحب المرء جاره، وأن يحس باتحاده معه، وأن يُكرِّس حياته لتنمية قواه الروحية، فذلك ليس من أخلاق العدالة. إنَّنا نحيا حياة فيها كثير من التناقض؛ نُمارس أخلاق العدالة، ونقول بأخلاق المحبة التي تدعو إليها الأديان، ومن العجيب أنَّنا برغم هذا التناقض نستقيم في سَيْرِنا على خطٍّ واحد دون عثرة. فإلامَ يرجع السبب في ذلك؟ إنَّه يرجع من ناحية إلى أنَّ ميراث أربعة آلاف عام من تطوُّر الضمير لم يَضِع كله بأيَّة حال من الأحوال، بل — على العكس من ذلك — إنَّ تحرير الإنسان من قيود الإقطاع والكنيسة في العصور الوسطى بأوربا مكَّن لهذا الميراث أن يؤتي ثمرته، وقد أينع وازدهر في الفترة ما بين القرن الثامن عشر والوقت الحاضر بدرجة لم يسبق لها مثيل.

ومِمَّا يدعو كذلك إلى استقامتنا في المَسير دون تعثُّر برغم ما يَحوطُنا مِن تَناقُض بين الأخلاق الإنسانية وأخلاق العدالة، أنَّنا نُفسِّر الأخلاق الإنسانية الدينية في ضوء أخلاق العدالة. فإن كان الدين يقول: «أحبَّ جاركَ كما تحبّ نفسك.» فَهِمْنا من هذه العبارة أنَّها تعني: «كن عادلًا حينما تتبادل، أَعطِ بمقدار ما تتوقع أن تأخذ، ولا تخدع غيرك.»

ولكن هذا الموقف الوسط بين الأخلاق الإنسانية وأخلاق العدالة بدأ — لسوء الحظ — في الزوال عند شباب العصر الحديث. وسوف يأخذ في التلاشي تدريجيًّا ما لم تتحوَّل الأخلاق الإنسانية من مُجرَّد ميراث، وتَتغلغَل في طريقة حياتنا بِأسْرِها. بيْد أنَّ السلوك الأخلاقي لا نراه اليوم إلَّا عند بعض الأفراد، في حين أنَّ المجتمع يسير نحو الوحشية والهمجية.

العمل

ما معنى «العمل» في مجتمع لا يقوم على طبيعة الإنسان، ويعيش فيه المرء منفصلًا عن حاجاته البشرية الطبيعية؟

تحدَّثت في هذا الموضوع حديثًا موجَزًا من قبل عندما تعرَّضت لموضوع الانفصال. ولمَّا كانت لهذه المشكلة أهمية قصوى، لفهم المجتمع الحديث، ولأيَّة محاولة لخلق مجتمع أصحَّ، فقد آثرتُ أن أُعالج طبيعة العمل معالجة الخاصة، وفي شيء من الإسهاب فيما يلي:

إنَّ المرء إذا لم يستغل جهد غيره لا بُدَّ له من أن يعمل بنفسه لكي يعيش. ومَهما تكن طريقته في العمل بدائية أو ساذجة، فإنَّه يرتفع عن مستوى الحيوان؛ لأنَّه يُصبح بعمله منتجًا. وقد صدق من عرَّف الإنسان بأنَّه «الحيوان الذي ينتج.» غير أنَّ العمل لا يقتصر على كونه ضرورة للإنسان لا مفر منها، إنَّه — علاوة على ذلك — العامل الذي يُحرِّره من الارتباط بالطبيعة، وهو الذي يخلقه ككائن اجتماعي مستقلٍّ. ويُشكِّل الإنسان نفسه ويُعدِّل منها أثناء عمله؛ أي أثناء تشكيله للطبيعة الخارجة عنه وأثناء تعديله لها. وبذلك يخرج الإنسان عن الطبيعة سيِّدًا عليها، ويأخذ في تنمية قدراته على التعاون، والتعقُّل، والإحساس بالجمال. إنَّه بالعمل يفصل نفسه عن الطبيعة، ويتحلَّل من وحدته الأصيلة بها، ولكنَّه — في الوقت نفسه — يِتَّحِد بها مرة أخرى مُتحكِّمًا فيها وبانيًا لها. وكلما نمَا عمله نَمَت فردِيَّته، وهو خلال تشكيله للطبيعة وإعادة تصويرها يتعلَّم كيف يستخدم قُواه، ويزيد من مهارته، ومن قدرته على الإبداع. وإذا نَظرْنَا إلى الصور الجميلة في كهوف جنوب فرنسا، أو إلى النقوش التي تتحلَّى بها الأسلحة عند المُتوحِّشِين، أو إلى تماثيل اليونان ومعابدهم، أو إلى كاتدرائيات العصور الوسطى، أو إلى المقاعد والموائد التي صنعتها أيد ماهرة، أو إلى زراعة الأشجار والحبوب والزهور بجهد الفلاحين، إذا نَظرْنا إلى ذلك كله وَجَدْنا تعبيرًا عن تحوير الإنسان للطبيعة بعقله ومهارته؛ تحويرًا فيه خلق وفيه إبداع وابتكار.

وقد كانت الحِرَف في تاريخ غربي أوربا — وبخاصة كما تطوَّرت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر— تُؤلِّف ظاهرة هامَّة من ظواهر التطوُّر في العمل الإنشائي. لم يكن العمل مجرد نشاط نافع، ولكنَّه كان كذلك نشاطًا يحمل في طياته رِضى الإنسان عن نفسه إلى درجة كبيرة. وقد عبَّر س. و. ملز عن السمات الأساسية للحِرَف تعبيرًا واضحًا في هذه العبارة: «لم يكن للعمل دافع سوى حب الإنتاج وما يتعلَّق به من عمليات الإنشاء. فكان لتفصيلات العمل اليومي مغزاها؛ لأنَّها لا تنفصل في عقل العامل عن إنتاج العمل. وكان العامل حُرًّا في السيطرة على نشاطه العملي، وصاحب الحرفة قادرًا على أن يتعلَّم من عمله، وعلى أن يستخدم ويُنمِّي قدراته ومهاراته في أدائها. ولم يكن بين العمل واللعب، أو بين العمل والثقافة حائلٌ. فالوسيلة التي يتخذها صاحب الحِرْفَة للحصول على عيشه تتحكَّم وتتغلغل في طريقة عيشه كلها.»

ولمَّا انهار بناء العصور الوسطى، وبدأَت طريقة الإنتاج الحديثة في الظهور، تغيَّر معنى العمل ووظيفته تغيُّرًا أساسيًّا. فقد كانت الحرية كسبًا جديدًا للإنسان يخشاه؛ لأنَّه لم يألفه، فتحكَّمت فيه الحاجة إلى التغلُّب على شكوكه ومخاوفه بمضاعفة نشاطه. وكان تحريره يتوقَّف على نتيجة هذا النشاط من فشل أو نجاح، فيشعر بالهدى أو بالضلال. وفي أكثر الأحيان أمسى العمل واجبًا وعبئًا ثقيلًا على النفس بدلًا من أن يكون لونًا من ألوان النشاط الذي يُمتِّع النفس في حد ذاته ويُرضيها. وكلَّما أمكن كسب الثروة عن طريق العمل، أضحى العمل وسيلة خالصة لتحقيق الثراء والنجاح، وسببًا في انصراف المرء عن الاستمتاع بحياته الداخلية. وحلًّا من الحلول يلجأ إليه للفرار من إحساسه بالوحدة والعزلة.

ومَهما يكن من أمر فإنَّ العمل بهذا المعنى لم يُوجد إلَّا للطبقة العليا والطبقة الوسطى، أولئك الذين يستطيعون أن يجمعوا شيئًا من رأس المال، ويستخدمون عمل غيرهم. أمَّا الغالبية العظمى من أولئك الذين لا يملكون سوى نشاطهم البدني يُقدِّمونه للبيع، فلم يَعُد العمل بالنسبة إليهم سوى شغل إجباري. فالعامِل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الذي كان لا بُدَّ له من العمل ست عشرة ساعة لكي لا يموت جوعًا لم يكن يفعل ذلك تعبُّدًا للهِ بهذه الطريقة، ولا لأنَّ نجاحه يدل على أنَّه من «أصحاب الامتياز» وإنَّما يفعله لأنَّه مُرغم على بيع نشاطه لأولئك الذين يملكون الوسيلة لاستغلاله. فالعمل في القرون الأولى من العهد الحديث ينقسم إلى «واجب» بالنسبة للطبقة الوسطى و«شغل إجباري» بالنسبة لأولئك الذين لا يملكون شيئًا ما.

وقد كانت لوصف العمل «بالواجب» صبغة دينية سادت حتَّى القرن التاسع عشر، ولكنَّها أخذت تتغيَّر تغيُّرًا محسوسًا في السنوات الأخيرة. ذلك أنَّ الإنسان الحديث لا يعرف ماذا يصنع بنفسه، وكيف يقضي حياته بصورة لها عنده معنًى ومغزًى، فيندفع إلى العمل لكي يتحاشى مللًا لا يُطيقه. غير أنَّ العمل لم يَعُد واجبًا خلقيًّا ودينيًّا بالمعنى الذي كانت تفهمه الطبقة الوسطى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فقد نشأت حالة جديدة بسبب تزايد الإنتاج، والاندفاع نحو تحسين المصنوعات حجمًا ونوعًا، حتَّى أمست في حدِّ ذاتها هدفًا، ومثلًا أعلى جديدًا، وبات العمل منفصلًا عن الشخص العامل، غير متصل باحتياجاته الطبيعية.

ماذا يحدث للعامل الصناعي في هذا الجو الجديد؟ إنَّه يُنفق أفضل نواحي نشاطه لسبع أو ثماني ساعات كل يوم في إنتاج «شيء ما». وهو بحاجة إلى عمله ليكسب قوت يومه، بيد أنَّ الدور الذي يلعبه يتحتَّم أن يكون سلبيًّا، فهو يُؤدِّي وظيفة صغيرة مُنعزِلة منفصلة في عملية إنتاج كبرى مُعقَّدة مُحكَمة التنظيم، ولا يشهد قط إنتاجه بكليته كمنتج، وقد يشهده كمستهلِك إن توفَّر له المال لشراء إنتاجه هذا في محل من محلات المبيع. وهو لا يهتم بالإنتاج بأكمله من وجهته المادية، أو من وجهته الاقتصادية أو الاجتماعية. فهو يوضع في موضع معين، وعليه أن يُؤدِّي عملًا بعينه، ولكنَّه لا يُسهم في تنظيم العمل أو إدارته. لا تهمه، ولا يعرف لماذا يُنْتِج الإنسان هذه السلعة بدلًا من تلك، وأيَّة علاقة بينها وبين حاجات المجتمع ككلٍّ. إنَّ «المشروع» الذي يعمل به يُنتج — باستخدام الآلات — الأحذية أو العَربات أو المصابيح الكهربائية، وإنْ هو إلَّا آلة من الآلات، لا يُسيطر عليها كعامل فعَّال يلعب دورًا إيجابيًّا، بل لقد باتت الآلة سيدة عليه بدلًا من أن تكون في خدمته تؤدِّي له عملًا كان يُؤدَّى فيما مضى بالمجهود البدني وحده. وبدلًا من أن تكون الآلة عوضًا عن النشاط البشري، أصبح الإنسان عوضًا عن الآلة. ويُمكن تعريف شغله بأنَّه أداء تلك الأعمال التي لم يُمكن بعد للآلة أن تُؤدِّيها.

والعمل وسيلة للحصول على المال، وليس في حدِّ ذاته نشاطًا إنسانيًّا له معناه. وقد عبَّر عن هذه الفكرة في وضوح وإيجاز العالم الاقتصادي دركر عند زيارته للعُمَّال في أحد مصانع السيارات إذ قال: «إنَّ المعنى الوحيد للوظيفة عند الغالبية العظمى لعُمَّال السيارات هو المُرتَّب. وليست للوظيفة أي معنًى يرتبط بالعمل أو بالإنتاج. ويبدو أنَّ العمل شيء غير طبيعي، أو هو شرط للحصول على المُرتَّب، غير مُحبَّب إلى النفس، سخيف، لا معنى له، يخلو من الكرامة كما يخلو من الأهمية. فلا عجب أن يدعو ذلك إلى التراخي، والإهمال، وإلى التحايل للحصول على نفس المرتب بعملٍ أقلَّ. ولا عجب أن يُؤدِّي ذلك إلى بؤس العامل وسخطه؛ لأنَّ المُرتَّب لا يكفي لأن يحترم المرء نفسه من أجله.»

وهذه العلاقة بين العامل وعمله نتيجة للنظام الاجتماعي بأسره الذي هو جزء منه، «فاستخدام» العامل لا يجعل منه عاملًا إيجابيًّا فعَّالًا، ولا يُلقي عليه مسئولية سوى حُسن أداء الجزء المنفصل من العمل الذي يقوم به، ولا يُثير فيه قليلًا من الاهتمام سوى عودته إلى بيته بالمال الذي يكفي عيشه وعيش أسرته. ولا يُطلب منه أكثر من ذلك، ولا يَتوقَّع أحد منه شيئًا غير هذا. إنَّه جزء من الجهاز المستأجِر لرأس المال، ودوره ووظيفته خاضعان لهذه الصفة التي تجعل منه جزءًا من الجهاز. وفي السنوات الأخيرة وُجِّهت عناية خاصة لسيكولوجية العامل ولموقفه من عمله، و«للمشكلة الإنسانية في الصناعة». وهذا التعبير نفسه يدل على نظرتنا إلى الموضوع، فنحن نفترض وجود الإنسان الذي يقضي الجانب الأكبر من حياته في العمل، في حين أنَّ ما ينبغي لنا بحثه هو حل مشكلة الصناعة مع وضع الإنسان وحياته في الاعتبار الأول، وليس حل مشكلة الإنسان وحياته مع وضع الصناعة في الاعتبار الأول.

وأكثر البحوث في ميدان علم النفس الصناعي تتعلَّق بمشكلة زيادة القدرة الإنتاجية للعامل، وكيف نحمله على العمل دون احتكاك مؤذٍ بغيره. فكأنَّ علم النفس يُقدِّم خدماته «لهندسة البشر»، وهي مُحاوَلة لمُعاملة العامل والمُوظَّف كآلة يسهل دورانها إذا أحسن تزيينها. إنَّ أكثر علماء علم النفس الصناعي يهتمون بتناول نفسية العامل، بمعنى أنَّه إذا كان يُحسن عمله لو حقَّق لنفسه سعادتها، إذن فلنجعله سعيدًا، آمنًا، راضيًا، أو أي شيء آخر، بشرط أن يزداد إنتاجه وتقل أسباب احتكاكه. وباسم «العلاقات الإنسانية» يُعالج العامل بكل الحيل التي تليق بشخص منفصل تمام الانفصال عن عمله، بل إنَّ السعادة والقيم الإنسانية ذاتها لتُشجع من أجل تحسين العلاقة بين العامل وجمهور المتعاملين معه، أي إنَّه مِمَّا يُرضي العملاء أن يكون العامل سعيدًا. ومِمَّا يعود على الإدارة بالربح الوافر أن تتحسَّن العلاقات بين العامل والجمهور. وفي هذا المجال من الدراسات يتحدَّث الباحثون عن العلاقات الإنسانية، ولو أنصفوا لأسموها العلاقات غير الإنسانية، فهي علاقات بين أفراد آليين مُنفصلِين نفسيًّا عمَّا يعملون. وهم يتحدَّثون عن السعادة ويقصدون الآلية «أو الروتينية» الكاملة التي تقضي على كل تلقائية وكل اختيار عند الإنسان.

ولمَّا كان العمل منفصلًا عن صاحبه، لا يبعث في نفسه الرضا والطمأنينة، فهو ينتهي دائمًا بنتيجتين؛ أولاهما التطلُّع إلى الكسل التام، والأخرى الكراهية العميقة — وإن تكن لا شعورية في كثير من الأحيان — للعمل وكل شيء وكل فرد يتعلَّق به.

فليس من شك في أنَّ الرغبة في الكسل المُطلق والسلبية في العمل قد انتشرت بين الناس. ويُلاحظ أنَّ الإعلانات تضرب على هذا الوتر وتلجأ إلى استثارة الرغبة في الكسل أكثر مِمَّا تلجأ إلى استثارة الغريزة الجنسية. وهناك آلات كثيرة نافعة مُوفِّرة للعمل من غير شك، غير أنَّ نفعها كثيرًا ما يكون مُجرَّد تبرير لاستثارة سلبيتنا المُطلَقة والقابلية دون الفاعلية. فالإعلان قد يذكر أنَّ الآلة الجديدة تُؤدِّي «لك» كل شيء، أو أنَّها تجعل الوجبة الغذائية «أيسر في التناول». بل إنَّ المدارس ذاتها قد تُعلن عن نفسها بأنَّها «تُعلِّم بغير مجهود»، وشركات التأمين تُعلن عن نعمة التقاعد بغير عمل بعد سن الستين.

والراديو والتلفزيون عنصران آخران من العناصر التي تُشجِّع على الكسل. فالمرء يكفيه أن يضغط على زرٍّ لكي يسمع الموسيقى والأحاديث ويُشاهد الرقص والمباريات الرياضية وأهم أحداث العالم. ولا مراء في أنَّ المتعة التي يجدها المرء عندما يسوق بنفسه سيارته ترجع — إلى حدٍّ كبير — إلى اللذة التي يستمدها من توليد القوة بمجرد الضغط على مفتاح من المفاتيح. فأنت حينما تضغط على المفتاح بغير كبير جهد تدفع آلة ضخمة قوية. وبمجهود يسير ومهارة قليلة يُحسُّ السائق أنَّه يتحكَّم في المسافات.

غير أنَّ المعنى الذي ينجم عن رتابة العمل وانعدام معناه له آثار خطيرة، أهمها الكراهية التي تتولَّد في نفوسنا لأداء أي عمل لا يتعلَّق بأشخاصنا. وهي كراهية نحن أقل وعيًا بها منَّا بالرغبة في الكسل والخمود. فكم من صاحب عمل يُحس كأنَّه حبيس عمله وسجين السلع التي يعرضها للمبيع. وهو يشعر بالتدليس والخداع فيما يُنْتِج، كما يُحس باحتقار خفي لنوع العمل ذاته، وهو يمقت عملاءه الذين يرغمونه على التظاهر بغير حقيقته حتَّى يستطيع أن يُغريهم بالشراء. وهو يُبغض منافسيه؛ لأنَّهم مصدر تهديد له، ويكره موظفيه ورؤساءه؛ لأنَّه في نضال دائم معهم. وأهم من ذلك كله أنَّه يمقت نفسه؛ لأنَّه يُدرك أنَّ حياته تنزلق منه دون أن يكون لها معنى أو أثر غير التخدير المُؤقَّت الذي يشعر به في حالة النجاح. ولا مِرية في أنَّ هذه الكراهية التي تملأ جوانحه، وهذا الازدراء لغيره ولنفسه، وللأشياء التي يُنْتجها ذاتها، إحساس لا شعوري إلى حدٍّ كبير، ولا يدخل في نطاق وعيه إلَّا بين الفَيْنة والفَيْنة في فكرة عابرة تُسبِّب له من الانزعاج النفسي ما يحمله على نبذها بمجرد بروزها في ذهنه.

الديمقراطية

وكما بات العمل عملية مُنفصِلة، فكذلك التعبير عن إرادة الناخب في الديمقراطية الحديثة عملية مُنفصِلة عن جوهر الحياة انفصالًا تامًّا. إنَّ مبدأ الديمقراطية هو أنَّ الشعب كله — وليس الحاكم وحده أو فئة صغيرة من الناس — هو الذي يُقرِّر مصير نفسه، ويُصدر القرارات التي تتعلَّق بشئون الصالح العام. فالمفروض أنَّ كل مُواطن — باختياره ممثليه الذين يُصدرون قوانين البلاد في البرلمان — يُشارك في مسئولية توجيه شئون المجتمع. كما أنَّ مبدأ فصل السلطات فكرة عبقرية ابتُدِعَت للاحتفاظ بنزاهة السُّلطة القضائية واستقلالها، ولإيجاد توازن بين السُّلطة التشريعية والسُّلطة التنفيذية. والمفروض أنَّ كل مواطن يتحمَّل قدرًا من المسئولية، وله أثر في إصدار القرارات مُماثل لِمَا لغيره من المواطنِين.

والواقع أنَّ النظام الديمقراطي برغم تطوُّره وتقدُّمه فيه الكثير من أسباب التناقض. فهو يُطبَّق في دول فيها كثير من عدم المساواة في الفُرص وفي الدَّخل، فمن الطبيعي أن تتمسَّك الطبقة صاحبة الامتياز بحقوقها، التي لا شكَّ في فقدانها إذا عبَّرت الأكثرية المحرومة من هذا الامتياز تعبيرًا صادقًا عن إرادتها. ولتجنُّب هذا الخطر كان يُحظَر حق التصويت على كثير من الناس الذين لا يملكون. ولم يَنَل كل مُواطن حق الانتخاب دون قيد أو شرط إلَّا بعد جهد شاقٍّ ووقت طويل.

كان الناس في القرن التاسع عشر يحسبون أنَّ حق التصويت العام يحل كل مشكلات الديمقراطية. غير أنَّ هذا الحق مُنِح للجميع وبقيت نسبة كبرى من السكان بحاجة إلى المأوى والملبس والمأكل. وكانت نتيجة إباحة حق التصويت مُخَيِّبة للآمال، ولم يتحوَّل معها المواطنون إلى أشخاص مسئولِين عاملِين مستقلِّين. وبات من الواضح «أنَّ مشكلة الديمقراطية ليست في حصر حق الانتخاب على فئة مُعيَّنة، ولكنَّها في الطريقة التي يُمارس بها الناس حق التصويت».

كيف يُمارِس الناس هذا الحق؛ وكيف يُعبِّرون عن إرادتهم، إذا لم تكن لهم إرادة أو عقيدة خاصة بهم، إذا كانوا أفرادًا آليين، يعيشون عيشة تنفصل عن طبائعهم، وإذا كانت أذواقهم وآراؤهم واختياراتهم تنطبع بطابع الأجهزة والهيئات الكبرى، وتتكيَّف بها؛ إنَّ إباحة حق الانتخاب للجميع يُصبح تحت هذه الظروف مُجرَّد صنم من الأصنام المعبودة المقدَّسة. إذا كانت الحكومة تستطيع أن تبرهن على أنَّ كل فرد فيها له حق التصويت، وإنَّ الأصوات تُعدُّ بأمانة، فهي حكومة ديمقراطية. أمَّا إذا كان كل امرئ يُدلي بصوته، ولكن الأصوات لا تُعدُّ بأمانة، أو إذا كان الناخب يخشى أن يُصوِّت ضد الحزب الحاكم، فالحكومة غير ديمقراطية. ومن الحق أنَّ هناك فارقًا هامًّا كبيرًا بين الانتخابات الحرة والانتخابات المُفتَعَلة، بيْد أنَّ ملاحظة هذا الفارق ينبغي ألَّا تؤدِّي بنا إلى أن ننسى أنَّ الانتخابات الحرة نفسها لا تُعبِّر حتمًا عن «إرادة الناس». إذا كان هناك نوع من معجون الأسنان يشتد الإعلان عنه، وإذ كانت أغلبية الناس تستعمل هذا المعجون لكثرة الدعاية له، فلا يُمكن لعاقل أن يقول إنَّ الناس قد اختاروا هذا المعجون اختيارًا حُرًّا. وكل ما يُمكن أن نزعمه هو أنَّ الدعاية كانت كافية لأن تُغري ملايين الناس بتصديقها.

وفي المجتمع الذي يعيش فيه الناس عيشة انفصالية غير طبيعية، لا تختلف الطريقة التي يُعبِّر بها الناس عن إرادتهم كثيرًا عن طريقة اختيارهم في شراء السلع. إنَّهم يستمعون إلى طبول الدعاية، ولا تعني الحقائق إلَّا قليلًا بالقياس إلى الضوضاء التي تصدر عن هذه الطبول وتُوحي إليهم بما يؤمنون به.

إنَّ الأداة السياسية في بلد ديمقراطي لا يختلف في الواقع سَيْرُها عن الأسلوب الشائع في سوق السلع. ولا تختلف الأحزاب السياسية كثيرًا عن المشروعات التجارية الكبرى؛ ويُحاول الساسة المحترفون أن يبيعوا بضاعتهم للجمهور بالدعاية. وتُشبه طريقتهم كثيرًا طريقة الإقناع المصطَنع بالإعلان. ويقول شمبيتر: «إنَّ المواطن النموذجي يهبط إلى مستوًى أدنى في تفكيره العقلي بمجرد دخوله ميدان السياسة، فتراه يُجادل ويُحلِّل بطريقة يراها صبيانية في دائرة اهتماماته الخاصة. إنَّه في أمور السياسة يعود إنسانًا بدائيًّا.»

كما يُشير شمبيتر إلى صناعة الإرادة الشعبية في الأمور السياسية وصناعتها في الإعلان التجاري، فيقول: «إنَّ الطرق التي تُصنع بها الأمور العامة، والإرادة الشعبية في كل أمر من هذه الأمور، تُشبه تمامًا طرق الإعلان التجاري. فنحن نجد في كلتا الحالتين نفس المحاولات للاتصال باللاشعور، ونفس الوسائل لإيجاد الترابط المُلائم وغير المُلائم، ذلك الترابط الذي يزداد أثره كلَّما ابتعد عن المعقول. كما نجد نفس المراوغة والتحفُّظ، ونفس الحيلة لإحداث الرأي بتكرار العبارة، ذلك التكرار الذي يتناسب نجاحه مع مقدار تجنُّبه للحجة المعقولة ومقدار تحاشيه إيقاظ قوة النقد عند الناس، وهكذا. غير أنَّ كل هذه الحيل أوسع مدى في ميدان الشئون العامة منها في ميدان الحياة الخاصة والمهنية. فإذا أنت أعلنت عن لفائف تبغ من نوع رديء بصورة فتاة حسناء، أقبل الناس على هذه اللفائف لفترة من الزمن ثمَّ انصرفوا عنها لرداءتها بعد حين. وليس في القرارات السياسية مثل هذا الضمان. فكثير من القرارات ذات الأهمية القصوى من نوع يجعل من المستحيل على الجمهور أن يُجري عليها التجارب في فراغه وبغير تكاليف. وحتَّى إن أمكن ذلك، فليس من السهل أن تصل إلى الحكم كما تصل إليه في حالة اللفائف؛ لأنَّ آثار القرارات السياسية أشد تعقيدًا وأعصى على التفسير.»

وعلى أساس هذا التحليل يصل شمبيتر إلى تعريف للديمقراطية واقعي، فيقول: «الطريقة الديمقراطية هي ذلك النظام الذي يتبع للوصول إلى قرارات سياسية، والذي يكتسب فيه الأفراد سلطة إصدار القرارات بواسطة النضال والتنافس في سبيل الحصول على أصوات الجمهور.»

ويُمكننا أن نُتمِّم الموازنة بين طريقة تكوين الرأي في السياسة وطريقته في سوق السلع بموازنة أخرى لا تتصل بتكوين الرأي بمقدار ما تتصل بالتعبير عنه، وأقصد الدور الذي يلعبه حَمَلة الأسهم في المؤسسات الكبرى، وتأثير إرادتهم في الإدارة.

فكما ذكرنا آنفًا قد آلت ملكية المؤسسات الكبرى اليوم إلى مئات الألوف من الأفراد، الذين يملك كل منهم جزءًا يسيرًا جدًّا من مجموع الأسهم. وحملة الأسهم — من الناحية القانونية — يملكون المشروع، ومن ثمَّ فهم أصحاب الحق في تحديد سياسته وفى تعيين نوع الإدارة. أمَّا من الناحية العملية فهم لا يحملون إلَّا مسئولية صغرى عن ملكيتهم، ويُذعنون لِمَا يُقرِّره رجال الإدارة، قانعين بدخل مُنظَّم. والغالبية العظمى من حملة الأسهم لا يهمها أن تحضر الجمعيات العامة، ويُؤْثِرون أن يبعثوا بتوكيلاتهم للإدارة. ولا يُمارس الإدارة مجموع المالِكِين أو غالبيتهم إلَّا في قليل جدًّا من المؤسسات الكبرى.

والأمر فيما يتعلَّق بالإدارة في الديمقراطية الحديثة لا يختلف كثيرًا عنه في المؤسسات الكبرى. حقًّا إنَّ أكثر من ٥٠٪ من الناخبين يُدلون بأصواتهم شخصيًّا، ولكنَّهم يختارون بين حزبين يتنافسان على كسب الأصوات. وما إن يظفر أحد الحزبين بالأصوات ويصل إلى الحكم حتَّى تبعد العلاقة بينه وبين الناخبِين. ولا تصدر القرارات الحقيقية غالبًا بعد ذلك عن أعضاء البرلمان الذين يُمثِّلون مصالح ورغبات دوائرهم، وإنَّما تصدر عن الحزب. وفي الحزب تصدر القرارات عن الشخصيات البارزة ذات النفوذ فيه، وهم كثيرًا ما يكونون مَجهولِين للجمهور. والواقع أنَّ المواطن يعتقد أنَّه يُوجِّه قرارات بلاده ويشترك فيها، في حين أنَّه لا يُمارس هذا الحق أكثر مِمَّا يمارسه حامِل الأسهم العادي في إدارة «شركته». وبين عملية التصويت والقرارات السياسية الهامة الكبرى علاقة عجيبة جدًّا. ولا نستطيع أن نقول إنَّ العلاقة منقطعة تمامًا، كما لا نستطيع أن نقول إنَّ القرار النهائي نتيجة لإرادة الناخبين. وفي هذا دلالة قوية على انفصال إرادة المواطن عمَّا تُقرُّ الدولة من قرارات. إنَّ المواطن يقوم بعمل ما، هو التصويت، ثمَّ يتوهَّم أنَّه واضع القرارات التي يقبلها باعتبارها صادرة عنه، في حين أنَّ هذه القرارات تُحدِّدها إلى حدٍّ كبير قُوى تخرج عن سيطرته وعن علمه. ولا عجب أن يشعر المواطن العادي إزاء ذلك بإحساس عميق بعجزه في الشئون السياسية (بطريقة لا شعورية) فيأخذ ذكاؤه السياسي في التضاؤل شيئًا فشيئًا؛ لأنَّه إن كان من الحق أنَّ المرء ينبغي له أن يُفكِّر «قبل» أن يعمل، فمن الحق أيضًا أنَّ المرء إذا لم يجد فرصة للعمل، أصبح ضعيفًا في تفكيره، أو بعبارة أخرى، إذا كان المرء لا يقوم بعمل له أثره، فهو لا يستطيع كذلك أن يُفكِّر تفكيرًا مُنتجًا.

(٣) الانفصال والصحة العقلية

ما أثر هذه الحياة الانفصالية التي بسطناها في الصحة العقلية؟

إنَّ الإجابة عن هذا السؤال تتوقَّف بطبيعة الحال على ما نعني بالصحة. فإذا كنَّا نعني بها أنَّ الإنسان يستطيع أن يُؤدِّي واجباته الاجتماعية، وأن يتناسل، ويُواصل إنتاجه بالطريقة التي يعمل بها، إذا كنَّا نَعْني بها ذلك فالإنسان الذي يعيش منفصلًا عن طبيعته يُمكنه قطعًا أن يَحْيا حياة صحيحة سليمة. فقد ابتدعنا أقوى جهاز إنتاجي مِمَّا لم نعهده من قبل، بالرغم من أنَّنا قد اخترعنا كذلك أقوى جهاز للتحطيم، يُمكن للمجنون أن يتناوله. وإذا بَحثْنَا في تعريف الصحة العقلية السائد في محيط العلاج النفساني، ظنَنَّا كذلك أنَّ الإنسان صحيح سليم؛ إذ من الطبيعي أن تكون الفكرة عن الصحة والمرض من وضع أولئك الرجال الذين يتعرَّضون لها، وأن تكون تبعًا لذلك من ثمار الثقافة التي يعيش فيها هؤلاء الرجال. وأطباء العلاج النفساني في الوقت الحاضر يجري عليهم ما يجري على غيرهم من الناس من ظروف الحياة، فهم يعيشون عيشة انفصالية لا تتصل بطبائعهم، ويتوهَّمون أنَّهم أصحاء العقول، فيعرفون الصحة العقلية في حدود حياة الإنسان في العصر الحاضر، التي هي في صميمها حياة مريضة، لا تتفق والطبائع البشرية الأصيلة. ومن ثمَّ فإنَّ الأطباء النفسانيين يَصِفون بصحة العقل من هُم في حقيقة الأمر مرضى إذا قسنا عقولهم بالمعيار الإنساني الخالص. ويروي ه. ج. ولز في قصته «بلد العميان» حوارًا طريفًا نُورِده فيما يلي، يهدف من ورائه إلى أن يقول بأنَّ مَن كان أعمى بطبيعته يحسب الدنيا على طبيعتها سوادًا وظلامًا، فإن سمع أحدًا يذكر الألوان وصَمَه بالواهم المجنون. وما ينطبق على الأعمى في بلد العميان يصدق على أطباء العلاج النفساني في العصر الحاضر.

يروي ولز في قصته أنَّ شابًّا عاديًّا ذا عينين نزل ببلد منعزل، الناس فيه جميعًا لا يُبصرون بطبيعة خِلقتهم. وقد تعرَّض هذا الشاب لفحص الأطباء في بلد العميان. قال أحد هؤلاء الأطباء لزعيم القبيلة: لقد فحصتُ الرجل الغريب، واتضحت لي حالته، وأرجح جدًّا إمكان علاجه.

– ذلك ما كنت دائمًا أرجوه.

– إن بعقله مسًّا.

– وما عِلَّته.

– إنَّ ذلكما الشيئين العجيبين اللذين نسميهما العينين، واللذين يُحدثان انخفاضًا في الوجه؛ ليسا على طبيعتهما عند هذا الرجل، فهما مفتوحتان، ولهما رموش، وجفناهما يتحرَّكان، إنَّهما عليلان. وقد أثرت العلة على ذهنه، فأصبح عقله يتذبذب ويتشتَّت كلَّما تحرك الجفنان. وكل ما نحتاج إلى عمله لكي نُحقِّق له تمام الشفاء عملية جراحية سهلة يسيرة، نُزيل بها هذين الجسمين المذبذبين.

– وهل يكون سليم العقل بعد ذلك؟

– نعم، بكل تأكيد، ويُصبح مواطنًا منسجمًا متفقًا مع المجموع.

ومن ثمَّ كانت تعريفات الطب النفساني السائدة للصحة العقلية تؤكِّد صفات الشخصية الاجتماعية في العصر الحاضر التي تعيش في معزل عن الطبيعة البشرية، وأهمها التكيُّف للجماعة، والتعاون، والاعتداء، والتسامح، والطموح، إلى آخر ذلك.

ويهمنا في هذا الصدد أن ننقل إلى القُرَّاء رأي سلفان أحد أطباء العلاج النفساني. كان سلفان يعتقد أنَّ من الطبيعة البشرية أن ينعدم عند الشخص الذي يعيش عيشة انفصالية إحساسه بذاتيته وأن يحيا حياته مُستجيبًا لما يتطلَّبه منه الآخرون. وقد دفعه ذلك إلى الإيمان بأنَّ حاجات الإنسان الأساسية هي الحاجة إلى الضمان الشخصي، أي التحرُّر من القلق، والحاجة إلى الصراحة، أي الإخلاص لشخص واحد آخر على الأقل، والحاجة إلى إشباع الشهوات، التي تتعلَّق بالنشاط الجنسي. وقد لقي هذا الرأي قبولًا عامًّا، كما لقي تأييدًا وتصديقًا. فالضمان والحب والإشباع الجنسي أهداف طبيعية جدًّا للصحة العقلية. غير أنَّ تحليل هذه الآراء تحليلًا نقديًّا يُبيِّن لنا أنَّها تعني شيئًا يختلف في العالم الذي يعيش فيه الإنسان منفصلًا عن طبيعته عمَّا يُمكن أن تعنيه في ثقافات أخرى.

وربما كانت فكرة الضمان أو الأمن أكثر الأفكار الحديثة شيوعًا في ميدان العلاج النفساني. ففي العصر الحديث اشتد الاهتمام بهذه الفكرة باعتبارها الهدف الأول من الحياة، وجوهر الصحة العقلية. وربما كان السبب في هذه النظرة هو أنَّ خطر الحرب المُخيِّم على العالم قد بعث في الناس الرغبة في تأمين حياتهم. ويتزايد إحساس الناس بعدم الأمن نتيجة لازدياد الآلية والتجانس في طريقة الحياة مِمَّا يُفقد المرء حريته واستقلاله الذاتي.

والمشكلة تزداد تعقيدًا للخلط بين التأمين النفسي والتأمين الاقتصادي. ومن التطوُّرات الأساسية في الخمسين سنة الأخيرة في البلاد الغربية أنَّ كل مواطن ينبغي أن يتوفَّر له حدٌّ أدنى من التأمين المادي في حالة التعطُّل والمرض والشيخوخة. وبرغم شيوع هذا المبدأ والأخذ به نجد كثيرين من رجال الأعمال يُعارضونه مُعارَضة شديدة، أو على الأقل يُعارضون تطبيقه على نطاق واسع. وهم يتحدَّثون باستخفاف عن «دولة الرفاهية»، أو الدولة التي تكفل لكل فرد عيشة رضية؛ لأنَّها في ظنِّهم تقتل روح الابتكار وروح المغامرة. وهم إذ يعترضون على التأمين الاجتماعي للجميع يزعمون أنَّهم يُكافحون الرأي من أجل حرية العامل وقدرته على الخلق والإبداع. غير أنَّ هؤلاء المعارضين لا يُخلصون الرأي فيما يزعمون؛ لأنَّهم لا يتردَّدون في تأمين أنفسهم تأمينًا اقتصاديًّا ويعتقدون أنَّ هذا التأمين من الأهداف الأساسية في الحياة، بل إنَّ بعضهم لينشئ شركات التأمين التي تَعِدُ في إعلاناتها بالضمان لعملائها ضد الحوادث والموت والمرض والشيخوخة، وغير ذلك من أسباب العجز. وهذه الشركات وما يرد في الإعلان عنها تُبيِّن أهمية الدور الذي تلعبه فكرة التأمين الاقتصادي عند الطبقة التي تملك المال. وليست فكرة التوفير سوى تحقيق لهدف التأمين الاقتصادي. وهذا التناقض بين استنكار تأمين الدولة للطبقة العاملة، وتحبيذه لأصحاب الدخل الكبير، مثالٌ آخر على قدرة الإنسان التي لا تُحدُّ على التناقض في التفكير.

غير أنَّ الدعاية ضد «دولة الرفاهية» ومبدأ التأمين الاقتصادي أقوى أثرًا مِمَّا نظن — برغم هذا — نظرًا للخلط الشديد بين التأمين الاقتصادي والتأمين العاطفي أو النفساني.

إنَّ النفوس تمتلئ بأسباب الريبة، والجو يزخر بالمشكلات، والمَخاطِر تتحوَّطنا من كل جانب، ومن ثمَّ يشعر المرء بضرورة الاستقرار والتأمين النفسي. وأهم ما يهدف إليه العلاج النفساني والتحليل النفساني تأمين النفوس وبث روح الطمأنينة في القلوب. ويعتقد كثير من علماء النفس أنَّ تأمين الأفئدة هو أسمى ما تبلغه النفس في تطوُّرها، ويَعُدُّون الإحساس بهذا التأمين مرادفًا للصحة العقلية. ومن ثمَّ كان انزعاج الآباء على الأبناء لتوفير التأمين والضمان لهم في حياتهم. فكما أنَّهم يُحصِّنونهم بالحقن ضد الأمراض، يسعون إلى تأمينهم ضد الخوف والعوز. وللمبالغة في هذا التأمين ما للمبالغة في التأمين الصحي من خطر، فالجسم يفقد المناعة من كثرة التحصين، والنفس تفقد الشجاعة من شدة التأمين ضد الخوف.

وكيف يستطيع شخص حسَّاس حي أن يُحس بالأمن المطلق؟ إنَّ ظروف وجودنا نفسها تحرمنا من هذا الإحساس. فأفكارنا في أحسن حالاتها أنصاف حقائق، تختلط بكثير من الخطأ، كما تختلط به معرفتنا الناقصة بشئون الحياة والمجتمع التي تُلازمنا منذ الولادة. إنَّ حياتنا وصحتنا عرضة لمختلف الحوادث التي تخرج عن نطاق سيطرتنا ونفوذنا. ونحن حين نُصدر قرارًا لا يُمكن أن نكون على ثقة من النتيجة؛ وكل قرار يتضمَّن المخاطرة بالفشل، وإذا لم يتضمَّنها فهو ليس قرارًا بالمعنى الصحيح للكلمة. ولا يُمكن للمرء أن يُدرك نتيجة ما يبذل من جهد؛ لأنَّ النتائج تتوقَّف دائمًا على عوامل كثيرة تتجاوز قُدرتنا على الحُكم والتحكُّم. وكما أنَّ الإنسان الحسَّاس الحي لا يُمكنه أن يتحاشى الحُزن أحيانًا، فهو لا يُمكنه كذلك أن يتحاشى الإحساس بالخوف من المستقبل وعدم الاطمئنان. وواجب المرء النفساني إزاء نفسه الذي يستطيع — بل ينبغي له — أن يؤدِّيه، لا ينحصر في خَلق الإحساس بالأمن، وإنَّما ينحصر في احتمال حالة القلق وانعدام الأمن دون ذعرٍ أو خوف لا مُبرِّر له.

إنَّ الحياة العقلية والروحية لا يتحتَّم أن تكون آمنة أو معروفة على وجه التأكيد. فالتأكيد لا يمتد إلَّا إلى معرفتنا بالميلاد والموت. أمَّا ما بينهما فمجال للشك والارتياب. والشعور بالأمن الكامل لا يكون إلَّا بالخضوع الكامل لقوًى تتوفَّر لها القوة والدوام، وتنقذ المرء من ضرورة إصدار القرارات، والمخاطرة، وتحمُّل المسئوليات. «إنَّ الإنسان الحُر غير آمن بالضرورة، والإنسان المُفكر غير مطمئن بالضرورة كذلك إلى تفكيره.»

وكيف إذن يستطيع الإنسان أن يحتمل هذه الحالة من عدم الاطمئنان التي يتَّصف بها الوجود الإنساني بطبيعته؟ إنَّ من إحدى الوسائل أن يشتد ارتباطه بالمجموعة التي يعيش فيها، إلى حدٍّ يجعل عضويته في هذه المجموعة كفيلة بإحساسه بذاتيته، سواء كانت المجموعة أسرة، أو قبيلة، أو طبقة. وما دامت الفردية لم تبلغ مرحلة يتخلَّص فيها الفرد من الروابط الأولى فهو لا يزال جزءًا من جماعة، وقد أدَّى تطوُّر المجتمع الحديث إلى انحلال هذه الروابط الأولية، وتحتم على الإنسان الحديث أن يكون وحيدًا، يقف على قدميه منعزلًا. وهو لا يستطيع أن يُحقِّق إحساسه بذاتيته إلَّا إذا نمَّى وحدته الفريدة الخاصة به إلى الحد الذي يجعله يشعر بانفصال شخصه عن المجموع. ولا يستطيع تحقيق ذلك إلَّا إذا نمَّى قواه الإيجابية حتَّى يرتبط بالعالم دون أن يُغمر فيه، أي إنَّه لا يستطيع ذلك إلَّا إذا اتجه في حياته وجهة منتجة لها طابعها الخاص الذي تتميَّز به. بيد أنَّ الإنسان المُنعزل يُحاول أن يحل هذه المشكلة بطريقة أخرى، هي طريقة التجانس مع الآخرين. فهو يستشعر الطمأنينة إذا اشتد الشبه بينه وبين إخوانه في الإنسانية. وهدفه الأسمى أن يكون تصرُّفه مُعتمَدًا من غيره، وخوفه الأكبر أن يتصرَّف تصرُّفًا لا يُصادف اعتمادًا من الناس. إمَّا أن يختلف عن غيره، أو أن يجد نفسه في أقلية، فذلك هو الخطر الذي يُهدِّد إحساسه بالأمن، ويزيد من رغبته في الانصياع للناس إلى أقصى الحدود. ومن الواضح أنَّ هذه الرغبة في الانصياع تُحْدِث بدورها إحساسًا بعدم الطمأنينة له أثره المستديم وإن يكن خفيًّا. فكل انحراف عن النموذج، وكل نقد، يُثير الخوف وعدم الاطمئنان. والفرد يعتمد دائمًا على رضا الآخَرِين عنه، كما يعتمد المدمن على المخدرات دائمًا على المخَدِّر، ومن ثمَّ فهو يفقد إحساسه «بذاته» و«باعتماده على نفسه» شيئًا فشيئًا. وقد كان الإنسان منذ عدة أجيال يخشى أن يأثم أو أن يُخالف الدين، وقد حلَّ اليوم محل هذا الشعور بالإثم شعور بالقلق وبالنقص إن اختلف عن غيره في شيء.

ومِمَّا قدَّمنا نستخلص أنَّ الشعور «بالأمن» هدف أساسي من أهداف الصحة العقلية، ولكنَّه انحرف في المجتمع الجديد إلى مسارب معوجة. وكذلك «الحب» — وهو أيضًا من الأهداف الأساسية للصحة العقلية — قد اكتسب معنًى جديدًا في المجتمع الانفصالي الجديد. كان فرويد يعتقد أنَّ الحب ظاهرة جنسية، وأنَّ إشباع الرغبة الجنسية يؤدِّي حتمًا إلى سعادة الإنسان، وأنَّه بالإمكان السمو بهذه الرغبة وتحويلها إلى محبة الإنسانية جمعاء. غير أنَّ سلفان يفصل بين الجنس والحب؛ فالحب عنده تعاون. وإذن فالحب عند فرويد يتسم بمادية القرن التاسع عشر، في حين أنَّه عند سلفان يتأثَّر بالشخصية السوقية التي شاعت في القرن العشرين؛ وأصبحت المحبة بحاجة إلى التغذية بحسن المعاملة، كما نُغذِّي الشعور بالأمن، ونُغذِّي المعرفة، وكل شيء آخر؛ لكي يكون الإنسان سعيدًا.

و«السعادة» من الآراء الشائعة التي نعرف بها اليوم الصحة العقلية. ولكن ماذا نعني بالسعادة؟ إنَّ أكثر الناس يحسب اليوم أنَّ السعادة هي الاستمتاع «باللهو»، ويتوقَّف «اللهو» على حالة الفرد الاقتصادية، وعلى تربية وتكوين شخصيته. بيد أنَّ الخلافات الاقتصادية لا تبلغ من الأهمية ما قد يتبادر إلى الذهن. فاللهو عند الطبقات العليا هو بعينه عند الطبقات السفلى مع اختلاف يسير في النوع، وانخفاض كبير في النفقات.

ما مُقوِّمات هذا اللهو؟ هي ارتياد السينما، والحفلات، والمباريات، والاستماع إلى الراديو، ومُشاهدة التلفزيون، وركوب السيارات أيام العطلات، ومُباشرة الحب، والكسل في الأيام التي يفرغ فيها المرء من عمله، والرحلات لمن استطاع إليها سبيلًا. وإذا سمونا بلفظة «اللهو» قلنا: إنَّ السعادة هي «المتعة». وإذا تذكَّرنا ما قُلناه عن مشكلة الاستهلاك، أمكننا تعريف السعادة على وجه أدق بأنَّها الاستمتاع بالاستهلاك المُطلق دون قيد، والقوة التي يُكْسِبنا إيَّاها استخدام الآلات الحديثة، والاسترخاء والكسل.

فالسعادة على هذا الأساس هي السرور، وهي نقيض الشعور بالحزن والأسى. وهذا هو تعريف الرجل العادي للسعادة، وهو تعريف يُجافي الحقيقة وطبيعة الإنسان؛ لأنَّ الفرد الحي الحسَّاس لا يُمكنه أن يتحاشى الحزن، ولا بُدَّ له من الشعور بالأسى عدة مرات خلال حياته؛ ذلك لأنَّ الآلام التي لا مفر منها تحدث بسبب عيوب نظامنا الاجتماعي، كما تحدث بسبب طبيعة الوجود الإنساني التي تجعل من المستحيل ألَّا يستجيب المرء للحياة بكثير من الألم والأسى. وما دُمنا كائنات حية، فلا بُدَّ أن نُدرك — ونحن آسفون — تلك الهوة التي لا مناصَ منها التي تفصل بين آمالنا وما يُمكننا أن نُحقِّقه منها في حياتنا القصيرة المليئة بالمتاعب. وما دام الموت يُجابهنا بحقيقة لا مفر منها، وهي أنَّنا لا بُدَّ أن نموت قبل أحبائنا أو يموت قبلنا أحباؤنا، وما دُمنا نشهد الآلام حولنا كل يوم — سواء منها ما لا مفر منه أو ما لا ضرورة له — فكيف نستطيع أن نتجنَّب الشعور بالألم والأسى؟ إنَّ الجهد في سبيل تجنبه لا يُمكن بذله إلَّا إذا خففنا من حساسيتنا، ومن مقدار حبنا، ومن تجاوبنا مع الناس والحوادث، لا يُمكن بذله إلَّا إذا جحدنا قلوبنا، وصرفنا انتباهنا ومشاعرنا عن غيرنا وعن أنفسنا.

إذا أردنا أن نُعرِّف السعادة بنقيضها فلا بُدَّ لنا من تعريفها لا باعتبارها تُباين «الحزن» ولكن باعتبارها مُباينة للاكتئاب، أو الغم، أو انقباض النفس.

وما هو الغم؟ إنَّه العجز عن الشعور. هو الإحساس بالموت برغم دبيب الحياة في الجسد. هو العجز عن الإحساس بالسرور، كما هو العجز عن الإحساس بالحزن؛ لأنَّ الشخص المغموم يُدركه الفرح إن هو أحس بالحزن. إنَّ حالة الغمِّ لا تُطاق؛ لأنَّ المرء فيها يعجز عن الشعور بأي شيء، سواء كان سرورًا أو حزنًّا. وإذا حاولنا أن نُعرِّف السعادة باعتبارها مُباينة للغم اقتربنا من تعريف سبينوزا للسرور — أو السعادة — باعتبارها تلك الحالة من الحيوية الشديدة التي توحِّد مجهود المرء وتُوجِّهُه نحو فهم الناس والاندماج فيهم. إنَّ السعادة إحساس ينشأ عن الحياة المُنتجة، واستخدام قوى العقل والمحبة في الشعور بالوحدة مع العالم. وتنحصر السعادة في مساس الإنسان للواقع الملموس، وفي اكتشافه لنفسه، واتحاده بغيره مع احتفاظه بخصائص شخصيته في آنٍ واحد. هي حالة من النشاط الباطني الجم، ومن الشعور بالطاقة الحيوية الفيَّاضة، التي تنجم عن ارتباط المرء بالعالم ارتباطًا مُنتجًا.

ويترتَّب على ذلك أنَّ السعادة لا يُمكن أن توجد في حالة الشعور بالسلبية، أو في حالة الاستهلاك لمُجرَّد الرغبة فيه؛ وهي الحالة التي تسود حياة الرجل الذي يعيش في الوقت الحاضر عيشة تنفصل عن طبيعته ولا تتَّفق وحاجاته الإنسانية الأساسية، والسعادة هي إحساس المرء بالامتلاء، لا بالفراغ الذي يحتاج إلى الامتلاء. إنَّ الرجل العادي اليوم قد يحصل على قسط وافر من المرح والسرور، ولكنَّه برغم هذا في غمٍّ عميق، أو في حالة شديدة من «الملل». والفارق بين الغمِّ والملل (أو القلق) لا يكاد يُذكر، فهو فارق في الدرجة فقط؛ لأنَّ الملل ليس إلَّا الإحساس بالشلل في قوانا الإنتاجية، والشعور بانعدام الحيوية. والملل من أشد شرور الحياة إيلامًا للنفس؛ ولذلك تُبذل مختلف المحاولات لتفاديه.

ويُمكن تفاديه بإحدى طريقتين: إمَّا أساسًا بأن يكون المرء منتِجًا، وبذلك يكون سعيدًا، أو بأن يُحاول أن يتجنَّب مَظاهر الملل بالانشغال بأي عمل تافهٍ، ومن ذلك السعي وراء المرح والسرور الذي نُشاهده عند الرجل العادي في العصر الحاضر. إنَّ هذا الرجل يحس الغم والملل الذي يشتد به حينما يكون وحيدًا مع نفسه أو مع الأقربِين جدًّا إليه. وكل ضروب التسلية تهدف إلى أن تُيسِّر له الفرار من نفسه ومن الملل الذي يُهدِّده، وذلك بالتجائه إلى شتَّى طُرق الهروب من النفس التي تُهيِّئها ثقافة العصر. ولكن الفرار من الأعراض لا يُزيل الظروف التي تُحْدِثه. والواقع أنَّ الخوف من الإحساس بالملل من الأسباب القوية للخوف عامةً في العصر الحاضر، ولا يكاد يُدانيه إلَّا الخوف من الألم البدني، أو الخوف من الذلة والهوان والتفاهة التي يشعر بها المرء إذا فقد مكانته وأهميته. إنَّنا حتَّى في ساعات اللهو والمرح نخشى الإحساس بالملل، وما أشد سرور المرء إذا انقضى يومه دون أن يُصيبه سوء، أو انقضت ساعة من ساعات حياته دون أن يتنبَّه إلى ما يخفى في نفسه من إحساس بالملل.

إذا كنَّا نود أن نكون إنسانِيِّين وَجَب أن نُعدِّل من فكرتنا عن الصحة العقلية؛ لأنَّ الشخص الذي نَعدُّه سليمًا صحيحًا في المجتمَع الانفصالي الحديث هو في الواقع مريض من الناحية الإنسانية. وليس مرضه منبعثًا من نفسه، ولكنَّه مرض يُلْحِقُه به وبغيره نظامُ المجتمَع. وتتميَّز الصحة العقلية — بالمعنى الإنساني الصحيح — بالقدرة على الحُبِّ وعلى الخلق والإنشاء، وبالتخلُّص من روابط الأمومة التي تربط الفرد بالأسرة وبالطبيعة، وبالشعور بالذاتية الذي يقوم على أساس الإحساس بالنفس باعتبارها مصدر جميع ما لديه من قُوًى، وبإدراك الواقع داخل النفوس وخارجها، أي بتقدُّم العقل والموضوعية. إنَّ الغرض من الحياة أن يعيش المرء عيشة غزيرة لا سطحية، وأن يُولَد مولدًا كاملًا، وأن يتيقَّظ تيقظًا تامًّا، وأن يتخلَّص من الشعور الكاذب بالأهمية، وأن يؤمن إيمانًا صادقًا بقوَّته الحقيقية مَهما ضَعُفَت، وأن يكون قادرًا على التوفيق بين نوعين مُتناقِضَين من الإحساس: إحساس المرء بأنَّه أهم ما في الكون، وإحساسه في الوقت ذاته بأنَّه لا يزيد في أهميته على الذبابة أو ورقة الشجرة؛ وأن يكون قادرًا على حُب الحياة، وأن يتقبَّل مع ذلك الموت دون فزع؛ وأن يحتمل الشك في أكثر المشكلات الهامة التي تُجابهنا بها الحياة؛ وأن يكون لديه — برغم ذلك — إيمان بأفكاره ومشاعره التي هي — حقًّا — مِمَّا يملك؛ وقادرًا على العزلة، مع اتحاده بشخص آخر يُولِّيه حُب قلبه، ومُتَّحِدًا مع كل زميل على وجه هذه الأرض، ومع كل ما هو حي؛ وأن يستمع إلى صوت ضميره الذي يردُّه إلى نفسه الحقة، دون أن يسترسل في بُغْض نفسه حينما لا يرتفع صوت الضمير حتَّى يسمعه فيتَّبعه. إنَّ الشخص صحيح العقل هو الشخص الذي يعيش بالحب، وبالعقل والإيمان، الذي يحترم الحياة، حياته وحياة إخوانه في الإنسانية.

إنَّ الشخص الذي يحيا حياة لا ترتبط باحتياجاته الطبيعية، أو الشخص المنفصل كما أسميناه، وكما حَاوَلْنا أن نَصِفَه في هذا الفصل من الكتاب، لا يُمكن أن يكون سليمًا صحيحًا؛ وما دام يُعامِل نفسه كأنَّه شيء ما. أو كأنَّها رصيد يتناوله هو أو يتناوله غيره، فإنَّ إحساسه بنفسه لا بُدَّ أن يكون إحساسًا ناقصًا. وهذا النقص في الإحساس بالنفس يُسبِّب له قلقًا شديدًا. والقلق الذي ينشأ عن شعوره بأنَّه لا شيء أشد إيلامًا له من عذابات جهنم. ففي جهنم أشعر «بأنِّي موجود» أُعاقب وأُعذَّب، أمَّا في حالة شعوري بأنِّي لا شيء فأنا أسير نحو حافة الجنون؛ لأنِّي لا أستطيع أن أقول: «أنا موجود». وإذا كان العصر الحاضر يُسمَّى — حقًّا — بعصر القلق، فإنَّما يرجع ذلك أولًا إلى انعدام استقلال النفس، فالإنسان في حقيقته ليس موجودًا إذا كان لا يتصرَّف إلَّا «كما يُريد غيره»، لا كما يُريد هو. وما دام الإنسان معتمدًا على رضا الناس عنه، ويُحاول دائمًا أن يسلك السلوك الذي يَسرُّهم لا السلوك الذي يُعبِّر به عن نفسه فلا مناص من أن يحس بالقلق وعدم الاطمئنان النفسي. إنَّ الإنسان الذي لا يتصرَّف طبقًا لاحتياجاته الطبيعية — الإنسان المنفصل — يُحسُّ بالنقص كلما اشتبه في أنَّه لا يسير في الصفِّ. وما دام إحساسه بقيمته يستند إلى رضا الناس عنه جزاءً وفاقًا له على انصياعه لهم، فمن الطبيعي أن يشعر بالخطر يُهدِّد إحساسه بذاته واحترامه لنفسه من كل شعور أو فكرة أو عمل يشتبه في انحرافه عن مسلك المجموع. بيد أنَّ الإنسان — مهما يكن من أمر — بشَر وليس آلة بحت، فلا يسعه إلَّا أن ينحرف، وإذن فلا بُدَّ من أن يعيش في رعب من سخط الناس في كل حين ويترتَّب على ذلك أن يُضاعف محاولته للتجانس مع غيره والانصياع للمجموع بغية اكتساب رضا الناس، وبغية النجاح في الحياة بمقاييس الناس. إنَّ ما يُكْسِبه القوة والشعور بالأمن ليس صوت ضميره، ولكنَّه الشعور بأنَّه لم يفقد صِلته الوثيقة بالقطيع.

ويترتَّب على ذوبان الشخصية في مسلك المجموع أن يُحسَّ المرء بالذنب كلما انحرف عن الطريق العام. ومِمَّا يدعو حقًّا إلى الذهول أن يَشيع الإحساس بالذنب بدرجة عُظمى في ثقافة غير دينية في أساسها كثقافة الغرب. بيد أنَّ هذا الإحساس بالذنب الذي نقصده لا يستند في الواقع إلى أحكام الدين، فنحن نُحسُّ بالذنب في مئات الأمور التي ليست لها علاقة بعقيدة من السماء. يُحسُّ المرء بالذنب إذا لم يجتهد، وإذا بالغ أو قصَّر في عنايته بأطفاله، وإذا لم يُكرِّم أمه، وإذا بالغ في الرأفة. إنَّه يُحسُّ بالذنب عندما يفعل الخير وعندما يفعل الشر، وكأنَّه يبحث عن سببٍ يدعوه إلى الإحساس بالذنب إذا انعدمت الأسباب.

فما السبب في هذا الإحساس الشديد بالذنب؟ يبدو أنَّ له مصدرين يُؤدِّيان إلى نتيجة واحدة، رغم ما بينهما من خلافٍ؛ المصدر الأول هو نفس المصدر الذي ينشأ عنه الشعور بالنقص. إنَّ اختلافنا مع غيرنا، وانحرافنا ولو قليلًا عن الطابع العام للجمهور، يبعث فينا الإحساس بالذنب نحو تلك القوة المجهولة العليا التي تتسلَّط على الناس، قوة التجانس والتشابه. أمَّا المصدر الثاني الذي ينشأ عنه إحساسنا بالذنب فهو ضمير الفرد، الذي يُدرك مواهبه وقدراته، واستعداده للحب، وقدرته على التفكير، وعلى الضحك، والصياح، وعلى التعجُّب، والخلق، ويُدرك أنَّ حياته هي الفرصة الوحيدة أمامه لكي يُحقِّق فيها هذه القدرات، فإذا أضاع هذه الفرصة فقد أضاع كل شيء. وهو يعيش في عالم تتوفَّر فيه راحة العيش وسهولته أكثر من أي عهدٍ سلف، بيد أنَّه يُحسُّ أنَّه في سعيه وراء المزيد من الراحة يُفرِّط في حياته ويدعها تنزلق منه دون أن يُحسَّ بها. ولا يسعه إزاء هذا إلَّا أن يُحسَّ بالذنب لهذا التفريط، وللفرصة الضائعة. وهو بهذا الإحساس بالذنب أقل وعيًا منه بالإحساس الأول، غير أنَّ كلًّا منهما يُعزِّز الآخر، وكلًّا منهما يُبرز الآخر. ومن ثمَّ فإنَّ الرجل الذي يحيا حياة انفصالية يُحس بالذنب؛ لأنَّه يعيش عيشة تتفق وحاجات المجتمع ولا تتفق وحاجات نفسه، ولأنَّه يحيا حياة آلية برغم ما فيه من روح، ولأنَّه لا شيء برغم أنَّه شخص ينفصل عن غيره من الأشخاص.

وليس من شكٍّ في أنَّ إنسانًا يحيا حياة هذا شأنها لا يُمكن أن يكون سعيدًا. فيلجأ إلى أسباب المرح يستهلكها استهلاكًا يكبت به وعيه بشقائه. وهو في عمله يُحاول أن يُوفِّر لنفسه الوقت، ومع ذلك فهو يسعى إلى قتل هذا الوقت في أوقات فراغه. وكم يكون سعيدًا لو انقضى يومه دون فشل أو شعور بذلَّةٍ، ولا يستمد سعادته من تحية اليوم الجديد بالحماسة التي لا يبعثها إلَّا إحساسه بذاته واستقلاله النفسي. إنَّه يفتقر إلى النشاط الحيوي الذي ينبثق عن ارتباطه بالعالم ارتباطًا مُنتجًا.

ولمَّا كان عديم الإيمان، لا يستمع إلى صوت الضمير، عنده ذكاء يتناول به الأمور وليس لديه عقل، فهو في حيرة، وفي قلق، يتمنَّى أن يجد له زعيمًا يعده بأن يجد لأزمته النفسية حلًّا شاملًا.

هل يُمكن أن تكون ظاهرة الانفصال صورة من صور المرض العقلي الثابتة المُقرَّرة؟! لكي نُجيب عن هذا السؤال يجب أن نذكر أنَّ للإنسان طريقتين من طرق الارتباط بالعالم؛ أمَّا أولاهما فيرى فيها العالم كما يُريد أن يراه لكي يتناوله أو يستخدمه. ويتم ذلك بالضرورة عن طريق الحواس والإدراك العام، فعيوننا ترى ما لا بُدَّ أن نراه، وآذاننا تسمع ما لا بُدَّ أن تسمعه لكي نعيش، وإدراكنا العام يرى الأشياء بطريقة تُمكِّننا من العمل. فالحواس والإدراك العام كلاهما يُعاوننا على البقاء. والأشياء — من حيث صلة الحواس والإدراك العام بها — هي هي عند جميع الناس؛ لأنَّ قوانين استخدامها واحدة لا تتغيَّر.

أمَّا الطريقة الأخرى من طريقتي الارتباط بالعالم فهي أن يرى الإنسان الأشياء من داخله، رؤية ذاتية، مُتأثِّرًا «بتجربته» وشعوره وحالته النفسية الباطنية الخاصة به. فإنَّ عشرة من المُصوِّرين قد يُصوِّرون شجرة واحدة في الطبيعة، ولكنَّها في الرسم عشر شجرات مختلفة؛ لأنَّ كُلًّا منها تعبير عن نفسية المصوِّر. ونحن في أحلامنا نرى العالم كله رؤية داخلية ذاتية، يفقد فيها معناه الموضوعي، ويتحوَّل إلى رمز لتجربتنا الشخصية البحتة التي يتفرَّد بها كلٌّ منَّا دون أن يُشاركه فيها أحد. وكذلك الشخص الذي يحلم في يقظته؛ أي ذلك الشخص الذي لا يمس إلَّا عالم الباطن، والذي يعجز عن رؤية العالم الخارجي موضوعيًّا، رجل غير سليم العقل. والشخص الذي لا يستطيع أن يُدرك العالم الخارجي إلَّا إدراكًا فوتوغرافيًّا، دون أن يصله بعالم الباطن، أو بنفسه، شخصٌ يحيا حياة انفصالية. ولا يكون الإنسان طبيعيًّا مُنتجًا في حياته إلَّا إذا اتزن إدراكه، فرأى الأشياء كما هي في الخارج ورآها كما تُصوِّرها له نفسه. وإلَّا فهو إنسان عليل تنقصه ناحية من نواحي التجربة البشرية الكاملة، التي لا تتم إلَّا بالإدراك الذاتي والإدراك الموضوعي معًا لكل موقف من المواقف.

ولا مندوحةَ قبل أن أختم هذا الفصل عن القول بأنَّ هذا العيب في نفسية الإنسان المعاصر الذي فصَّلْتُ فيه الكلام، وهو انفصاله في حياته عن احتياجاته الطبيعية، فيه شيء من عدم الإنصاف. فهناك عوامل أخرى إيجابية تصل المرء بالعالم وصلًا طبيعيًّا أهملتُ ذِكْرَها ولا بُدَّ من الإشارة إليها. فلا تزال لدينا مجموعة من التقاليد البشرية الحية لم تهدمها الحياة الانفصالية الحديثة ولم تُقوِّض أركانها. وهناك أيضًا علامات تدل على سخط الناس على أسلوب حياتهم — وقد خاب رجاؤهم فيه — وهم يُحاولون أن يستردوا شيئًا من ذاتيتهم وقدرتهم الإنتاجية المفقودة. إنَّ ملايين البشر يستمعون إلى الموسيقى الرائعة في قاعات الموسيقى، أو على موجات الأثير، وكثيرون يُصوِّرون، ويُقلِّمون البساتين، أو يقومون ببناء بيوتهم أو زوارقهم بأنفسهم، أو ينهمكون في أي عمل آخر يُؤدُّونه بأنفسهم. كما أنَّ تعليم الكبار آخذ في الانتشار. وحتَّى في ميدان العمل يزداد الوعي بأنَّ التنفيذ لا بُدَّ أن ينبني على العقل ولا ينبني على الذكاء وحده.

ومهما تكن هذه الاتجاهات مُبشِّرة بالخير، فهي لا تكفي لأن تُبرِّر التفاؤل الذي نلمسه في عدد من الكُتَّاب المُتحذلقين الذين يزعمون أنَّ نقد المجتمع الذي نعيش فيه — مثلما أفعل الآن — طريقة في التفكير عتيقة متأخِّرة، ويزعمون أنَّنا تجاوزنا قمة الحياة الانفصالية، وبدأ السير في الطريق إلى عالم أفضل. وهذا التفاؤل قد يستهوينا وقد يُضلِّلنا. وهو عندي لا يعدو أن يكون نوعًا مُتحذلقًا من أنواع الدفاع عن الأمر الواقع، أو محاولة للثناء على طريقة الحياة الأمريكية الحديثة، حتَّى لا يرى الإنسان سببًا يدعوه إلى القلق الشديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤