هي تغار منها

لا أدري إن كان القمر قد شعر ببعض الحياء فتبدد شيئًا فشيئًا، أم أنه قد أنهى نوبته، وتركنا لمئذنة ابن طولون لتعلن بزوغ الفجر قبل الشروق، ميلاد جديد لنا، أنا وأمل، أمل الأخرى.

والأخرى أيضًا، وأنا، كم من النبيذ شربنا أسفل السور الحجري؟ لنخلع عنا الطريق والمسافة.

وتبقى هي بسمرتها اللامعة قمرًا وشمسًا، نصف حياة، تحدثنا بطول الليل وعرض السماء، وتلاشت مع خيوط الشمس، تركتني بلا شبع ولا جوع، تركتني لأبحث عنها؛ فلا أجد سوى أمل الأخرى، قاتلة أبيها.

أفقت بلا أمل، تحممت وارتديت ما يكفيني وخرجت، كان موعدي مع أمل ربة القمر، لم أكن متأكدًا من مجيئها فقد قضت الليل معي أمل إلهة الصيد، لم أنم إلا غفوة قليلة، لكنني وجدتها في انتظاري، مشرقة كطفلة بملابسها الغريبة، كانت عيناها تلمعان ووجهها صحوًا، أين ذهبت آثار النبيذ والسهر؟ هل كانت نائمة بينما كانت الأخرى بصحبتي؟ لم أعد أفهم جيدًا، أو لم أكن قادرًا على مجاراتهما، كنا نتودد ببطء، سألتني لماذا ذهبتُ لبيت جدتها بالإسكندرية، هي تذكرني إذن، أجبتها بأن رؤيتها بالإسكندرية كانت صدفة دفعتني للبحث عنها بالقاهرة، توردت خجلًا، لم تكن مصدقة، لكن يبدو أن كذبتي الصغيرة أعجبتها، وبعد الكثير من الأحاديث التقليدية عما نحب ونكره، سألتني أين أسكن، لم يكن بيدي سوى دعوتها لمرسمي، وأتت ربة القمر وتعجبت حين حياها العجوز نصر باسمها، لم أجد تفسيرًا مناسبًا لها فقلت، ربما سمعني أناديكِ.

بدا عليها التأفف من الفوضى، أدرت الموسيقى؛ فسألتني بلطف ألا يوجد لديك شيء لأم كلثوم؟ مفاجأة أخرى منها، بالطبع سأجد شيئًا مناسبًا، وكأنني أبدأ كل شيء من جديد، وكأنها لم تقضِ الليل على صدري، وكأنني لا أعرف رائحتها، لمحت زجاجات النبيذ فأبدت امتعاضًا وطلبت ألا أشرب في وجودها، قائلة إنها لن تسمع مني هراءَ أنه مفيد للشرايين وللقلب، فيكفيها أنه حرام! لم يبقَ لدينا ما نشربه غير القهوة والشاي، لم تفهم شيئًا من لوحاتي، لكنها نظرت طويلًا للوحة أعلى السرير، ربما أعجبتها، أو ربما تذكرتها، خرجت للسطح خلف إعجابها بمئذنة ابن طولون، وقفت خلف السور الحجري وكأنها تذوب وترتقي بدرجاتها، أتيت خلفها لأحتضنها بعفوية، انتفضت وكادت تصرخ، اعتذرت، حاولت تهدئتها، كانت ترتعش، رَبتُّ على كتفيها واحتضنتها برفق، وهمست لها أن تتنفس بهدوء حتى هدأت، قبَّلت يدها واعتذرت مرة أخرى.

– كم من النساء أتت لمرسمك؟

– لا أعرف، هل يهم؟

– لماذا أنا؟

لم تكن تقنعني تلك السذاجة، لكنني قررت المضي للنهاية، أحضرت لها طبقًا من الفاكهة؛ تفاح، كمثرى، ونوعين من الأعناب، دعوتها لتناول البعض منها، فالتقطت تفاحة؛ فسألتها لماذا التفاحة؟ فأجابت بأنها تحب التفاح، شعرت بالحرج، وبعد قضمة صغيرة أكملت: لو لم يكن هناك تفاح لاخترت الكمثرى، لو لم أكن هنا لاخترتَ غيري. ابتسمت لها متسائلًا: رغم حبي للتفاح؟ قد تحب التفاح لكنك قد تحتاج الكمثرى أو الأعناب. وتوالت قضماتها الصغيرة، تحتفظ بقضمتها بفمها، تمتص عصارتها ثم تبتلعها وهي تراقبني أقترب منها، وعيناها تنتقلان بين تفاحتها وشفتيَّ، حتى اختلط علينا الأمر، والتهمت من طبقها ألوانًا من الفاكهة، وكأن نضارتها لم تمس من قبل، كيف لربة القمر أن تكون بهذا الاختلاف عن إلهة الصيد؟ حرارتها، أناتها، عيناها نصف المغمضتين، كنت أبدأ الجملة وهي تختمها، أكتب وهي تضع التشكيل وعلامات الترقيم، الكثير من الجمل الخبرية، والقليل من الجمل الاستفهامية، وما بقي كان صلة الموصول، لا محل له من الإعراب.

غربت عني كما فارقت الشمس سماء القاهرة، كنت أتوقع مجيئها، أقصد هي الأخرى، أرتيميس إلهة الصيد، أستاذة تاريخ الفن، لا تأتي الأمور كما ننتظرها، ولا قريبة مما نتوقعها، فاللعنة على الانتظار، واللعنة على التوقع، أوصلني الشغف للحيرة، مزيد من العشوائية الذهنية، وعدم القدرة على المفاضلة، لم أعد أنام وهي أيضًا، تنتقل بين الاثنتين وكأن تحولها يعطي الأخرى بعض ساعات الراحة لتستلم نوبتها حين تفرغ مني الأولى، لا أريد الاستغناء عن أيٍّ منهما ولا أستطيع المواصلة مع كلتيهما، اللعنة على الطمع، حتى الآن لا أعرف من تسيطر على الأخرى وتملك ذاكرتها، ولا يمكنني التكهن في حال شفائها أيهما ستبقى، ومن ستتلاشى.

وتمضي الساعات بلا أمل، ينقبض الليل بحثًا عنها، حتى الشمس لم تعد تجد متعة في أن تطل وحدها، بلا أمل، والحمائم بساحة ابن طولون كانت تلتقط الحَب وتنظر لمرسمي، لم أكن الوحيد الذي يفتقدها، لم أعد أعرف أيهما أفتقد، أو أيهما أشتاق، حاولت رسم أرتيميس إلهة الصيد وأرتيميس ربة القمر في رسمة واحدة بلا جدوى؛ فحين ترتدي رداء القمر ووشاحه وخماره، تتلاشى جعبتها وقوسها، وحين تمسكهما تظهر سيقانها من ردائها الجلدي القصير، وكأن زوس يريد قتلي بعذراء الأوليمبس، لم تعد عذراء كما أظن، وطئت اثنتين منها، لكن هل لديها أرواح أخرى؟ هل ستتنافس هيرا وأفروديت مرة أخرى وتتجسد كل واحدة منهما في صور أخرى لأرتيميس؟ نظرت لمئذنة ابن طولون أناجيها علَّها تُلْقِي بقلبي الأجوبة.

أيتها المنارة السامية التي رسمتها الريح، يا من تضاءلتِ من أجل السمو، بحق رفعتك، بحق ما تناقص من بدنك حتى التلاشي، بحق قمتك، نقطة السفر بين العوالم، بحق من أتاكِ عالم، ومن فارقكِ سالم، بحق من رزق عند قدميكِ الحمائم، أسرِّي إليَّ بسِرِّها، وأسقطي عنها خمارها، سامريني بصورها، وطهريني بذاتها، تحشرج الحلق وتبلل الوجه بماء العيون، ولم تجبني المئذنة.

«فتاتك ليست هنا.» قالتها السيدة سناء وأنا أسألها عن أمل، أضافت بأنها بالإسكندرية، ربما السيدة سناء تعرف شيئًا لا تريد إخباري به، وبدأت نوبات إعداد الشاي وغسيل الأكواب المتواصلة حتى أخبرتني بأن أمل تتلقى العلاج في إحدى مصحات أبيها بالإسكندرية، عشرون عامًا بلا نتيجة، مسكينة تلك القطة، سقط الكثير من ذاكرتها، لكنها ليست كأمها، أمل لا تقلم أظافرها؛ فلا تُثِرْ حفيظتها يا بني، انتظرها هي ستأتي بعد أيام ثلاثة، وأضاعت السيدة سناء نهاري لأحصل منها على الكثير من اللاشيء.

حبات القهوة والقطار ورحلة أخرى خلف ظلها، لم يكن زجاج القطار متسخًا؛ فلا يمكن أن يتسخ بهذا التكوين التجريدي، حتى الأتربة تجيد رسم العبارات، خيوط النور تتصل وتنقطع بدرجات من التباين، وقبل أن أفهم شفرتها أظلمت وكأن القطار دخل كهفًا أسود بجبل من ظلام، ألقيت برأسي للخلف ولم أشعر بشيء حتى وصلت الإسكندرية، أفقت وبمؤخرة رأسي ألم شديد وبقايا حلم مزعج، غادرت محطة الوصول بعروق نافرة، لم أكن أعرف أمِن الألم هي، أم من الإزعاج. المزيد من القهوة وسيارة أجرة ألقت بي أمام بيتها، لم أهتم بسيرابيس، ولم أعر زفرة بوسايدون وهي تغرق الطريق أي اهتمام.

فتحت لي الباب عارية واختفت بغرفة جدتها، لحظة وعادت وبيدها منشفة، طلبت مني التحمم؛ فرائحتي تنافس بول الخيل قذارة، لم أتحدث كثيرًا، وقفت تحت الماء وجاءت لمساعدتي، كانت لمستها مختلفة، كانت إغوائية القصد، لم أشعر بعفويتها، لكنني كنت أحتاج الاستحمام، وربما المزيد من القهوة أيضًا: «لا أعتقد أنك تحتاج لتلك الملابس الآن، سأغسلها حتى تشرب قهوتك، ونتركها تجف، لا تحتاج لأن أقول البيت بيتك.» قالتها وهي تجمع ملابسي وتطردني بلطف من الحمام، لا أعرف إن كانت تمنحني بعض الوقت لأرتب أفكاري، أم أنها تعبث بها.

جلست في فراغ المعيشة بالقرب من الشرفة، إضاءتها الخافتة ورائحتها البرية، موسيقاها العذبة، هي أمل التي أريد البقاء بقربها، هي لا تظهر مشاعرها بالكثير من الأسئلة أو القليل حتى من الغيرة، هي ليست كغيرها من النساء، الأخرى أيضًا ليست كغيرها من النساء، الأمر أصبح صعبًا، صرت أشعر بالقلق أن أناديها باسم الأخرى، لن تحدث كارثة؛ فأرتيميس إلهة الصيد هي أرتيميس ربة القمر، وكلتاهما أمل.

– تأخرت عني، هل شغلتك المئذنة، أم امرأة أخرى؟

– أي امرأة أخرى؟

– التي جئت خلفها، أنا أعرف كل شيء.

– أنا جئت خلفك أنت.

– تعرف أنني معجبة بوقاحتك لكنني لا أحب المراوغة، هي متطلبة تحب التملك، لن تجد راحتك معها، ستطالبك بالزواج، خاصة بعد ما حدث بمرسمك.

– أنت تعرفين كل شيء إذن، يا إلهي! لقد اختصرتِ الكثير من الوقت، أريد أن أفهم كل شيء، من هي، ومن أنت.

– أنت لا تريد أن تعرف.

كدت أقاطعها؛ فوضعت بنانها على فمي، وانسابت بين ساقيَّ كأفعى، لتجلس على الأرض مستندة إلى رجلي، وصمتت قليلًا: «لم يكن يجب أن تعرف شيئًا عنها.» كان صوتها مذبوحًا.

قبلت ركبتي وأسندت رأسها إليها وبدأ الحديث الذي انتظرته.

مسكينة هي ومثيرة للشفقة، لم يكن ذنبها أن أباها يشبه أسكليبيوس، بلغ من علوم الطب ما بلغ، وكل ما كان يأمله صبي من صلبه يمنحه كل ما عرف، كان من الممكن أن تكون المسكينة هي نعمته، لكن صلفه وغروره جعلاها لَعْنَتَه، وصار لعنتها، لم يعتدِ عليها أو يغتصبها، لم تكن تتعرض لإيذاء بدني، لكنه كان يقتل روحها كل يوم، كانت أضعف من حماية حلمها، كانت تريد أن تصبح مثلي، بسيطة، كانت تتمنى أن ترسم بيتًا وشمسًا ورجلًا وامرأة وطفلة، كانت تريد أن تصبح مُدرسة للرسم، لكنها لم تصبح أي شيء.

كانت طفلة فقط في المدرسة، ذكية، متفوقة، وكلما زاد إدراكها، ازدادت خفوتًا، حتى أَفَلَت كما الشمس، ولم تشرق مرة أخرى، كذلك أمها، كانت مثيرة للشفقة أكثر منها، لم تخفت بل فقدت عقلها، كانت تتناسى لتعيش، حتى نسيت كل شيء، ولم يبقَ لديها سوى أمل، لا أقصد الفتاة بل أقصد الاسم، حاولت إقناعه بالزواج من أخرى، أو تركها وابنتها، لكنه لم يكن ليتنازل عن وسيلة إفراغ ما يتعفن بداخله كل يوم، كان ملاكًا مع الجميع، باع روحه لعمله فلم يبقَ شيء لبيته، لم يبقَ منه إلا قبحه.

لم أكن هناك وقتها لأنقذها، أو أحميها، لم أكن بجوارها، لم أكن أعلم، وحين أتيت لم تكن تستمع لي، حاولت التصديَ له، أسكليبيوس، فأجبرته على الموافقة من الزواج بحقير آخر، لم أقوَ على الصمت وقتها، لم يكن من الممكن تركها، كان بيدي أن أحولها لشجرة لولا أمها، لا تظن أن ترفُّقي بها يعني تعاطفي، أو موافقتي على تعديها على ما أملك، لا؛ فقد فعلت الكثير من أجلها، قضيت عقدين من عمري بنصف حياة لأتركها لمراعاة أمها المسكينة.

حين صب أورانوس غضبه على نسله، وألقى بهم في تارتاروس، أججت جيا نيران غضبهم، وأشعلت ثورتهم حتى قطعوا جسده، ولكن انظر ماذا خلفت دماؤه وأوصاله، سقطت أوصاله وتزاوجت بزبد البحر حيث أتت أفروديت، الجمال، والخصوبة، والرغبة، أما الدماء فجعلت جيا تلد الإرينيوس إليكتو وتيسيفوني وميجايرا، ربات الانتقام، يعشن بالأسفل ولا يخرجن إلا بالليل، من أجل الانتقام، أما أنا فأخرج بالليل والنهار؛ فأينا تراه أفروديت؟ وأينا الإرينيوس؟ أم اختلط عليك الأمر؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤