الضباط الأحرار … المعلم الأخير
حين انتهت الحرب العالمية الثانية، كان الجيش المصري — على حد تعبير الراوي — في
خدمة الملك
والإنجليز.
١ ويقول أنور السادات: «كانت هذه هي الحقيقة الأولى في الموقف. إن الشعب يعتقد أن هذا
الجيش
هو جيش فاروق لا جيشه، وأنه يائس من إمكان القيام بالثورة الكبرى، لأن الجيش عندئذٍ لن
يثور في صفوفه،
ولن يقاتل دفاعًا عن مطالبه، وإنما سيقف في وجه أبنائه، يضربهم بالحديد والنار، ويحطم
معنوياتهم، وينصر
عليهم الظالم والطاغية والمحتل، وكان حاجزًا ليس من اليسير تحطيمه، فليس من اليسير أن
تخلق ثقة
وإيمانًا، حيث لا ثقة ولا إيمان.»
٢
كانت ثقة الشعب بالجيش شبه معدومة، وكان الجيش — في الحقيقة — منعزلًا — ولو في الظاهر
— عن قضايا
الشعب، وكما يقول السادات، فقد كانت «صورة الجيش في ذلك الوقت هي صورة الكرباج الذي يلهب
به الطغاة ظهور
أبناء الشعب، وهو سيف التهديد الذي يملكه الحاكم، ويملك أن يسخِّره ضد هذا الشعب كلما
ثار أو سخط. إنها
الصورة التي رسمها الإنجليز، وشاركهم في إظهارها، ووضع الإطار حولها، حلفاؤهم: القصر
والأحزاب.»
٣
ويوضح يوسف صديق سلبية الصورة بأن «جيش جلالة الملك كان ممنوعًا من التدخل في السياسة،
أو
الاشتغال بها، حتى كانت قراءة جريدة أو مجلة تُعتبَر جريمة.»
٤
•••
سعت بريطانيا — في سني الحرب — إلى تقوية الجيش المصري، بحيث يمكنه مساعدة القوات
البريطانية في
الدفاع عن مصر ضد الغزو الألماني المرتقَب. وكان رأي السلطات العسكرية الإنجليزية أن
تتوحد القوات
البريطانية في مصر، والقوات المصرية تحت قيادة العسكريين الإنجليز، لكن عزيز المصري —
رئيس أركان حرب
الجيش المصري آنذاك، والمعروف بنفوره الشديد من الإنجليز، وميله إلى العسكرية الألمانية
— قاوم هذا
الاتجاه بشدة، لأن مصر لم تُعلِن الحرب، ومن ثَم فلا معنى لتغيير قيادة الجيش المصري،
على أن تتم الاتصالات
بين القوات البريطانية في مصر، والقوات المصرية، بواسطة البعثة العسكرية.
بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت تحركات عزيز المصري المعادية للإنجليز سافرة، مما دفع
السلطات
البريطانية إلى المطالبة بتنحية الرجل، لكن علي ماهر اكتفى بمنحه إجازة مرضية إجبارية
في
أوائل١٩٤٠م.
٥
يسأل الدكتور خالد (الدكتور خالد): «جيشنا، ما هو استعداده في هذه الظروف؟
ويأتيه الجواب من صديقه صبري: ليس فيه سوى نفر من الضباط الشبان المتحمسين.
يضيف: أتعرفون مَن قابلت عند عزيز باشا [عزيز المصري] بهاء عبد القادر [جمال عبد الناصر].
تهلل وجه فوزي بالفرح، وقال وهو يتمثل هذا الشاب الأسمر، الفارع القوام: إنه الشاب
الذي حدَّثتك
عنه، وكيف حالَ بين البوليس وبين الاعتداء عليَّ في الإسكندرية.
قال خالد مستدركًا: آه، بهاء عبد القادر، صاحب حادث المنشية بالإسكندرية.
والتفت ناحية صبري، وسأله: أقابلته عند عزيز باشا؟ لماذا لم يعُد يتردد على البيت
الأخضر؟ إنني لم
أره، وإن كنت أسمع اسمه كلما جاء ذكر هذا الحادث.
أجاب صبري: لقد دخل الكلية الحربية، فأصبح محظورًا عليه أن يشتغل بالسياسة، ولكن
مبادئنا وروح
كفاحنا قد تأصَّلت في أعماق نفسه، وقد تخرَّج وأصبح الآن ملازمًا ثانيًا، وهو من أشد
المتحمسين لعزيز باشا،
وسمعته يقول له: إن جميع ضباط الجيش يعلقون عليه أكبر الآمال.»
٦
ويتحدث وسيم خالد عن تلك المنظمة الضخمة من الضباط الشبان الذين كانوا يلتفون حول
الفريق عزيز
المصري، بهدف انتهاز فرصة الحرب للقيام بثورة مسلحة «لن يكون خلاصٌ للبلد إلا بانقلابٍ
على أيدي
العسكريين.»
٧ كانت إمكانيات النجاح متوافِرة، لكن المنظمة راحت تؤجل عملياتها، حتى يُعلِن الألمان
استقلال
مصر أولًا، وأنهم لن يدخلوا أرض مصر في أعقاب الإنجليز، مما أتاح للمخابرات البريطانية
فرصة اعتقال
أفراد المنظمة، والقضاء عليها، وتصفيتها تمامًا، وإن أفلح بعض أفرادها — فيما بعد — في
أن يفروا من
السجون والمعتقلات، ويواصلوا نشاطهم الوطني بصورة فردية.
يقول أنور السادات: «لم نكن نعرف على وجه التحديد ماذا سوف نعمل؟ لقد كان هدفنا أن
نقوم بدورٍ في
تخليص البلاد من جنود الإنجليز، ولم تكن الفرصة لذاك تسنح في أثناء الحرب، وقد سيطر الإنجليز
على كل
مرفق من مرافقنا، واحتلوا جميع قواعدنا وطرق مواصلاتنا، بل لقد كنا نحارب إلى جانبهم
أيضًا.»
٨
وحين نشبت ثورة رشيد علي الكيلاني في العراق، أبدت السلطات البريطانية تخوُّفها من
أن تشجع تلك
الحركة الجيش المصري على التحرك ضد الإنجليز،
٩ لكن التصفية السريعة لثورة رشيد علي الكيلاني أبعدت احتمال قيام الثورة في صفوف الجيش
المصري، وإن اتجه عدد من ضباط سلاح الطيران إلى القصر — بعد الحادث مباشرة — وناقشوا
أحمد حسنين،
ودوافعه، وتطوراته، فحاول تهدئة نفوسهم، حتى لا يزيدوا من تأزم موقف الملك فاروق.
١٠
والواقع أن الجيش المصري كان معدًّا لخوض الحرب فعلًا، رغم أن مصر لم تكن قد أعلنت
الحرب بعد. فقد
قُسِّمت منطقة الصحراء الغربية — كما يقول السادات — إلى ثلاثة قطاعات، قطاعان بريان
يدافع عنهما الجيش
المصري، وقطاع بحري تدافع عنه قوات الإنجليز.
١١ وقد قامت بدورٍ مهم في التصدي لغارات الألمان، وأسقطت العديد من الطائرات المغيرة.
١٢ ويقول السادات: «كان موقفنا — نحن ضباط الجيش وجنوده — هو الموقف الضنك، فسياسة تجنيب
مصر
ويلات الحرب: لم يكن معناها أننا لا نحارب فعلًا، وكان الذي يشقينا هو أن نسأل أنفسنا:
نحارب من أجل
من؟»
١٣
فجأة، صدرت الأوامر من قيادة الجيش المصري بأن تنسحب الفرقتان المصريتان اللتان تقومان
بالدفاع في
القطاعين الغربيين لتحتلهما قوات بريطانية، حتى تنفرد بريطانيا بالدفاع عن المنطقة كلها،
وقضت الأوامر
أن تترك القيادة المصرية أسلحتها، وتسلمها للقوات البريطانية التي ستحل مكانها، لكن الضباط
المصريين
رفضوا تسليم أسلحتهم، وتقدَّموا إلى القاهرة. وعلى الرغم من اتجاه الغالبية العظمى منهم
إلى احتلال كل
المرافق العامة، والقوات في طريقها إلى القاهرة، وفرض حكومة بقيادة علي ماهر الذي استقال
بعد بيان شهير،
فإن تقديراتهم للموقف دفعتهم إلى العدول عن خطتهم، والاكتفاء بالعودة بأسلحتهم كاملة،
وكان ذلك — في حد
ذاته — انتصارًا كبيرًا.
١٤
تحددت رؤية العمل للمستقبل أمام الضباط المصريين الشبان من خلال كلمات عزيز المصري:
«لن يكون خلاص
للبلد إلا بانقلاب على أيدي العسكريين!»
١٥
ويقول أنور السادات عن «اللحظة الحاسمة» التي كان الضباط الأحرار يعدون لها: «كان
شغلنا الشاغل في
تلك الفترة، هو مراقبة تطورات هجوم المحور في الصحراء الغربية كنا نتتبعه ساعة بساعة،
ونحن نستعد
ونتكتم، انتظارًا للحظة الحاسمة.»
١٦
قرر الضباط — في حالة اختراق الألمان عنق الزجاجة في العلمين، ومهاجمة الدلتا — أن
يرسلوا أحدهم
بطائرة حربية إلى روميل، ليشرح له وجهة نظر الوطنيين، واستعدادهم للعمل مع القوات الألمانية
ضد بريطانيا
بشرطين: إمدادهم بالسلاح، وأن يكون التعاون على أسسٍ متكافئة.
١٧ استطاع الضباط — منذ ٤ فبراير إلى معارك العلمين — تجهيز مائة ألف زجاجة متفجرات مولوتوف،
وإنشاء ورشة كاملة لصنع المسدسات، واستيراد كميات كبيرة من البارود الذي يصنعه الفلاحون،
وتحضيره علميًّا
بحيث يمكن الاستفادة منه.
١٨
•••
ينتمي غالبية الضباط الأحرار إلى أصول ريفية، وُلِدوا في الفترة من ١٩١٧م إلى ١٩٢٢م،
ثم انتقلت أسرهم
— لظروف العمل، أو لمجرد الرغبة في الانتقال إلى بيئة أفضل — إلى المدن. كانوا جميعًا
من أبناء الدفعات
التي دخلت الكلية الحربية بعد توقيع معاهدة ١٩٣٦م مع بريطانيا، عدا اللواء محمد نجيب
الذي أعطى لقيادة
الثورة اسمه في البداية. فبعد ١٩٣٦م فتحت الكلية الحربية أبوابها لأعدادٍ هائلة من الطلبة،
بهدف زيادة عدد
الجيش المصري، ليؤدي دورًا محتملًا في معاونة القوات البريطانية أمام ظروف التوتر الدولي
المتصاعدة.
وبالطبع، فقد كان من الذين أتيح لهم الدخول — للمرة الأولى — أبناء الطبقة الوسطى،
والدنيا
أحيانًا (أذكِّرك بحكاية جمال عبد الناصر الذي تحوَّل إلى الكلية الحربية)، وكما يقول
أحمد حمروش، فلم تكن
المدة التي قضاها هؤلاء الضباط في الكلية الحربية، والتي لم تزد عن بضعة أشهر، كافية
لإبعادهم — فكريًّا
ووجدانيًّا — عن حياتهم السابقة في المرحلة الثانوية، ولم تكن كافية كذلك لبتر جذورهم
الاجتماعية الممتدة
— في الأغلب — إلى طبقة صغار الموظفين، أو للقادرين — نسبيًّا — من أبناء الريف، الأمر
الذي أوجد عند
هؤلاء الضباط شعورًا وطنيًّا ممتزجًا بالفكر الاجتماعي، فقد كانوا — بدرجة ما — أبناء
طبقة بعيدة عن سلطة
الحكم، ولم يكن من آبائهم من يحمل لقب باشا أو بك، رغم أن القائمقام (العقيد) كان يحمل
رتبة بك درجة
ثانية، والأميرالاي (العميد) يحمل رتبة بك درجة أولى، واللواء يحمل رتبة الباشوية.
كان ثمة العدد الأقل من الضباط الأحرار — يعدُّهم حمروش بما لا يجاوز أصابع اليد الواحدة
— ينتمون
إلى طبقة السراة في الريف، أو من أصحاب الوظائف الكبيرة، وممن يمكن تسميتهم بالطبقة الوسطى
الصغيرة.
بالإضافة إلى ذلك، فقد أحدث الاشتراك في دفعة التخرج تأثيرًا مؤكدًا في نشوء الصداقة
التي كانت
سبيلًا للمصارحة بتردي الأوضاع العامة الاجتماعية والسياسية، ومدخلًا لطرح فكرة إنشاء
تنظيم الضباط
الأحرار.
اللافت أن غالبية الضباط — إن لم يكونوا جميعًا — قد أصبحوا — لفتراتٍ — على صلة
تنظيمية — أو
وجدانية في الأقل — مع القوى السياسية القائمة آنذاك، وهي قد أسهمت — بصورة أو بأخرى
— في تكوينهم
السياسي. لقد اجتمعوا حول السخط والرفض والرغبة في التغيير، لكنهم لم يجتمعوا حول أيديولوجية
واحدة. ثمة
الماركسي، ومن وجد انتماءه في مبادئ «مصر الفتاة»، ومن انضم إلى «الإخوان المسلمين»،
بل إن بعضهم كان على
صلة — ولو فكرية — بالأحزاب السياسية القائمة كالوفد والسعديين والأحرار الدستوريين وغيرها.
ويذهب
«الماركسي» عبد العظيم أنيس إلى أن ضباط الجيش قد أثبتوا — تاريخيًّا — بتوجُّههم الوطني
العام، وإن ضمُّوا
عناصر تنتمي إلى اليمين والوسط واليسار، أنهم هم الذين كانوا مؤهلين لقيادة معركة التحوُّل،
بمعنى الإعداد
للثورة، والقيام بها.
١٩
•••
لا شك أنه كان لشخص جمال عبد الناصر دور هام وحاسم في تشكيل تنظيم الضباط الأحرار،
ولولا إدراكه
لأهمية أن يكون هذا التنظيم تعبيرًا عن تلك الجبهة العريضة من كافة التيارات الوطنية
في الجيش آنذاك،
لما قام التنظيم، ولولا الثقة الفائقة للضباط اليساريين والإخوان في شخص عبد الناصر،
ما انضم أحد منهم
له.
٢٠
ولعله يمكن القول، إن إرهاصات حركة الضباط الأحرار تعود إلى عام ١٩٣٥م، عندما أصبح
جمال عبد الناصر
زعيمًا لطلبة المدارس الثانوية، شغلته أوضاع البلاد، وشارك في المظاهرات التي خرجت للهتاف
ضد سلطة
الاحتلال وأحزاب الأقلية.
وحين قرر عبد الناصر في سبتمبر ١٩٤١م تكوين منظمة سرية داخل الجيش، تعمل على قلب
نظام الحكم، كان
في مقدمة من دعاهم إلى الاشتراك في المنظمة الوليدة زملاءه من الضباط بالجهاز السري للإخوان،
فدخل عبد
المنعم عبد الرءوف وكمال الدين حسين وخالد محيي الدين وحسن إبراهيم ومحمود لبيب.
٢١
وفي ٨ أكتوبر ١٩٤٢م طُرِد أنور السادات من الجيش بتهمة الاتصال بجواسيس الأعداء —
الألمان — وكان
السادات — آنذاك — حلقة الاتصال الوحيدة بين تشكيل الضباط الأحرار وبين الإخوان المسلمين
«فلما انتهى
الأمر باعتقالي، بدأت حلقة أخرى عملها.»
٢٢ وكما يقول خالد محيي الدين، فقد عُقِد — في نهاية صيف ١٩٤٤م بمنزل جمال عبد الناصر —
أول
الاجتماعات الفعلية التي تستهدف إنشاء تنظيم في صفوف القوات المسلحة.
٢٣ وكان المجتمعون أربعة هم: جمال عبد الناصر، كمال الدين حسين، حسن إبراهيم، خالد محيي
الدين، وأخبرهم عبد الناصر أن زميلًا آخر — هو عبد الحكيم عامر — سيحضر الاجتماعات التالية،
ثم انضم إلى
المجموعة — فيما بعد — عبد المنعم عبد الرءوف وعبد اللطيف البغدادي.
٢٤
في ١٩٤٥م أُلغيَت الأحكام العرفية، وبدأت حركة الضباط الأحرار في إعادة تنظيم نفسها،
وتولى عبد
الناصر تشكيلات الداخل، فوضع لها «خطة بعيدة المدى، طويلة الأمد، قائمة على فلسفة مدروسة
واقعية.»
٢٥ بينما تولى أنور السادات التشكيلات الشعبية، وكانت الخطة الموضوعة — كما يروي السادات
— أن
يعمل التشكيلان العسكري والشعبي جنبًا إلى جنب، كلٌّ بوسائله وخططه، ولا يرتبط أحدهما
بالآخر، حتى تأتي
اللحظة المناسبة.
٢٦
ظل تنظيم الضباط الأحرار بلا اسم، حتى أعد منشوره الأول — ما بين سبتمبر وأكتوبر
١٩٥٠م — وكان من
الضروري توقيعه،
٢٧ وحتى ليلة الثورة، بلغ عدد الضباط الأحرار ٣٢٩ ضابطًا،
٢٨ وكما أشرنا، فقد تكوَّن تشكيل الضباط الأحرار — بشكلٍ سري — في ١٩٤١م، ثم أعيد تنظيمه
عقب حرب
فلسطين.
كان من بين ضباط الجيش الذين سافروا إلى فلسطين أعداد من تنظيم الضباط الأحرار، لمسوا
خلال
المعارك مدى استهانة الحكومة في الإعداد للحرب قبل إرسال الجيش: نقص التموين، سوء تنظيم
الخدمات، تخبط
القيادة.
ولعلنا نستطيع أن نتبيَّن خطورة الوضع في هذه الكلمات التي وجَّهها حلمي سلام إلى
القائد العام للقوات
المسلحة: «إن ضباط الجيش يهمهمون بأشياء وأشياء، وحذار أن تظن أنهم بُكم لا يتكلمون؛
إنهم يقولون إن
الجيش جزء من الأمة، بل هو الجزء الذي تتوقف عليه حياة هذه الأمة، ولهذا لا ينبغي له
أن يبقى بعيدًا عن
متناول النقد الإصلاحي النزيه.»
٢٩
يقول جمال عبد الناصر في «أمام العرش»: «… واشتركتُ في حرب فلسطين، وحوصرت مع من
حوصر في الفالوجا،
وقد هالتني الهزيمة، وهالتني أكثر جذورها الممتدة في أعماق الوطن. فخطر لي أن أنقل المعركة
إلى الداخل
حيث يكمن أعداء البلاد الحقيقيون. وأنشأتُ — في حذرٍ وسرية — تنظيم الضباط الأحرار، ورصدت
الأحداث
انتظارًا للحظة المناسبة للانقضاض على النظام القائم. وقد حققت هدفي في ثورة يوليو ١٩٥٢م.»
٣٠
في أواخر ١٩٤٩م عُقدَت اجتماعات سرية بين الضباط الأحرار الأصليين والضباط الذين
أمكن استمالتهم في
أثناء الحرب الفلسطينية، وانصهرت كل التنظيمات الوطنية الفاعلة في تنظيم واحد، هو الضباط
الأحرار،
وتشكَّلت الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار، وهي الهيئة التي صارت مجلس الثورة فيما بعد،
٣١ وصارت المنشورات تصدر بتوقيع التنظيم.
٣٢
ضمَّت الهيئة التأسيسية ضباطًا يمثِّلون كل الأسلحة، فيما عدا ضباط البحرية الذين
كان ضمهم إلى
التنظيم صعبًا لظروف عملهم من ناحية، حيث كان من الصعب — عمليًّا — إيجاد علاقات صداقة
معهم تكون هي
المدخل لمفاتحتهم في أمر انضمامهم إلى التنظيم. من ناحية أخرى، فقد خلت خطة العمليات
من دور محدد للسلاح
البحري، وإن افترض قادة التنظيم انضمام ضباط البحرية إلى الحركة بمجرد قيامها.
وهو ما حدث فعلًا.
كانت العوامل التي حفزت الضباط الأحرار للإعداد للثورة متعددة، فقد دافع الإنجليز
عن الصحراء
الغربية، وطلبوا من القوات المصرية الانسحاب، وترك أسلحتها، وهو ما رفضه الضباط المصريون.
كانت حادثة ٤
فبراير عام ١٩٤٢م التي اقتحمت فيها القوات البريطانية سراي عابدين لتفرض على الملك وزارة
النحاس، قد جاءت
في وقت كان الملك فاروق فيه يتمتع بتأييد ضباط الجيش واحترامهم، لعدة أسباب من بينها:
تبعيتهم المباشرة
للتاج، وموقف الملك من كادر الموظفين الذي أرادت حكومة محمد محمود تطبيقه على ضباط الجيش،
وموقف فاروق
المعادي للإنجليز.
٣٣
أما النحاس فقد كان زعيمًا خالص الوطنية، لكن المشكلة أنه تولى الوزارة — كما اتفقت
في ذلك غالبية
القوى السياسية — «على أسنَّة رماح الإنجليز!»
وكانت نكبة فلسطين معلمًا سلبيًّا من المستحيل تجاهله، ثم جاءت محاولات الملك لتشتيت
الضباط بعد
عودتهم من جبهة القتال، وكان من العوامل المحفزة كذلك نجاح انقلاب حسني الزعيم في سوريا،
بما يعنيه من
إمكانية الانقلاب المسلح، ثم انقلاب الحناوي بعد ذلك، بما دلَّ عليه من سهولة التنفيذ.
بدأت الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار في إصدار المنشورات منذ أكتوبر ١٩٤٩م، ثم حملت
اسم «صوت
الضباط الأحرار» في أواخر ١٩٥٠م، وكانت تدعو إلى تحرير الوطن، وتنظيم الجيش، وتهاجم الملك،
وتنتقد
الحكومة، وتتحدث عن الأسلحة الفاسدة، وانتخبت الهيئة التأسيسية جمال عبد الناصر رئيسًا
لها في العام
نفسه، وكانت تلك المنشورات تُطبَع وتُوزَّع في سرية تامة، إما في صناديق بريد ضباط أركان
حرب الجيش، أو باليد
في وحدات الجيش، وكان جزء من المنشورات يُوزَّع في الجامعات وإدارات الحكومة المختلفة.
٣٤
كان من دواعي تباهي البهي عثمان (عصافير النيل) الموظف بهيئة البريد، أنه كان يعثر
في أثناء فرز
الخطابات على منشورات الضباط الأحرار قبل قيام الثورة، وأنه — وزملاءه — لم يبلغوا عن
تلك الخطابات،
وإنما كانوا يعطونها لزملائهم الموزعين لكي يتولوا توزيعها في غيبة عن المسئولين،
٣٥ ومما جاء في نداءات الضباط الأحرار إلى الضباط: «أيها الضباط، إن الخونة يعتمدون عليكم،
وعلى جيشكم، لتنفيذ أهدافهم، وهم يظنونكم أداة طيِّعة.»
٣٦ وفتح الملك فاروق — ذات صباح — أحد الملفات الموضوعة على مكتبه، فطالعته ورقة كُتِب
عليها:
«أيها الجيش الباسل، ويا شعب مصر النبيل، إن ملكًا فاسدًا فاجرًا يحكمك، وقد آن أوان
الخلاص
منه.»
٣٧
تلخصت نظرة الحكومات المتعاقبة إلى الضباط الأحرار في قول أحد أعضاء وزارة منها:
أتظن أن ستة ضباط
يطبعون المنشورات، ويسمون أنفسهم بالضباط الأحرار، يستطيعون أن يفعلوا شيئًا، دول عايزين
واحد شديد
يلبسهم طُرح!
٣٨
وكما يرى مرتضى المراغي، فقد استطاع أفراد في البوليس السياسي أن يلقوا القبض على
ستة من ضباط
الجيش وهم يطبعون منشورًا في ثكنة المعادي، وكان من كلمات المنشور: «يا ضباط الجيش، ثوروا
على الملك
الخائن، وحكومته العميلة للاستعمار، اقضوا عليهم جميعًا بلا رحمة، إن عهد الطاغية يجب
أن يزول، ورأسه
يجب أن يُسحَق.»
الغريب أن الملك هو الذي أمر — بنفسه — بإخلاء سبيل الضباط الستة، وأكد أن ما حدث
هو «لعب عيال»،
وأنه على ثقة من إخلاص جيشه له!
٣٩ وحاول القصر استمالة ضباط الجيش، وبدأت ترقيات الضباط تُنشَر في الصحف بصورة متتابعة،
كوسيلة
لإرضائهم من جانب، ولإيقاع الفُرقة بينهم وبين طوائف الشعب من جانب آخر.
٤٠
كذلك فقد علمت المخابرات المركزية الأمريكية بوجود تنظيم للضباط الوطنيين في الجيش
المصري، وأوفدت
كيرمين روزفلت — أكفأ رجالها في المنطقة — للتعرُّف إلى أفراد التنظيم، واحتوائهم، ومحاولة
القيام —
بواسطتهم — بانقلابٍ عسكري، لكن أفراد التنظيم أفلحوا في تضليل روزفلت، حتى قامت الثورة،
وكما يقول محمد
عودة، فقد عرفت واشنطن بالنبأ من الصحف تمامًا، مثل باقي المواطنين.
٤١
•••
تكوَّنت الخلية الأولى للضباط الأحرار في أواخر ١٩٤٩م، أي عقب عودة القوات المصرية
المحاصَرة في
الفالوجا،
٤٢ كان قوامها خمسة أشخاص هم: جمال عبد الناصر، حسن إبراهيم، خالد محيي الدين، كمال الدين
حسين، عبد المنعم عبد الرءوف، وكان اليسار ممثَّلًا في الخلية بخالد محيي الدين، بينما
مثَّل الإخوان
المسلمين كمال الدين حسين وعبد المنعم عبد الرءوف.
٤٣
يقول خالد محيي الدين إن صلات الضباط الأحرار تركزت في محورَين: الشيوعيون، يمثِّلهم
تنظيم «حدتو»
(الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) والإخوان المسلمين، وكان واسطة عبد الناصر لتلك الصلات
العديد من
الضباط، من بينهم أحمد فؤاد وخالد محيي الدين بالنسبة لحدتو، وصلاح شادي وحسن عشماوي
وعبد الرحمن السندي
بالنسبة للإخوان المسلمين.
٤٤
ثم حدث اتصال مع الوفد — عقب حريق القاهرة، وإقالة وزارة النحاس — لكن النحاس لم
يرحب بتعاون
الوفد والضباط الأحرار، لأنه «لا يريد التعامل مع الضباط، فذلك يضعف علاقتنا مع أمريكا.»
٤٥لكن إبراهيم فرج — القطب الوفدي الشهير — نفى وجود أية صلة بين الوفد والضباط الأحرار
«لم
يكن هناك — على حد علمي — شيء من ذلك، إلا أن يكون الأستاذ أحمد أبو الفتح هو الاستثناء
من
ذلك.»
٤٦
ولعله يمكن الإشارة إلى شخصية عزيز المصري، باعتبارها تجسيدًا لأماني وأحلام المئات
من صغار
الضباط، فهو — دونًا عن كبار الضباط الذين ارتموا في حضن الاستعمار، يوجِّه حديثه إلى
الضباط الصغار: «أنتم
شباب الجيش … ماذا تنتظرون؟ ومتى تعرفون مسئوليتكم الحقيقية؟ ومتى تبدءون في الاضطلاع
بها؟
ويسأله الضباط: وهل تظن أننا في داخل الأوضاع القائمة نستطيع اليوم شيئًا؟
فيجيب: تستطيعون كل شيء، وغيركم لا يستطيع شيئًا، ماذا تنتظرون؟ تنتظرون توجيهًا
مني؟ من
لواءاتكم؟ من حكام البلاد؟»
٤٧
في ١٩٤٤م وجهت الدعوة لأعضاء مجلس إدارة نادي ضباط الجيش وكبار اللواءات والقادة،
لحضور اجتماع عام
في نادي ضباط الجيش للبحث في «شئون البلاد والحكم». وفي الموعد المحدد، وفد إلى النادي
عدد ضخم من
الضباط، ودارت مناقشات صريحة، اتخذت بعدها عدة قرارات مهمة. وحاول كبار الضباط أن يعترضوا
على ما يدور
في الاجتماع، وأنه لا يتفق مع تقاليد الجيش، لكن صيحات الضباط الصغار ما لبثت أن أسكتتهم،
وانتهى
الاجتماع بتشكيل لجنة من ضباط مختلف الأسلحة لمقابلة رئيس الديوان الملكي أحمد حسنين،
والتفاهم معه فيما
يمكن عمله، لوضع حد «لهذا الحكم الإنجليزي السافر في البلاد، وإفهامه أن الضباط جميعًا
مستعدون لأي أمر،
مهما كان هذا الأمر، إنهم إذ يلجئُون إليه في هذا السبيل، إنما يريدون بذلك أن يوجههم
الوجهة السديدة
التي تضمن ألَّا تضار مصلحة البلاد بشيء.»
٤٨ وذهبت اللجنة بالفعل إلى أحمد حسنين في مكتبه، وانتهى النقاش إلى نصيحة لم يتقبَّلها
الضباط،
وهي ألَّا يقدِموا على عمل من أي نوع، لأن الظرف — في تقديره — لم يكن مناسبًا.
٤٩ وعندما تكلمت الوثائق والوقائع، أثبتت أن أحمد حسنين رائد فاروق، ورئيس ديوانه وظهيره
ومرشده يوم حادث ٤ فبراير، وقبله، وبعده، والرجل الأول في القصر المعتدى عليه … أحمد
حسنين هذا، كان طوال
حكم الوفد في تلك الفترة، يتصل بالإنجليز، لا لمصلحة البلاد، ولكن لكسب ثقتهم فيه كحاكمٍ
جديد، يستطيع أن
يقضي لهم من المصالح ما كان الوفد يقضيها، وأنه ينفِّذ لهم سياستهم — الديمقراطية — في
حكم البلاد
وتوجيهها.
٥٠
ثم ارتاد الضباط دربًا آخر، فقد بدأ عشرات من الضباط الصغار يطرحون قضايا الساعة
على الجماهير في
الشوارع والمقاهي والأندية ووسائل المواصلات، وامتد الحوار، واتصل بأصواتٍ مرتفعة، وأخذ
— في غالبية
الأحيان — صورة السباب العلني للإنجليز ولأعوانهم، وكما يقول أنور السادات «فلم يكن المراد
بهذه العملية
مجرد إثارة الشعور الشعبي ضد الإنجليز، وضد حكومة النحاس، ولكن كان الغرض منها إشعار
الإنجليز والحكومة
نفسها، بأن ضباط الجيش قد فاض بهم، وأنهم قد أصبحوا على استعدادٍ لأي شيء.»
٥١
في الحادي والعشرين من فبراير ١٩٤٦م — يوم الجلاء — انطلق جنود وضباط الجيش يهتفون
مع متظاهري
اللجنة الوطنية للطلبة والعمال، ويسهمون في الرد على عدوان القوات البريطانية على تلك
المظاهرة السلمية.
وبعد أن واجهت قوات البوليس المتظاهرين في ٤ مارس ١٩٤٦م بإطلاق الرصاص، ثم واصلت قوات
الاحتلال
الإنجليزي حصد المتظاهرين بالمدافع الرشاشة، وظهرت دبابات، فصاحت الجماهير: الجيش المصري
… الجيش المصري،
وهتف هاتف: ليحيا الجيش مع الشعب. وردَّدت الجموع: ليحيا الجيش مع الشعب. وقال قائد تلك
الدبابات من خلال
بوق: اطمئنوا … اطمئنوا … لم نأتِ للاعتداء عليكم، بل جئنا لحمايتكم، ولكن حسبكم ما فعلتم،
لقد عبَّرتم عن
مشاعركم، لقد أظهرتم السخط، والآن لا تحرجونا، فتفرقوا آمنين.
وعندما أصر رجال البوليس على مواصلة إطلاق الرصاص، هتف فيهم ضابط الجيش: «أوقف الضرب
يا عسكري …
الجيش الآن هو المسئول عن النظام والأمن، أوقف الضرب، وإلا سأضرب عليكم.»
٥٢
استجاب الجيش — مثل بقية الطوائف — لنداء اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، باعتبار
٤ مارس ١٩٤٦م يوم
حداد على شهداء ٢١ فبراير، ومثل الضباط الأحرار في اللجنة الوطنية للعمال والطلبة الشهيد
كمال حسنين،
وصدرت التعليمات بالامتناع تمامًا عن الاشتراك في التصدي للمظاهرات الشعبية.
رغم بشاعة الحوادث التي جرت في ذلك اليوم في الإسكندرية، فإن الجيش لم يشترك في قمع
المظاهرات،
التزامًا بالموقف الذي قطعه على نفسه.
٥٣ من هنا جاء القول إن الخطر في الجيش والشيوعيين والإخوان المسلمين.
٥٤
وتحسبًا من محمد حيدر لأي تحركات من ضباط الجيش، بعد هزيمة ١٩٤٨م، فقد عمل على إبعاد
أعداد منهم
إلى مواقع نائية داخل مصر.
٥٥
•••
والحق أن الضباط الأحرار لم يكونوا التنظيم الوحيد داخل الجيش؛ ثمة تنظيمات وطنية
مستقلة، مثل
جماعة مصطفى صدقي التي رفض الضباط الأحرار التعاون معها، وثمة عناصر مالت إلى المهادنة
أو الانتهازية،
لم يكن من الصعب تحديدها، واتقاء خطرها، وثمة ظلال تلقيها بعض الأعمال الإبداعية والتاريخية
على تنظيم
الضباط الأحرار نفسه، فمع أن ماهر المراكيبي وشقيقه عبده المراكيبي (حديث الصباح والمساء)
انضمَّا إلى
تنظيم الضباط الأحرار، فإنهما كان غير مؤمنين إيمانًا جديًّا بما يقال عن آلام الشعب
وصراع
الطبقات.
٥٦ وينسب مؤلف «مصر والعسكريون» إلى ثروت عكاشة قوله: إن مجموعته كانت تضمه هو وجمال عبد
الناصر وعبد الحكيم عامر وخالد محيي الدين، وكانت تُعقَد جلسات لتحضير الأرواح كل أسبوع،
بحضور الشيخ عبد
الرحيم القناوي. ويقول مجدي حسنين إن مجموعة أخرى كانت تضمه أيضًا مع جمال عبد الناصر
وعبد الحكيم عامر
واللواء طبيب حسين رياض، كانت تحضِّر الأرواح مع وسيط آخر، هو الدكتور عزت خيري الذي
أصبح عميدًا لعلوم
القاهرة.
٥٧
•••
لا شك أن عريضة الاتحاد العام للصولات وضباط الصف بالجيش إلى الملك فاروق في ديسمبر
١٩٤٧م،
باعتباره القائد الأعلى، من أهم المعالم وأخطرها في طريق ثورة يوليو، إنها تأكيد على
أن الجيش ليس لموكب
المحمل فقط، ولا هو للمظهرية والزينة وتشريفة الموكب الملكي، لكنه جزء من الرأي العام
المصري، له نفس
اهتماماته، ويعاني مشكلاته وقضاياه. أعلنت المذكرة أن «زمن العبيد ولَّى وراح، وأصبحنا
في عصر يفهم فيه كل
فرد معنى حقوقه الاجتماعية التي تتفق مع مبادئ الإنسانية الصحيحة والجندية السمحاء.»
وأكدت المذكرة أنه
«إذا لم تُجَب مطالبنا الآتية في مدى خمسة عشر يومًا من تاريخه، فإن الصولات وضباط الصف
والجنود سوف
يتحركون إلى ساحة عابدين في مظاهرة عسكرية.»
٥٨
إنذار بيومٍ كيوم عرابي!
ومع أن حركة الصولات وضباط الصف قد قوبلت بضراوة شديدة، فنُفي أفرادها، وشُردوا، وفُصلوا،
حتى صُفِّيت
الحركة تمامًا، فإنها تظل معلمًا يصعب إغفاله في ملازمة الرتب الصغيرة في الجيش لاتجاه
الجماهير نحو
الثورة.
•••
شكَّل الضباط الأحرار — على حد تعبير حسن حنفي — «نوعًا من الوحدة الوطنية»؛ فهم
كانوا منتمين إلى
تنظيمات سياسية مختلفة، تبدأ بأقصى اليمين، وتنتهي بأقصى اليسار.
٥٩ انضم عدد كبير من الضباط الأحرار — عقب الحرب العالمية الثانية — إلى جماعة الإخوان
المسلمين، وكان من بينهم ثمانية من أعضاء اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار، هم: جمال
عبد الناصر، عبد
المنعم عبد الرءوف، عبد الحكيم عامر، كمال الدين حسين، عبد اللطيف البغدادي، حسن إبراهيم،
خالد محيي
الدين، صلاح سالم.
٦٠
كان انضمام عبد الناصر إلى تنظيم الإخوان خطوة مرحلية، قبل أن يبدأ في تشكيل تنظيم
الضباط، ليشكِّل
من غالبيتهم — في سبتمبر ١٩٤٩م — نواة التنظيم الذي عُرِف — فيما بعد — باسم تنظيم الضباط
الأحرار.
٦١ ويعترف أنور السادات أن الضباط الذين انضموا إلى التنظيم، لم يبدءوا خطواتهم بوعي كامل،
وإنما تدرجوا في وعيهم السياسي مع الأحداث والأيام.
كان الضباط الأحرار يعقدون بعض اجتماعاتهم الأسبوعية، في بيت زوجة يوسف صديق، وكانوا
يخفون الهدف
من اجتماعاتهم بلعب الكوتشينة، بينما هم يناقشون أمور التنظيم.
•••
إذا كان عبد الناصر قد حرص على تدعيم علاقته بالتيار الديني ممثَّلًا في جماعة الإخوان
المسلمين،
فإنه حرص — في الوقت نفسه — على تدعيم علاقته باليسار، بواسطة خالد محيي الدين عضو اللجنة
التأسيسية
للضباط الأحرار. وفي ١٩٤٧م ترك خالد محيي الدين جماعة الإخوان المسلمين، وانضم إلى منظمة
«إسكرا»
اليسارية «بعد قراءته بعض الكتب اليسارية»، وما بين علامَتي التنصيص لجمال حماد،
٦٢ ثم انضم خالد في ١٩٥٠م إلى منظمة حدتو عن طريق أحمد فؤاد (رئيس مجلس إدارة بنك مصر بعد
قيام
الثورة) وقدم خالد زميله أحمد فؤاد إلى عبد الناصر ليرتبطا من يومها بصداقة قوية.
٦٣ وفي رواية لأحمد فؤاد، فإن قسم الجيش بمنظمة حدتو اشترك مع عبد الناصر في كتابة بعض
منشورات
الضباط الأحرار، وبالذات بعد حريق القاهرة. وكان قسم الجيش يضم بعض الضباط المنضمين إلى
الضباط الأحرار،
مثل يوسف صديق وإلهام المرصفي وأحمد جمال علام.
تأكيدًا من عبد الناصر على عدم تبعية الضباط لأية تنظيمات أخرى، فقد أصر — بموافقة
أعضاء اللجنة
التأسيسية — على إسقاط عضوية المقدم عبد المنعم عبد الرءوف من مؤسسي التنظيم قبل بدء
الثورة بثلاثة
أشهر، وذلك لإصرار عبد المنعم عبد الرءوف على إبقاء عضويته في جماعة الإخوان، فضلًا عن
محاولته اجتذاب
بعض الضباط الأحرار إلى الجماعة،
٦٤ وكانت جماعة الإخوان قد أفلحت فعلًا — في الفترة ما بين عامَي ١٩٤٤م و١٩٤٥م، في اجتذاب
عدد من
ضباط الجيش إليها، وكما يقول السادات «فقد ألِف عددٌ كبير من الضباط دعوة الإخوان، وأحبُّوها،
ورأَوا فيها
أملًا ومخرجًا لمصر من محنتها.»
٦٥
مع ذلك، فقد حرص عبد الناصر على أن تظل علاقته طيبة بجماعة الإخوان، وأن يستمر التعاون
بين تنظيم
الضباط الأحرار وبينها، بل إن جماعة الإخوان كانت هي التنظيم المدني الوحيد الذي حرص
عبد الناصر على
إخطاره — شخصيًّا — بموعد قيام الثورة.
٦٦ وتحددت بواعث الاتصالات في الاستعانة بمتطوعي الإخوان للسيطرة على طريق السويس، والتصدي
للقوات البريطانية إذا أقدمت على التحرك لإخماد الحركة.
وبصرف النظر عما إذا كان اتصال الإخوان والضباط الأحرار تم بمبادرة من الإخوان —
كما روى السادات
— أو بمبادرة من الضباط الأحرار — كما روى الطيار حسن عزت — فالمؤكد أن الاتصال تم بالفعل
في عام ١٩٤٠م،
وأن هذا الاتصال قد تم بترحيبٍ من الضباط الأحرار، لتصورهم للدور الذي يمكن للإخوان المسلمين
أن ينهضوا
به كقوة شعبية ذات تأثير.
٦٧
أما خالد محيي الدين، فلم تقدِم اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار على فصله بسبب اتصالاته
اليسارية،
لأنه لم يحاول اجتذاب الضباط الأحرار إلى منظمة «حدتو» التي انضم إليها، فضلًا عن أن
هؤلاء الضباط —
والكلام لجمال حماد — كانوا أبعد ما يكونون عن الفكر الماركسي، بعكس دعوة الإخوان المسلمين
التي تسبَّبت
في فصل عبد المنعم عبد الرءوف من تنظيم الضباط الأحرار لعضويته في الإخوان المسلمين،
فقد كان من السهل
بالفعل اجتذاب عضوية الضباط الأحرار إلى الإخوان المسلمين!
٦٨
من هنا، جاء قول عبد الناصر في «فلسفة الثورة» إن الموقف كان يتطلب أن تقوم قوة يقرِّب
ما بين أفرادها
إطار واحد، يبعد عنهم إلى حدٍّ ما صراع الأفراد والطبقات (فلسفة الثورة)، وبدأ التنظيم
يأخذ شكلًا منفصلًا
عن القوى السياسية خارج الجيش، بمعنى أنه لم يعُد تابعًا لأيٍّ من الأحزاب، أو القوى
السياسية
القائمة.
٦٩
•••
يقول الضابط فرحات السروجي (في الظلام) لزملائه أعضاء التنظيم السري للضباط الأحرار:
«أيها
الزملاء، واضح جدًّا أن الحالة تزداد سوءًا، والملك يزداد طغيانًا واستهتارًا في أمور
البلاد وأموره
الخاصة، والإنجليز استقروا ناعمين في منطقة القنال في بحبوحة وأمن وسلام، وزعماء أحزابنا
ما زالوا كما هم
يقبِّلون الأحذية التي تركلهم، ويتمسَّحون باليد التي تصفعهم ما دامت تنثر لهم الذهب،
وتنعم عليهم بالسلطة
الموهومة القذرة التي يعلِّمون بها الشعب كيف يألَف الذل والهوان.»
٧٠
الغريب أنه كان لمصر (١٩٥١م) أقوى جيش في الشرق الأوسط بعد تركيا، كان تعداده ٨٠
ألف جندي، وكان
يستهدف الوصول إلى ١٠٠ ألف جندي، وبعد انتهاء القتال على أرض فلسطين، بدأت حركة لتنظيم
الجيش، وتدريبه،
لكنها لم تحقق نتائج فعلية، فظل الجيش قويًّا على الورق!
٧١
•••
كانت العمليات الفدائية في القناة — عقب إلغاء معاهدة ١٩٣٦م — فرصة لإسهام الضباط
الأحرار — بصورة
إيجابية — في النضال ضد الوجود الاحتلالي الإنجليزي في منطقة القناة. قرر جمال عبد الناصر
أن يقدِم
الضباط الأحرار على عمليات فدائية كبيرة، بالإضافة إلى العمليات الأخرى التي كانت تقوم
بها كتائب
التحرير للوفد والحزب الاشتراكي والمنظمات الأخرى، وخاض الضباط الأحرار عشرات المعارك
ضد قوات الإنجليز
في معسكرات الإسماعيلية وبورسعيد والسويس، وساعد الضباط الأحرار على نشاطهم، رفض التصوُّر
من قِبَل السلطة
الحاكمة أن الجيش يمكن أن يشارك في الحركة الوطنية، واستطاع الضباط الأحرار بالفعل أن
يتصلوا بكل القوى
الشعبية والثورية، سواء كانت سرية أم علنية، وأسهموا في إنشاء معسكرات التدريب، وإمداد
المتطوعين
بالأسلحة، والمشاركة الفعلية في حرب العصابات، ومواصلة إصدار المنشورات، ووضع الترتيبات
لكل الاحتمالات
المتوقعة.
٧٢
كان من أهم المعارك تلك التي أشرف عليها عبد الناصر بنفسه، وقادها ثلاثة من الضباط
الأحرار، هم:
كمال الدين رفعت ولطفي واكد وحسن التهامي، واستهدفت نقطة التفتيش وفلتر المياه في التل
الكبير، كما تولى
كمال الدين حسين تدريب الشباب الذي تطوع للقتال من كافة قطاعات المجتمع، وعني مجدي حسنين
بتجميع الأسلحة
والذخائر، وإخفائها في مخازن سرية، ثم توزيعها على منظمات الفدائيين، وانصرف صلاح هدايت
— وهو علمي —
إلى إنتاج زجاجات المولوتوف الحارقة وغيرها من المتفجرات. وكان أهم ما صنعه هدايت لغمًا
صغيرًا لتفجيره في
سفينة عسكرية بريطانية في أثناء دخولها مياه القناة، بهدف تعطيل الملاحة، وتقديم الدليل
للرأي العام
العالمي على أن الإنجليز لا يستطيعون حماية القناة ما دام المصريون لا يمكِّنونهم من
ذلك،
٧٣ وتولى عبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم ترتيبات نقل اللغم على العريش، وكانت عملية
اللغم
جزءًا من عملية ميدانية شاملة، تستهدف نسف جميع المعسكرات البريطانية في منطقة القناة،
ونسف الطريق إلى
القناة … على أن يتم ذلك كله في وقت واحد، لكن حريق القاهرة، وما لحقه من تطورات، أجَّل
تنفيذ تلك العملية
الفدائية الشاملة إلى الأبد.
٧٤
أنهى الضباط الأحرار نشاطهم عقب حريق القاهرة، وإعلان الأحكام العرفية، رفعت وزارة
الهلالي
شعار «التطهير قبل التحرير»، وأصدر الضباط الأحرار منشورًا قالوا فيه إن الهلالي «أعلن
برنامج الوزارة
بصراحة، وهو أن مهمتها الرئيسية التطهير، وتناسى أن الفساد الأكبر مصدره الاستعمار.»
•••
كانت انتخابات نادي الضباط هي بداية المواجهة السافرة بين الملك فاروق وتنظيم الضباط
الأحرار، بل
إنها كانت تفجيرًا صريحًا للأزمة بين الضباط الأحرار والسراي، وقد اعتبرها اللواء محمد
نجيب البداية
الحقيقية لثورة يوليو. نشرت جريدة «المصري» قائمة بأسماء الضباط المرشَّحين لعضوية نادي
الضباط، تحديًا
لمرشح الملك اللواء حسين سري عامر، وفي ٦ يناير ١٩٥٢م انتخبت الجمعية العمومية لنادي
الضباط — بأغلبية
ساحقة — مرشحي الضباط الأحرار: اللواء محمد نجيب مدير سلاح المشاة رئيسًا، وعضوية الأميرالاي
عياد
إبراهيم والأميرالاي حسن حشمت والبكباشي زكريا محيي الدين والبكباشي محمد رشاد مهنا والبكباشي
أحمد حمدي
عبيد والبكباشي عبد العزيز الجمل والبكباشي إبراهيم فهمي دعبس والبكباشي أنور عبد اللطيف
والبكباشي جلال
ندا والبكباشي عبد الرحمن أمين والبكباشي حافظ عاطف وقائد الأسراب حسن إبراهيم وقائد
الجناح بهجت مصطفى
والصاغ جمال حماد واليوزباشي أحمد عبد الغني مرسي. ورفض الضباط — في المقابل — انتخاب
مرشحي القصر، وعلى
رأسهم اللواء حسين سري عامر قائد سلاح الحدود، الذي كان يجاهر بالعداء للتيارات الوطنية
داخل الجيش
وخارجه، وكان المتهم الأول في جريمة اغتيال الضابط الشهيد عبد القادر طه. واعتبر الضباط
ترشيح اللواء
سري عاملًا غير جائز لأنه من سلاح الحدود، وهو لا يُعَد سلاحًا لأنه يضم ضباطًا من مختلف
الأسلحة.
٧٥ وزاد الضباط، فوقفوا دقيقتَين حدادًا على الضابط الشهيد عبد القادر طه (ليوسف إدريس
قصة
رائعة في مجموعته «أرخص ليالي» عن ظروف استشهاده)، ليضعوا اتهامهم لسري عامر في إطاره
الواضح،
المحدد.
رفض الملك النتيجة، وأصر على أن يدخل حسين سري عامر مجلس إدارة النادي، ولو بتعديل
لائحة النادي.
فلما أعيته الحيل، بادر — كرد فعلٍ لتحدي الضباط الأحرار — فأمر الفريق محمد حيدر بحل
مجلس إدارة النادي
في ١٦ يوليو، عقابًا للضباط على جرأتهم، وتطاولهم، على مقام الملك في الجمعية العمومية
لناديهم،
٧٦ وأصدر حيدر قرار الحل في السادس عشر من يوليو ١٩٥٢م، كما أمر بإجراء حركة تنقلات واسعة
بين
الضباط بهدف تشتيت الضباط الأحرار، مما دفعهم — في المقابل — إلى التعجيل بمولد الثورة.
تقول مارجريت سنكلير (رواية ١٩٥٢) في مذكراتها — تعقيبًا على نتيجة الانتخابات —
«هذه معركة
سياسية عامة، وليست معركة شخصية بينه [الملك] وبين الضباط، يوجد سخط على سياسات السراي
الحمقاء بين عددٍ
كبير من رجال الشيخ [محمد نجيب] الذين نجحوا في تنظيم صفوفهم جيدًا؛ فجاءت نتيجة الانتخابات
معبِّرة عن
إرادتهم الجماعية.»
٧٧
ويروي جمال حماد أن أصدقاء حسين سري عامر في السراي كانوا قد مهَّدوا له السبيل لتولي
منصب القائد
العام للقوات المسلحة، بدلًا من الفريق محمد حيدر.
٧٨
كانت نظرة الحكومات المتعاقبة إلى الضباط الأحرار قد تلخصت في قول أحد أعضاء وزارة
منها: «أتظن أن
ستة ضباط يطبعون المنشورات، ويسمون أنفسهم بالضباط الأحرار، يستطيعون أن يفعلوا شيئًا؟
دول عايزين واحد
شديد يلبِّسهم طُرح!»
٧٩
لم يكن الأمر يعدو بالنسبة له أكثر من أيام، لولا أن حيدر بادر — تحت ضغط الملك شخصيًّا
— إلى حل
مجلس إدارة نادي الضباط، وهو القرار الذي أدى إلى عكس ما كان يتخيله المتآمرون على الفريق
حيدر، فقد كان
من المستحيل أن يصدر قرار الحل، ثم يحيله الملك إلى التقاعد في اليوم التالي، أو حتى
بعد فترة زمنية
قصيرة، لأن ذلك سوف يكون معناه أن حيدر يُعاقَب على الخطأ الذي ارتكبه بإصدار قرار حل
مجلس الإدارة، مما
يدفع الضباط إلى المطالبة بتصحيح الأوضاع، وعودة مجلس الإدارة المنحل.
•••
كيف أصبح محمد نجيب قائدًا للثورة في فترتها الأولى؟
كان عبد الناصر — كما يؤكد يوسف صدِّيق في أوراقه — يضع جميع الخيوط في يده، وكان
الدينامو الذي
يحرك التنظيم.
٨٠ كان هو القائد الفعلي للضباط الأحرار، والقائد المرتقَب — بالتالي — للثورة، ولأنه كان
من
الصعب أن يواجِه عبد الناصر الجماهير باعتباره قائدًا للثورة، لاعتبارات مهمة، منها صغر
سنِّه النسبي، وصغر
رتبته النسبي أيضًا، وجهل الرأي العام المطلَق به، فقد عرض الضباط الأحرار قيادة الثورة
على الفريق عزيز
المصري، وكان للرجل تاريخه الحافل بالنضال ضد الاحتلال الأجنبي، ليس في مصر وحدها، وإنما
في الأقطار
العربية. وشجع المصري فكرة التغيير، لكنه طلب أن يقتصر دوره على مساندة الحركة المرتقبة
كأب روحي لها،
نظرًا لظروفه الخاصة، وفي مقدمتها تقدُّم سنوات عمره، وانقضاء أكثر من عشر سنوات على
ابتعاده عن الجيش.
اتجه الضباط الأحرار بعرضهم إلى اللواء فؤاد صادق الذي تولى قيادة القوات المصرية
بفلسطين خلفًا
للواء أحمد المواوي، فحظي بمكانة بين ضباطه وجنوده، وبسمعة طيبة على المستويَين الرسمي
والشعبي في
القاهرة.
والحق أن فؤاد صادق كان له مواقفه الوطنية المعلنة، مثل معارضته لمبدأ الدفاع المشترك
مع إنجلترا،
والذي كان محورًا للمفاوضات — آنذاك — بين حكومة النحاس والإنجليز.
وفي رواية صلاح نصر أن الضباط الأحرار عرضوا على فؤاد صادق أن يكون قائدًا للثورة
المرتقبة،
ففاجأهم بالقول: أنا أقسمت يمين الولاء لمولانا الملك، ولكن إذا نجحت الثورة، فسأكون
أول من يساندها.
واتجه الضباط الأحرار إلى شخصية أخرى، هي اللواء محمد نجيب، عرضوا عليه قيادة الثورة،
فوافق.
٨١
يروي أنور السادات أنه قد جرى لقاء بين فؤاد صادق وصلاح سالم عضو تنظيم الضباط الأحرار،
واعتذر
الرجل عن ترشيح صلاح سالم له — باسم الرأي العام في الجيش — في منصب رئيس هيئة أركان
الحرب، ذلك لأنه
تلقَّى — في لحظة اللقاء — عرضًا هاتفيًّا من السراي بتعيينه في المنصب نفسه!
قال فؤاد صادق بعد إنهاء المكالمة التليفونية، لصلاح سالم: إذا كنت بقيت رئيس أركان
حرب الجيش، فهذه بمجهودي أنا، وبذراعي أنا، وأعمل على إقامة النظام
الكامل في الجيش.
أضاف لصلاح سالم قوله: لازم تفهم، أنت والضباط اللي معاك، اللي بأقوله، لأني سأنفذ
القانون … وأنصحك إنك، واللي معاك،
تدوَّروا على مصالحكم ومستقبلكم ومستقبل أولادكم أحسن.
وثمة رواية أخرى لحلمي سلام، قال فيها فؤاد صادق — ردًّا على عرض صلاح سالم له بتولي
قيادة الضباط
الأحرار «إن قيامكم بتشكيل خلايا الضباط الأحرار، وإعدادكم للثورة، أمر أضعه فوق رأسي،
لكنني أحب أن
أصارحكم من الآن بأنني وُلِدت أقود ولا أُقاد، وسوف أتعامل معكم بوصفكم أركانات حرب لي،
أنفذ معكم ما أقتنع
به من آرائكم، ولا أنفذ ما لا أقتنع به، ومن يعصني منكم سأضعه في السجن.»
قال صلاح سالم: هل تهددنا يا باشا؟!
قال فؤاد صادق: هل أنتم تنوون أن تعصوني؟ إذا كنتم تنوون بالفعل، فسأضعكم في السجن!
٨٢
لكن فؤاد صادق لم يُعيَّن رئيسًا للأركان، عُيِّن بدلًا منه حسين فريد، كما لم يصبح
قائدًا
للثورة!
يتحدث إبراهيم عبد الهادي في ذكرياته عن نظرته إلى فؤاد صادق، في ضوء ترشيحه لقيادة
الجيش، يقول:
«إذا أدخلنا في الاعتبار أن فؤاد صادق كان بالمعاش أثناء حرب فلسطين، وأنهم استدعوه وغيره
في منصبه،
وأنا أعلم أن له ضِلعين مكسورين في الحرب … رجل بهذه الصفات كلها، مجمع على تقديره من
رجال الجيش، كنت
أفضِّل أن يكون رئيسًا للجيش، وجاءني إسماعيل شيرين، وقال لي إنه يرى، وكل رجال الجيش
يرَون، أن فؤاد صادق
خير من يتولى منصب رئاسة الأركان. قلت له: هذا رأيي، وإن كنت أكنُّ لعثمان المهدي باشا
— المرشح الآخر —
كلَّ تقدير ومحبة، لكن محمد حيدر باشا يكره فؤاد صادق، ولا يطيق حتى ذكر اسمه، وأن فؤاد
صادق لا يكن للسيد
حيدر أي احترام، لدرجة أن حيدر عندما كان يبعث إليه ببعض الأوامر، لا يرد على كثيرٍ منها،
وأركان حرب
فؤاد صادق يعلمون ذلك يقينًا، وفي مقدمتهم الرحماني بك، وأنا أقول — والحزن يمزق قلبي
— إن الرسائل
استخدمها حيدر مع الملك لصرفه عن تعيين فؤاد صادق.
لقد تردد اسم أحمد عرابي كثيرًا في هذا الوقت، وللناس أن تفهم معنى هذا، وهو أن ترديد
اسم عرابي
وثورته على الملك يعني ماذا؟ يعني بصراحة أن فؤاد صادق مثله مثل عرابي تمامًا، لا يتردد
أبدًا في
القيام بثورة في الجيش في أية فرصة تُتاح له ليقصي بها الملك، فوجدت أن لا فائدة من إصراري
على تعيين
فؤاد صادق.»
٨٣
الكاتب جمال حماد ينفي هذه القصة، ويرميها بالاختلاق؛ فلم يكن فؤاد صادق ساذجًا حتى
يقبل عرضًا
بتولي منصب القيادة من ضابطٍ يصغره مكانة ورتبة، ولا يعبِّر عن تنظيمٍ محدَّد الهوية،
أو له خطورته المعلَنة،
فضلًا عن أن شخصية فؤاد صادق لم تكن هي الشخصية التي يسعى عبد الناصر لوضعها على رأس
حركة الجيش.
أما المكالمة التليفونية، فإنها — في رواية جمال حماد — أقرب إلى السيناريوهات السينمائية،
ويصل
الكاتب إلى القول: «إن قناعتنا الشخصية، بعد تحليل القصة الواهية التي أوردها السادات
في كتابه «قصة
الثورة كاملة» تجعلنا نشك في أن قيادة الحركة قد عُرضَت على فؤاد صادق حقًّا، فضلًا عن
أن شخصية فؤاد صادق
لم تكن الشخصية التي يسعى عبد الناصر للإتيان بها على رأس حركة الجيش. إن عبد الناصر
— رغم إيمانه بأن
فؤاد صادق من أصلح الشخصيات لقيادة الحركة، والوقوف في وجه الملك، لم يكن يرحب باشتراك
فؤاد صادق في هذا
الأمر، لأسبابٍ لا تتعلق بكفاءته بقدر ما تتعلق بشخصيته الصارمة القوية؛ الموجَب والموجَب
يتنافران، ولا
ينجذبان لبعضهما، والقائد الصارم الشديد المراس الذي يصعب توجيهه، لا يمكن أن يكون هو
الرجل الذي يريده
عبد الناصر ليتولى قيادة حركة الجيش، وأن يكون هو الاسم الظاهر أمام الناس، بينما تظل
جميع الخطوط في يد
عبد الناصر، وبالقطع، فإن هذا الرجل لم يكن هو اللواء فؤاد صادق!
٨٤
كان معظم الضباط الأحرار من الرُّتب الصغيرة، وكانوا جميعًا من الشبان، وفرضَ اختيار
قائد كبير
الرتبة والسن نفسَه، وحين بدأت مناقشة الخطوات العملية لقيام الثورة، وتصوُّر رد الفعل
الرسمي والشعبي، كان
المطلوب قائدًا له رتبته الكبيرة ومكانته، بحيث يسهل اقتناع الجميع بما يعلنه فور إعلانه.
اتصل الضباط —
كما أشرنا — بعزيز المصري الذي اعتذر بتقدُّم سنِّه، ثم بفؤاد صادق الذي خشي الضباط —
في ضوء تصرفاته
المعلنة» أن تستولي شخصية قوية على زمام الأمور.
٨٥
اتجه التفكير والاتصالات إلى اللواء محمد نجيب، يزكيه ماضيه المشرف، بداية من إصابته
ثلاث مرات في
معارك فلسطين، وإخراجه من منصب مدير سلاح الحدود، وتعيين اللواء حسين سري عامر بدلًا
منه، وتوليه منصب
مدير سلاح المشاة، ثم فوزه — في انتخابات ضارية — برئاسة نادي ضباط الجيش، على رأس قائمة
الضباط
الأحرار.
فاتح عبد الناصر — القائد الفعلي لتنظيم الضباط الأحرار — محمد نجيب — عقب حريق القاهرة
— في أمر
تصدُّر اسمه للثورة المشروع باعتباره قائدًا لها، وقبِل نجيب القيام بهذا الدور، بعكس
الإجابة السلبية
التي تلقَّاها التنظيم من كلٍّ من عزيز المصري وفؤاد صادق.
اختير محمد نجيب بالفعل، لكن عبد الناصر — كما يقول جمال حماد — لم يتنحَّ — طواعية
— عن مكانه في
قيادة التنظيم إلا في السادس والعشرين من يوليو ١٩٥٢م، بعد عزل فاروق، ونفيه من البلاد،
أما قبل ذلك
اليوم، فلم يشارك محمد نجيب — لا بالعضوية، ولا بالرئاسة — في اجتماعات لجنة القيادة.
٨٦
أما محمد نجيب، فقد أكد في مذكراته أنه قد تولى قيادة التنظيم منذ ٦ يناير ١٩٥٢م،
٨٧ بل لقد اعتبر نجيب معركة انتخابه رئيسًا لنادي الضباط هي الثورة الفعلية؛ فلم يكن عدد
الضباط الأحرار — حسب تقديره — يزيد عن مائة ضابط، لكنه — نجيب — حصل على ٩٥٪ من أصوات
الضباط «وجميع
الخطوات التي تمَّت بعد ذلك [٦ يناير ١٩٥٢م] كانت بموافقتي، أو بأمرٍ مني، وأنا الذي
حدَّدتُ موعد قيام الثورة،
ولم أوافق على اقتراح عبد الناصر وعبد الحكيم عامر بتأجيله إلى ٥ أغسطس.»
٨٨
لكن كل المصادر التاريخية التي تتناول تلك الفترة، تضع كلمات محمد نجيب في إطار الادِّعاء،
وأن جمال
عبد الناصر ظل هو الرئيس المنتخَب لتنظيم الضباط الأحرار، إلى قيام ثورة يوليو، فضلًا
عن أن محمد نجيب لم
يشارك في الاجتماعات التي عقدتها لجنة القيادة قبل قيام الحركة.
في ذكريات إبراهيم طلعت المحامي، ينقل عن جمال عبد الناصر ظروف اختيار اللواء محمد
نجيب قائدًا
للحركة بدلًا من اللواء فؤاد صادق: «إحنا كنا اتفقنا على أن يكون اللواء أحمد فؤاد صادق
قائد حرب فلسطين
قائدًا للحركة، ولم يكن اسم محمد نجيب قد برز قبل موضوع انتخابات نادي الضباط، وفعلًا
صارحناه بما
اعتزمناه، ووافق. وكان صلاح سالم يتردد عليه بخصوص هذا الغرض، لكنه كان يتهرَّب ويثبط
عزيمتنا بأن الملك
قوي، ولا يمكنه التغلُّب عليه، ولمَّح مهددًا صلاح سالم بالتبليغ عنا، فابتعد عنه، وبعدين
أنا تذكرت
استجوابك [إبراهيم طلعت] في البرلمان بخصوص فؤاد صادق، وطلبك تجريده من رُتبه وألقابه
ونياشينه، لأنه كان
يدعو إلى إرسال الجيش المصري إلى كوريا مع الأمريكان، في الوقت اللي كانت البلد كلها
ضد الدفاع المشترك،
وبذلك اتَّجهت الأنظار إلى اللواء محمد نجيب، الذي عرَّض نفسه للخطر بتحديه الملك، وترشيح
نفسه ضد حسين سري
عامر، ولم يرضخ لأي إغراء أو تهديد من جانب الملك، ورفض إنه يبقى وزير حربية، ولم يطِق
الملك هذا التحدي،
فأمر بحل مجلس إدارة النادي بسببه، وأمر بنقله من القاهرة.»
٨٩
وكما يقول حلمي سلام فقد تبيَّن عبد الحكيم عامر أن محمد نجيب — بما كان يدور في
رأسه من أفكار
وأحلام — ليس بعيدًا عن الضباط الأحرار، ولا عن آمالهم وأحلامهم، وذهب عبد الحكيم إلى
جمال عبد الناصر،
وقال له: لقد اكتشفت لك كنزًا.
٩٠
•••
تحدد موعد الثورة — حسب رواية عبد الناصر — في العام ١٩٥٥م، حتى تتهيَّأ الفرصة لاستكمال
بناء
التنظيم، وامتداد خلاياه داخل مختلف الأسلحة والوحدات،
٩١ بعد مُضي ست سنوات على بدء التنظيم، وحتى تكون الفرصة ملائمة لاستكمال بنائه وما استتبعه
—
خلال الأعوام التالية — من إنشاء تنظيمات سرية داخل وحدات الجيش، بدءًا بالتشكيلات العسكرية،
وانتهاءً
بأجهزة الأمن المختلفة.
لكن التطورات الخطيرة التي شهدتها الحياة السياسية المصرية، والمجتمع المصري عمومًا،
مثل حريق
القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م، وحل مجلس إدارة نادي الضباط في ١٦ يوليو من العام نفسه، واعتزام
الملك إطلاق
يد حسين سري عامر للانتقام من الضباط الأحرار الذين تحدَّوه — علانية — في انتخابات نادي
الضباط، بالإضافة
إلى توالي حل الحكومات وتشكيلها في أوقات متقاربة للغاية.
ذلك كله، عجَّل بقيام الثورة.
ففي ١٠ فبراير ١٩٥٢م قرر الضباط الأحرار أن تبدأ الثورة في مارس، لكنهم ما لبثوا أن
أجَّلوا الموعد،
ترقبًا لازدياد السخط الشعبي المتصاعد بالفعل، ضمانًا للتأييد التام للثورة، واختير نوفمبر
١٩٥٢م، ثم قُدِّم
الموعد إلى ٥ أغسطس، ثم ٢٤ يوليو من العام نفسه.
ويؤكد جمال حماد أن موعد القيام بالثورة حُدِّد في ٢٠ يوليو، حين علمت قيادة التنظيم
أن حكومة حسين
سري قد قدَّمت استقالتها (يشير الراوي في «واحترقت القاهرة» إلى أن أزمة الجيش كانت هي
الباعث لسقوط وزارة
حسين سري (الرواية، ٥٢٧))، وأن نجيب الهلالي سيتولى رئاسة الوزارة الجديدة، وأنه سوف
يسند وزارة الحربية
إلى مدير سلاح الحدود حسين سري عامر، وأن الأوامر مُعدَّة للتنفيذ بسجن وفصل ١٢ من الضباط
الأحرار، ثم تأجل
الموعد ٢٤ ساعة، ولم يعلم معظم الضباط بالموعد إلا يوم ٢٢ يوليو، وإن كُلِّفوا بالبقاء
في بيوتهم منذ
الثالثة بعد ظهر يوم ٢١ يوليو، حتى تأتيهم الأوامر بالتحرك.
حسب ما يرويه نعمان جمعة، فإن أحمد أبو الفتح كان له الدور الأهم في عدم احتواء الثورة
قبل قيامها
والقضاء عليها، فقد علم أن الملك علم بأمر تنظيم الضباط الأحرار، وأنه بدأ يتحرك للقضاء
على هذا التنظيم
بطريقة هادئة، عن طريق إجراء تعديل وزاري يشغل منصب وزير الحربية فيه حسين سري عامر،
الذي كان يناصب
الضباط الأحرار العداء، سارع أحمد أبو الفتح بتوصيل خطة الملك للقضاء على التنظيم إلى
جمال عبد الناصر
الذي سارع بالقيام بحركة الجيش في ٢٣ يوليو، بعد أن كان مقررًا لها يوم السبت الثالث
من نوفمبر ١٩٥٢م،
وهو ما يعني كشف تنظيم الضباط الأحرار، ويعني أيضًا تداعيات سلبية خطيرة في خطة الإعداد
للثورة، واضطر
الضباط الأحرار إلى تقديم موعد الثورة من نوفمبر ١٩٥٢م إلى يوليو من العام نفسه.
٩٢
كانت خطة الضباط الأحرار تعتمد على نجاح طليعة قوات الجيش — بقيادة الضباط الأحرار
— في الاستيلاء
على المواقع العسكرية المهمة في العباسية وألماظة، بالإضافة إلى هدف مدني وحيد هو مبنى
الإذاعة
بالشريفين ليُلقى منه أول بيان للثورة.
٩٣
هوامش