اللقاء الثاني

– هل تقابلتما ثانية؟ [سألها الدكتور مراد].

– مرة واحدة أخرى، هي أيضًا قابلته.

– حقًّا؟! وما حدث بينهما؟

– أعرف ما حدث لكن لا يمكنني وصف مشاعرها أو كيف ترى ما حدث، أظن الأفضل أن تسألها دكتور.

– حسنًا، سأفعل، أريد أن تحدثيني قليلًا عن الدكتور إسماعيل.

– ماذا تريد أن تسمع دكتور؟

– أي شيء تتذكرينه دكتور أمل، ما سر العزلة التي فرضها على زوجته وابنته؟ قابلته عدة مرات لم يكن قَطُّ من هذا النوع الذي وصفْتِه لي، كان طبيبًا لامعًا متفتحًا، تتلمذ على يديه العديد من الأطباء والطبيبات الممتازين، ولا أستطيع فهم سر التحول.

فهل لديكِ ما تساعدينني به؟

– لديَّ الكثير، لكنني لا أذكر الكثير أيضًا، نعم كان طبيبًا لامعًا، لم يكن زوجًا ولا أبًا.

– إذن فأنت تتعاطفين مع الزوجة والابنة.

– لا، لا يستحقان التعاطف، لا يستحقان شيئًا، لا يستحقان الزوج أو الأب.

– تنفسي أمل، وتحدثي أكثر فقد أثرتِ حيرتي.

– لا أريد التحدث الآن عن هذا الأمر.

– حسنًا، سنتحدث في مقابلة أخرى، [قالها مبتسمًا].

– هل لديك تعليق دكتور حول عبد الله؟

– حدثيني أولًا عن اللقاء الثاني بينكما، ربما أتمكن من معرفة المزيد.

لم يكن طقس الحزن بل كان طقس الحيرة، كان اختفاء عبد الله المهندم في الصباح مثيرًا للشعور بالإهانة، لم أستسلم لها كثيرًا، وعدوت منها للريبة ثم التفهم، إن كان هو ويعرف أنه هو فلم يكن تصرفه غريبًا، وإن كان هو لكن لا يعلم أنه هو فتصرفه أيضًا مفهوم، عندما تأتي له إحدى موكلاته لتدعوه لبيتها في أول لقاء وتنتهي الدعوة بفراشها فلا عجب أن يتصرف هذا المهندم تصرفات الثري مع بائعة الهوى، ولم تكن مشكلتي في فهم تصرفه بقدر ما كانت في فهم مشاعري تجاه مجمل الأمر.

•••

قبل أن أخلع ملابسي أمامه كنت قد حسمت أمري ورجحت كفة رغبتي في التجربة، وفي اليوم التالي، حين ارتديت ملابسي، أطلت النظر لتلك التجربة، هل كنت سأفعلها لو لم يكن عبد الله؟ هل كنت أترك رجلًا غيره ليروي أرضًا رواها، وخصبها عبد الله؟ أليس هو من أحيا هذا الجسد وأحال تصلبه ليونة لم أظنه يعرفها قبله، لكنه لم يكن عبد الله، لم تكن لمسته الغجرية، كان يتناولني بشوك وسكين، كان يرتبني بمائدته دون تعجل، كنت أحد طقوس استمتاعه بالنبيذ، مجرد وجبة استمتعت بشوكته وسكينه، بقدر ما استمتع بمضغها، لم يكن عبد الله، لم تكن أنفاسه الحارقة، بل كانت نسمات منظمة السرعة والحرارة؛ فلا أتعرق ولا تشعرني بالبرودة، لم يكن عبد الله، لكنني رضيت بمن كان، خانته نفسي ولم أخنه؛ فقد كنت بصحبته هو، وإن لم يكن هو.

•••

مرت أيام ولم أقابل عبد الله، كنت أفتقده، كنت أفكر هل سأخبره؟ هل فقد اهتمامه بي وصب شغفه بها؟ سأقبله كما هو، سأقبل شخوصه؛ من عرفت منهم ومن أجهل، سأذهب إليه وأخبره بكل ما أعرفه عني، وعنه، سنلملم جراحنا، ونداوينا بنا، التملك التام، الحرية الكاملة، كل الأضداد تجتمع في صورته، لم أكن أصدقه، بل ما أعجبني هو كذبه، والآن صدقته؟ صدقت رباط الدم بكفينا؟ صدقت نفسي؟ لم يكن لي، بل كان معي، هو معي، ولم أكن له، بل كنت معه، لا أغار منها، لكنني أخاف عليه، ستقتل تمرده، ستربطه بمقعدها، ستحيل كل تمرده لقوائم الغذاء والراحة، ستقتل فيه جرأته، جنونه، تطفئ عينيه، وتذبل ابتسامته، سيقرأ الجرائد بدلًا من الفلسفة، يشرب الحليب بدلًا من النبيذ، سيكفر بكفره، ويعود متعبدًا مسكينًا في محرابها، سيتوب عني فأنا عنوان حريته، لن أكون هي، أنا لست هي، أنا، أنا.

•••

كانت الأفكار تسابق القطار، لكنه وصل القاهرة قبل أن أصل لضالتي، وصلت لورشته «الأتيليه» كما يسميه، ابتسمت لصوته في أذني وهو يقولها، كنت أمام السلم، خلعت حذائي، وبدأت الصعود، لم أحمل نفس المشاعر التي حملتها دومًا في صعودي إليه، تتجه السلمات الحجرية لأعلى بينما روحي تنزلق لأسفل، أشعر أنني خارج إطار الصورة الخشبي، لا أراني حافية تتقافز لأعلى السلم بألوان باهتة، جفت الألوان ولم أظهر بها، لم يكن يوم الصعود، انتعلت حذائي ونزلت بأحلام خافتة تتوارى بأحلام أخرى كانت صارخة، لم يسمعها أحد، كانت مجنونة سخرت منها الملابس الرسمية، ورابطات العنق، كانت طفلة تدعي الأنوثة، سلمة أخرى يهبطها الحلم، وسلمة أخيرة يتركني الحلم ويتمدد بها، لم أغادر البيت القديم كما دخلته، فقد أثقلني الفراغ، ولا يظهر من منارة ابن طولون سوى قبعة تعلوها، لا يصلها من صعد، لا يصلها من يلامس الأرض، لا يصل لقمَّة بالأرض إلا الهابط من السماء، أو ربما الساقط منها.

•••

خرجت من البناية مناديةً العم نصر، أردت البقاء قليلًا عند حافة السماء، لم أكن أريد التنعم بالجنة، ولم أكن أيضًا مستعدة للابتعاد، لا ضير من الانتظار خلف الأسوار، قد يلحقني شهاب، يحرقني، أو ينير لي الطريق.

– يا مرحب يا مرحب.

– هل لديك بعض الشاي لي، عم نصر؟

– على رأسي ومن عينيَّ.

أحضر كرسيًّا متهالكًا لأجلس عليه وجلس بحافة الرصيف الحجري يعد الشاي، أقسم لي أن الأكواب نظيفة، أزحت الكرسي جانبًا وجاورته على حافة الرصيف، لا أعرف من أي عصر أتى هذا العجوز الصامت الثرثار، لا يتوقف عن الحديث في اللاشيء، ويحل به صمت القبور إن اقتربت في الحديث من أي شيء.

أحاديث القاهرة، وأربعين عامًا قضاها أسفل تلك البناية، يعرف عدد أحجار الرصيف حتى القلعة من هذا الطريق وحتى مسجد السيدة زينب في هذا الاتجاه، يعرف أسرار ابن طولون، من تبارك به، من عتب عليه، ومن أثناه، ويعرف عبد الله، عشرين عامًا قضاها الأخير بسطح البناية، كان العجوز يعرف ما أريد سماعه، لكنه في حاجة لدافع يكسر صمته، «هل تزوجه ابنتك يا عم نصر؟»

ابتسم العجوز لحيرتي، ربما أشفق على توسلي بسؤالي الأخير، كان مهذبًا، لطيفًا، كان أيضًا حنونًا، عجوز ريفي، سطرت الدنيا بوجهه ما سطرت، وبلغ من الحكمة حد الصمت، لكنه سيكسر صمته متحسسًا كلماته لي، سيخبرني عن عبد الله، سيطفئ ناري، سيمنحني سببًا للاستمرار للنهاية أو للاختفاء التام، أشعر بقرب النهاية.

الدكتور عبد الله رجل طيب، غني لكنه رحيم، ربما يمتلك قصرًا لكنه يحب هذا المكان، يتحرر فيه من ثرائه ويتصرف بلا تكلف، يأتي إليه الكثير من تلاميذه يعلمهم الرسم، ونعم، تأتي له الكثير من الفتيات، هو شاب يحب الجمال، لكن لم تخرج من عنده فتاة باكية، الجميع يخرج من عنده مبتسمًا.

تبدين فتاة بسيطة من أصل طيب، فلا عجب أنك لا تعرفين شيئًا عن الأغنياء، أما أنا فقد كنت أعيش في قصر حين كنت في العاشرة، لا تتعجبي، نعم كنت أعيش في قصر، شرفته تمتد من مجلسنا حتى تلك المئذنة، [مشيرًا بيده لمئذنة ابن طولون] هم يرتدون أوجُهًا كثيرة يخفون بها ما بداخلهم، يبتسمون ليخفوا غيظهم، يبكون ليخفوا أحقادهم، يظهرون قوتهم ليخفوا ضعفهم، يحتاجون لبعض الوقت دون أقنعة، هنا في هذا السطح يسكن الدكتور عبد الله دون قناع، إنسان بسيط، يشعر بمن حوله، يسعدهم، ويشاركهم أوجاعهم، لكن هل يفعل هذا في قصره؟ في عمله؟ لا أعلم يا بنيتي، ربما يسخر من الفقراء كما كانوا يسخرون مني حين كنت صغيرًا.

كنت ابن كبير الطباخين، أعجبتهم سمرتي، فكان على أبي إحضاري في كل الحفلات، لأرتدي الزي الرسمي وأقف بجوار الباب، غير مسموح لي بالكلام أو الحركة، أقف كباقي التماثيل المتناثرة، ولن أحدثك بنيتي عن ممارساتهم الغريبة؛ فلا يليق إخبارك كل ما يفعلون.

أخجل أن أسألك عن المشكلة، لكن إن كنت تحبين هذا الرجل، أو هناك مشكلة لا يمكنك البوح بها؛ فاعلمي أنك لن تعيشي معه في القصر؛ فكما عرفك هنا، ستعيشين هنا، ولا تطمعي في أكثر من هذا.

لم يكن حديث العم نصر مفيدًا لي؛ فهو يظنني الفتاة الفقيرة التي بهرها أستاذ الجامعة، ربما يظن أيضًا أنني أخفي فضيحة بأحشائي، وأبحث عن كيفية التستر عليها، أعجبني صدقه فيما يقول عما يرى، له فلسفته الخاصة في رؤية الأمور، وله نكهته الخاصة في الحكي، وبينما كنت أتعجب من جلستي، توقفت سيارة عبد الله واختفى سريعًا بملابسه المهندمة داخل البناية، شكرت عم نصر وأسرعت خلف عبد الله، لن يتمكن من الإنكار الآن وعليه تقديم أسباب مناسبة لهذا العبث، تقافزت صاعدة السلم، ووصلت بأنفاس متقطعة، دفعت الباب ودخلت بسرعة، لأجد عبد الله مبتسمًا بملابسه الفنية! بنطاله الترابي اللون، قميصه الكتاني الأبيض مفتوح الصدر، حافيًا، تعجب من نظرتي، حاول أن يفهم ما بي، صرخت، اتهمته بالتلاعب، بالكذب، احتضنني، بكيت، صرخت مرات، ومرات، حاولت فتح خزانة ملابسه لأريه ما يخفيه، كانت مغلقة، طلبت منه أن يفتحها، تعلل بفقدان المفتاح، هو يكذب، هو يحاول دفعي للجنون، سألته عن السيارة، تعجب، ولم ينتهِ الموقف إلا حين نزل معي لعم نصر، وذهبنا جميعًا للسيارة، أنكرها عبد الله، سألت عم نصر، لكن العجوز تصرف كالدجاجة، أنكر معرفته بصاحبها، تركت كل شيء ورحلت وبداخلي غضب يكفي نصف الأرض.

قررت أن أفضحه، لن يتمكن من دفعي للجنون، أنا لا أهذي، بل هو المتلاعب الحقير، لماذا يفعل بي هكذا؟ سيخطئ ويقع، وحينها سيعرف أنني كشفته، وسأفضح ألاعيبه الحقيرة مثله.

– قلتِ لي إن الأخرى أيضًا قابلته في تلك الصورة المهندمة، فما حدث معها؟

– يجب أن تسمع روايتها دكتور؛ فأنا لا أرغب في الحديث عنهما أكثر من ذلك، هل يمكنني الذهاب الآن؟

– وكيف أقابلها دكتورة أمل؟

– ستأتي إليك فور ذهابي، أحتاج بعض الراحة، أرجوك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤