دماء الآلهة

هدأ القطار قليلًا، يلتقط أنفاسه حتى لا يدخل المحطة لاهثًا، أعلن وصوله بصفير وصرير؛ فانفرجت ذراعَا المحطة لتحتضنا البطل العائد، يتوقف تمامًا بين ذراعيها، وسكانها بأزيائهم الموحدة يتحركون في كل مكان، وزوارها بأزيائهم المتنوعة لا يجمعهم غير بطولة المكان.

نزلت من القطار، لا أحب الزحام، يستهلك طاقتي، لكنني لم أَهَبْه اليوم. كنت أعرف أنها ستأتي، ستجدني وأجدها، فلا معنى لمجيئها إن لم نلتقِ. تحركت باتجاه البوابة؛ بوابة الخروج من محطة سيدي جابر، كنت أبتسم لآدم الأول، فالآن عرفت شعوره وقتَ أنِ انْتَظَرَ خروج حواء؛ هل كان من الممكن أن تخرج منه ولا يلقاها؟

نظرت ناحية بوابة المحطة؛ محطة سيدي جابر، ثم أحنيت رأسي قليلًا لأختار البقع الفارغة من الأحذية على الأرض، وأحتلها بخطوتي سريعًا، محافظًا على اتجاهي ناحية البوابة، وصلت للبوابة، بحثت سريعًا عن أقرب مكان للجلوس، وتوجهت إليه بنفس الطريقة، اعترضني حذاء خفيف بالكاد يغطي أصابع القدمين وعروق نافرة في سمرة ظهرها، تظاهرت بالتحرك فتحركت معي، ابتسمت قبل أن أرفع عيني؛ فستان بسيط بلون الكتان الخام، بلا أكمام.

كعادتها، وابتسامتها تتلقاني بود.

•••

مدت يمناها لمصافحتي، لم أصافحها بل خطوت لجانبها، وأمسكتها يسراي، هامسًا: «أنا الغريب في بلادكم.» ابتسمت.

– ستأتي معي؟

– هل أملك بدائل؟

– لا أعتقد أن سيرابيس سيمنحك الكثير منها.

تحركتُ، وأنا مستسلم لها، وعقلي يدور ببراح بعيد أسائل نفسي عنها: هل ستحتويني بالفصحى؟ ستئن شِعرًا وتتأوه نثرًا؟ هل ستعتليني كآلهة الإغريق، تحممني بالنبيذ من جرتها كأفروديت؟ هل أقسمت كهيستيا أن تظل عذراء للأبد؟ هل ستمنحني الفرصة لأفض بكارة العذراوات الثلاثة، هيستيا وأثينا وأرتيميس؟ لا، لا، هي أفروديت، وسأخرجها من صدفتها، وستراني هيفيستوس، ما أصعب الغرق في أستاذة تاريخ!

•••

خطوة أخرى، ويدي بيدها، لا أعرف من يريح يده بيد الآخر، انتبهتْ هي حين توقفت مرة أخرى، التفتت لتواجهني متسائلة عن سبب توقفي، لم تجد في عيني إجابة، لم تدرك أن فكرة غريبة تنتابني، سألتها بوجه ثابت أن تأتي بسكين، سألتني: «هل ستقتلني بتلك السرعة؟» ابتسمت وهي تغادر يدي لركن وجبات جاهزة بجوار البوابة؛ لتعود وبيدها سكين، مددت يساري بيسراها وطلبت منها أن تحدث قطعًا متقاطعًا كالصليب بكفي، وأنا أنظر بعينيها، رجفة أخفتها بالقطع الأول، واستلذاذٌ للألم بالقطع العمودي، وأمسكت يدها اليسرى بأطراف أناملي وطلبت منها أن تنظر لي بينما أشق كفها اليسرى، كانت دمانا تنساب، فواجهت كفي بكفها ليتحول انسياب الدماء لسريان بعروقنا.

فصلبتها بكفِّي، واعتليت صليبًا بكفِّها، فتطيب جرحانا بجرحينا، وامتزجت دمانا بكفَّينا.

فاكتفت منا الجراح وما اكتفينا.

أقلتنا سيارة أجرة. عمارة سكنية قديمة بالشاطبي، بين بورصة المال بالمنشية، وحلقات الذاكرين بمسجد المرسي أبو العباس، هكذا وصفت هي المكان، صعدت خلفها، والبحر من خلفي يهمهم سائلًا من أكون، شعرت بغيرته، ونشوتي زادته غيرة، هي لي، والبحر يعرف، لا أعلم إن كان سيرابيس الغارق من خلفي قد لمحني، لكنني كنت على علم بحتمية المواجهة، قريبًا.

بيت جدتها، يحمل مزيجًا من الأطياف؛ جدتها يونانية وجدُّها من الصعيد، مكثت في حجرة جدتها بعد رحيلها لتلحق جدها بأقل من عام، طوفتني أطيافهما قليلًا حتى قادتنا قدمانا للشرفة، خرجت هي تدلل البحر بعين حانية، تهمس لسيرابيس الغارق، تبتسم.

تراجعتْ للخلف خطوات قليلة ضيقة حتى التصقت بي عند باب الشرفة، أسقطتُ فستانها وأسقطت هي ما بقي من ملابسها دون النظر خلفها، فردت ذراعيها لجانبيها، صلبتها عارية على جسدي، وهمست بأذنها: «الآن يمكنك الصلاة، أخبري سيرابيس بما تريدين، فإن لم يسمعك فسأسمعك أنا.»

لم تنطق بل تمسحت بشعرها في صدري ورقبتي، لم أكن أرى من صلبها سوى كتفيها وذراعيها، مشدودة هي بعمر أشجار السنط، السيسبان السعيد، لكنها تخفي بجذعها أكروبوليس تحاول النفاذ من مسام عروقها، ربما شعرت بنيتي لتحدي سيرابيس للنهاية، ربما جاءتها رسالته بأن تتحرك الآن؛ فدارت حول محورها كأفعى دون أن تغادر جسدي، واجهتني زافرةً الجحيم في صدري: «بل سأصلي اليوم هنا.» وبدأت في فك أزار قميصي.

كانت تتلو صلواتها بهمهمات بأنفها وثغرها يلامس صدري، وكأنها تصدر أوامرها لجسدي بالاستسلام، ولعقلي بالتوقف، أفقت لحظيًّا وأنا أسير بيدها عاريًا لغرفة جدتها، أسير حيرتي بين رغبتي في الخضوع، ورغبتها في إخضاعي.

كانت الغرفة تشبه المذبح المقدس، لا أدري كم من القرابين قُدِّمت بتلك الغرفة، مددتني بالفراش ومددتها، اعتلتني واعتليتها، ضاق حلقي وحلقت روحي، أطلقتها هي لتحلق وروحها بسقف الغرفة نراقب جسدينا يتلاحمان؛ نيراني وماؤها، لا تحرق ناري ماءها، ولا يطفئ ماؤها ناري، بل صرنا ماءً مقدسًا مضيئًا بالفراش، لم أشعر بحدود طيفي في طيفها، لم يعد الكون مناسبًا لاحتواء كل تلك الفورة المقدسة، لا أدري كيف عادت روحي مرة أخرى لتسكن جسدي، غادرت الغرفة ونظري معلق بسقفها؛ فألمح بصمات روحي ضيًّا يخفت بهدوء وأنا أغادرها.

جلسنا على أريكة قديمة، جلسنا على الأرض، نستند إلى الحائط ونعقد أرجلنا أمامنا، تحدثنا، تحممنا، أحضرت بعض النبيذ وأعدت هي المشواة، كنت أظنها نباتية حتى رأيتها تلتهم اللحم كالجوارح، وتشرب معه النبيذ الأحمر، أراقبها دون تستر وتراقبني باقتحام، وكأننا اتفقنا أن نظهر أسوأ عاداتنا الشخصية، كنت أراقب عينيها كلما قبَّلتني، كانت تنظر خلسة للبحر، تثير غيرته، وتشكر سيرابيس ربما، كنت أختلس النظرات إليهما أيضًا، في الحقيقة كنت أحاول معرفة سر ابتسامة سيرابيس لي، وكأنه يعلم جيدًا جهلي التام بالفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤