قمر يحاول الهروب

أفقت والساعة قاربت السادسة، شقة أمل هادئة، ليست بغرفة جدتها، ربما بالغرفة المغلقة، لم تُطِل انتظاري، أو تُثِرْ قلقي، فقبل أن أنتهي من إعداد بعض القهوة كانت قد خرجت من الغرفة المغلقة، أرتيميس ربة القمر، خرجت مسرعة كعادتها، تأكدت من إغلاق النوافذ، نوافذ الشقة، نوافذها، وقفت قليلًا ربما أغلقت نوافذ حلمها أو خوفها، حتى القمر كان يحاول التسلل من ليلها، أمسكت به في السماء بعد الفجر بقليل، مكتملًا، لكنه هاربٌ، هاربٌ لكنه باهٍ، يغوي إيوس ربة الفجر لمساعدته، أو التوسط لدى سيليني شبيهة أرتيميس، يبحث عن هيكاتي الربة الغامضة ذات الثلاثة رءوس المشرفة على أعمال السحر والكهانة وتحمي الساحرات، فهي لا تشرق إلا باكتماله وقبل شروق الشمس، ما الذي يجعل القمر يرحل من ليل أرتيميس ويغادر سماءها؟

نزلت الدرج بخطوتها المنتظمة فنزلت متواريًا بمدخل مبناي، خرجت سيارتها الفارهة لكن يبدو أنها غيرت رأيها؛ فأمرتها بالانصراف، وقفزت بسيارة أجرة، وقفزت في السيارة التالية لها، لم يكن من الصعب استنتاج أنها في الطريق للجامعة، هي قررت البحث عن أمل الأخرى، وأنا من خلفها، أتشوق لقرارها بالعلاج، اقتربنا من الجامعة تحت سماء ملبدة بالغيوم أحالت ذهبيةَ الشمس لإضاءة بيضاء مائلة للزرقة، حتى الشمس ترفقت كثيرًا برحلتها فانزوت خلف الغيوم.

من بوابة الدخول والجميع يحييها، مرحبًا دكتورة أمل، أهلًا دكتورة أمل، تحية مع ابتسامة، وتطلُّع باندهاش صريح، أو متوارٍ، لملابسها، بدأت صلابتها في الشحوب، وخطوتها العسكرية في التعثر، بدأت عيناها في الشرود بين خيوط الظل، وبقع النور، ولم تخرج أمل الأخرى لنجدتها، تركتها، تركت أرتيميس ربة القمر فريسة لضوء الشمس المتسلل من بين الغيمات، حتى سقطت مغشيًّا عليها.

تعرف إليَّ بعض الطلبة وأنا أحملها صائحًا أن يأتوا بسيارة أجرة، سمعت الهمهمات من خلفي، إنه دكتور عبد الله، وكانت تلك الهمهمات هي جواز مروري من بوابة الجامعة حاملًا جسدها الرقيق، عائدًا مرة أخرى لبيتها، فتحت بمفتاحها ومددتها بسرير جدتها، أميرة شاحبة، تنتظر رسالة ضوئية من القمر، تبعثها من جديد، ولا أعرف في أي صورة ستفيق أرتيميس؟

صرت أراقبها وأتجول بالشقة، أخرج للشرفة، أحدث بوسايدون، أفكر فيما سأقول لها حين تفيق، هي الآن عرفت الحقيقة، أنني لم أخادعها، كنت أعرف أن القادم ليس الأفضل على الإطلاق، لكن علينا تحمل برد الليل، لننعم بدفء الشمس؛ فالشمس تشرق وقت شروقها وليس وقت اشتهائها، ربما مورفيوس الآن يهمس لها ببعض الأحلام الجميلة علَّها تساعدها على الراحة، أي راحة تلك؟ وقد أدركت أنها لم تكن وحدها طوال تلك السنوات.

أطالت انتظاري بجوارها، حتى تلقَّت رسالتها الضوئية، وأفاقت، لم أعرف أيهما التي أفاقت، شاحبة، ذابلة، نظرت إليَّ كسحابة مثقلة بالماء، وما إن تلاقت الأعين حتى أفرغت شحنتها، دون برق يضيء، دون رعد يدوي، كانت تبكي صامتة، متوسلة، أربت على يدها، أمسح دمعها المالح، بقبلاتٍ حانية، حاولت الاعتدال قليلًا ساعدتها لتسند ظهرها، سحبت يدها من يدي، شبكت أصابعها، أحنت رأسها في خشوع المصلين، لم أقطع صلواتها وبقيت بمحرابها صامتًا حتى جاءت ثورتها برعد يدوي، وبرق يضيء، وبلا أمطار تذكر.

تدفعني عنها كلما حاولت الاقتراب منها، تصرخ بصوت بلا كلمات، تهدأ قليلًا لتبكي، ثم تعاود الصراخ، تبكي بين ذراعيَّ، ثم تدفعني عنها لتصرخ، تعاود وتعاود الهدوء والثورة، ثم انزلقت في السرير مرة أخرى، لتعاود النوم، أميرة شاحبة، لم أنتظر إفاقتها التالية بهدوئي السابق، فقد شعرت أنها تمر بصدمة عصبية، وربما تحتاج لبعض المهدئات، لم أصل للتصرف الأمثل، حتى أفاقت مرة أخرى بابتسامة شاحبة، وعين ثابتة، قائلة بصوت يشبه الفحيح: «أريد أن أعرف كل شيء عنها.»

– هي … من؟

– الدكتورة أمل خطاب … [أكملت بصوت أكثر حشرجة] أستاذة تاريخ الفن.

عشيقتك.

– هي … أنت.

– لا، لا تجمل الأشياء، هي مني وليست أنا، أرجوك لا تختر ألفاظك وحدثني بما في عقلك كما هو.

– هي أرتيميس إلهة الصيد، وأنت أرتيميس ربة القمر، كلتاكما أرتيميس.

وبدأت أقص عليها روايتي منذ قابلتها، قلت كل شيء حدث، حتى مراقبتي لها، واكتشافي شخصيتها الأصلية، أو الشخصية الأخرى بالنسبة لي، رويت لها كيف هي أمل الأخرى، لم تكن مقاتلة كشخصية حامية لها، كيف هي ناعمة وحقيقية، هادئة وواثقة، جريئة، حية، كنت أتحدث وهي تبكي بلا صوت، كنت أحاول إذابة الجليد بينهما، أحاول أن أريها كيف أراها، وهي تبكي سنوات لم تعشها، تبكي نوبات إغمائها التي لم تعرف سببها، تحاول أن تشعر بما أقول، تحاول أن تدرك أقل القليل من كثيرٍ فاتها، كنت أحكي وهي تشتاق للقائها، هي الأخرى، التي أعشقها، كما أعشقها.

– أريد مقابلتها.

– من؟

– الأخرى، أريد مقابلتها، متى تأتي؟

– كيف؟ هي لا تأتي وأنت موجودة، لا أعرف كيف تقابلينها.

– كيف تقابلها أنت؟

– لا أعرف هي فقط تأتي، أعرف كيف تذهبين أنت، بعدها هي تأتي.

– وكيف أذهب؟

– أطلب منك الذهاب للغرفة.

– ماذا؟! هل هذا كل شيء؟! تطلب مني الذهاب للغرفة؟!

– نعم، أقول: «اذهبي إلى الغرفة.»

قبل أن يختفي ذهولها كانت أغمضت واستسلمت لهاتف النوم، لم أتوقع أن أحدًا يمكنه الاستغراق في النوم بتلك السرعة، هي الكلمة السحرية «اذهبي إلى الغرفة»، لا أعرف إن كانت الأخرى ستأتي أم لا، أشتاق إليها؛ فهي تجيد الرقص على أوتاري المشدودة بين قلبي وعقلي، قد تفكر معي في مخرج من هذا المأزق، لم أكنْ مستمتعًا بتلك الحالة الثنائية، أكنُّ للاثنتين مشاعر قد يشوبها الصدق، وقد يصيبها الإطلاق، لكنني لن أتمكن من مجاراة امرأتين لا يفصلهما غير درجة بريق العينين، الشيء الوحيد المريح في الأمر أنني لن أخطئ في اسمها، كلتاهما أمل، أرتيميس، رغم كل القلق، ابتسمت.

لم تغب في نومها، أفاقت بعين مشرقة وابتسامة ساحرة، لم تكن هي، بل الأخرى، أرتيميس إلهة الصيد، لم تقم من الفراش، بل انسابت كعذب الماء، نظرت لملابسها بخجل لم أعتده منها، همست بخجل لا يقلُّ عن نظرتها: «اسمح لي أن أخلع تلك الملابس، لا أطيق ذوقها.» لم تنتظر ردًّا مني، بل انبثقت عن ملابسها بنعومة انسيابها من الفراش، أو يزيد، عادت للفراش بجسدها الناعم المشدود، كأن شيئًا لم يكن، كنت صامتًا لا أحرك ما سكن مني، ولا أرفع عنها ناظري، نظرت لي نظرات متنوعة، إغواء، استعطاف …

استمالة … وأخيرًا ثقة، ثم تكلمت.

قالت بأنها من فعلت كل شيء، حققت كل أحلامها حين عجزت هي عن مواجهة والدها، ولن تقبل أن تتنازل عن حياتها الآن من أجلها، المثيرة للشفقة كما تصفها، قالت أيضًا إنها تعرف عني الكثير، لم أفهم ما تقصده ولم تجبني حين سألتها، حاولت أن أثنيها، قلت بأنها هي، وهما نفسها، كانت تبتسم، تعبس، ثم تصر أنها لن تترك لها مساحة أخرى لتهدم ما بَنَته طوال تلك السنوات، سألتها عن مصير أمها، أجابت سأرعاها، هي لن تدرك الفرق، لا أحد يعرف حقيقتنا إلا أنت.

– أنا؟

– نعم، كما أعرف أنا أيضًا عنك الكثير، ولن أضع نفسي في مقارنة رخيصة بها، إذا رغبتها فعليك انتظارها بعيدًا عني.

– أريدكما معًا، بردًا ونارًا، إلهة الصيد وربة القمر، أنا لديَّ حل.

– أي حل؟ هل تظن أننا يمكننا التعايش أكثر من هذا؟ هل تدرك كم أشعر بالغثيان كلما خرجت لأخلع ملابسها وأزيل آثار عطورها الفجة من جسدي؟

– أنا أملك الحل.

– هل يمكنها الذهاب للجامعة ومحاضرة الطلاب هناك؟ هي ذهبت اليوم، تركتها تذهب لتعرف من أكون.

كان جسدها يرتجف، احتضنتها، قبلت جبينها، كفيها، وهمست لها بأنني أعرف الحل وأحتاج مساعدتها، لتبقى هي، والأخرى، لنحيا جميعًا في سلام، لكن لن أنجح بدون مساعدتها، هدأت قليلًا، يجب أن نقابل طبيبًا، أنا وهي والأخرى، لا أظنها سمعتني، فقد هدأت أنفاسها، وانتظمت عند رقبتي، نامت، وصدري وسادتها، هدأت أنا أيضًا، أرحتها بفراشها، وأرحت الغطاء حتى رقبتها، وخرجت لبهو الشقة.

كان البهو يمتد بي فيقطع الشرفة ويطويها، يمتد حتى لامس أنامل البحر، كان يحملني لسيرابيس الغارق، لم أصدقه يومًا، لكنني الآن أسأل وأنتظر إجابته، هل نجح التزاوج بين البطالمة وآلهة مصر القديمة؟ أم جفت إحداهما بدماء الأخرى؟ هل ستعود أرتيميس أختًا فقط لأبولو؟ تترك القمر وتلقي بقوسها وسهامها وتعود لي، أمل خطاب، أستاذة تاريخ الفن، تصلي للبحر ساجدة على صدري، مغيرة بجوانحي، معربدة بجنباتي، هل تأتي مرة أخرى لتفرغ خمرها بثغري، وتترك كأسها فارغةً بجوار فراشي؟ عاد البهو يلملم أطرافه، يعيد الشرفة ويغلق بابها، يحتجزني مرة أخرى، بلا أجوبة؛ فلم ينطق سيرابيس.

جلست، وظهري لباب الشرفة، كانت الأرض باردة، لكنَّ قليلًا من النبيذ وكثيرًا من الدخان كفيل بنشر الدفء بداخلي فيملؤني، ويتسرب ليعطي الأرض حقها. كنت أنفث الدخان فينسحب لطرقة البيت حتى سترها بلونه الرمادي المحال لبعض الزرقة من مصباح صغير بنهاية الطرقة، كنت أراقب انسحاب الدخان الهارب مني إليها؛ فأشرب كأسًا لي، وكأسًا لها، وكأسًا لها الأخرى، وكأسًا للدخان المنسحب، حتى أتيت على الزجاجة كاملة، أردت المزيد، لكنني لم أتمكن من القيام، أمسكت الزجاجة الفارغة، أحدثها عن محنتي، ضحكت لها، لم يجبني سيرابيس؛ فهل أنتظر ردًّا من الخندريس؟

لم أكف عن التدخين ومراقبة الدخان، حتى بدا لي أنه ينزوي من مدخل الطرقة، كنت أراه يتبدد من فرط الحياء؛ فقد كانت أرتيميس تتحرك حافية القدمين، كأفروديت المبعوثة من البحر.

وحولها ملاءة الفراش، خجلًا أم بردًا لم أعرف، تقدمت في صمت، لم أعرف من هي، أَأَرتيميس إلهة الصيد أم ربة القمر؟ لم أتمكن من التفرقة أو التمييز، حتى جلست بجواري في صمت، أفلتت سيجارتي من يدي، سحبت نفسًا عميقًا ونفثته في الهواء، قالت بإيقاع منتظم: «أريد الذهاب للطبيب.» فعرفت أنها ربة القمر.

هذا ما حدث حتى أتينا سويًّا إليك، رويت لك كل ما حدث منذ عرفتها حتى أتينا، هي تنتظر الآن بالخارج.

أنهى عبد الله حديثه وما زال الطبيب ينظر إليه بعد أن توقف عن تدوين ملاحظاته، أوقف الطبيب مسجلة الصوت، وطلب من عبد الله دعوة أمل للدخول بمفردها، خرج عبد الله من الغرفة، أمسك بيد أمل، قبلها وأخبرها أن كل شيء سيكون بخير، دخلت غرفة الطبيب، وأغلق الباب خلفها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤