الفصل الرابع

(تُرفع الستار عن هيئة سجن وبه قوت القلوب والسجَّان على الباب.)

قوت :
الدهر قطع أوصالي
من بعد باهي الجمال
اسمح بوصل يا غزالي
فالسجن غيَّر أحوالي
آه قد جار عليَّ الزمان، ورماني في الهوان، وكساني ثوب الأحزان، وحكموا بفرقتي عن حبيبي، وهو من الدنيا نصيبي، عفيف النفس صاحب البهجة والأُنس، كامل الأوصاف من تحلَّى بالصيانة وتسربل العفاف، فأبعدوه عني بالزور والبهتان، ورموني في السجن والهوان، وثقَّلوني بالقيود والأغلال، فوقعت في النكال، فآه ويا حزناه بعد ما كنت أنام فوق الفراش تحت الستور، صرت أنام في السجن فوق التراب والصخور.
زادي حزني من فؤادي، والهوان
هدَّ حيلي ما احتيالي يا زمان
حُسن صبري قد نأى عني وبان
يا إلهي، جُد عليَّ بالأمان
ويلاه قد ضاقت عليَّ في السجن الدنيا، وفقدت المحيا، وأبعدوني عن حبيبي غانم، ذو اللطافة والمكارم، وما لنا ذنب سوى العفاف، والتحلي بصفة الأشراف.
في السجن قد ذقت الأحزان
والقيد قطَّع أوصالي
والسُّقم قد هد الأبدان
ويلاه حالت أحوالي
ويلاه من جور الأنام
قد حيَّرتني عُذالي
فارثوا لقد زاد الأسقام
والصبر حقًّا أولى لي
ولكن يلزمني الصبر على حكم الدهر، فعسى أن يساعدني الزمان بقرب شقيق البدر.
قل للذي بصروف الدهر عيَّرنا
هل عاند الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف
وتستقر بأقصى مائه الدرر
وفي السماء نجوم لا عِداد لها
وليس يُكسف إلا الشمس والقمر

(هنا يدخل مسرور وجملة من العسكر.)

مسرور : أحضر لنا قوت القلوب، فقد صدر الأمر بقتلها، وإذاقتها الكروب.
سجَّان : الحكم لعلَّام الغيوب، اخرجي وعاملي نفسك بالتي يا بنت الكرام، واصبري على جور الأيام.
قوت : هل حصل شيء أيها السجَّان؟
سجَّان : ماذا أقول لها الآن، وا أسفاه، نعم يا صاحبة الجاه، ها هو قد أتى سيدي مسرور، فاسأليه عما جد من الأمور.
قوت : مرحبًا بمسرور الهُمام، أخبرني بما جدَّ في هذه الأيام.
مسرور : الحكم يا قوت للعليم العلَّام، فاستغفري الله ذا الجلال والإكرام، عن جميع الذنوب والآثام؛ إذ عن قريب ينفذ المقدور، وتجاري سكان القبور، وذلك بأمر الخليفة الهُمام، فاعذريني لأني عبد مأمور والسلام.

(يغطي عينيها، ويركعها، ويدخل الملك مستخفيًا.)

قوت :
خبِّر رشيد الرأي يا باهي الشيم
بأنني قد ذقت في السجن العدم
وأن حبيبي غانم باهي السنا
من قبل موتي طاهرًا ذاق العدم
وا أسفاه، وأنت خبِّره، فقد بلغ الكرب منتهاه، ومن استوثق بالزمان أهانه، ومن استعظم عليه هانه، ولكل نجمة أفول، ولكل زهرة ذبول، فاصبر أيها الحبيب، فإن قدومي عليك قريب، وإني سائرة إليك، ووافدة عليك، فقد حفظت يا حبيبي حق من لا يحفظك حقك، وصنت عرض من لم يصن عرضك، وأحسنت لمن أساء إليك فرحمة الله عليك.
ملك : من الذي صان عرضي ولم أصن عرضه يا قوت القلوب.
قوت : هو يا مولاي غانم بن أيوب؛ لأني لما بُنِّجت ووُضِعت في الصندوق، ودُفنت في إحدى الترب، أخرجني، وخلَّصني من العطب، ولم يدنُ مني بفعل يغضب الإله المنَّان، أو يخلَّ بشرف ناموس مولانا السلطان، فحبستَني، وقتلته ظلمًا وعدوان، وقد أمرتَ الآن بقتلي يا ملك الزمان.
ملك : أحقيقي هذا الخطاب؟
قوت : حقيقي ورأسك أيها المهاب.
ملك : إن غانم لم يُقتل بعدُ يا قوت القلوب، وسنفرِّج عنك وعنه إن شاء الله الكروب، فتمنِّي عليَّ ما يسركِ لأُحسن به عليكِ بعد هذه الخطوب.
قوت : أتمنى … أتمنى أن تهبني لحبيبي غانم بن أيوب.
ملك : وأين هو يا قوت القلوب؛ لأهبك إياه، وأصرف عنكما الخطوب، والكروب.
قوت : لا أدري وحق علَّام الغيوب، فأرجوك أن تأذن لي بالتفتيش عليه، فربما أجده، وأبلغه رضاك عليه.
ملك : قد أذنت لك في الوقت الذي تريديه، وسأبلِّغ كلًّا منكما بعد حضوره ما يشتهيه، وقد عفوت عنكِ وعنه بلا خلاف؛ وذلك نظرًا لثباتكما على الصيانة والعفاف.
قوت : حيث سمحتَ لي بالتفتيش عليه أيها المِفضال، فأذن لي بأن أتزيَّا بزي الرجال.
ملك : لكِ ذلك في الوقت الذي ترغبينه يا بنت الكرام، ومني عليك ألف سلام.
الجميع :
قدركَ الباهي
يسمو بالإنعام
مُلككَ الزاهي
يا مولى الأنام
يا شمس الأنام
والبدر التمام
يا عالي المقام
تسمو بالإكرام
أمان
احفظه يا كريم
وأدم عزه المستديم
ذا الإحسان العميم
والجود المستديم
فالهنا دنا
ونلنا المُنا
ودمنا في هنا
بحسن الختام

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤