الفصل الثامن

«وحده الحاضر هو فرحنا»

قيمة اللحظة الحاضرة عند جوته وفي الفلسفة القديمة

«عندئذٍ لا تنظر الروح أمامها ولا وراءها؛ وحده الحاضر هو سعادتنا.» في هذا البيت من «فاوست الثاني» لجوته نجد تعبيرًا عن فن التركيز على اللحظة الحاضرة وإدراك قيمتها. وهي تطابق خبرة الزمن التي كانت تُعاش بكثافةٍ معينة في فلسفاتٍ قديمة كالأبيقورية والرواقية. وفيما يلي سنعنى بصفةٍ خاصة بهذا النوع من الخبرة. غير أن علينا ألا نغفل السياق الأدبي الذي قيلت فيه هذه الأبيات داخل مساق «فاوست الثاني»، وبصفةٍ أعمَّ، داخل أعمال جوته. في هذه العملية سنجد أن جوته نفسه شاهدٌ ممتاز على هذا النوع من الخبرة الذي ذكرناه.

تمثل الأبيات المقتبسة ذروةً من ذرى «فاوست الثاني»؛ ولحظة يبدو أن فاوست يصل عندها إلى نقطةٍ تراكمية من «بحثه عن الوجود الأعلى». وبجانبه، على العرش الذي بناه لها، تجلس هيلانة، التي استحضرها في المشهد الأول، بعد رحلةٍ مروعة إلى عالم «الأمهات»،١ لكي يسلي الإمبراطور؛ إلا أنه منذ ذلك الحين وقع في حبها على نحوٍ لا فكاك منه:
هل فاض منبع الجمال وغمر ضفافه،
وتدفق في أعمق أعماق وجودي،
إليك أُهدي مثار كل قوة،
وجوهر كل انفعال،
إليك العاطفة والحب والعبادة والجنون.
إنها هيلانة التي قد بحث عنها طوال المشهد الثاني، خلال جميع الأشكال الأسطورية لليونان القديمة. لقد تحدَّث عنها مع القنطور كيرون Chiron ومع مانتو الكاهنة، وهي بعدُ من لجأت، في المشهد الثالث، إلى الغابة القروسطية — ربما ميسترا في البيلوبونيز — التي يظهر كمالكٍ لها وسيد.

هنالك يقع اللقاء الرائع بين فاوست وهيلانة: فاوست الذي، وإن بدا متنكرًا في شكل فارسٍ قروسطي، يجسد الإنسان الحديث، وهيلانة التي، وإن كانت مستحضرة في صورة بطلة «حرب طروادة»، هي في الحقيقة صورة الجمال نفسه، وجمال الطبيعة في نهاية التحليل. وقد نجح جوته، بتمكُّنٍ تام، في بعث هذه الصور والرموز إلى الحياة بحيث إن هذا اللقاء بين فاوست وهيلانة مشحون بشحنةٍ عاطفيةٍ عالية شأن اللقاء بين محبَّين، ومحمَّل بالدلالة التاريخية شأن اللقاء بين حقبتَين، وممتلئ بالمعنى شأن اللقاء بين الإنسان ومصيره.

وقد تم اختيار الشكل الشعري ببراعةٍ فائقة لكي يمثل حوار المحبين ويمثل أيضًا اللقاء بين حقبتَين تاريخيتَين. ومنذ بداية المشهد الثالث كانت هيلانة تتكلم على طريقة التراجيديا القديمة، واضعة كلماتها في إيقاعٍ ثلاثي التفعيلة اليامبية Iambic Trimeters، بينما كانت ترد عليها جوقة الطرواديات الأسيرات في ستروفيه وأنتيستروفيه Strophe and Antistrophe. والآن، برغم ذلك، في اللحظة التي تقابل فيها هيلانة فاوست وتسمع لنتوس حارس البرج يتكلم في دوبيتٍ مقفًّى Rhymed Distichs، فهي مندهشة ومفتونة بهذا الشكل الشعري المجهول:
وما تكاد كلمة تطرق الأذن،
حتى تتلوها أخرى تلاطف سابقتها.

وسوف يعبر مولد حب هيلانة لفاوست عن نفسه في الدوبيت المقفَّى نفسه، الذي يبدؤه فاوست وتُنهيه هيلانة، مبتدعًا القافية كل مرة. وفيما تتعلم هيلانة هذا الشكل الشعري الجديد فإنها تتعلم، كما يقول فوركياس، الهجاء في ألفباء الحب.

تبدأ هيلانة: أنبئني، إذن، كيف يمكنني أنا أيضًا أن أتكلم على هذا النحو الجميل؟

فيرد فاوست:

«الأمر سهل»،
كل ما هنالك أنه يجب أن يصدر من القلب،
وإذا فاض صدر المرء بالحنين
تلفَّت حواليه وتساءل.

هيلانة: من سيستمتع به معنا؟

فاوست يبدأ ثانية:

الروح الآن لا تنظر إلى الأمام ولا إلى الوراء،
وحده الحاضر.

هيلانة: هو سعادتنا.

فاوست:

هو كنزنا، جائزتنا الكبرى، وضمانتنا،
ولكنْ من يقدم التصديق على هذه؟

هيلانة: يدي.

وينتهي الدويتو الغرامي، هذه اللحظة، بهذه الإشارة باستسلام هيلانة، وينتهي لعب القافية هكذا في «تصديق» Confirmatio لم يعد الآن صدى قافية بل موهبة يد. عندئذٍ يسقط فاوست وهيلانة صامتَين، ويعانق أحدهما الآخر دون كلمة، بينما الجوقة تصف عناقهما متخذةً لحن أغنية زفاف. ثم يعاود حوار الحب مرةً أخرى، والأبيات المقفَّاة أيضًا، بين فاوست وهيلانة، ويجعلنا نعيش لحظة هي من الكثافة والخصب بحيث يبدو أن الزمن والدراما كليهما قد توقَّفا. تقول هيلانة:
أحسُّ بنفسي بعيدةً جدًّا، وقريبةً جدًّا رغم ذلك،
ولا يسعني سوى أن أقول ها أنا ذي! ها!
فاوست: لا أكاد أتنفس، إن كلماتي ترتعد وتتلعثم،
هذا حلم، الزمان والمكان قد اختفيا.
هيلانة: أحسُّ بأن حياتي انقضت ولكني رغم ذلك جديدةٌ تمامًا،
وبأني إذ أذوب فيك فأنا أخلص للمجهول.
فاوست: لا توجعي رأسك بالتفكير في مصيرك، إنه فريد،
الوجود واجب،٢ وإن كان لحظةً واحدة.

هنا تبدو الدراما وقد توقفت. ونحن نرى أن هيلانة وفاوست لم يتركا للرغبة شيئًا، وقد أشبع كلٌّ منهما بحضور الآخر. غير أن مفيستوفيليس، الذي يتخذ القناع الهولي لفوركياس لكي يكيِّف نفسه مع العالم الإغريقي، يقطع هذه اللحظة العظيمة بإعلان الاقتراب الخطر لجنود منيلاوس، فيوبِّخه فاوست على مقاطعته السيئة التوقيت. لقد اختفت اللحظة الرائعة، ولكن نزوع كلٍّ من فاوست وهيلانة سوف يبقى منعكسًا في وصف أركاديا المثالية التي سينتج فيها فاوست وهيلانة يوفوريون عبقري الشعر.

قد يفهم الحوار الذي اقتبسناه على مستوياتٍ عدة؛ فهو، أولًا وقبل كل شيء، حوار بين عاشقَين، يشبهان كل العشاق في كل مكان؛ فكلاهما محب يستغرقه الحضور الحي للمحبوب، وينسى كل شيء، الماضي والمستقبل معًا، ينسى كل ما دون الحاضر. هذا الفيض من السعادة يعطيهما انطباعًا باللاواقع يشبه الحلم: يختفي الزمان والمكان. نحن داخلون في المجهول، وها هي ذي لحظة إشباع الحب.

غير أن الحوار، على مستوًى ثانٍ من التأويل، يجري بين فاوست وهيلانة كصورتَين رمزيتَين تمثلان الإنسان الحديث، من جهة، في سعيه الدائب، والجمال القديم، من جهةٍ أخرى، في حضوره الملطف؛ يُعاد اتحاد الاثنين على نحوٍ معجز بواسطة السحر الشعري الذي يمحو القرون. في هذا الحوار يحاول فاوست كإنسانٍ حديث أن يجعل هيلانة تنسى ماضيها بحيث تكون بكليتها في اللحظة الحاضرة التي تعجز عن فهمها. إنها تحس بأنها بعيدةٌ جدًّا وقريبة مع ذلك جدًّا، هجرتها الحياة ولكنها في عملية بعث، تعيش في فاوست ممتزجة به وواثقة في المجهول. يطلب منها فاوست لا أن تتأمل في مصيرها الغريب بل أن تقبل الوجود الجديد الذي يقدم لها. في هذا الحوار بين صورتَين رمزيتَين تصبح هيلانة «محدثة» Modernized، إن صح التعبير، فيما تتبنى القافية، رمز الداخلية٣ الحديثة. إن لديها شكوكًا وإنها تتأمل مصيرها. وفي الوقت نفسه يصبح فاوست قديمًا، يتحدث كإنسان من العصر القديم، عندما يحثُّ هيلانة على أن تركز على اللحظة الحاضرة ولا تفقدها في تفكُّرٍ متردد في الماضي والمستقبل. وكما يقول جوته في خطاب إلى زيلتر، كان هذا ملمحًا مميزًا للحياة والفن القديمَين: أن تعرف كيف تعيش في الحاضر، وتعرف ما أسماه جوته «نضرة اللحظة».٤ يقول جوته إن اللحظة في العصر القديم كانت «حاملا» Pregnant، أي ممتلئة بالمعنى، غير أنها كانت أيضًا تعاش في كل واقعيتها وكل ثرائها، مكتفية بذاتها. ويمضي جوته قائلًا إننا لم نعد نعرف كيف نعيش في الحاضر؛ فالشيء المثالي عندنا هو في المستقبل، الذي لا يعدو أن يكون موضوعًا لنوع من الحنين، بينما نعتبر الحاضر تافهًا أو مبتذلًا. نحن لم نعد نعرف كيف نستفيد من الحاضر، لم نعد نعرف، كما كان الإغريق يعرفون، كيف نفعل في الحاضر وعلى الحاضر. الحق أنه إذا كان فاوست يتحدث إلى هيلانة كإنسان من العالم القديم فلأن حضور هيلانة، أي حضور الجمال القديم، يكشف له ما هو الحضور نفسه: حضور العالم، «الشعور الرائع بالحاضر»، كما يقول جوته في East-West Divan.
وهذا، بعدُ، هو ما يجعل بالإمكان أن نفهم الحوار على مستوًى ثالث. هنا لا يعود الحوار بين عاشقَين، ولا بين صورتَين تاريخيتَين، بل حوار الإنسان مع نفسه. فاللقاء مع هيلانة ليس فقط لقاء الجمال القديم الصادر من الطبيعة، بل هو أيضًا اللقاء مع حكمةٍ معيشة وفنٍّ للعيش: «نضرة اللحظة» تلك التي ذكرناها آنفًا. لقد تراهن فاوست العدمي مع مفيستوفيليس على أنه لن يقول أبدًا للحظةٍ ما: «امكثي، أنت جميلة جدًّا!» ولكن الآن، إذ يقتفي أثر جرتشن البسيطة،٥ فها هي هيلانة النبيلة القديمة تكشف له بهاء الوجود — أي بهاء اللحظة الحاضرة — وتعلمه أن يقول نعم للعالم ولنفسه.
وعلينا الآن أن نعرف الخبرة القديمة بالزمن، التي عبرت عنها الأبيات المقتبسة أعلاه من «فاوست». بالاستناد إلى خطاب جوته إلى زلتر الذي أوردناه آنفًا، فإن لنا أن نرى أننا بإزاء خبرةٍ مشتركةٍ معممة للإنسان القديم، وأنه كان من الطبيعي للإنسان القديم أن يكون على إلف بما يسميه جوته «نضرة اللحظة». كما أن كثيرًا من المؤرخين والفلاسفة، من أزولد شبنجلر إلى هينتيكا المنطقي قد ألمعوا، مقتفين أثر جوته، إلى حقيقة أن اليونانيين «كانوا يعيشون في اللحظة الحاضرة» أكثر مما كان يفعل ممثلو الثقافات الأخرى. في كتابه Die Zauberflote يقدم سيجفريد مورنز ملخصًا جيدًا لهذا التصور: لم يشخِّص أحد الطبيعة الخاصة لليونان مثل جوته … في الحوار بين فاوست وهيلانة: «عندئذٍ لا تنظر الروح أمامها ولا وراءها؛ وحده الحاضر هو سعادتنا.»
ينبغي أن نتفق بالتأكيد على أن اليونانيين بصفةٍ عامة قد أَوْلوا اللحظة الحاضرة انتباهًا خاصًّا؛ وهذا الانتباه قد يأخذ معاني أخلاقية وفنيةً مختلفةً عديدة. كانت الحكمة الشعبية تهيب بالناس أن يقنعوا بالحاضر وأن يعرفوا في الوقت نفسه كيف ينتفعون به. كانت القناعة بالحاضر، من جهة، تعني القناعة بالوجود الأرضي. هذا ما استحوذ على إعجاب جوته في الفن القديم، وبخاصة في الفن الجنائزي، حيث كان الفقيد يصور لا بأعين مصعدة تجاه السماوات بل في فعل معيشته اليومية. ومن جهة أخرى كانت معرفة الانتفاع بالحاضر تعني معرفة كيف تميز، وتقبض على، اللحظة المواتية والحاسمة (Kairos). وكلمة Kairos تسمي جميع الاحتمالات المتضمنة داخل لحظة معطاة: فالقائد العسكري الجيد، مثلًا، يعرف كيف يضرب في اﻟ Kairos السانحة، والمثالون يثبتون في الرخام اللحظة الأكثر دلالة في المشهد الذي يودون أن يبعثوه إلى الحياة.

يبدو إذن بالتأكيد أن اليونانيين أَوْلوا انتباهًا خاصًّا للحظة الحاضرة. غير أن هذا لا يسوغ لنا أن نتخيل — كما فعل فينكلمان وجوته وهلدرلن — وجود يونان مثالية كان مواطنوها، لأنهم يعيشون في اللحظة الحاضرة، مغموسين دائمًا في الجمال والصفاء. فالحق أن الناس في العصر القديم كانوا ممتلئين بالكرب مثلنا اليوم تمامًا، وكثيرًا ما يحفظ الشعر القديم صدى هذا الكرب، الذي يبلغ أحيانًا مبلغ اليأس. لقد كان القدماء مثلنا يحملون عبء الماضي، ولا يقين المستقبل، وخوف الموت. والحق أنه إنما لهذا الكرب الإنساني سعت الفلسفات القديمة — وبخاصة الأبيقورية والرواقية — إلى تقديم علاج. كانت الفلسفات علاجات، قُصد بها تقديم شفاء من الكرب، وجلب الحرية والسيادة على النفس، وكان هدفها أن تتيح للناس أن يحرروا أنفسهم من الماضي والمستقبل، لكي يتمكنوا من العيش في الحاضر. نحن هنا بإزاء خبرة بالزمن مختلفة تمامًا عن الخبرة العامة المشتركة التي كنا نصفها. تنطبق هذه الخبرة بدقة، كما سنرى، مع تلك التي تعبر عنها الأبيات الشعرية من «فاوست»: «وحده الحاضر هو سعادتنا … لا تفكري في مصيرك. الوجود واجب.» نحن بإزاء تحولٍ فلسفي، يتضمن تبدُّلًا إراديًّا لطريقة المرء في العيش وفي النظر إلى العالم. هذه هي «نضرة اللحظة» حقًّا التي تفضي إلى الصفاء.

برغم الاختلافات العميقة بين المذهب الأبيقوري والمذهب الرواقي، فنحن نجد تماثلًا بنيويًّا لافتًا في خبرة الزمن كما كانت تعاش في كلتا المدرستَين. ربما سيتيح لنا هذا التماثل أن نلمح خبرةً مشتركةً معينة للحاضر تتبطن تباعدهما المذهبي. يمكننا أن نحدد هذا التماثل كما يلي: كلا المذهبين الأبيقوري والرواقي يمجد الحاضر على حساب الماضي، وفوق كل شيء على حساب المستقبل. وكلاهما يتخذ مبدأ أن السعادة لا يمكن أن توجد إلا في الحاضر، وأن لحظةً واحدة من السعادة تكافئ أبدًا من السعادة، وأن السعادة يمكن ويجب أن تُجلَب فورًا، هنا والآن. تدعونا كل من الأبيقورية والرواقية إلى إعادة وضع اللحظة الحاضرة داخل منظور الكوزموس، وإلى إضفاء قيمةٍ لا نهائية على أصغر لحظة من الوجود.

ولنبدأ بالأبيقورية. الأبيقورية علاج للكرب وفلسفة تضطلع بالدرجة الأساس بتوفير السلام العقلي. وبالتالي فإن هدفها هو تحرير الجنس البشري من كل شيء يسبب للروح كربًا: الاعتقاد بأن الآلهة مشغولة بالجنس البشري، الخوف من عقاب ما بعد الموت، الهموم والآلام الناجمة عن الرغبات غير المشبعة، والتعسر الأخلاقي الناجم عن الاهتمام بالفعل النابع من الصفاء التام للنية.

تتخلص الأبيقورية من كل هذا: أما الخوف من الآلهة فهو عند الأبيقورية خوف لا محل له؛ لأن الآلهة نفسها تعيش في سكينةٍ تامة ولا تكترث بصنع العالم ولا بتسييره، فالعالم نتاج التقاءٍ تصادفي لذراتٍ موجودة أزليًّا. أما الموت فلا معنى للخوف منه؛ لأن الروح لا تبقى بعد الجسد ولأن الموت ليس حدثًا داخل الحياة.٦ أما الرغبات فتؤكد الأبيقورية أنها تزعجنا بقدر ما تكون اصطناعية وغير مفيدة. إن علينا أن نرفض كل تلك الرغبات التي لا هي طبيعية ولا ضرورية، وأن نشبع، بحصافة، تلك الرغبات التي هي طبيعية ولكن غير ضرورية. إن علينا قبل كل شيء أن نشبع تلك الرغبات التي لا غنى عنها لاستمرار وجودنا. أما الهموم الأخلاقية فسوف تهدأ تمامًا بمجرد أن ندرك أن الإنسان، شأنه شأن جميع الموجودات الأخرى، مدفوع دائمًا بواسطة اللذة. ونحن إذا كنا نسعى إلى الحكمة فلأنها، ببساطة، تجلب سلام العقل، وهو حالةٌ سارةٌ ممتعة.
إن ما تقترحه الأبيقورية هو شكل من الحكمة يعلِّمنا كيف نسترخي ونقمع همومنا. إن علينا أن نتخلَّى عن الكثير لكيلا نرغب إلا فيما نحن على يقين من الحصول عليه، وأن نخضع رغباتنا لحكم العقل. إن ما يلزمنا في الحقيقة هو تحولٌ كامل لحياتنا، وأحد الجوانب الرئيسية لهذا التحول هو تغيير موقفنا تجاه الزمن. تذهب الأبيقورية إلى أن البلداء من الناس، أي معظم البشر، معذبون برغباتٍ فارغةٍ واسعة تتعلق بالثروة والمجد والسلطة والرغبات المنفلتة للجسد. إن الصفة التي تجمع كل هذه الرغبات هي أنها لا يمكن أن تشبع في الحاضر؛ لذا فإنه عند الأبيقوريين:

«يعيش البلداء من الناس على أمل في المستقبل. ولما كان هذا أمرًا غير متيقَّن فإنهم نهب للخوف والقلق. ويكون عذابهم أشد ما يكون عندما يدركون متأخرًا جدًّا أنهم قد لهثوا سدًى وراء المال أو السلطة أو المجد، لأنهم لا يستمدون أي متعة من الأشياء التي تجشموا، وهم ملتهبون بالأمل، عنتًا شديدًا لكي يحصلوا عليها.» (شيشرون، «في الحدود القصوى للخيرات والشرور»)

وفي قولٍ أبيقوريٍّ مأثور إن «حياة الأحمق مخيفة وغير سارة؛ فهي منجرفة تمامًا إلى المستقبل» (سنكا، رسائل إلى لوسيليوس). هكذا تنشد الحكمة الأبيقورية تحولًا جذريًّا لموقف البشر تجاه الزمن، تحولًا يجب أن يكون نشطًا في كل لحظة من لحظات الحياة. تعلم الأبيقورية أن علينا أن نتعلم كيف نستمتع بلذة الحاضر، ولا ندع أنفسنا تنشغل عنه. وإذا كان الماضي غير سار لنا فإن علينا أن نتجنب التفكير حوله؛ كذلك ينبغي ألا نفكر حول المستقبل إذا كان التفكير فيه يثير فينا مخاوف أو توقعاتٍ منفلتة. علينا ألا نفكر حول الماضي أو المستقبل إلا فيما كان شيئًا سارًّا (متعة ماضية أو مستقبلة) وبخاصة إذا كان في ذلك تخفيف عن معاناةٍ راهنة. هذا التحول يفترض مسبقًا تصورًا معينًا للذة خاصًّا بالأبيقورية، والذي يقول بأن كيفية اللذة لا تعتمد على كمية الرغبات التي تشبعها ولا على طول الزمن الذي تمكثه.

كيفية اللذة لا تعتمد على كمية الرغبات التي تشبعها. وأفضل اللذات وأشدها هي أقلها امتزاجا بالقلق، وهي أوكدها في تأمين السلام العقلي؛ ويمكن من ثم تدبيرها بإشباع الرغبات الطبيعية والضرورية، أي تلك الرغبات التي هي ضرورية وكافية لحفظ الوجود. مثل هذه الرغبات يمكن إشباعها بسهولة، دون تعويل في ذلك على المستقبل، ودون حاجة إلى سعيٍ طويلٍ محفوف بالقلق واللايقين. «حمدًا للطبيعة المباركة، التي جعلت الأشياء الضرورية سهلة المنال، وجعلت الأشياء العسيرة المنال غير ضرورية» (أبيقور).

إن ما يجعلنا نفكر في الماضي أو المستقبل هو أمراض النفس، من قبيل الانفعالات البشرية، والرغبة في الثروة أو السلطة أو الفساد؛ إلا أن أنقى اللذات وأشدها يمكن نيلها بسهولة في الحاضر. لا تعتمد اللذة على كمية الرغبات المشبَعة، ليس هذا فحسب بل لا تعتمد على المدة الزمنية. فليس شرطًا لكي تكون لذة مثلى أن تكون طويلة الأمد. «فالمدة اللامتناهية من الزمن لا يمكن أن تمنحنا من اللذة أكثر مما نستمده من هذه المدة التي قد نراها متناهية» (شيشرون، «في الحدود القصوى»). «الزمن المتناهي والزمن اللامتناهي يقدمان لنا نفس اللذة إذا ما قسنا حدودها بالعقل» (أبيقور). قد يبدو هذا متناقضًا، ولكنه مستند إلى تصورٍ نظري. وكما كان يردد الرواقيون «فالدائرة الصغيرة ليست أقل دائرية من الدائرة الكبيرة» (سنكا، رسائل إلى لوسيليوس). أما الأبيقوريون فكانوا يتصورون اللذة كواقع في ذاته ولذاته، غير قائم داخل مقولة الزمان. وقد قال أرسطو إن اللذة كلية وتامة في كل لحظة من مدتها، وإنَّ تطاوُل مدتها لا يغير شيئًا من ماهيتها. ويُلحق الأبيقوريون بهذا التمثيل النظري موقفًا عمليًّا: فإذا كانت اللذة تقصر نفسها على ما يجلب السلام العقلي التام فهي تبلغ ذروةً لا يمكن تخطِّيها، ومن المتعذَّر عليها أن تزداد بالمدة. وبتعبير Guyau: «في اللذة ثمة نوع من التمام الداخلي والفيض الزائد، يجعلها غير معتمدة على الزمن ولا على سواه. اللذة الحقيقية تحمل داخلها لانهائيتها.»٧
اللذة إذن هي بكليتها داخل اللحظة الحاضرة، ولا يلزمنا أن ننتظر أي شيء من المستقبل لكي يزيدها. ويمكن أن نوجز كل ما كنا نقوله حتى الآن في الأبيات التالية لهوراس: «دع الروح السعيدة بالحاضر تتعلم أن تبغض الانشغال بما يكمن في البعد» (هوراس، «قصائد»). العقل السعيد لا ينظر تجاه المستقبل. إذا حصرنا رغباتنا على نحوٍ معقول فإن بوسعنا أن نكون سعداء الآن. لا يمكننا فحسب، بل يجب علينا، أن نكون سعداء: السعادة يجب أن توجد فورًا، هنا والآن، وفي الحاضر. وبدلًا من أن نتفكر في حيواتنا ككل، ونحسب آمالنا ومشاغلنا، علينا أن نقبض على السعادة داخل اللحظة الحاضرة. الأمر ملحٌّ عاجل. وكما يعبر القول الأبقوري المأثور:

«نحن نولد مرةً واحدة، ولن نولد بعد ذلك إلى الأبد. وبرغم ذلك فما تزال أنت، يا من لا حكم لك على الغد، تُسوِّف بهجتك؟ غير أن الحياة تهدر سُدًى في هذه التسويفات، ويموت الواحد منا ولم يعرف قط طعم السلام.» (أبيقور)

ومرةً أخرى، نجد صدى هذه الفكرة عند هوراس: «فيما نحن نتحدث فقد هرب الزمن الغيور. اقبض على اليوم (Carpe Diem) الراهن ولا تَضَع ثقتك في الغد» (هوراس، «قصائد»). إن «اقبض على اليوم» لهوراس ليست بأي حال، مثلما يظن دائمًا، نصيحة مستهترٍ داعر، بل هي، على العكس، دعوة إلى التحول Conversion. نحن مدعوون إلى أن نعي عبثية رغباتنا التافهة، ونعي وشوك الموت في الوقت نفسه، وفَرادة الحياة، وفَرادة اللحظة الحاضرة. من هذا المنظور تبدو كل لحظة كهديةٍ بديعة تملأ قلب متلقِّيها بالشكر والعرفان.

«هبْ أن كل يومٍ جديد يطلع عليك سيكون اليوم الأخير: عندئذٍ فإن كل ساعة غير متوقَّعة سوف تأتي إليك كهديةٍ مبهجة.» (هوراس، رسائل)

ربما يكون هنا صدًى لقول فيلوديموس الأبيقوري: «تلقَّ كل لحظةٍ جديدة من الزمن بما يليق بقيمتها، وكأنما صادفت المرء ضربة حظ لا تُصدَّق.»٨
وقد عرضنا من قبلُ لمشاعر العرفان والدهشة لدى الأبيقوريين في سياق التوافق المعجز بين حاجات الكائنات الإنسانية والتسهيلات المقدَّمة لهم من جانب الطبيعة. إن سر الفرح والصفاء الأبيقوريين هو في أن تعيش كل لحظة كأنها الأخيرة، بل وكأنها الأولى أيضًا، فنحن نخبر نفس الدهشة المحمودة عندما نتلقَّى اللحظة كأنها غير منتظَرة، أو بتحيتها كشيءٍ جديد تمامًا. «لو أن العالم بأسره ظهر للفانين الآن لأول مرة، لو أنه كُشف عنه الغطاء لهم فجأة وعلى غير انتظار، فأية روعة يمكن أن تخطر ببال المرء تفوق هذه الروعة؟ وأي شيء كان يمكن أن يجول بخلد أقوام البشر؟ (لوكريتس، في طبيعة الأشياء). وسر الفرح والصفاء الأبيقوريين، في نهاية التحليل، هو خبرة اللذة اللانهائية التي يقدمها وعي الوجود، حتى لو كان هذا للحظة. وكما يقول المأثور الأبيقوري: «صرخة اللحم هي: ألا تكون جائعًا، وألا تكون ظمآن، وألا تكون مقرورًا.٩ وأيما شخص لديه هذه الأشياء، ويؤمِّل أن تظل لديه، يمكنه أن ينافس زيوس نفسه في السعادة» (أبيقور). إن انتفاء الجوع والعطش هو، إذن، شرط القدرة على الاستمرار في الوجود، في الوعي بالوجود، والاستمتاع بهذا الوعي بالوجود. والرب ليس لديه أكثر من ذلك. قد يعترض البعض بأن متعة الرب في معرفته بأن لديه سعادة الوجود إلى الأبد؛ ولكن أبيقور يرد أنْ كلا؛ إذ إن لذة لحظةٍ واحدة من الوجود هي مساوية في كليتها وتمامها للذة مدةٍ لا متناهية، وإذ إن الإنسان مساوٍ للرب في الخلود، لأن الموت ليس جزءًا من الحياة.
ولكي يثبت الأبيقوريون أن لحظةً واحدة من السعادة تكفي لمنحنا لذةً لا متناهية، فقد دأبوا على أن يقولوا لأنفسهم كل يوم: «لقد أخذت كل ما أمكنني توقعه من اللذة.» وبتعبير هوراس: «سيكون سيد نفسه، وسيعيش في ابتهاج، من يمكنه أن يقول كل يوم: لقد عشت» (هوراس، «قصائد»). وسنكا أيضًا يتبنى هذه الثيمة الأبيقورية:

«لنقُلْ عندما نكون على وشك الذهاب إلى النوم: «لقد عشتُ، لقد اجتزتُ الطريق المقسوم لي». فإذا ما جاد الرب علينا بالغد أيضًا فلنقبلْه مبتهجين. سعيدٌ ذلك الشخص وذو سيادةٍ مطمئنة على نفسه، الذي ينتظر الغد دون هموم. كل من يقول «لقد عشتُ»، يقوم كل يوم لكي يتلقَّى ثرواتٍ غير منتظرة.» (سنكا، رسائل إلى لوسيليوس)

يمكننا هنا أيضًا أن نرى الدور الذي تلعبه فكرة الموت في المذهب الأبيقوري. أن تقول كل مساء: «لقد عشت.» هو أن تقول: «الحياة انتهت!» وهو أن تمارس نفس التدريب الذي يتمثل في قولك: «اليوم سيكون آخر يوم لي في الحياة.» غير أن هذا التدريب على بث الوعي بتناهي الحياة هو بالضبط الذي يكشف لا تناهي قيمة لذة الوجود داخل اللحظة الحاضرة. فمن منظور الموت فإن مجرد الوجود — حتى للحظةٍ واحدة — يبدو ذا قيمة لا متناهية ويمنحنا متعةً لا نهائية الشدة. وليس قبل أن نعي بأننا كان لدينا — ولو للحظة وجود واحدة — كل شيء يمكن أن يقدم؛ يمكن أن نقول بثبات: «بلغت حياتي نهايتها.»

وهنا، فضلًا عن ذلك، يأتي المنظور الكوني ليلعب دوره. لقد كان للأبيقوريين رؤيتهم الخاصة للعالم. وكما يقول لوكريتس: بفضل مذهب أبيقور، الذي يفسر نشأة العالم بسقوط الذرات في الخلاء، فقد انفتحت للأبيقوري أسوار العالم؛ فرأى كل شيء يأتي إلى الوجود داخل الخلاء الهائل (لوكريتس، «في طبيعة الأشياء»)، واجتاز هول الكل. وهو يتعجب أحيانًا، بتعبير مترودوروس: «تذكر أنك، وقد ولدت فانيًا ذا عمرٍ محدود، قد علوت في الروح إلى الأبدية وإلى لا نهائية الأشياء، وأنك قد رأيت كل ما قد كان وكل ما سوف يكون.» هنا أيضًا نواجه التقابل بين الزمن المتناهي واللامتناهي، أو على حد تعبير ليون روبين في تعليقه على لوكريتس: «الحكيم يضع نفسه داخل ثبات الطبيعة الأزلية، التي هي مستقلة عن الزمن.»

الحكيم، بذلك، يدرك كلية الكون داخل وعيه بحقيقة الوجود. الطبيعة تمنحه كل شيء خلال لحظة. وحيث إن الطبيعة قد منحته كل شيء فلم يعد لديها شيء لكي تمنحه، مثلما تقول (في قصيدة لوكريتس): «يجب أن تتوقع دائمًا نفس الأشياء حتى لو طال أجلك فوق كل الآجال، بل حتى لو كنت ممتنعًا على الموت» (لوكريتس، «في طبيعة الأشياء»).

الموقف الأساسي الذي يتمسك به الرواقي في كل لحظة من حياته هو موقف الانتباه، واليقظة، والتوتر المستمر، مركِّزًا على كل لحظة، لكيلا يُغفل أي شيء يكون مضادًّا للعقل. ونحن نجد وصفًا ممتازًا لهذا الموقف عند ماركوس أوريليوس:
«بحسبك ثلاث:
  • (١)

    أن يكون حكمك الراهن موضوعيًّا قائمًا على الفهم.

  • (٢)

    أن يكون فعلك الراهن في خدمة المجتمع الإنساني.

  • (٣)

    أن يكون نزوعك الداخلي في هذه اللحظة قائمًا على الرضا والفرح بكل ما تحدثه العِلِّية الخارجية» (ماركوس أوريليوس، التأملات، ٩–٦).

هكذا دأب ماركوس أوريليوس على تدريب نفسه على التركيز على اللحظة الحاضرة، أي على ما يفكر فيه، ويفعله، ويشعر به، داخل اللحظة الحاضرة. يقول ماركوس لنفسه «يكفيك هذا.» ولهذا التعبير معنًى مزدوج:
  • (١)

    إنه يكفي لشغل وقتك؛ ولستَ بحاجة إلى أن تفكر في أي شيءٍ آخر.

  • (٢)

    إنه يكفي لأن يجعلك سعيدًا؛ ولستَ بحاجة إلى التماس أي شيءٍ آخر.

هذا هو التدريب الروحي الذي يُسمِّيه ماركوس «حصْر الحاضر» Delimiting the Present. ويعني حصر الحاضر صرف انتباه المرء عن الماضي والمستقبل، لكي يركزه على ما هو بصدد فعله.

والحاضر الذي يتحدث عنه ماركوس هو الحاضر الذي يحده الوعي الإنساني. وقد كان الرواقيون يميزون طريقتَين لتعريف الحاضر. تتمثل الطريقة الأولى في فهم الحاضر على أنه الحد بين الماضي والمستقبل؛ من هذه الزاوية فالزمن الحاضر لا وجود له ألبتة، إذ إن الزمن منقسم إلى ما لا نهاية. غير أن هذا تجريد، قسمة شبه رياضية حيث يرد الوجود الحاضر إلى لحظة لا متناهية الصغر.

أما الطريقة الثانية فتتمثل في تعريف الحاضر بالإحالة إلى الوعي الإنساني. في هذه الحالة كان الحاضر يمثل «كثافةً» معينة للزمن، يقابل أمد انتباه الوعي المعيش.١٠ عندما ينصحنا ماركوس بأن «نحصر الحاضر» فإنما يتحدث عن هذا الحاضر المعيش، المنسوب إلى الوعي. وهذه نقطةٌ مهمة: الحاضر يعرف بإحالته إلى أفكار الإنسان وأفعاله.
الحاضر يكفي لسعادتنا؛ لأنه الشيء الوحيد الذي ينتسب إلينا ويعتمد علينا. ومن الضروري عند الرواقيين أن نفرق بين ما يعتمد، وما لا يعتمد، علينا. الماضي لا يعتمد علينا، حيث إنه مثبت بإحكام، والمستقبل لا يعتمد علينا لأنه لم يوجد بعدُ. وحده الحاضر يعتمد علينا، ووحده، لذلك، الذي يمكن أن يكون خيرًا أو شرًّا، إذ إنه الشيء الوحيد الذي يعتمد على إرادتنا، وحيث إن الماضي والمستقبل لا يعتمدان علينا، فإنهما لا يقعان تحت مقولة الخير أو الشر الأخلاقي، ويجب من ثم أن ندرجهما تحت الأشياء اللافارقة Indifferents (ماركوس أوريليوس، التأملات، ٦–٣٢). إن من إهدار الوقت أن تنشغل بما مضى منذ زمنٍ طويل، أو بما قد لا يحدث أبدًا؛ وعلينا إذن أن «نحصر الحاضر». «كل ما تتمنى يومًا بلوغه بطريقٍ ملتوٍ بوسعك الآن أن تناله إذا كنت منصفًا لنفسك، أي إذا تركت الماضي وراء ظهرك وأوكلت المستقبل للعناية، ووقفت الحاضر على التقوى والعدل» (ماركوس أوريليوس، التأملات، ١٢–١).
وفي موضعٍ آخر يصف ماركوس تدريب حصر الحاضر كما يلي:

«… فإذا ما نفضت عن نفسك، أي عن عقلك، كل ما يقوله الآخرون ويفعلونه، وكل ما قلته أنت وفعلته، كل ما ينغِّصك عن المستقبل، كل ما يجلبه عليك جسدك الذي يغلفك ونفسك الذي يصاحبك على غير اختيار منك … إذا نفضت عن عقلك الموجَّه ما يرين عليه من انطباعات الحس ومن هموم الآتي والماضي … لا تبتغي إلا أن تعيش ما هو حياتك الحقة — أي الحاضر — سيكون بوسعك أن تقضي ما تبقى لك من العمر في هدوء وسكينة وسلام مع روحك الحارس.» (التأملات، ١٢–٣)

ويصف سنكا نفس التدريب كما يلي:
«شيئان عليك أن تنفضهما عنك: الخوف من المستقبل، وذكريات المتاعب الماضية؛ فهذا لم يعد يعنيك، وذاك لم يعرض لك بعدُ» (سنكا، «رسائل إلى لوسيلوس»).١١

«الحكيم يستمتع بالحاضر دون التعويل على المستقبل … متخفِّفًا من المنغصات التي تعذب العقل، لا يأمل أو يرغب في أي شيء. إنه لا يرشق نفسه في المجهول؛ لأنه سعيد بما لديه (أي بالحاضر الذي هو كل ما نملك). ولا تحسبنه قانعًا بما هو دون الكثير؛ لأن ما لديه هو كل شيء.» (سنكا، «في النعم»)

هنا نشهد نفس تحول الحاضر الذي قابلناه في الأبيقورية. يقول الرواقيون إن الحاضر هو كل شيء، والحاضر وحده هو سعادتنا. ثمة سببان لكون الحاضر كافيًا لسعادتنا: الأول أن السعادة الرواقية — شأنها شأن السعادة الأبيقورية — تامةٌ مكتملة في كل لحظة ولا تزداد بمضي الزمن. والثاني أننا نمتلك الواقع بكليته داخل اللحظة الحاضرة، وحتى الامتداد اللانهائي لا يمكن أن يمنحنا أكثر مما لدينا الآن.

السعادة — وهي عند الرواقي الفعل الأخلاقي أو الفضيلة — هي دائمًا تامةٌ مكتملة في كل لحظة من أمدها. وسعادة الحكيم الرواقي — شأن المتعة عند الحكيم الأبيقوري — كاملة، لا ينقصها شيء، تمامًا مثل دائرة، صغرت أو كبرت ستبقى دائرة. ويصدق الشيء نفسه على اللحظة المبشرة أو الملائمة، أو الفرصة المواتية: هي لحظة، كمالها لا يعتمد على مدتها بل على كيفيتها، وعلى التناغم القائم بين الموقف الخارجي للمرء وممكناته التي لديه. السعادة ليست أكثر ولا أقل من لحظة يكون فيها المرء بكليته في انسجام مع الطبيعة.

ومثلما هو الأمر مع الأبيقورية، فإن لحظة من السعادة عند الرواقيين تكافئ دهرًا. وبتعبير خريسبوس: «إذا كان لدى امرئ الحكمة للحظة، فإنه ليس أقل سعادة ممن يمتلك الحكمة دهرًا.» ويرى الرواقيون — شأنهم شأن الأبيقوريين — أننا لن نكون سعداء أبدًا ما لم نكن كذلك هنا والآن. الأمر عاجلٌ ملحٌّ؛ يجب أن نهرع، فالموت مصْلت، وكل ما يلزمنا لكي نكون سعداء هو أن «نريد» أن نكون كذلك. الماضي والمستقبل لا نفع فيهما. ما نحتاجه هو تحولٌ فوري لطريقتنا في التفكير، وفي التفكير وفقًا للحق والفعل وفقًا للعدالة، وتقبُّل ما يجري بحب ومودة. يقول ماركوس أوريليوس: «ما أيسر أن تطرد من عقلك كل انطباعٍ منغِّص أو عارض وتمحوه محوًا؛ وتنعم للتوِّ بلحظةٍ حاضرةٍ مفعمة بالراحة والسكينة» (التأملات، ٥–٢). وبعبارةٍ أخرى: إنه يكفيك أن «تريد» ذلك.

وبالنسبة للرواقيين، مثلما هو عند الأبيقوريين، فإن وشوك الموت هو الذي يمنح اللحظة الحاضرة قيمتها. «عليك أن تؤدي كل فعل كما لو كان آخر شيء تؤديه في حياتك» (ماركوس أوريليوس، التأملات، ٢–٥). هذا هو سر التركيز على اللحظة الحاضرة؛ علينا أن نعيرها كل جلالها وقيمتها وبهائها، لكي نكشف زيف كل ما نلهث وراءه؛ كل ما نلهث وراءه سوف يطويه الموت ويسلبه منا. علينا أن نعيش كل يوم بوعيٍ حادٍّ وانتباهٍ شديد بحيث يسعنا أن نقول لأنفسنا كل مساء: «لقد عشت، لقد حققت حياتي، وحصلت على كل ما أمكنني أن أتوقع من الحياة.» أو كما يقول سنكا: «إنه لفي سلامٍ عقلي ذلك الذي عاش حياته بأكملها في كل يوم» (سنكا، «رسائل إلى لوسيليوس»).

ها قد رأينا السبب الأول في أن الحاضر وحده كافٍ لسعادتنا؛ وهو أن اللحظة الواحدة من السعادة مكافئة لدهر بأسره منها. أما السبب الثاني فهو أننا داخل اللحظة الواحدة نملك كلية العالم. اللحظة الحاضرة هاربة — يؤكد ماركوس بقوة على هذه النقطة — ولكن حتى داخل هذه البارقة، كما يقول سنكا، (بوسعنا أن نعلن، مع الرب، أن «كل هذا ملكي»). هذه اللحظة هي نقطة اتصالنا الوحيدة مع الواقع، غير أنها تقدم لنا الواقع كله؛ وبالضبط لأنها ممر وتحول، فهي تتيح لنا أن نشارك في الحركة الكلية لحدث العالم، وفي واقع صيرورة العالم.

لكي نفهم ما سبق يجب أن نضع بالاعتبار ما يعنيه الفعل الأخلاقي والفضيلة والحكمة بالنسبة للرواقيين. للخير الرواقي (وهو الصنف الوحيد من الخير عند الرواقيين) بُعدٌ كوني؛ إنه الموالفة بين العقل الذي فينا مع العقل الذي يوجِّه الكون وينتج سلسلة العلل والمعلولات التي تكون المصير/القدر. علينا في كل لحظة أن نوالف حكمنا وفعلنا ورغباتنا مع العقل الكوني. علينا بخاصة أن نتقبل بفرح ارتباط الأحداث التي تنتج من مسار الطبيعة؛ لذا علينا في كل لحظة أن نعيد وضع أنفسنا داخل منظور العقل الكوني، لكي يصبح وعينا في كل لحظة وعيًا كونيًّا. إذا كان المرء يعيش في وفاق مع العقل الكوني فإن وعيه في كل لحظة يتمدد إلى لا نهائية الكون، ويكون العالم بأكمله ماثلًا لديه. عند الرواقي بخاصة فإن هذا أمرٌ ممكن؛ لأن ثمة امتزاجًا وتضمنًا متبادلًا لكل شيء مع كل شيءٍ آخر. لقد تحدث خريسبوس مثلًا عن قطرة النبيذ إذ تمتزج بالبحر كله، وتنتشر في العالم بأسره. «من رأى الحاضر فقد رأى الأشياء جميعًا؛ كل ما كان من الأزل، وكل ما سيكون إلى الأبد، كل الأشياء عشيرٌ واحد وصورةٌ واحدة» (ماركوس أوريليوس، التأملات، ٦–٣٧). وهذا يفسر الانتباه الذي نوليه لكل حدثٍ راهن ولما يحدث لنا في كل لحظة. «أيما شيء يحدث فقد كان يعدُّ لك منذ الأزل، وكان مقتضى الأسباب يغزل لك منذ الأزل خيط وجودك وخيط هذا الحدث المحدد» (التأملات، ١٠–٥).

بوسع المرء هنا أن يتحدث عن بعدٍ صوفي للرواقية، في كل آنة وكل لحظة ينبغي أن نقول «نعم» للعالم، أي لإرادة عقل العالم. يجب أن نريد ما يريده عقل العالم؛ أي اللحظة الحاضرة كما هي بالضبط. يصف بعض المتصوفة المسيحيين أيضًا حالتهم بأنها رضًا دائم بإرادة الله. ويهتف ماركوس أوريليوس من جانبه: «أقول للعالم إذن: إنني أبادلك الحب» (١٠–٢١). نحن هنا بإزاء شعورٍ عميق بالمشاركة والتوحد، بالانتساب إلى كل يتجاوز حدودنا الفردية، ويمنحنا شعورًا بالحميمية مع العالم. أما عند سنكا فإن الحكيم يغمد نفسه في كلية العالم Toti se Inserens Mundo.

ولأن الحكيم يعيش داخل وعيه بالعالم فإن العالم حاضر لديه على الدوام. وتتحلى اللحظة الحاضرة عند الرواقيين (أكثر حتى مما عند الأبيقوريين) بقيمة لا نهائية؛ فهي تضم داخلها الكون كله، وتحوي كل قيمة الوجود وثروته.

من اللافت جدًّا أن المدرستَين الرواقية والأبيقورية، المتعارضتَين للغاية فيما دون ذلك، تولي كلتاهما تركيزًا للوعي على اللحظة الحاضرة، وتجعل ذلك في القلب من طريقتها في الحياة. ولا فرق بين الموقفَين سوى أن الأبيقوري يستمتع باللحظة الحاضرة بينما الرواقي يريدها بشدة: هي عند الأول متعة Pleasure، وعند الثاني واجب Duty.

والمشهد الذي عرضناه من فاوست يردد هذه الموتيفة المزدوجة في تعبيرتَين مفتاحيتَين: «وحده الحاضر هو سعادتنا» و«الوجود واجب».

في محادثاته مع Falk كان جوته قد عرض لكائناتٍ معينة هي، بفضل ميولها الفطرية، نصف رواقية ونصف أبيقورية، وقال إنه لا يجد ما يدعو للعجب من تقبلهم للمبادئ الأساسية للمذهبين في الوقت نفسه، ولا حتى من أنهم حاولوا دمجهما معًا قدر المستطاع. وإن للمرء أن يقول إن جوته نفسه، في طريقته في عيش اللحظة الحاضرة، كان أيضًا «نصف رواقي ونصف أبيقوري». لقد كان يستمتع باللحظة الحاضرة مثل الأبيقوري، ويريدها بشدة مثل الرواقي.
عند جوته نواجه مرةً أخرى معظم الثيمات التي سردناها أعلاه، وبخاصة حصْر الحاضر متبوعًا بالتمدد في كلية الكون، تلك الثيمة التي شهدناها في الأبيقورية وفي الرواقية. هنا وفق جوته إلى ذكر تقابل كان أثيرًا لديه: ذلك الذي بين «الانقباض» Systole و«الانبساط» Diastole.
لننظر أولًا وقبل كل شيء في التركيز على الحاضر وحصره. في لحظات السعادة تحدث هاتان العمليتان تلقائيًّا: «عندئذٍ لا تنظر الروح إلى الأمام ولا إلى الوراء». هذا البيت من «فاوست» يتردد في قصيدةٍ مهداة إلى Count Paar:
السعادة لا تنظر إلى الأمام ولا إلى الوراء
وهكذا تصبح اللحظة أبدية.

تُدرَك اللحظة الحاضرة على أنها نعمة أُسبغت علينا أو فرصة أُتيحت.

على أن العقل قد ينصرف أيضًا عن الماضي والمستقبل إراديًّا، لكي يستمتع على نحوٍ أكمل بالحالة الحاضرة للواقع. هذا هو موقف إجمونت Egmont جوته:

«تراني أعيش فحسب لكي أفكر حول الحياة؟ وعليَّ أن أمتنع عن الاستمتاع باللحظة الحاضرة عساني أضمن التي تليها، ثم أُهدر هذه أيضًا في المشاغل والهموم العقيمة؟ … هل تضيء لي الشمس اليوم لكي أستغرق فيما حدث بالأمس؟ أو لكي أخمن وأرتب ما لا يمكن تخمينه ولا ترتيبه؛ مصير اليوم القادم؟» (جوته، «إجمونت»)

هذا هو سر السعادة نفسه الذي صاغه جوته في «قاعدة الحياة»:

أتود أن تصوغ لك حياة هانئة؟
لا تنشغل بالماضي،
ولا تدع الغضب يتملَّكك،
ابتهج بالحاضر دون انقطاع،
لا تكره أحدًا.
والمستقبل؟ فوِّض إلى الله أمره.

هذه هي ذروة الحكمة، حكمة الطفل في «مرثاة مارينباد»:

ساعة بعد ساعة تقدَّم لنا الحياة بكرم،
لم نتعلم من أمس إلا قليلًا،
أما الغد فمعرفته محرمة تمامًا علينا،
وإذا ما خفتَ من المساء الآتي
فالشمس الغاربة ما زالت ترى ما جلب لي الفرح.
افعلْ مثلي، إذن، بحكمةٍ مبتهجة،
انظر اللحظة في عينها! لا تتوانَ!
عجلْ! أسرع لتُحيِّيها نضرًا ومحسنا
لتكن اللحظة للفعل، أو للفرح، أو للحب،
وأينما كنتَ فكنْ مثل طفل، تمامًا ودائمًا،
عندئذٍ ستكون «الكل»، ستكون شيئًا لا يُقهَر.

تتمثل «قاعدة الحياة» — تلك «الحكمة العليا» — في عدم النظر إلى الأمام ولا إلى الوراء، بل في أن يصبح المرء واعيًا بفذاذة الحاضر وقيمته التي لا تضاهى. عند جوته، إذن، نجد نفس التدريب الخاص بحصر الحاضر الذي سبق أن وجدناه في الفلسفة القديمة. غير أن هذا التدريب لا ينفصل عن تدريبٍ آخر مؤدَّاه الوعي بالثراء الداخلي للحاضر، وللكلية المتضمَّنة داخل اللحظة. وإذ يقبض المرء على اللحظة (يحصر الحاضر) لا ينكمش الوعي بل يتمدد ليملأ أبعاد العالم. فهذه الرؤية التي «تنظر إلى اللحظة في عينها» هي الرؤية النزيهة للفنان، والشاعر، والحكيم؛ الرؤية الشغوفة بالواقع من أجل ذاته.

ليس يعني الاستمتاع بالحاضر دون تفكير في الماضي أو المستقبل أن نعيش في لحظيةٍ تامة؛ بل يعني أن ننقِّي اللحظة الحاضرة من أن تنغَّص بإعادة معايشة خيبات الماضي والخوف من متاعب المستقبل، فمن شأن ذلك أن يُشتِّت انتباهنا بعيدًا عن الحاضر الذي يجب أن نركِّز عليه ونعيشه. على أننا حين نركز انتباهنا فعلًا على المستقبل نكتشف أن الحاضر نفسه يتضمن كلًّا من الماضي والمستقبل إذا ما كان عبورًا أصيلًا يؤدى فيه فعل الواقع وحركته. إنما هذا الماضي وهذا المستقبل هو ما تقبض عليه رؤية الفنان في اللحظة التي يصطفيها لكي يصفها ويعيد إنتاجها. يقول جوته إن فناني العصر القديم كانوا يعرفون كيف يختارون اللحظة «الحبلى» Pregnant المثقَلة بالمعنى، التي تسم نقطة تحول حاسمة بين الزمان والأبدية. وبتعبير جوته: مثل هذه اللحظات «ترمِّز» Symbolize ماضيًا بأكمله ومستقبلًا بأكمله.

كذلك عندما يقبض فنان على لحظة من لحظات حركةٍ راقصة فإنه يتيح لنا أن نلمح كلًّا من «القَبل» و«البَعد»: «الليونة العجيبة التي تتحرك بها الراقصة من صورة إلى أخرى، وتثير إعجابنا تجاه هذه البراعة الفنية؛ إنها تثبت لحظة بحيث نتمكن من أن نرى الماضي والحاضر والمستقبل معًا في آنٍ، فنكون بذلك قد انتقلنا إلى حالةٍ علوية فوق-أرضية» (جوته، «رسائل إلى سيكلر»).

من يمارس فن العيش يجب أن يدرك أيضًا أن كل لحظة هي حبلى: مثقلة بالمعنى، تحتوي كلًّا من الماضي والمستقبل، الخاصَّين لا بالفرد بل أيضًا بالكون الذي هو مغمود فيه. هذا ما عناه لنا جوته في قصيدته The Testament:
دعوا العقل يكون في كل مكان،
حيث الحياة تبتهج بالحياة.

النقطة التي عندها تبتهج الحياة بالحياة ليست غير اللحظة الحاضرة. «عندئذٍ — يمضي جوته قائلًا:

يكون الماضي قد ترسخ،
ويكون الحاضر حيًّا مسبقًا،
وتكون اللحظة الأبد.»

وجوته أصرح في هذه النقطة حتى من هذا في إحدى محادثاته مع إكمان: «تشبثْ بالحاضر. كل ظرف، كل لحظة، هي ذات قيمة لا متناهية، لأنها تمثل أبدًا كاملًا.»

وقد اعتقد بعض المعلِّقين أنهم يمكن أن يفسروا تصور جوته عن اللحظة بوصفها أبدًا — بواسطة التأثير الأفلاطوني المحدَث أو التأثير «التَّقَوي» Pietistic.١٢ ومن الحق أننا نجد بالفعل داخل هذين التراثَين تمثيل الرب كحضورٍ أبدي، ولكن مثل هذا التصور لن نجده في كتابات جوته. عندما يتحدث جوته عن الأبدي في قصيدته المعنونة The Testament (العهد)، مثلًا، فإنه يتحدث عن أبدية العملية الكونية للصيرورة:
خلال جميع الأشياء، يقتفي «الأبدي» مساره …
الوجود أبدي؛ لأن القوانين
تحمي الكنوز الحية،
التي يزين بها «الكل» نفسه.
لكي نفسر فكرة جوته عن اللحظة بوصفها تمثل الأبد، ينبغي بالأحرى أن نذكر التعاليم الأبيقورية والرواقية التي تحدثتُ عنها آنفًا. تؤكد هذه التعاليم في المقام الأول أن لحظةً واحدة من الهناءة تساوي أبدًا، وأن لحظة وجود واحدة تنطوي على الأبد الكوني كله. وبتعبير جوته: اللحظة هي رمز الأبد. يعرِّف جوته الرمز على أنه «الوحي (البوح) اللحظي الحي للغيب». تنطبق فكرة «الغيبي» The Unexplorable على ما هو، عند جوته، يتعذر التعبير عنه بالاستناد إلى الطبيعة وإلى الواقع كله. إن طبيعتها العابرة والزائلة نفسها هي ما يجعل اللحظة رمز الأبد؛ لأن طبيعتها الزائلة تكشف الحركة الأبدية والتحول (الميتامورفوزس) الأبدي الذي هو في الوقت نفسه الحضور الأبدي للوجود: «كل ما هو زائل هو مجرد رمز» (جوته، فاوست).

وها هنا يأتي دور فكرة الموت، فالحياة نفسها تحوُّلٌ دائم، وموتٌ متصل لكل لحظة. وأحيانًا تأخذ هذه الثيمة عند جوته نبرةً صوفية:

«لكي يجد نفسه في اللامتناهي،
يقبل الفرد، طوعًا، أن يفنى،
إنها لمتعة أن يهجر المرء نفسه.»
«كل ثنائي للمخلوق الذي يتوق إلى الموت في اللهب.»

في التحليل الأخير، إذن، فإن الأبدية — أي كلية الوجود — هي التي تمنح اللحظة الحاضرة قيمتها، ومعناها، وخصبها. «ما دام الأبدي حاضرًا لنا في كل لحظة، فإننا لا نعاني من انفلات الزمن.» وهكذا فإن المعنى النهائي لموقف جوته تجاه الحاضر هو، مثلما كان للفلسفة القديمة، السعادة والواجب؛ واجب الوجود في الكون. إنه شعورٌ عميق بالمشاركة في، والتوحد مع، واقعٍ يعلو على حدود الفرد. «عظيم» هو فرح الوجود، ولكن أعظم منه الفرح الذي نحسه في حضور العالم. «خلال الأشياء جميعًا، يقتفي الأبدي مساره. اقبض على «الوجود» بابتهاج».

وينبغي هنا أن نورد الأغنية الكاملة لحارس البرج لينكيوس قرب نهاية «فاوست الثاني»:

في جميع الأشياء، أرى
الزينة الأبدية،
ولأنها تبهجني،
فأنا أبهج نفسي أيضًا،
أنتما، يا عينيَّ
أيًّا ما كان ما قد رأيتماه،
أيًّا ما كان،
فقد كان بالتأكيد جميلًا.

وفي عمله عن فينكلمان يضع جوته هذا التصديق الدهش على الوجود — على وجود الكون بأسره — بوصفه طابع النفس القديمة.

إذا كان الإنسان يحس بالارتياح في العالم باعتباره في كلٍّ، كلٍّ عظيم وجميل ونبيل ونفيس؛ إذا كانت متعة العيش في هارمونية مع هذا الكل تمنحه بهجةً مجانيةً خالصة، إذن فالعالم — إذا أمكنه أن يعي ذاته — حقيق أن يُزدَهَى بالفرح. سيكون قد نال بغيته، وسيكون مشدوهًا في هذه الذروة من صيرورته ووجوده. إذ ما جدوى كل هذا الفيض المسرف من الشموس، بعد كل شيء، وكل هذه الكواكب والأقمار والنجوم والمجرات والمذنبات والسُّدُم، ما جدوى العوالم التي في طور التكوين وتلك التي تكوَّنت، ما الجدوى، وقد قيل كل شيء وعُمل، إذا لم يبتهج إنسانٌ سعيدٌ واحد، لا شعوريًّا، بوجوده الخاص؟ (جوته، «فينكلمان»)

عندما يقول جوته «لا شعوريًّا» فإنه يعني أن الأسباب التي تفسر لماذا يكون الناس، أحيانًا، سعداء، ولماذا يكونون، أحيانًا، متناغمين مع العالم، هي أسبابٌ غير معلومة، وغير مفهومة تمامًا من جانبهم. وهنا نصادف حالةً أخرى من «الغيبي» The Unexplorable، باستخدام واحد من تعبيرات جوته الأثيرة. غير أن الفرح البريء بالوجود، والمتعة الفورية التلقائية التي تجدها الكائنات الحية في الوجود، هي ظاهرةٌ أصيلة تكشف وجود سرٍّ غيبي: «الطفل مسرور بالكعكة، دون أن يعرف أي شيء عن الحلواني؛ والزرازير تحب الكرز، دون أن تتوقف لتفكر من أين أتى.»
ومرةً ثانية نجد هذه اﻟ «نعم!» للعالم والتصديق على الوجود في الفقرة التالية من نيتشه، أيًّا ما كانت له هو نفسه من تحفظات حولها:
«لنفترضْ أننا نقول «نعم!» للحظةٍ فذةٍ واحدة: لقد قلنا إذن نعم لا لأنفسنا فحسب، بل للوجود كله. فليس ثمة شيءٌ منعزل، لا في أنفسنا ولا في الأشياء. وإذا ما حدث، ولو مرةً واحدة، أن روحنا اهتزت ورنَّت كالوتر بسعادة، فإن الأزل كله كان ضروريًّا لخلق الشروط اللازمة لهذا الحدث الواحد؛ والأزل كله قد كان مصدَّقًا، ومحرَّرًا Redeemed، ومبرَّرًا، ومؤكَّدًا.» (نيتشه، «متفرقات منشورة بعد وفاته»)

منذ زمنٍ غير بعيد، أعلن جورج فريدمان، بشجاعة، شجبه لانعدام التوازن المؤسف الذي حلَّ بالعالم الحديث؛ بين «القوة» و«الحكمة». وإذا كنا قد اخترنا هنا أن نقدم بعض جوانب ثيمة من الثيمات الأساسية للتراث الروحي الأوروبي، فلم يكن ذلك لإشباع فضولٍ ما تاريخي أو أدبي، بل لوصف موقفٍ روحي؛ موقف بالنسبة لنا وللإنسان الحديث بعامة (وقد خدَّرتنا اللغة، والصور، والمعلومات، وخرافة المستقبل) بدا لنا أنه يقدم واحدة من أفضل وسائل الولوج إلى هذه الحكمة، التي أُسيء فهمها كثيرًا رغم ضرورتها الشديدة. إن نداء سقراط يهيب بنا الآن أكثر من أي وقت مضى: «اعتنِ بنفسك.» هذا النداء يجد صدًى له في ملاحظة نيتشه: «أليس صحيحًا أن النظم البشرية جميعًا (التي نضيف إليها: «والحياة الحديثة برمَّتها») — قد وُضعت بقصد أن تمنع الجنس البشري من الشعور بحياتهم، وذلك من خلال التشتيت المستمر والدائم لأفكارهم؟» (نيتشه، «تأملات لغير زمنها»).

١  موضع غامض جاء في سياق فاوست الثاني لجوته، ذكر مفستوفيلس لفاوست أنه الوسيلة للوصول إلى الشعب الإغريقي، لاستحضار المثل الأعلى للجمال في شخص هيلانة والمثل الأعلى للرجولة في شخص باريس. (إن الشعب الإغريقي يسكن عالمه السفلي الخاص به. لكن هناك مع ذلك وسيلة للوصول إليه. إن فيه أمهات يتربعن على عروشهن في جلال الوحدة، وليس حولهن زمان ولا مكان. إنهن «الأمهات» …) انظر لاستيضاح هذه النقطة «الرحلة إلى الأمهات»، من كتاب فاوست، جيته، ترجمة وتقديم عبد الرحمن بدوي، سلسلة «من المسرح العالمي»، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ط٢، الجزء الأول، ص١٧٩–١٨٤. ويفضل، على كل حال، أن يكون القارئ ملمًّا بفاوست جوته من أجل تجاوبٍ تام مع هذا الفصل. ولكن من فاته هذا الإلمام فلن تفوته المعاني الأساسية التي يرمي إليها المؤلف بوضوحٍ كافٍ.
٢  A Duty.
٣  Interiority، الدخيلة، الداخل، الدخيلاء.
٤  The Healthiness of the Moment.
٥  من الشخصيات المحورية في «فاوست».
٦  يقول العقاد في معنًى قريب:
خف العيش فإن المو
ت لا يفجع مولودا
وإن الموت إذ يأتيـ
ـك لا يلفيك موجودا
٧  J. M. Guyau, La Morale d’Epicure, Paris 1927, pp. 112ff.
٨  Cf. M. Gifante, Richerche Filodemee, Naples 1983, pp. 181, 215-16.
٩  أي تعاني البرد.
١٠  Attention-Span.
١١  يقول الشاعر العربي في ذلك:
ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها
١٢  المذهب التَّقَوِي أو النزعة التقوية Pietism: حركة نشأت في الكنيسة اللوثرية في ألمانيا في القرن السابع عشر، وكانت تؤكد على التقوى الشخصية وتُعليها فوق الشكلانية والتقليدية الدينية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤