زيارة سرية

قطار المساء يقطع جسد الإسكندرية، وينفلت بي منها، ما يظنه القطار ذهابًا، أراه عودة، لم أكن عائدًا للقاهرة بل لأرتيميس، ولكن تلك المرة أرتيميس ربة القمر، رجعت للمرسم، لم تتحرك مئذنة ابن طولون من مكانها، كما هي، ملوية سامراء بالقاهرة، هنا لم تعد أمل من الأوليمبس، بل كنت أراها تلك المئذنة العارية وذراعي تلتف حولها، ترتقي معها حتى تتلاشى ويتلاشى معها سلمها، حضورها هنا أقوى، لا حاجة بي للتودد لسيرابيس الغارق، أو مناجاة بوسايدون، هنا لا حضور للإغريق والبطالمة، رائحة الأحجار المبللة والمياه تطرد منها آثار البخور المستكينة لمئات السنين، وحين تمتزج الروائح وتتردد أصداء الألحان، لا يتردد منها الكثير، لا يرتد من تلك الأحجار إلا ما ترفض ابتلاعه، وهي تبتلع الكثير، شعرت برائحة غريبة بالمرسم، رائحة برية متناغمة مع خليط الروائح، رائحة الصيد، أمل كانت هنا!

أكد ظني العجوز «نصر»، السيدة التي زارتني آخر مرة أتت مرتين وقالت إن معها المفتاح وستنتظر، في كل مرة قرابة الساعتين، ماذا فعلت لساعتين؟ ديبوسي، استمعت لبعض موسيقاه، عبثت بالألوان، تحممت، لم يبقَ إلا أن تشرب بعض النبيذ، وتمشي عارية على أحجار السطح، وتترك كأسها على الأرض بجوار سور السطح، هل رقصت؟ هل تركت لي شيئًا؟ هل أطلقت تعاويذ الإغريق بجدراني؟ كانت هنا، في انتظاري، افتقدتني، أو ربما أتت لتخبرني أين يجب أن أكون، هل لمحتني أراقبها؟ خرجت أتأمل المئذنة، تركت كل أفكاري بعتباتها، وعدت لأنام برفقة رائحتها؛ أمل.

•••

كانت أشعة الشمس تدلك جسدي، لسعات متتالية تمسح ظهري لأستيقظ على ابتسامتها، وهي تجفف الأحجار وقدماي تحتجزان الأبخرة كلما خطوت، هيا؛ فلديَّ الكثير لأريك اليوم، هكذا قالت الشمس، ومن يملك تجاهل ندائها؟! خرجت وكان العجوز نصر يرش الماء أمام البيت، وكأنها لقنته سرًّا تلك الدعوات لي بالتوفيق، ابتسمت له، وشكرته، فزادني من الدعاءِ دعاءً، لم يكن الوصول لوسط العاصمة يشبه معركة البقاء اليومي، بل كان يشبه انسياب الماء بوادٍ رحب، هل يمكن للشمس أن تخفي الزحام؟ لا يمكن أن تكون تلك التظاهرات هي السبب، حاولت النظر إليها من نافذة سيارة الأجرة، لم تكن تصلح أن تكون لوحة، لا أصدق في تكوين لا يصنع لوحة، وصلت الجامعة، لم أمكث كثيرًا، عرفت مكان بيت الطبيب الراحل إسماعيل خطاب وانصرفت.

بناية متوسطة بحي الدقي تطل على حديقة عامة، هنا تعيش أمل، ربة القمر، بعض الطعام والسجائر والعصائر والماء والجلوس في الحديقة أمام بيتها، كل شيء هادئ، لم يكن هناك سوى سيدة عجوز بالطابق الأرضي، تشاغب الحارس والمارة بابتسامة جميلة أو نظرة سخط، لم يتمكن نحت الزمن بوجهها من إخفاء جمالها، تبدو سيدة وحيدة، تقضي يومها بشرفتها بالقرب من الطريق، تأنس بالمارة وتؤنس طريقهم بتعليقاتها، راقبتها قليلًا ثم انطلقت إليها، عرَّفت نفسي كصحفي وسألتها عن الدكتور إسماعيل، دعتني للدخول والجلوس معها بالشرفة، وبعد أن جلست طلبت مني أن أعد كوبين من الشاي.

– إذن فأنت صحفي، وتسأل عن الدكتور إسماعيل.

– نعم سيدتي أقوم ببحث عنه، له ابنة واحدة كما أعتقد.

– نعم، أمل، هي من قتلته.

– قتلته؟!

أومأت برأسها، وعيناها العسليتان تنظران في عيني كصقر ينقض على فريسته، وكأنها تريد معرفة وقع الكلمة عليَّ، أمل قتلت أباها؟ ربما تكون تلك هي نقطة التحول، هنا تحولت لإلهة الصيد وتركت القمر؟ لم أصدق ما شعرت به، ولم أصدق أنها تقصد ما تقول.

– لا تكذب يا بني على امرأة مثل أمك، أنت هنا من أجل أمل، هل تريد أن تتزوجها؟

– سيدتي لا، أقصد نعم، أنا هنا من أجلها، أقصد لم آتِ لأتزوجها.

ربتت على يدي بيد حانية، وتورد وجهها، وابتسمت قائلة: «حتى المجنونة لها من يحبها.» وضحكت ونكزتني لأشاركها ضحكتها فابتسمت، أخبرتها أنني أريد أن أعرف كل شيء عن أمل، وكأنها وجدت ضالتها وبدأت تحكي وبين الحين والآخر تطلب مني أن أغسل الكوبين وأعد المزيد من الشاي.

أتت كاميليا أم أمل كزهرة الربيع، وكانت تذبل كل يوم برفقة إسماعيل، كان طبيبًا ناجحًا، من أسرة ميسورة، كان يعامل الجميع بلطف ومودة، إلا أهل بيته، وكأنه يترك الدكتور إسماعيل بعتبة البيت ليتحول إلى شخص آخر، عكر المزاج، متسلط، متملك، لا يقبل مناقشة، لا يسمع لأحد، لا يعرف ما قد يرضي كاميليا أو أمل منذ طفولتها؛ فما يراه، هو ما يجب أن يرضيهم، وليكمل سيطرته الكاملة، اشترى البناية من مالكها، وظل يقدم الإغراءات للمستأجرين، حتى اشترى كل الشقق، إلا شقتي، لم يستطع طردي منها ولم أستطع شراءها منه، لم تختلف وحدة كاميليا عن وحدتي؛ فلم أتزوج يا بني، وكانت أمل هي ابنتي وابنة كاميليا، أول مرة أسمعها تبكي كان يضربها لأنه سمعها تقول: «ماما سناء.» لم أقل لك يا بني، اسمي هو سناء، الآنسة سناء مدرسة لغة إنجليزية، أنا من علمت أمل الإنجليزية؛ فأمها كانت تتحدث الفرنسية بطلاقة لكنها لم تكن تعرف من الإنجليزية شيئًا، كانت كاميليا كأخت لي قبل أن تفقد عقلها، نعم، فقدت عقلها، كانت تتناسى، حتى أصبحت تنسى كل شيء، حتى ابنتها، ولم يتوقف إسماعيل عن إهانتها، أو انتقاد أفعالها …

مسكينة كاميليا، أعرف أن أمرها لا يعنيك كثيرًا؛ فأنت هنا من أجل أمل، من أي عائلة أنت؟

أجبتها: «مسعود، اسمي عبد الله مسعود.» فسألت مرة أخرى: «أنت ابن حسين مسعود؟» قبل أن أجيب، تجمد الزمن لحظة، ثم انصهر جليد الكون فوق رأسي؛ فقد كانت أمل أمامي تلقي التحية على الآنسة سناء، وهمت أن تصيح بوجهي؛ فتداركَت الموقف الآنسة سناء.

– أهلًا ابنتي، ألقي التحية على عبد الله، ابن ابن خالتي، الأستاذ حسين مسعود.

– أهلًا [قالتها بحدة].

أجبت مرتبكًا: «أهلًا آنسة أمل.»

وكأن الآنسة سناء تدير الأحداث كما تريد؛ فقد أتت أمل لتجلس معنا بالشرفة، وانفرج شيئًا فشيئًا وجهها عن ابتسامة جميلة، لم تكن بتلك الحدة التي تظهرها، وتبادلنا إعداد الشاي وغسيل الأكواب ونحن نتبادل الكثير من الأحاديث، سناء تدير كل شيء من جلستها، وأنا وأمل نستجيب لها بلا مقاومة، وسناء تترك لنا الشرفة لبعض الوقت؛ فتواعدنا أنا وأمل، واستأذنت لتصعد لأمها، بقيت مع سناء، لأعرف بقية قصتها.

كانت أمل ذكية وعنيدة، لم يعاملها إسماعيل كطفلة أبدًا، بل كان يعاملها كندٍّ له، وأصر أن تدخل كلية الطب، لترث مشروعاته العلاجية العملاقة، لكنها أصرت أن تتزوج في أسبوع الكلية الأول، أتت بطالب بالسنة الرابعة لأبيها، وأجبرته على الموافقة وتزوجا في الطابق الثاني من بنايتنا، كان شرطها لتتعلم هو الزواج، وكان شرطه هو الإقامة تحت نظره، لكن الأمر لم يدم كثيرًا؛ فبعد أقل من شهر بدأ زوجها الدكتور عمرو عبد الكريم، نعم لا يمكن أن أنسى اسم هذا الحقير، صفعها بعد أقل من شهر، وبدأ يتحدث كأبيها، نعم صفعها، لكنها لم تسكت؛ فصفعته، وتحول الأمر لمعركة، وأوسعها ضربًا، جرت تستنجد بأبيها؛ فكال لها هو الآخر ودفعها لشقتها وكأنه يتركها لزوجها ليكمل ما بدأه من تعذيبها، لم يعرف أحد سبب المعركة، كانت ليلة لم تنتهِ قط، أمل تصرخ من شقتها، وكاميليا تتأوه كقطة ذبيحة، وأنا هنا أضرب رأسي بالحائط بجوار أمي المريضة، حتى توقفت كل الأصوات، صعدت في السادسة من صباح اليوم التالي، كنت أظنه قتلها، لم تكن هناك، صعدت لأمها مسرعة، أين أمل؟ لا أحد يعرف، اختفت أمل.

ثلاثة أشهر كاملة، لا أحد يعرف أين كانت، حتى هي لا تذكر، ثلاثة أشهر كاملة، كسرت إسماعيل وقضت عليه، ورحلت أمي، ولم يبقَ إلا أنا وكاميليا، وزوج أمل الحقير الذي رفض ترك المنزل طمعًا في إرث إسماعيل. كاميليا نسيت كل شيء، لم تكن تردد غير اسمها، أمل، وعادت أمل امرأة أخرى، لم تعد تلك الطفلة العنيدة، بل عادت امرأة صلبة، أجبرت زوجها على تطليقها، لكنها دفعت له الكثير، وكلما سألنا أين كانت، أجابت بأنها لا تذكر، حتى عمرو لم تذكره حين عادت، ولم تصدق أنه زوجها حتى رأت قسيمة الزواج، وحين رأتها قالت له: «حسنًا، أنا لا أذكر أنني تزوجت منك، لكن أعد بألا أنسى أنني سأتطلق الآن.» لم تكمل تعليمها المسكينة، وكانت تراعي أمها وتراعيني، وجَدَّتَها بالإسكندرية، وأعمال أبيها، حتى أعمامها تركت لهم الكثير مما لا يستحقون ليتركوها وأمها، أوصيك بها يا بني.

هي تستحق كل الخير؛ إن لم تكن تحبها فاتركها لحالها.

•••

كانت الآنسة سناء تبكي، قبلت يدها ورأسها، حتى هدأت، ودَّعتها وانصرفت، وكنت أشعر بأمل تراقبني من نافذتها، لم ألتفت وانصرفت، كان رأسي يدور، هم يظنون بأنها لم تكمل تعليمها، لا أحد يعرف أنها أستاذة بالجامعة، أكثر من عشرين عامًا، أين اختفت أمل لثلاثة أشهر؟

كانت سماء القاهرة ممتدة إلى ما لا نهاية، ونجم خافت يرسل ومضاته كأنه علامة نبض الكون، أو ربما يشير للانهاية، حيث تسقط كل الأسئلة أمام أجوبتها، كنت أود أن أخلع حذائي وأنا ألامس أرصفة وسط البلد المبللة، سكنت الريح وانتصف القمر، في انتظار طلتها ليكتمل، يقترب همسًا بصحارى الوادي البعيد، علَّه يلقاها بين حبات الرمال الساخنة، أو حبات الندى الخجولة، يراقص النهر سرًّا علَّها تغافل الطمي، وتنفلت منه وتطفو كورد النيل، هو نصف القمر، وهي اكتماله، لم أمكث طويلًا بوسط البلد وعدت لمرسمي لأجد نصفه الآخر في انتظاري.

لم أصدق عيني؛ فبعدما تركت ربة القمر وتركت هي معي كل تلك الأسئلة، أجد إلهة الصيد بمرسمي عارية ممددة تستمع لموسيقى معابد كيوتو اليابانية التي تنشر رائحة الغابات الاستوائية بالمرسم، لم تتحرك حين دخلت، ابتسمت وسألتني أين أخفيت النبيذ؟ يا إلهي! منذ قليل كنت أختلس النظر لعينيها، والآن هي تخترقني بعينيها وتنفذ لترى ما خلفي، ابتسمت لها، وأحضرت النبيذ من خزانة صغيرة بجوارها، خلعت ملابسي وأعددت كأسين، خرجت قائلة: «أحضر الزجاجة معك، وسأحمل السجائر.»

تجاورنا بعرينا على الأحجار الرطبة؛ ظهري إلى أحجار السور مستند، ونصف ظهرها يقسم نصف صدري، نتحدث في اللاشيء، ويراقبنا نصف قمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤